صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الشمس والظل

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله لا يزال علياً كبيراً ، جعل الشمس ضياء والقمر منيراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إنه كان سميعاً بصيراً ، قدر الأمور تقديراً ، يقبل قليلاً ويجزل كثيراً ، كفى به ولياً وكفى به نصيراً ، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، وأشهد أن محمداَ عبده ورسوله أرسله ربه بشيراً ونذيراً ، وهادياً وسراجاً منيراً ، صلوات ربي وسلامه عليه في كل الأوقات برداً وهجيراً ، وعلى آله وصحبه الأمناء توقيراً ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . وبعد :
خلق الله الجنة والنار ، فالجنة يرحم الله بها من أطاعه ، والنار يعذب الله بها من عصاه ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَقَالَتِ النَّارُ : فِيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ : فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ ، قَالَ : فَقَضَى بَيْنَهُمَا : إِنَّكِ الْجَنَّةُ رَحْمَتِي ، أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ ، وَإِنَّكِ النَّارُ عَذَابِي ، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ ، وَلِكِلاَكُمَا عَلَىَّ مِلْؤُهَا " [ رواه أحمد ] .
إن أشد ما يجد الناس من الحر والهجير في الصيف هو نفس من أنفاس جهنم ، وكذلك أشد ما يجد الناس من شدة البرد القارص هو من نفس جهنم ، نسأل الله أن يجيرنا من عذاب جهنم ، إن عذابها كان غراما .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " قَالَتِ النَّارُ : رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً ، فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرٍ ، فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ ، فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ " [ رواه مسلم ] .
شمس الصيف تكاد تزمجر من شدة حرها ، ومع هذه الشدة ، فهي مجرد فيح من نار جهنم ، عَنْ أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ ، فَقَالَ لَهُ : " أَبْرِدْ " ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ : " أَبْرِدْ " ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ : " أَبْرِدْ " ، حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
فكيف بنار جهنم _ أجارنا الله وإياكم منها وجميع المسلمين _ يقول الله تعالى : { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [ التوبة81 ] ، المنافقون في غزوة تبوك ، بدءوا يثبطون همم المسلمين حتى لا يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ، وكان خروجه عليه الصلاة والسلام في يوم شديد الحر ، كثير الغبار ، يوم صائف جداً ، فبدأ المنافقون كعادتهم يضعون الفتنة ، ويحذرون الناس من الخروج إلى تبوك ، معتذرين بالحر اللافح ، والجو المشمس الحارق ، ويقولون للناس : لا تخرجوا في الحر ، فرد الله عليهم بالآية التي سبقت ، ومع هذا التثبيط ، وهذه الفتنة ، إلا أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون ألف مقاتل ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وأهلك عدوهم ومن عاداهم .

الشمس والناس :

اليوم ومع هذا الحر الشديد ، والقيظ المزيد ، نرى الناس لا تخرج من بيوتها إلا عندما ينكسر حر الشمس نوعاَ ما ، خوفاً من حرارتها اللهيبة المحرقة ، وهذا الهجير الذي يؤثر في أبشار كثير من الناس ، فما بالنا لا نعمل أعمالاً صالحة تقينا هذا الحر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، يوم تقف الخلائق على أقدامهم ينتظرون الجزاء والحساب ، في يوم الكربات والعرصات ، والخطوب المدلهمات ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يقومون حفاة ، عراة ، غرلاً ، بهماً ، لا يهتم أحد بغير نفسه ، فلسان حال الناس في ذلك اليوم الرهيب العصيب : نفسي نفسي ، لا ينظر أحد إلى أحد من هول ذلك اليوم ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعاً ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " يَا عَائِشَةُ الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ " [ رواه مسلم ] .
يوم القيامة ، يوم يطول فيه الوقوف ، خمسون ألف سنة والناس وقوف في انتظار الفصل والقضاء بينهم ، وفي هذه الأثناء وهم في شدة الأزمات النفسية ، إذ بالشمس تدنو منهم مسافة كيلو متر ونصف _ ميل _ ياله من موقف مهول مخيف ، يعرق فيه الناس على قدر أعمالهم ، ولنستمع لوصف ذلك اليوم من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ أَبِى أُمَامَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ ، وَيُزَادُ فِي حَرِّهَا كَذَا وَكَذَا ، يَغْلِى مِنْهَا الْهَوَامُّ ، كَمَا يَغْلِى الْقُدُورُ ، يَعْرَقُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ ، مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ " [ رواه أحمد ] .
وعَنْ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ " قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ _ أحد رواة الحديث _ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا يَعْنِى بِالْمِيلِ : أَمَسَافَةَ الأَرْضِ ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ ، قَالَ : " فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ : فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَاماً " قَالَ : وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ " [ رواه مسلم ] .
فيوم ذاك خطره ، وذلكم هوله ، والله واجب على كل عبد أن يتقيه بالطاعة والتقوى ، فيطيع ربه ولا يعصيه ، ويقبل على ربه ويتقيه ، ولا يكون ذلك إلا بفعل الطاعات ، واجتناب المنهيات .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً - ثُمَّ قَالَ : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } إِلَى آخِرِ الآيَةِ - ثُمَّ قَالَ - أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ ، أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي ، فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ، فَيُقَالُ : إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ " [ متفق عليه ] .
فمن تخيل رهبة ذلكم اليوم وكربته وشدته ، حري به أن يحسن مطيته ، ويجهز زاده ، ولا زاد أفضل من التقوى ، فالتقوى خير زاد ، وخير لباس .
وليحرص العبد على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، والتمسك بسنته ، وعدم الخروج عن ذلك قدر أنملة ، فاتباعه عليه الصلاة والسلام فلاح وهدى في الدنيا والآخرة ، ومن أراد الظل يوم القيامة فليتشبث بطاعته عليه الصلاة والسلام ولا يعصه ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ أَبَى " قَالُوا : وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى " [ رواه أحمد ] .

حر الشمس :

إن متوسط بعد الشمس عن الأرض يساوى 93 مليون ميل ، وهو ما يسمى بالوحدة الفلكية لقياس المسافات في الكون ، وتساوى 149.6 مليون كم .
ودرجة حرارة الشمس حوالي 6000 درجة مئوية على سطح الشمس ، وتزداد إلى حوالي 16 مليون درجة مئوية في قلب الشمس .
فلا مقارنة بين درجة حرارة الشمس على الأرض ، ودرجة حرارتها على الشمس نفسها .
وفي شدة حرارة الشمس اليوم ، نجد أن الكثير من الناس في هذه الأزمنة يسعون جاهدين لإيجاد سبل للوقاية من حر الشمس ، فيستخدمون العوازل الحرارية في بناء بيوتهم ، للتخفيف من شدة حر الشمس ، واستخدام المكيفات لتبريد الهواء ، ليهنأ بجو بارد طيلة يومه وليلته ، ومن لم يكن في البيت ، استظل بظل شجرة أو بيت أو جدار أو سيارة أو نحو ذلك ، كل هذا اتقاءً لحر الشمس ، وهذا الظلال والفيء من فضل الله على الناس ولكن أكثرهم لا يعلمون ، واسمعوا لقول الله تبارك وتعالى في هذا الشأن : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } [ النحل 81-83 ] .
آيات عظيمة ، تبين رحمة الله تعالى بعباده ، وشفقته عليهم ، أن هيأ لهم ما يتقون به شدة الحر ، وقيظ الشمس ، فياله من رب عظيم ، كريم ، فهل قمنا بحق شكر هذه النعمة ، أم أننا غفلنا عنها ؟
كم غفلنا عن شكر نعم كثيرة ، بل من الناس من استغل نعم الله تعالى في معصيته ، وما أكثرهم ، سيارة يُسمع منها الأغاني المحرمة ، ومال يُستخدم في الحرام من خمر ومخدرات ومسكرات ودخان وغيرها ، وعين تزني ، وأذن كذلك ، ويد ورجل أيضاً ، فرحماك ربنا رحماك .

الحَرُّ والمال :

اليوم الناس تدفع الأموال الهائلة ، لتتقي حر الشمس ، وتنوعت أنواع العوازل ، التي تستعمل في البيوت منذ إنشائها للوقاية من الحر والقيظ ، فمنها غالي الثمن ، ومنها ما هو أقل من ذلك ، ومنها ما هو بين ذلك سبيلاً ، وكل حسب صناعته وجودته ، فحر الدنيا يمكن الوقاية منه بهذه العوازل ، لكن حر يوم القيامة لا يُتقى إلا بأمور سنذكرها بإذن الله تعالى .
لكن ما يُؤسف له أن جُل الناس يسعون في هذه الدنيا لهثاً وراء سرابها ، وجرياً وراء حطامها الزائل ، ونسوا الآخرة ونعيمها ولذتها الدائمة .
وإذا كان علينا أن نبذل الغالي والنفيس لكي نتقي حر هذه الدنيا ، فكان الأجدر بنا أن نضاعف الجهد ، وننفق المال ، لكي ننأى بأنفسنا مما هو أشد وأخطر ، في يوم مقداره خمسون ألف سنة ، لا تغيب شمسه ، بل تقترب من رؤوسنا بمقدار ميل ، فماذا أعددنا لوهج ذلك اليوم ؟

خطورة الشمس :

توصي المنظمات المختلفة كافة الناس بعدم المشي في الشمس ، لكيلا يتعرض الواحد منهم لضربة شمس تخل بدماغه ؛ بل ويوصي دولياً وعلى مستوى العالم عبر منظمات حقوق الإنسان ؛ بمنع تشغيل العمال ميدانياً ؛ إذا تجاوزت الحرارة خمسين درجة مئوية ؛ حفاظاً على صحة الإنسان وعقله من حرارة الشمس الشديدة والملتهبة صيفاً ، ونسي أولئك الناس أن هذه الشمس التي يهربون منها ، أنهم ملاقوها يوم القيامة بأشد وأقرب ما يكون ؟! ألا ينبغي أن نسأل عما يقينا من حر تلك الشمس التي سنقف تحت وهجها ، ليس ليوم أو يومين ولا لسنة أو سنتين ، وإنما لخمسين ألف سنة ، نعم لخمسين ألف سنة ، حتى إنه روي أن الناس في ذلك اليوم ؛ يتمنون لو بدئ بالحساب ليستريحوا من همِّ ما هم فيه ، ولو ذهب بهم إلى النار ، عياذاً بالله من ذلك المقام .

فوائد الشمس :

كما أن للتعرض للشمس لفترة طويلة مضاره على الجلد والجسد ، فكذلك للتعرض البسيط للشمس فوائد كثيرة منها :
1- تقوية العظام :
كل الأطباء في أوائل القرن الماضي، يصفون أشعة الشمس للوقاية من كساح الأطفال، والأمراض الأخرى، التي تتضمن تشوهات في العظام، وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن أشعة الشمس تساعد على مكافحة هشاشة العظام،، التي تعود في جزء منها إلى نقص في الفيتامين ( د ) .
ويعمل الفيتامين ( د ) الناتج عن أشعة الشمس على المساعدة في الحفاظ على مستويات الكالسيوم والفوسفات في الدم، والمعروف أن هذين المعدنين ضروريان لبناء العظام .
كذلك فإنه يعزز قدرة الأمعاء على امتصاص الكالسيوم .
2- الوقاية من السرطان :
هناك عدة أدلة تشير إلى أن الشمس يمكن أن تحمينا من بعض أشكال السرطان .
مثال على ذلك ، وكما تؤكد دراسة أجريت على 365 رجلاً ، فإن إمكانية الإصابة بسرطان البروستاتا في سن غير متقدمة، لدى الرجال، الذين لم يتعرضوا إلا إلى القليل من أشعة الشمس خلال حياتهم، تفوق ما هي عليه لدى الرجال الذين تعرضوا بشكل منتظم إلى أشعة الشمس .
وقد اكتشف البحّاثة أن الشمس تقلل أيضاً من خطر الإصابة بسرطان الثدي والقولون .
ويعتقد البحّاثة أن فيتامين ( د ) يكبح نمو الخلايا السرطانية ، داخل الأعضاء المذكورة .
3- التخفيف من خطر الإصابة بالسكري :
بدأ البحّاثة مؤخرا في دراسة النظرية القائلة، إن الفيتامين ( د ) يخفف من خطر الإصابة بمرض السكري. وكانت دراسة أجريت على الأطفال الفنلنديين، ونُشرت في مجلة لانسيت ، قد أظهرت أن إعطاء الأطفال يومياً جرعة إضافية من الفيتامين ( د ) خفض بشكل ملحوظ خطر إصابتهم بالسكري .
4- مكافحة الاكتئاب :
عندما يكون النهار قصيراً في فصلي الخريف والشتاء ، يعاني شخص بين كل أربعة أشخاص في شكل خفيف ، من الاكتئاب الموسمي .
ويعتقد الخبراء أن انخفاض نسبة ضوء الشمس ، في الفصلين المذكورين يؤدي إلى اضطراب في إنتاج هرمون الميلاتونين في أجسامنا ، في مجرى الدم أثناء النهار بدلا من الليل ، حين يتوجب إفرازه ، وتكون النتيجة أن تشعر بالتعب أثناء النهار .
وبغياب الكمية الصحيحة من الميلاتونين ، فإننا يمكن أن نشعر ببعض أعراض الاكتئاب الموسمي ، مثل ضعف التركيز ، وانخفاض الرغبة الحسية .
وكانت عشرات الدراسات قد أظهرت أن أشعة الشمس قادرة على التخفيف من أعراض الاكتئاب الموسمي .
5- التخفيف من ضغط الدم :
تشير الأبحاث أن معدلات ضغط الدم ترتفع في فصل الشتاء ، فقد وجدت الدراسات أنه كلما ابتعدنا عن خط الاستواء ، حيث توجد أكبر نسبة من الأشعة فوق البنفسجية ، ترتفع معدلات ضغط الدم .
وأظهرت الدراسات أن ضغط الدم المرتفع انخفض بعد أن تلقى الأشخاص المعنيون أشعة فوق بنفسجية مدة تتراوح بين 6 و 30 دقيقة ، ثلاث مرات أسبوعياً لستة أسابيع ، ويعمل فيتامين ( د ) الذي ينتجه الجسم استجابة لأشعة الشمس ، على مساعدة الأمعاء في عملية امتصاص الكالسيوم .
والكميات الكافية من الكالسيوم ، تساعد بدورها على إبقاء مستويات ضغط الدم في الشرايين طبيعية ، ويوافق البحّاثة المتخصصون بدراسة تأثيرات أشعة الشمس ، على أن التعرّض المعتدل لهذه الأشعة ، يعطي فوائد لا يمكن التفريط بها .

فائدة مهمة :

من الضروري إذاً تفادي التعرض لأشعة الشمس ، والتي تكون أكثر أذية ما بين الساعة الثامنة صباحاً ، والساعة الخامسة مساءً .
والوقت المفضل للتعرض للشمس هو عندما يكون ظل الإنسان أطول من طوله [ قبل الثامنة صباحاً ، وبعد الخامسة والنصف مساءً ] ، ويراعى فارق التوقيت حسب فصلي الصيف والشتاء .

ظل الرحمن :

ظل الرحمن جل وعلا ليس كظل الدنيا ، فهو سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فالله عز وجل يوم القيامة ينشىء لأناس معينين ظلاً يستظلون به من شدة حر الشمس ، ووهج ضوئها ولأوائها يوم القيامة ، وهذا الظل ليس ظل الله عز وجل ، لأن من قال ذلك ، فلازم كلامه أن الشمس فوق الله تعالى ، والله تعالى فوق كل شيء ، بائن عن خلقه ، كما قال سبحانه : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد3 ] .
هو الأول الذي ليس قبله شيء , والآخر الذي ليس بعده شيء , والظاهر الذي ليس فوقه شيء , والباطن الذي ليس دونه شيء , ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء , وهو بكل شيء عليم .
فالظل الذي يكون يوم القيامة ، لمن وعدهم الله به ، يكون ظلاً يُنشئه الله عز وجل لبعض خلقه ، بسبب أعمال صالحة عملوها ، وسيأتي بيان هذه الأعمال بإذن الله تعالى ، وهو مقصود حديثنا في هذه الرسالة المباركة .
إن ظل يوم القيامة وعوازله الذي أخبر به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، ليس من البرولايت ولا من الفلين ولا من غيرها ؛ وإنما هي أعمال صالحة يجب أن نتحلى بها ، ونتخلق بها ، حتى نحوز الظل ، ونكون أهلاً له يوم القيامة ، ونستظل بسببها تحت ظل الرحمن في ذلك اليوم العصيب ؛ ومن استظل تحت ذلك الظل ، سيمر عليه يوم القيامة كمقدر الانتظار ما بين الظهر والعصر ، فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً قال : " يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر " [ وصححه الألباني رحمه الله في الصحيحة 5/584 ، وفي صحيح الجامع برقم : 8193 ] .
وقال رحمه الله : " وهذا يدل على خفة يوم القيامة على المؤمنين " .

الظل من الشمس :

ونأتي الآن إلى لُبِّ الرسالة ومقصودها ، وهي الأعمال التي يستظل بها أصحابها يوم القيامة من شدة الشمس وحرها ولهيبها ، فهناك مظلات يستظل بها أصحابها يوم القيامة ينشئها الله عز وجل لعدد من عباده بسبب أعمالهم في هذه الحياة الدنيا ، وإليكم هذه المظلات أو الظلال التي يستظل بها العبد من شمس يوم القيامة ومنها :

الظل الأول / انظار المعسر :

يقول الله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة280 ] .
فعلى المسلم أن ينظر أخاه إذا تأخر عن السداد ، وكان له في ذلك العذر ، حتى يسدد دينه أو يخفف الدين عنه ؛ ويأخذ ما تيسر ، ويعفو عن الباقي ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً ، أَوْ وَضَعَ لَهُ _ عنه _ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ " [ رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ، ورواه أحمد ] .
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول من يستظل في ظل الله يوم القيامة ، لرجل أنظر معسراً أو تصدق عنه " [ رواه الطبراني بإسناد حسن ] ، وعَنْ أَبِى قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ ، أَوْ مَحَا عَنْهُ ، كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [ رواه مسلم وأحمد والدارمي وغيرهم ] .
وقد وجد من الناس من جهل هذه النصوص الشرعية ، أو ربما عرفها وتعداها عناداً وكبراً ، فشكا غريمه للمحاكم ، وألقاه في غياهب السجون ، ومع ذلك فلن يحصل له من السداد ولو درهماً واحداً ، فما الفائدة المرجوة من ذلك ؟
لو ترك ذلك المسكين لأهله ولأولاده ، يرعاهم ويهتم بهم ، ويسعى لسد جوعهم وعوزهم ، ويكف أيديهم عن السؤال ، لكان له من الأجر ما لا يُحصيه إلا الله ، ولكنها الغفلة والبعد عن دين الله عز وجل ، وفقدان الرحمة والرأفة والعطف .
تذكر يا صاحب الدين ، يا من داينت الناس ، وقضيت همومهم ، ونفست كربهم ، أنك على خير عظيم من الله ، فلا تفقد هذا الخير والنعيم بالمنة أو سجن المعسرين ، الذين لا يملكون ما يطعمون به أهليهم وذرياتهم ، فلا تزج بهم إلى طرق الحرام ، أو حرمانهم من أسرهم وأهليهم ، بل احتسب أجر ذلك عند الله عز وجل ، القائل سبحانه : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة272 ] .
ويقول عز وجل : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ سبأ39 ] .
وليكن لك في هذا الرجل مثلاً حسناً تقتدي به :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ _ رضي الله عنه _ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ : إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجَاوَزْ عَنْهُ ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا ، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ " [ رواه البخاري ومسلم ] .
فتجاوز عن المعسرين لعل الله أن يتجاوز عنك ويعفو عن ذنوبك يوم أن تكون أحوج ما تكون إلى التجاوز ، يوم الحساب والعتاب ، يوم القيامة .
وروى مسلم وغيره ، وروى الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح قال صلى الله عليه وسلم : " من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة ، وأن يظله تحت عرشه ، فلينظر معسراً " .

الظل الثاني / إعانة المجاهد في سبيل الله :

عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ غَارِماً فِي عُسْرَتِهِ ، أَوْ مُكَاتَباً فِي رَقَبَتِهِ ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ " [ رواه أحمد والحاكم ، وقال الألباني رحمه الله : ضعيف ، انظر حديث رقم : 5447 في ضعيف الجامع ] .
عن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا " [ رواه البخاري ومسلم ] .
فانظر إلى عظيم رحمة الله وفضله العميم ، من خلف مجاهداً في سبيل الله في أهله وماله وولده ، ورعاهم حق الرعاية ، واهتم بشؤونهم ، وقام بما يجب لهم ، حصل له من الأجر كما يحصل للمجاهد في سبيل الله تعالى .
وإننا اليوم وجدنا أناساً لا يخافون الله عز وجل ، يخونون المجاهد في أهله وولده وماله ، فهؤلاء جاء في حقهم الوعيد الشديد يوم القيامة ، من الناس من يظن أنه لن يعود إلى ربه كما خلقه أول مرة ، وربما ظن أنه يعيش ثم يموت ولا حساب وعتاب ولا نعيم ولا عذاب ، فهذا جاهل بل كافر والعياذ بالله ، لأنه لم يؤمن بالجزاء والحساب ، وأنه سوف يُبعث يوم القيامة لذلك ، فتراه يعصي ويذنب ويغفل عن الوقوف ين يدي جبار السموات والأرض ، يرضي شهوته ، ويرضي شيطانه ، ويعصي الرحمن جل جلاله ، ويخون أخوه المجاهد في سبيل الله عز وجل ، فهذا جاء فيه :
عَنِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " فَضْلُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ فِي الْحُرْمَةِ ، كَفَضْلِ أُمَّهَاتِهِمْ ، وَمَا مِنْ قَاعِدٍ يَخْلُفُ مُجَاهِداً فِي أَهْلِهِ ، فَيُخَبِّبُ فِي أَهْلِهِ ، إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قِيلَ لَهُ : إِنَّ هَذَا خَانَكَ فِي أَهْلِكَ ، فَخُذْ مِنْ عَمَلِهِ مَا شِئْتَ قَالَ : فَمَا ظَنُّكُمْ ؟ " [ رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني ] .
قوله فما ظنكم : أي هل سيترك من حسناته شيئاً ؟
وقد وجد من الناس اليوم من يخون المجاهدين في أهليهم ، فبدل أن يعولهم ويقوم على شؤونهم ، ويقضي لهم حوائجهم وطلباتهم ، حتى يعود وليهم ، تراه على النقيض من ذلك ، يعاكسهم ، ويراودهم عن أنفسهم ، يحاول فعل كل قبيح بهم ، فهذا على خطر عظيم ، وهذا داخل في هذا الحديث ، بل من الناس من يفعل الفاحشة بأهل المجاهد ، ذاك يجاهد في سبيل الله ، وهذا يجاهد في سبيل الشيطان ، وشتان ما بين الفريقين .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِياً أَوْ يَخْلُفْ غَازِياً فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ " [ رواه أبو داود ، وحسنه الألباني 3/10 ، وقال النووي في رياض الصالحين إسناده صحيح 470 ] .
وهذا وعيد آخر لمن خان المجاهد في سبيل الله في أهله ، بأنه متوعد بالمصيبة تصيبه ، بسبب جرمه وخيانته .
ذاك يناظل ويدافع عن حرمات المسلمين ، وعن ذلك الخائن وأهله وولده وماله ، ويدافع عن دينه ، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا .
والآخر يسعى بالفساد والإجرام في الأرض ، وفي بيت المجاهد في سبيل الله ، قال تعالى : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ المائدة64 ] .

الظل الثالث / الحب في الله عزَّ وجلَّ :

هذه الخصلة من أعظم الخصال التي فقدها الناس اليوم ، فقلما تجد اثنين أو أكثر يحب بعضهم بعضاً محبة لله وفي الله ، خالصة من شوائب الأنانية أو المحسوبية ، أو القبلية ، أو المصلحة .
مع أن الأدلة الشرعية تحث على ذلك ، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات10 ] .
وقال تعالى : { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف67 ] .
الأصدقاء على معاصي الله في الدنيا يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة , لكن الذين تصادقوا على تقوى الله , والحب في الله ، فإن صداقتهم دائمة في الدنيا والآخرة .
وانظر إلى هذا التشبيه العظيم الذي شبه به النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين ، لأنهم أخوة ، فأخوة الدين أعظم وأقوى من أخوة النسب ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، مَثَلُ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " [ رواه مسلم ] .
معانٍ سامية ، وأخلاق عالية ، يجب على المسلم أن يتصف بها ، فيتألم لألم أخيه المسلم في أي بقعة من بقاع الأرض ، ويحزن لحزنه ، ويفرح لفرحه ، هذا في حق كل مسلم فما بالك بأخيك من أمك وأبيك ، وجارك ، وقريبك ، ورحمك ، وصديقك ، كل هؤلاء لهم عليك حق الأخوة والمحبة في الله عز وجل .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَجَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً " [ رواه البخاري ومسلم ] .
فلماذا لا نمتثل هذه الوصية من نبي الهدى والرحمة ، ونكون كما قال أخوة في الله ، لا نتباغض ، ولا نتحاسد ، ولا نتهاجر ، ولا نتدابر ، بل نكون عباد الله إخواناً ، لا شيء يمنعنا من امتثال هذه الوصية العظيمة ، إلا فساد القلوب وأمراضها ، والركون إلى الدنيا ، وحب الذات والمناصب والكراسي ، فلا نرى للإيثار اليوم مكاناً ، بل لسان الحال يقول : نفسي ، نفسي .
فمن أراد أن يستظل في ظل الله يوم القيامة لينجو من عذاب خمسين ألف سنة ، فليحب إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وليكن حبه نابعاً من بذرة الخير التي أوجدها الله فيه ، لا يرجو رفعة بهذا الحب في الدنيا ، أو نعمة تحصل له من أجلها ، أو أي مطمع من مطامع الدنيا ، بل ليكن الحب لله وفي الله .
وتظهر عظيمة الإسلام في الدعوة إلى الأخوة في هذا الدين ، في حثه على الأخوة بين العبد وسيده ، والرجل ومن تحت يده ممن يعملون لديه ، فهؤلاء الخدم والسائقين وغيرهم من العمال ، هم إخوان لنا في الله _ وأقصد بذلك المسلمين _ أما غير المسلم فليس بأخ لنا ، لكن علينا أن نعامله معاملة حسنة ، لعله يسلم ، والدين المعاملة ، وقد جاء الدليل على ذلك في كثير من الأحاديث ومنها :
عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ ، وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ ، فَقُلْنَا : يَا أَبَا ذَرٍّ ! لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً ؟ فَقَالَ : إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلاَمٌ ، وَكَانَتْ أَمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ " ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمُّهُ ، قَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ " [ رواه البخاري ومسلم واللفظ له ] .
هكذا فلتكن الأخوة في الله ، لكن هل عمل الناس اليوم بمقتضى هذا الحديث ، أم أنهم كلفوا الخدم والعمال ما لا طاقة لهم به من الأعمال ؟
إن من الناس من يرى أن الخدم والعمال والأجراء والسائقين ، يراهم آلات لا تتوقف ليلاً أو نهاراً ، وهو ينام أكثر الليل والنهار ، فأين الأخوة في الله ؟
بل إننا نجد أكثر الناس اليوم على النقيض من ذلك .
قال صلى الله عليه وسلم : " أوثق عرى الإيمان ، الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله " [ أورده الألباني رحمه الله في الصحيحة ، وقال : حسن بمجموع الطرق 2/698 ] .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " فالواجب أن يكون الحب في الله ولله ، وليس لأجل مصلحة دنيوية ؛ فإن الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله ؛ لما فِي ذَلِكَ من طوع النفس أغراضها من الدنيا ، فالمتحابان فِي الله جاهدا أنفسهما فِي مخالفة الهوى ، حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي الله من غير غرض دنيوي يشوبه ، وهذا عزيز جداً " .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : " أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخاً لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخاً لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ ، قَالَ : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ : لاَ ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ " [ رواه مسلم ] .
فاجتمعا عَلَى التحاب فِي الله حَتَّى فرق بَيْنَهُمَا الموت فِي الدنيا ، أو غيبة أحدهما عَن الآخر ، ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله ، فإن تغير أحدهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ ، فيدور تحاببهما عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً .
قَالَ بعض السلف : إذا كَانَ لَكَ أخ تحبه فِي الله ، فأحدث حدثاً فَلَمْ تبغضه فِي الله لَمْ تكن محبتك لله - أو هَذَا المعنى .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي ، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي " [ رواه مسلم وأحمد ] .
وعن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه قََالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : " حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ " [ رواه أحمد والطبراني ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4321 ] .
وعَنْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلاَلِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ " [ رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
وعلى كل مسلم أحب مسلماً لله وفي الله أن يخبره بذلك الحب ، وأنه لا يقصد به نعمة من الدنيا يرجوها ، وإنما حبه لأخيه ، أو حب المرأة لأختها ، كله في ذات الله عز وجل ، ليحصل لهم النور والظل يوم القيامة ، ويكونوا على منابر من نور على يمين الرحمن جل وعلا ، يغبطهم بذلك التعظيم والإكبار والإجلال ، الأنبياء والشهداء ، فيا لها من منزلة عظيمة ، ومكانة كبيرة ، يتسنمها العبد إذا أحب أخاه المسلم لله عز وجل .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _ رضي الله عنه _ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إِنِّي أُحِبُّ فُلاَناً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " فَأَخْبَرْتَهُ ؟ " ، قَالَ : لاَ ، قَالَ : " فَأَخْبِرْهُ " ، قَالَ : فَلَقِيَهُ بَعْدُ فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ " [ رواه أبو داود وحسنه الألباني 4/333 ] .
وللحب في الله فضائل كثيرة منها ، أن الحب في الله دليل الإيمان وصحته ، ودليل ذلك :
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ " [ متفق عليه ] .
واليوم لا نرى حباً في الله بين الكثير من المسلمين ، بل نرى بغضاً وكرهاً وحسداً وحقداً وغيرةً وناراً تورث شحناء وإضاعة للحسنات ، وكسباً للسيئات ، ونزولاً في الدركات ، وبغضاً عند رب الأرض والسموات .
لاسيما من هيئتهم الصلاح ، ففر منهم فرارك من الأسد ، لأنك لا تجد اليوم منهم إلا ما يسوءك ، ولا تسمع منهم إلا ما ضرك ، فرق ومذاهب وتيارات ما سمعنا بها في السلف الأولين ، فنشكو أحوال الشباب _ المتمسك _ إلى الله تعالى ، حتى إنك ترى بعض الشباب يريد الهداية والعودة إلى دين الله تعالى ، فلا يجد إلا حرباً ضروساً ، وتكفيراً وتبديعاً وتفسيقاً ، فإلى الله الملتجى ، فكيف سيكون الحب في الله ونحن نعيش فترة عصيبة ، تعيشها الأمة ، أمة متفرقة ومتباعدة ، ومتناحرة ومتقاتلة ، كل فرقة تظن أنها على الحق ، وأنا أقول :
كل فرقة خرجت عن مذهب أهل السنة والجماعة فهي على ضلالة ، وعليها أن تعود إلى دين الله تعالى ، وتتمسك بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم القائل : " أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ " [ رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ " ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : " الْجَمَاعَةُ " [ رواه ابن ماجة ] .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً ، لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً " ، قَالُوا : وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي " [ رواه الترمذي ] .

الظل الرابع / حفظ سورتي البقرة وآل عمران :

القرآن كله بركة ، وخبر وفضل وأجر عظيم ، بقراءته تحصل الرحمة والرأفة ، قال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل89 ] .
وقد أحسن من قال : لا خير في يوم لا يُقرأ فيه شيء من كتاب الله عز وجل .
ومن عظيم بركة كتاب الله عز وجل ، أنه سبب لدخول الجنة ، فهو يُحاج عن صاحبه في القبر ، ويدافع عنه يوم القيامة ، ويظله في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة ، وبسببه يرقى أعلى درجات الجنة ، قال الله جل في علاه : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر29 ] .
إن الذين يقرؤون القرآن , ويعملون به , وداوموا على الصلاة في أوقاتها , وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا , هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسد ولن تهلك , ألا وهي رضا ربهم , والفوز بجزيل ثوابه .
وبالقرآن يحفظ الإنسان نفسه من كل الشرور ، وجميع المخاطر بإذن الله تعالى ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء82 ] .
وهكذا كان دأب السلف الصالح ، يحفظون القرآن ويتعلمون ما فيه من أحكام ، حتى بلغوا الثريا ، وحققوا أعلى المنازل في الدنيا والآخرة ، وهابهم العدو وخافهم ، استحقوا ما نالوا بسبب كتاب الله عز وجل ، قال الله عز وجل : { إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [ الإسراء9 ] .
ولهذا أنزل القرآن العظيم لقراءته وتدبر آياته ، والاتعاظ بمواعظه ، والائتمار بأوامره ، والانتهاء عن نواهيه ، قال تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ ص29 ] .
لكن اليوم اختلف الوضع تماماً عما كان عليه سلف الأمة الأول ، إلا من رحم ربك وعصم ، وقليل ما هم .
انشغل أغلب الناس اليوم عن كتاب الله تعالى ، بقراءة قصص الحب والغزل ، والقصص الغرامية والتراجيدية ، ومشاهدة التافه من البرامج الساقطة من مسلسلات وأفلام ، تدعو إلى الانحطاط ، وقلة الحياء ، وسوء الأدب ، والانخلاع من قيود الشريعة ، حتى يصبح الإنسان وكأنه بهيمة ، برامج تقسي القلوب ، وتميت الضمائر ، وتقتل الغيرة ، وتائيد الفضيلة ، وتغتال الشرف ، في مسلسلات سافلة بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ .
بل إن الكثير من المسلمين رجالاً ونساءً ، صغاراً وكباراً ، يحفظون أسماء اللاعبين والفنانين والممثلين وغيرهم من الفساق ، ولا يحفظون أسماء العشرة المبشرين بالجنة ، بل لا يعرفون أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة ، ولا يحفظون من كتاب الله حتى جزء عم ، ولا يحفظون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً أو جزءاً من حديث ، ولا يعرفون أبسط المسائل في الوضوء والصلاة وغيرها من أركان الإسلام الخمسة الواجب تعلمها .
يحفظون أرقام فانلات اللاعبين ، وأسماء مرتديها ، أما عن القرآن فلا تسأل ، وإن سألت أجابك قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في سورة الفرقان في قوله تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [ الفرقان30 ] .
وقال الرسول شاكيًا ما صنع قومه : يا ربِّ إن قومي تركوا هذا القرآن وهجروه، متمادين في إعراضهم عنه وتَرْكِ تدبُّره والعمل به وتبليغه ، وفي الآية تخويف عظيم لمن هجر القرآن فلم يعمل به .
ومن أعظم سور القرآن الكريم فضلاً وأجراً سورتي البقرة وآل عمران ، وقد ورد في فضلهما نصوص شرعية كثيرة إليك منها :
عَنْ أَبُي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ _ رضي الله عنه _ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا ، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ " [ رواه مسلم ] .
الغيايتان : مثنى غياية ، وهي كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه ، كالسحابة والغاشية ونحوهما .
وفرقان : أي قطعتان .
قَالَ مُعَاوِيَةُ _ أحد رواة الحديث _ بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ : السَّحَرَةُ .
وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تعلموا البقرة وآل عمران ، فإنهما الزهراون ، يظلان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف " [ رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، وقال الألباني رحمه الله : حديث حسن صحيح ] .
فاحفظ هاتين السورتين بدلاً من حفظ الأغاني التي لا تزيد القلب إلا نفاقاً وفسقاً وبعداً عن الله .

الظل الخامس / الصدقة على الفقراء والمحتاجين :

ما أعظم الصدقة ، وما أعظم نتائجها ، وما أجمل ثمارها ، فالصدقة دليل على صدق إيمان المرء ، وحسن نيته ، وحبه لإخوانه الفقراء والمحتاجين ، فهي دليل على التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم ، الذي هو كالجسد الواحد ، يشد بعضه بعضاً ، عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً " ، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ " [ متفق عليه ] .
عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ " أَوْ قَالَ : " يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ " ، قَالَ يَزِيدُ : وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لاَ يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلاَّ تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ بَصَلَةً أَوْ كَذَا " [ رواه أحمد وقال الألباني : صحيح ، انظر حديث رقم : 4510 في صحيح الجامع ، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ] .
فحري بكل مسلم أن يكثر من الصدقات ليستظل بها في يوم شديد كربه؛ يغرق فيه الناس في عرقهم .
وجاء في الحديث المتفق على صحته : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : وذكر منهم ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ " .
ولعل الْمَقْصُود مِنْهُ الْمُبَالَغَة فِي إِخْفَاء الصَّدَقَة ، بِحَيْثُ إنَّ شِمَاله مَعَ قُرْبِهَا مِنْ يَمِينه وَتَلَازُمِهِمَا ، لَوْ تَصَوَّرَ أَنَّهَا تَعْلَم ، لَمَا عَلِمَتْ مَا فَعَلَتْ الْيَمِين ، لِشِدَّةِ إِخْفَائِهَا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وَحَكَى الْقُرْطُبِيّ عَنْ بَعْض مَشَايِخه أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الضَّعِيف الْمُكْتَسِب فِي صُورَة الشِّرَاء لِتَرْوِيجِ سِلْعَتِهِ ، أَوْ رَفْعِ قِيمَتِهَا وَاسْتَحْسَنَهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، إِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَة مُرَاد الْحَدِيث خَاصَّةً ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا مِنْ صُوَر الصَّدَقَة الْمَخْفِيَّةِ فَسُلِّمَ ، وَاَللَّه أَعْلَم " [ 2/485 ] .
ولا يخفى فضل الصدقة على مسلم ، ففضلها عظيم ، وأجرها كبير ، فهي تغسل الذنوب ، وتشفي المرضى ، وتزيد بركة المال ، وتؤلف القلوب ، وتحث على التكافل بين أفرد المجتمع ، وغير ذلك كثير .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حرالقبور وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته " [ رواه الطبراني في الكبير والبيهقي وحسنه الألباني ] .
وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام بخمس كلمات أن يعمل بهن ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فذكر الحديث إلى أن قال فيه : " وآمركم بالصدقة ، ومثل ذلك : كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه ، وقربوه ليضربوا عنقه ، فجعل يقول : هل لكم أن أفدي نفسي منكم ، وجعل يعطي القليل والكثير حتى فدى نفسه " [ واه الترمذي وصححه وابن خزيمة واللفظ له وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما ، ووافقه الألباني ] .
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن صدقة السر تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى " [ رواه الطبراني في الكبير ، وقال الألباني : حسن لغيره ] .
وعن الحسن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " . . . داووا مرضاكم بالصدقة . . . " [ رواه أبو داود في المراسيل ورواه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن جماعة من الصحابة ، وقال الألباني : حسن لغيره ، انظر حديث رقم 3358 في صحيح الجامع ] .
والأدلة في فضل الصدقة كثيرة ، ويكفي منها أن المتصدق يستظل في ظل صدقته يوم القيامة ، يوم الحر الشديد ، والشمس اللافحة بحرارتها ، وغرق الناس في عرقهم .

الظل السادس / الإمام العادل :

إمام عادل : اِسْم فَاعِل مِنْ الْعَدْل ، وَذَكَرَ اِبْن عَبْد الْبَرِّ أَنَّ بَعْض الرُّوَاة عَنْ مَالِك رَوَاهُ بِلَفْظِ " الْعَدْل " قَالَ : وَهُوَ أَبْلَغُ ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُسَمَّى نَفْسَهُ عَدْلًا ، وَالْمُرَاد بِهِ صَاحِب الْوِلَايَة الْعُظْمَى ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمُور الْمُسْلِمِينَ فَعَدَلَ فِيهِ ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو رَفَعَهُ : " أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّه عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور عَنْ يَمِين الرَّحْمَن ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمهمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا " .
وَأَحْسَن مَا فُسِّرَ بِهِ الْعَادِل : أَنَّهُ الَّذِي يَتَّبِعُ أَمْر اللَّه ، بِوَضْعِ كُلّ شَيْء فِي مَوْضِعه ، مِنْ غَيْر إِفْرَاط وَلَا تَفْرِيط ، وَقَدَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة ، والذي سيأتي بعد قليل ، قدمه على غيره فِي الذِّكْرِ لِعُمُومِ النَّفْع بِهِ .
وأهم عدل في الإمام أن يحكم بين الناس بشريعة الله ، لأن شريعة الله هي العدل ، وأما من حكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة ، فهو من أشد الولاة جوراً والعياذ بالله ، وأبعد أن الناس من أن يظله الله في له يوم لا ظل إلا ظله ، لأنه ليس من العدل أن تحكم بين عباد الله بشرعية غير شريعة ربهم وخالقهم ورازقهم ، قال تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة50 ] .
والحاكم العادل لا يحابي أحداً لقرابته أو لضعفه أو لغناه أو لفقره أو لمكانته ، أو غير ذلك ، بل يعامل الناس بالسوية والعدل ، قال تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ المائدة42 ] ، والقسط : هو العدل .
وحذر الله تعالى من الحكم بغير ما أنزله في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال في آيات متتابعات من سورة المائدة :
الآية الأولى ، قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة44 ] .
الآية الثانية ، قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ المائدة45 ] .
والآية الثالثة ، قال عز وجل : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ المائدة47 ]
وصدق من قال : الأمة التي رزقت بعادل إمام ، سوف ترزق بإمام عادل .
فنسأل الله عز وجل أن يصلح قادة المسلمين وحكامهم وأمراءهم ووزراءهم ، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه ، وجنبهم بطانة السوء والفساد ، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين .
وإذا بحثت اليوم عن دولة تدعي الإسلام هل تطبق تعاليم الشريعة كاملة أم لا ، تجيبك المحاكم فيها ، فالقضايا _ جميع القضايا _ تخضع لدستور الدولة الفلانية ، وكأن شرع الله لم يرضوا به ، بل رضوا بتعاليم البشر وقوانينهم ، حتى أن القاتل لا يُقتل ، والسارق لا تقطع يده ، والزاني لا يرجم ، واللواطي _ ولا تقل لوطي ، لأن لوطي نسبة إلى لوط عليه السلام ، أما اللواطي فنسبة إلى اللواط فتنبه _ أقول : اللواطي وما أكثرهم لا كثرهم الله ، يعترف بجريمته ، ويعترف عليه من فُعل به اللواط ، ومع ذلك يُتسامح في حقه ، ويُكتفى بسجنه وجلده ، بدل أن تُوقع به أشد عقوبة عرفها الناس ، حتى يكون عبرة لغيره من السفهاء والمنحرفين عقدياً وخلقياً .
السارق اليوم يدخل بيوت الآمنين ، ويسرق ويعبث بالمحتويات ، ويعيث في بيوت المسلمين شراً وفساداً ، ويتم القبض عليه ولا توقع بحقه عقوبة رادعة له ، وزاجرة لمن خلفه ، بل ربما يستجوب فإن أقر أخلي سبيله ، وإن أنكر أطلق سراحه ، وعجبي لهذه الأحكام ، وأولئكم الحكام .
وحدث عن الجريمة اليوم ولا حرج ، والله إن المسلم ليعيش خوفاً على نفسه وأهله وبيته ، من كثرة الشر وأهله وانتشاره ، فحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ونحن ننتظر ذلكم الزمن الذي يُؤَمَّنُ فيه الخائف ، ويُصدق الصادق ، ويؤتمن الأمين ، لا كمثل زماننا اليوم ، الذي لا يؤمن فيه إلا صحاب الكرسي والمنصب ، ولا يصدق إلا الكاذب ، ولا يؤتمن إلا الخائن ، نحن ننتظر الزمن الذي ينتشر فيه الخير ، ويعم الإخاء ، وتكثر الخيرات والأمان والراحة والاطمئنان ، ويحكم فيه بالعدل ، وليس ذلك على الله ببعيد .

الظل السابع / الشاب الناشئ في طاعة الله :

الشباب عماد الأمة ، وروحها الذي تتنفس منه ، وأملها في غدها ، وإذا ما فقدت الأمة شبابها فعلى الأمة السلام ، وكبر عليها تكبيرات أربع لا ركوع فيها ولا سجود ، لأن الشعوب والدول لا تقوم إلا بسواعد أبنائها وشبابها ، ولهذا نلاحظ أن دول الكفر اللعينة ، تحاول بشتى الطرق إفساد شبابنا ، وإغراقهم في أوحال الدخان والشيشة والمعسل ، ومستنقعات المخدرات والخمور والمسكرات ، وإغراق الفتيات في براثن الفساد والرذيلة واتباع الموضة المحرمة ، من قصات ولبس وحركات ورقصات ، ومقابلات وقبلات وخروج مع الغير ، وأمثال ذلك من الغزو الفكري والعقدي ، حتى أصبح لدينا جيل من البهائم ، لا جيل من الناس ، لأن من ابتعد عن دينه فليس بإنسان ، التبس لديهم الحق بالباطل ، وتشابه المعروف بالمنكر ، فلا يعرفون معروفاً ، ولا ينكرون منكراً ، وصدق فيهم قول ربنا تبارك وتعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان44 ] .
لقد خطط أعداء الملة والدين ، للإطاحة بشباب الإسلام ، فحصل لهم ما أرادوا ، ونالوا من شبابنا من نالوا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وما هذه ( الدشوش ) إلا أكبر وسائل الفساد والإلحاد ، والبعد عن الواحد الديان ، حتى فسدت الشريحة العظمى من شبابنا ، وإن أردت صحة ما يُقال فانظر إلى الأسواق والملاهي والمنتزهات بل انظر إلى الشوارع والطرق ن فلا ترى إلا شباباً هلكى ، وفتيات ونساء مرضى ، ضربتهم حمى التقليد الفاسد ، ووهنتهم شمس التقدم الكاذب ، شعور غريبة ن وقصات عجيبة ، ونساء متبرقعات ومنتقبات ، يفتن ويُفتن ، ورجال لا يقومون بما أوجب الله عليهم من النصيحة لمن هم تحت ولايتهم ، بل تركوا لهم الحبل على الغارب ، حتى فشت المنكرات ، وعمت البلوى ، وتقبل الكثير من الناس المنكر ، حتى أصبح لديهم وكأنه معروفاً ، وهذا من انتكاس الفطر ، وانعكاس المفاهيم ، افتقدتهم المساجد ، وخلت منهم حلق الذكر ، يعبثون ويسرقون ويخربون ولا رادع ولا زاجر ، شيء يدمي القلب ، ويجرح الفؤاد ، ويمنع عن العين الرقاد ، فلا حول ولا قوة إلا بالله رب العباد .
ونعود إلى الحديث عن الشاب الذي يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، وهو الشاب الذي نشأ في طاعة الله ، وخَصَّ الشَّابَّ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى ، فَإِنَّ مُلَازَمَةَ الْعِبَادَةِ مَعَ ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَدَلُّ عَلَى غَلَبَةِ التَّقْوَى ، فهذا الشاب نَشَأَ : أَيْ نَمَا وَتَرَبَّى بِعِبَادَةِ اللَّهِ ، لَا فِي مَعْصِيَتِهِ ، فَجُوزِيَ بِظِلِّ الرحمن يوم القيامة ، لِدَوَامِ حِرَاسَةِ نَفْسِهِ عَنْ مُخَالَفَةِ رَبِّهِ .
فالشاب الصغير الذي نشأ في طاعة الله تعالى ، واستمر على ذلك ، ولم ينحرف أو ينجرف وراء مغريات الحياة الدنيا ، بل تمسك بدينه ، وتشبث به ، وعض عليه بنواجذه ، وقبض عليه كالقابض على الجمرة ، لاسيما في زمنٍ كالذي نحن فيه ، فنشأ نشأة صالحة ، طيبة ، وفق كتاب الله عز وجل ، وتبع منهج رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا ممن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يرزق شباب المسلمين وشاباته التمسك بشرعه القويم ، وصراطه المستقيم ، واتباع سنة نبيه الكريم ، إنه جواد كريم ، وبالإجابة جدير .

الظل الثامن / تعلق القلب بالمساجد :

القلوب المؤمنة دائماً تهفو للمساجد ، كيف لا ، والمساجد بيوت الله تعالى ، والكل ضيف عليه سبحانه ، إذا دخلت المسجد ، فأنت في ضيافة الكريم العزيز الغني الحميد ، المساجد مأوى ملائكة الرحمن ، تحضر الملائكة خطبة الجمعة ، وتسجل الحضور أولاً بأول ، حتى إذا صعد الإمام طوت الصحف واستمعت للخطبة ، فمن تأخر فقد فاته خير كثير ، وكتب من المتأخرين ، ولم يًسجل مع المتقدمين ، وتتعاقب الملائكة لتسجيل الناس وتتفقدهم في صلاتي الفجر والعصر ، التي تخلف عنهما كثير من الناس اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومع كثرة المتخلفين عن الصلوات أو كثير منها ، إلا وإن مما يُثلج الصدر أن هناك من المسلمين من هو حمامة للمسجد ، بل وكأنه شيء من ملاصق للمسجد ، فلا يكاد يخرج حتى يعود إليه بسرعة ، أحدهم سافر عدة أيام ثم عاد إلى بلدته ، فكاد قلبه يطير من الفرح ، وقال : كم شعرت بالفرح والانشراح عندما عُدت إلى المسجد ، فلا تكاد تراه إلا داخل المسجد ، فهنيئاً لمثل أولئك الناس ، الذين تعلقت قلوبهم ببيوت الله عز وجل .
قال ابن حجر رحمه الله : " وَظَاهِره أَنَّهُ مِنْ التَّعْلِيق كَأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالشَّيْءِ الْمُعَلَّق فِي الْمَسْجِد كَالْقِنْدِيلِ مَثَلًا ، إِشَارَةً إِلَى طُول الْمُلَازَمَة بِقَلْبِهِ ، وَإِنْ كَانَ جَسَده خَارِجًا عَنْهُ ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ رِوَايَة الْجَوْزَقِيِّ " كَأَنَّمَا قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِد " وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون مِنْ الْعَلَاقَة وَهِيَ شِدَّة الْحُبّ ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ رِوَايَة أَحْمَد " مُعَلَّق بِالْمَسَاجِدِ " وَكَذَا رِوَايَة سَلْمَانَ " مِنْ حُبّهَا " وَزَادَ الْحَمَوِيُّ وَالْمُسْتَمْلِيّ " مُتَعَلِّق " ، زَادَ سَلْمَان " مِنْ حُبّهَا " وَزَادَ مَالِك " إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُود إِلَيْهِ " .
فكم نرى من الناس من تعلق قلبه بالمساجد ، حتى وإن خرج منه بجسده ، لكن قلبه معلق بالمسجد ، ما إن ينتهي عمله حتى يعود إلى بيت الله عز وجل ، وكم من الناس من صدق الله بحبه لبيوت الله ، حتى قُبضت روحه وهو ساجد لله ، في بيت الله فنسأل الله من فضله .

الظل التاسع / البكاء من خشية الله عز وجل :

ما أعظم البكاء من خشية الله ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويبكي ، ويسمع القرآن ويبكي ، ولقد كان في خدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء .
والبكاء من خشية الله من أسباب رحمة الله لعبده ، وتحريمه على النار ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " [ رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ] .
ولهذا ذُكر هذا الرجل الذي إذا ذكر الله لوحده بكى من خشية الله ، لأنه يعلم أنه لن يؤدي شكر نعم الله عليه ، فهو يخشى من ربه ، ويرجو عفوه ومغفرته ، وهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
ومعنى ذَكَرَ اللَّه : أَيْ بِقَلْبِهِ مِنْ التَّذَكُّر ، أَوْ بِلِسَانِهِ مِنْ الذِّكْرِ ، وَخَالِيًا : أَيْ مِنْ الْخُلُوّ ، لِأَنَّهُ يَكُون حِينَئِذٍ أَبْعَدَ مِنْ الرِّيَاء ، وَالْمُرَاد خَالِيًا مِنْ الِالْتِفَات إِلَى غَيْر اللَّه ، وَلَوْ كَانَ فِي مَلَأٍ ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيِّ " ذُكِرَ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ " وَيُؤَيِّد الْأَوَّل رِوَايَة اِبْن الْمُبَارَك وَحَمَّاد بْن زَيْد " ذَكَرَ اللَّه فِي خَلَاء " أَيْ فِي مَوْضِع خَالٍ وَهِيَ أَصَحُّ .
وفَفَاضَتْ عَيْنَاهُ : أَيْ فَاضَتْ الدُّمُوع مِنْ عَيْنَيْهِ ، وَأُسْنِدَ الْفَيْضُ إِلَى الْعَيْن مُبَالَغَةً كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي فَاضَتْ ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَفَيْض الْعَيْن بِحَسَبِ حَالِ الذَّاكِر وَبِحَسَبِ مَا يُكْشَفُ لَهُ ، فَفِي حَال أَوْصَاف الْجَلَال يَكُون الْبُكَاء مِنْ خَشْيَة اللَّه ، وَفِي حَال أَوْصَاف الْجَمَال يَكُون الْبُكَاء مِنْ الشَّوْق إِلَيْهِ .
وقَدْ خُصّ فِي بَعْض الرِّوَايَات بِالْأَوَّلِ ، فَفِي رِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ " فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَة اللَّه " وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ ، وَيَشْهَد لَهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِم مِنْ حَدِيث أَنَس مَرْفُوعًا " مَنْ ذَكَرَ اللَّه فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَة اللَّه حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْض مِنْ دُمُوعه لَمْ يُعَذَّب يَوْمَ الْقِيَامَة " .
تَنْبِيهٌ مُهِمٌ :
ذِكْرُ الرِّجَال فِي هَذَا الْحَدِيث لَا مَفْهُومَ لَهُ ، بَلْ يَشْتَرِك النِّسَاء مَعَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُرَاد بِالْإِمَامِ الْعَادِل الْإِمَامَة الْعُظْمَى ، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ دُخُول الْمَرْأَة حَيْثُ تَكُون ذَاتَ عِيَالٍ فَتَعْدِلُ فِيهِمْ .
وَتَخْرُج خَصْلَة مُلَازَمَة الْمَسْجِد ، لِأَنَّ صَلَاة الْمَرْأَة فِي بَيْتِهَا أَفْضَل مِنْ الْمَسْجِد ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالْمُشَارَكَة حَاصِلَةٌ لَهُنَّ ، حَتَّى الرَّجُل الَّذِي دَعَتْهُ الْمَرْأَة ، فَإِنَّهُ يُتَصَوَّر فِي اِمْرَأَة دَعَاهَا مَلِكٌ جَمِيل مَثَلاً فَامْتَنَعَتْ خَوْفًا مِنْ اللَّه تَعَالَى مَعَ حَاجَتهَا ، أَوْ شَابّ جَمِيل دَعَاهُ مَلِكٌ إِلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ اِبْنَتَهُ مَثَلاً ، فَخَشِيَ أَنْ يَرْتَكِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَة فَامْتَنَعَ مَعَ حَاجَته إِلَيْهِ .

الظل العاشر / الحذر من الزنا :

الزنا من عظائم الأمور ، وأشد الجرائم البشرية ، وهو من كبائر الذنوب ، وقد جاء الوعيد الشديد فيمن ارتكبه ، بالرجم بالحجارة حتى الموت ، وتخيل شدة الألم الذي يلحق الزاني والزانية بسبب رجم الحجارة ، وفي القبر العذاب في تنور _ فرن _ من نار ، وتخيل هذا العذاب في ذلك الفرن ، حيث يوضع فيه الزناة والزواني ، ويأتيهم لهب من تحتهم وهم يصرخون ، ولكن لا ناصر لهم ولا منقذ ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب والعياذ بالله .
عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ - رضي الله عنه - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لأَصْحَابِهِ : " هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا " ، قَالَ : فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ : " إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي ، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي : انْطَلِقْ ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا ، فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ - قَالَ : فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ - قَالَ - فَاطَّلَعْنَا فِيهِ ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا _ صرخوا وصاحوا _ قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَؤُلاَءِ ؟ قَالاَ لِي : إِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي . . . " [ رواه البخاري ] .
ومن خطورة الزنا أن الله تعالى لا يستجيب لفاعله ودليل ذلك :
عن عثمان بن أبي العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تفتح أبواب السماء نصف الليل ، فينادي مناد : هل من داع فيستجاب له ؟ هل من سائل فيعطى ؟ هل من مكروب فيفرج عنه ؟ فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله تعالى له ، إلا زانية تسعى بفرجها ، أو عشاراً " [ رواه أحمد والطبراني في الأوسط واللفظ له ، وقال الألباني : صحيح ، انظر حديث رقم 2971 في صحيح الجامع ] .‌
وللزنا أضرار على الفرد والمجتمع ، لأنه معصية تهتز لها الأبدان ، وتختلط فيها الأنساب ، ويُدخل على القوم من ليس منهم ، ويُلحق ولد الزنا ، بزوج الزانية وهو ليس ابنه من صلبه ، وبسببه تغلو المعيشة ، وتضيق الأرزاق ، وتمسك السماء ماءها ، والأرض بركتها وزرعها ، فعلى المسلم أن يحذر كل الحذر من الوقوع في هذه الجريمة العظيمة ، والفاحشة الأثيمة .
بَيَّنَ الْمَحْذُوفَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَته عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ فَقَالَ " دَعَتْهُ اِمْرَأَة " وَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَةَ ، وَلِمُسْلِمٍ وَهُوَ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْحُدُود عَنْ اِبْن الْمُبَارَك ، وَالْمُرَاد بِالْمَنْصِبِ الْأَصْل أَوْ الشَّرَف ، وَفِي رِوَايَة مَالِكٍ " دَعَتْهُ ذَات حَسَبٍ " وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْل وَعَلَى الْمَال أَيْضًا ، وَقَدْ وَصَفَهَا بِأَكْمَلِ الْأَوْصَاف الَّتِي جَرَتْ الْعَادَة بِمَزِيدِ الرَّغْبَة لِمَنْ تَحْصُلُ فِيهِ وَهُوَ الْمَنْصِب الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ الْجَاه وَالْمَال مَعَ الْجَمَال وَقَلَّ مَنْ يَجْتَمِع ذَلِكَ فِيهَا مِنْ النِّسَاء ، زَادَ اِبْن الْمُبَارَك " إِلَى نَفْسهَا " وَلِلْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَب مِنْ طَرِيق أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " فَعَرَضَتْ نَفْسهَا عَلَيْهِ " وَالظَّاهِر أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى الْفَاحِشَة وَبِهِ جَزَمَ الْقُرْطُبِيّ وَلَمْ يَحْكِ غَيْره ، وَقَالَ بَعْضهمْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُون دَعَتْهُ إِلَى التَّزَوُّج بِهَا فَخَافَ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْ الْعِبَادَة بِالِافْتِتَانِ بِهَا ، أَوْ خَافَ أَنْ لَا يَقُوم بِحَقِّهَا لِشُغْلِهِ بِالْعِبَادَةِ عَنْ التَّكَسُّب بِمَا يَلِيقُ بِهَا ، وَالْأَوَّل أَظْهَرُ ، وَيُؤَيِّدهُ وُجُودُ الْكِنَايَة فِي قَوْله " إِلَى نَفْسهَا " وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد التَّزْوِيج لَصَرَّحَ بِهِ ، وَالصَّبْر عَنْ الْمَوْصُوفَة بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَكْمَلِ الْمَرَاتِب لِكَثْرَةِ الرَّغْبَة فِي مِثْلهَا وَعُسْرِ تَحْصِيلهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَغْنَتْ مِنْ مَشَاقِّ التَّوَصُّل إِلَيْهَا بِمُرَاوَدَةٍ وَنَحْوِهَا .
قَوْله : ( فَقَالَ إِنِّي أَخَاف اللَّه )
زَادَ فِي رِوَايَة كَرِيمَةَ " رَبّ الْعَالَمِينَ " وَالظَّاهِر أَنَّهُ يَقُول ذَلِكَ بِلِسَانِهِ إِمَّا لِيَزْجُرَهَا عَنْ الْفَاحِشَة أَوْ لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَهُ بِقَلْبِهِ ، قَالَ عِيَاض قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : إِنَّمَا يَصْدُرُ ذَلِكَ عَنْ شِدَّة خَوْف مِنْ اللَّه تَعَالَى وَمَتِينِ تَقْوَى وَحَيَاءٍ .
ويجمع هذه الخمسة حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : إِمَامٌ عَدْلٌ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " [ متفق عليه ] .

الظل الحادي عشر / التاجر الصدوق :

عن سلمان عن سعيد بن منصور بإسناد حسن موقوفاً عليه ، قال الحافظ : " لكن حكمه الرفع " .
قلت _ أي الألباني رحمه الله _ : ورواه البيهقي أيضاً من طريق قتادة أن سلمان قال : " التاجر الصدوق مع السبعة في ظل عرش الله تعالى يوم القيامة " ، ثم ذكر السبعة المذكورين في الخبر المرفوع " [ الثمر المستطاب 2/623 ] .

فائدة مهمة :

قال المناوي : " فقد روي الإظلال لذي خصال أخر ، جمعها الحافظ ابن حجر في أماليه ، ثم أفردها بكتاب سماه : معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال ، ثم ألف في ذلك بعده السخاوي ، ومجموعها نحو تسعين خصلة " [ فيض القدير 4/117 ] .

خاتمة :

اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك ، اللهم اعصمنا من الفتن والمحن ، والآثام والمعاصي ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، يا رب العالمين ، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ، الأحياء منهم والميتين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله وسلم على الرسول النبي الأمي وعلى آله وأصحابه ، والحمد لله رب العالمين .

 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية