صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







(] ضَيْمُ الزَّمانِ [)
24/6/1429
28/6/2008

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


" و دَهرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ
و إنْ كانتْ لهم جُثَثٌ كِبارٌ "
المُتنبي

في خلوةٍ معَ النفسِ يَجول نظرُ الفؤادِ في أمورِ هذا الزمانِ ، و ما فيه من تقلُّباتٍ و أحداثٍ ، و ما فيه من ناسٍ مختلفينَ في الأخلاقِ و الطِّباعِ و الصفاتِ ، تعرفُ منهم و تُنكرُ كثيراً ، و يأخذُني التعجُّبُ أحايينَ كثيرةً في نقد الزمانِ و عِتابه و لومه ، و هو ليس إلا ظرفاً أجرى اللهُ فيه ما أجراه من أحداثٍ ، و جعلَهُ مُتَقَلَّبَ الأحوالِ و دَولةً للتغيُّراتِ الكونية ، و البشرُ في مَهْمَهِ المسيرِ في حياتهم يَغفلونَ عن مخلوقيَّةِ الزمانِ و مجبوريَّتِه ، فتتوهَّمُ نفوسهم أن عوائقَ الطريقِ منه ، و أن معاولَ الهدمِ من صُنعه ، و مسكين هذا الزمانُ ، و لكنَّه في أذهانِ قومٍ لا يُدركون إلا ظاهراً ساحراً ، و السِّحرُ ظَهْرُ زَيْفٍ ، و الظَّهرُ نكرةٌ .
تلك التغيراتُ في الزمانِ ليستْ من النوعِ الواحدِ في الناسِ ، فربما كانتْ قاسيةً على النفوسِ فلا تحتملُ القسوةَ ، و ربما كانتْ ليِّنَةً على البعضِ فتأنَسُ ، و القسوةُ و اللينُ متغايرتانِ في الفهميَّةِ لدى العقولِ و انطباعاتِ النفوس .
تأتي القسوةُ على حينٍ من غَيْبةِ شُعورِ العقلِ بوظيفته فتكون الغفلةُ محكومةً بهوى النفسِ فيُنتقَد الزمانُ مِن عُقلاءَ فُهماءَ حُكماءَ ، و ربما أصابوا ذاك عمداً فسبُّوا الدهرَ و القصدُ منه بلاغةَ الحال فيَرْمونَ بذمِّهِ مَن حلَّ فيه و أصبح مظروفاً ، لا ذمَّ الزمانِ .
شكايةُ الناسِ من ضَيمِ الزمانِ شكايةُ قلبٍ فاهَ بها لسانُ الجسَدِ ليَحكي للناسِ شَجواً و شجناً ، إنهم ما شَكوا زمانهم لنقصٍ اعتراهم من ذواتهم ، و لا لعيبٍ كانَ فيهم مُصْطبغاً ملتصقاً ، و إنما شَكوه لأنَّ أهلَ الزمان غَدوا أهلَ سُوءٍ ، و السوءُ إذا حلَّ أفسدَ ، و الزمانُ يتأثَّرُ بفسادِ البشَرِ فذموا زمانَ البشرِ أهلِ السوءِ لا الزمانَ ذاته .
يمتلكُ أُناسٌ في زمانهم كثيراً من الصفاتِ التي تجعلُ الزمان مُنقاداً بين أيديهم يَخدُمهم ، و لكنَّهم لا يرونه مُسْعِفاً مُعيناً ، فتنقدحَ في نفوسِهم شرارةُ كُرْهٍ مِن أسَى الحالِ فلا تقوى نفوسهم على تقبُّلِ الأمرِ فيذمونَ زمانهم ، و لا يلوون على شيءٍ إلا على قُدومِ ساعةٍ تَغفو فيها أرواحهم إغفاءةً طويلةً لا تصحو إلا على دارِ التخليدِ ، ليكونوا في إغفاءتهم في سلامةٍ و مأمَنٍ من رَيْبِ الزمانِ و خطرِهِ على نفوسهم ، و هم يرون مَن ليس بشيءٍ شيئاً ، لا بفعلِ الزمانِ و لكن بفعلِ أهل الزمان القالبين لميزان العدلِ في إعمارِ الأرضِ ، شَكوا شِكايتهم ، و صرخوا بأعلى صوتٍ بين الناسِ في ذلك ، و لا يُلامون حينَ يُرى الوضيعُ رفيعاً ، و الرفيعُ وضيعاً ، فقلبُ الميزانِ من عيبِ الزمانِ ، و لا يُقلَبُ ميزانٌ إلا بقلبِ حالِ النفوسِ عن مَهْيَعِ الرشادِ إلى مَضْيَعِ الغِواية .
إنَّ ندبَ الحَظِّ عند ضَيْمِ الزمانِ شُعورٌ لازمٌ على النفسِ إخراجه ، و إلا كان فيه ضرراً عائداً بالمرضِ عليها في العقلِ فلا يُدرك حقيقةَ شيءٍ ، و في النفسِ فلا تستقرَّ على حالٍ ، و في الخُلُقِ فلا ضبطَ لسلوكٍ ، و في الروحِ فلا مأمَنَ في مأمَنٍ ، فهي آهاتٌ تختلجُ نفوسهمْ فكانوا مُبدينَ فيها رسالةً للناسِ الذين هم ناسُ الزمانِ الوُضعاءُ بأنَّ الزمانَ حالُه قُلَّبٌ ، فربَّ يومٍ أصبحَ لكَ يكون مُمسياً عليكَ ، فلا مقياسَ عدلٍ في الزمانِ في الهِباتِ بقدرِ مقياسِهِ في الهاتِ .
أهل الزمانِ ليسوا شيئاً ، فقد مضى أولئك الناسُ الذين همْ ناسُ صِدقٍ و بقيَ ناسٌ هم زيفٌ و مَحْقٌ ، فلا يَكادُ يَجد أحدٌ أحداً إلا و يُوحي إليه بأنَّ له وجهاً آخرَ سيُرِيْهِ إيَّاهُ في حينٍ ، فلا يأمَنُ زماناً هذا نوعُ ناسِهِ ، و لا يفرَح بمُفْرِحٍ و لا يبْكِ بِمُبْكٍ ، فقد استوتِ الأحوالُ و استبهمت الرجالُ .
و في وجودِ ناسِ الزمانِ الذين غبَرَتْ حقائقُهم كسبٌ كبيرٌ ، و لكن " المُؤَمَّلُ غيبٌ و لكَ الساعة التي أنتَ فيها " ، و عَوْدُ الحقائقِ نادرٌ ، و يكونُ نَزْراً لا يُذكرُ ، و ما لا يُذكرُ يَغْبُرُ .
هذا الضيمُ الزمانيُّ صيَّرَ الكثيرَ من العقلاءِ في حيرةٍ ، فلمْ تَقْوَ العقولُ العظيمة على فَقْهِ الحالِ ، و لم تحتملِ النفوسُ وَقْفاً على الأطلالِ ، فبانتْ النفوسُ الكرائِهُ عن جادَّةِ الصوابِ فأبانتْ ما ليس يقبلُه عقلُ من أتى ، فأعملَ العقلَ نقداً و ذماً ، و لو أعملَ النفسَ في مقامِ تلك الحالِ لارتأى غيرَ ذا ، و حينَ تخاطُبِ العقلِ مع النفسِ و المشاعرِ لا تكون النتائجُ محمودة ، فالعقلُ و العاطفةُ لا يتفقانِ ، و لا بُدَّ من غالبٍ .
و هذه تقتضي غُرْبَةً في النفسِ ، فتكون الأرضُ الواسعةِ ذاتَ ضِيْقٍ ، ففقدانُ المؤانِسِ المُعينِ داعيَ دمعٍ ، و مُناجيَ لَوْعٍ ، حيثُ ذهبَ أقوامٌ كانتُ أكنافهم سكناً ، و استسكنَ نفسَهُ جِلْدَ جَرَبٍ ، و الجرَبُ هلاكٌ ، فلا يأنَسَ في ضَيْمِ الزمانِ عاقلٌ إلا بسَكَنِ الغُرْبَةِ ، و استئناسَ الوحشِ ، و استيحاشَ البشَرِ ، فتكون القِمَمُ الجبليةُ سَكناً ، و الجمادُ مُساكناً ، و النباتُ أكلاً ، و الطيرُ مُؤاكلاً ، فما أقسَى النفسَ إذا تغيَّرَ ثوبها و لم تَرْضَه .
فضيمُ الزمانِ في شِقوةِ العاقلِ و سَعْدِ الجاهلِ ، و الشريفُ لا يرضى بالضَّيْمِ ، و ضيمُ تِلْوَ ضَيْمٍ يغدو فيها العاقلُ حيراناً ، فيضرب أخماساً بأسداسٍ ، و يطيش عقلُه حيْصَ بَيْصَ ، فينقُش على جبين الزمانِ البئيسِ أسْمى ما تجودُ به قريحته مِنْ شِعرِ المشاعرِ أو نَثْرِ المحابرِ ، فيكون شاهداً إذْ ذاك .
و لمْ يكُن أولئكَ الذين ضامهم الزمانُ بِضَيْمِه مكتوفِيْ الأيدي دونَ حِراكٍ بتأثيرٍ ، فإنهم سَعوا في رَفْعِ ضَيْمِهِ بما كانوا موهوبين إيَّاه مِن قُدْرَةٍ في عقلٍ و حكمةٍ ، و الزمانُ لم يُواتِيْهم بِفُرَصِ التوفيقِ في نتائجِ الأعمالِ ، و الأنْفُسُ طُلْعَةٌ إلى ذَوْقِ ثمراتِ البِذار ، و مَعَ ضَميمةِ حَقْرِ الناسِ الوُضعاءِ ، و صَدِّ نفوسهم عن عَونِ العُقلاءِ إلى عدم مواتاةِ الزمان تَوسيعٌ للخرقِ ، و لا رَتْقَ لمنيعِ الفَتْقِ .
شِكايةُ الزمانِ حينَ الاستسلامِ قُبْحٌ و عيبٌ ، فلا يُغالِبَنَّ الزمانُ إلا ناشطاً ، و أما العاجز فالزمانُ يَكسرُ ظهره ، و مناطحِ الصخرةِ شُجاعٌ ، و حينَ التَّعَبِ يُحمَد بشجاعته و لا يُذمُّ بِخسارته ، كذا الزمانُ و ضَيْمه حينَ يُغالبُ حالَه و ضيمه الرجالُ بإصلاحٍ و إنارةٍ و لا يُواتَوْنَ بشيءٍ فإنَّهم ألْقَوا بمهامِّ الوظائفِ على ظهرِ الزمانِ أمانةً ينقلًُها عبرَ قريضِ الشعرِ و عريضِ النثرِ لِمَنْ يَقْدُمُ مِن أهلِ كِتابِ الحكمةِ ليأخذوا ذاك بقوةٍ .
سؤال يُجيبُ الزمان يُجيبُ عنه ، و أما أهلُه فليس أحداً قادراً على الإجابة ، لأن الإجابة فعلٌ و ليست قولا ، و الزمان لا يقول :
متى يُغادرُ غدر الزمان ؟
 

Abdullah.s.a
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية