اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/thomaaly/36.htm?print_it=1

الداعية بين الإعراب و البناء (1)

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


الزمنُ متغيرُ الأطوار ، متحولُ الأحوال ، و المرءُُ فيه متواكبٌ معَ ظروفٍ تُلِمُ به ، و أحداثٍ تعتريه ، و هو في ذلك رجلُ الموقف ، و صاحبُ القرار ، فإما إن يُمرَّ ذلك على نفسه بِحُسن الاستخدام ، و إما أن يكون المُضَيِّعُ .

( الإعرابُ ) و ( البناء ) مُصطلحان نَحْويان معتبران ، فالأولُ يتعلَّقُ بالتغيُّر ، و الثاني يتعلَّقُ بالثبات ، و ما أحراهما أن يكون في الداعية .

إنَّ الركودَ على حالٍ واحدة دونَ تغيُّرٍ لها ليس من المحمودات عند العقلاء ، و كذلك التغيًُّر المفرط ، و إنما الأمرُ عوانٌ بين ذلك .

إنَّ ( الإعرابَ ) في الداعية مطلوبٌ بقوة ، و مهم جداً في حياته الدعوية ، فلا سبيل لتحصيل مقاصد دعوته إذا لمْ يكنْ ثمَّةَ تغييرٌ و تحويل ، إلا أننا لابُدَّ لنا من رعايةٍ لذلك التغيير ، و ضَبْطه و ضمانه ، حتى لا ينفرطَ الخيط فينتثرُ الدرُّ .

بعضٌ يظنُّ أنه في حال تغيُّرِه قد أصبحَ شيئاً آخرَ غيرَ نفسه قبلُ فيتغيَّرُ جملةً ، و هذا ليس صحيحاً ، لأننا نطالبُ بالتغيير في أشياءَ دون أشياءَ ، و أمورٍ دون أمورٍ .

فَبِمَ يكون ( الإعراب ) في الداعية ؟
إنَّ التغييرُ يكون في غير الثوابت و القطعيات ، و التي كان عليها كلام أهل العلم عامةً ، و إنما هو في سواها من أمور خلافيةٍ ، و غير قطعية ، و على هذا التحريرُ من أهل العلم و الفقه _ رضي الله عنهم _ .
فلا يأتينا داعيةٌ يتبنَّى قضيةَ التغييرَ الدعوي ، فينادى بأعلى صوته بالتغييرِ في ثوابتِ ديننا ، و تحويل قطعيات إلى مسائلَ نقاشٍ في الساحة ، فإن هذا مرفوضٌ و مردود .

و إنما التغييرُ يكون في :
أولاً : الوسائل المستعملة في نشر الدعوة ، فإنَّ لكل زمنٍ وسائله ، و لكل قومٍ ما يناسبهم ، و الركود على وسيلةٍ واحدة يتعاقَبُ عليها أعدادٌ هائلة من السائرين في الدعوة يجعلها صارفةً الناسَ عنها في بواطنهم ، و لمَّا لمْ يكن إلا هيَ أقبلَ الناسُ عليها ، و في تغييرها بعضَ الشيء ، و التحوُّلُ منها إلى غيرها تركها الناسُ خلفهم ظهرياً ، و لا يلوون على شيءٍ منها .
و الوسائل كثيرة ، و التي في الذهن أكثر و أكثر ، و ما أحرانا باستعمال ( العصف الذهني ) لاستخراج مئات الوسائل الدعوية ، و كما قيلَ قبلُ ( الحاجة أم الاختراع ) .

ثانياً : تغييرُ صنفِ المدعوين ، فليس الداعية مطالباً بأن تكون دعوته حكراً على صنفٍ من الناس دون غيرهم ، كما أنه ليس مطالباً ببذلها لكل أحد دون تمييزٍ ، بل الأمرُ يفتقرُ إلى المصالح و المفاسد ، و النتائج و الثمار من بذل الدعوة و توجيهها .

نرى في الشارع الدعوى اهتمامَ أشخاصٍ بصنفٍ معيَّنٍ من الناس ، يخاطبونهم في دعوتهم ، و هذا حسَنٌ إذا كان فيه إنتاجٌ حسن ، و عكساً لذلك إذا كانت هناك نتائج ضئيلة ، أو لم تكن ثمةَ نتائج .
و مقابل ذلك من نراه يخاطبُ كلَّ الفئات دون تمييزٍ ، فلا تدري أدعوته لفئة الشباب ، أم لفئة المشتغلين بالعلم ، إلى غير ذلك .

فمراعاة الفئة المدعوَّة مهمٌ جداً ، حتى تكون الأطروحات الدعوية موحدة ، و توجيهها إلى أحسن و أفضل .
و هذا كان موجوداً في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، و ذلك في قصة إرساله سيدنا معاذ إلى اليمن ، فإنه بيَّن له صنْفَ المدعوين ، و أنهم من أهل الكتاب ، فما كان من صلى الله عليه وسلم  إلا أنه أرشده إلى طريقةِ دعوتهم ، و أولويات الدعوة .

إلى أشياءَ أُخَرْ يكون التغييرُ فيها مطالَبَاً به المرءُ الداعيةُ إلى الله ، يعرفها من اشتغلَ في الدعوة و التبليغ للرسالة .

و كما أنَّ هذا التوجيهُ للداعيةِ في تغييرِ حياته الدعوية ، و جعلها ( مُعْرَبَةً ) فإننا إن لمْ نكنْ معه على نسقِ العون له ، و الوقوف معه فلا مسيرة صحيحةَ لدعوتنا ، فلا بد من التأييد ، و المعاونة ، و المؤازرة ، و كلٌّ منَّا بأخِهِ .

و مع دعوتنا إلى التغيير في العمل الدعوي فإننا ندعو إلى ( البناء ) الدعوي ، و هو يتعلَّقُ بالثبات .
فنريد داعيةً يكون ثابتاً على منهاجه ، ملازماً لقانون دعوته التي رسمَ معالمها ، غيرَ مخالفٍ لقطعياتٍ دينية ، و لا مرتكباً لنقضِ ثوابتَ شرعية .

و يكون ثابتاً في مسيرته الدعوية ، فلا تعتريه فَتْرَةُ خمولٍ و كسَلٍ ، و لا يعتريه عجزُ و خَوَرٌ ، بل يكون حاملاً نفسه بيده ، سائراً بها في سبيل دعوته .

إنَّ داعيةً يأخذُ ( الإعراب ) الدعوي فيجعله في ثوابت الشريعة ، أو يأخذُ ( البناء ) الدعوي فيجعله في ما جرى الخلافُ فيه بين أئمة الإسلام ، إنَّ هذا داعيةٌ يعيشُ في عقلٍ منعزلٍ عن الناس ، و تفكيرٍ مُقْصى من العالم .

إذا حققنا ( الإعراب ) و ( البناءَ ) في مسيرة دعوتنا عرفنا كيف نتعاملُ مع أصنافِ المدعوين من الناس ، و عرفنا كيف نُدخل الدعوة في قلوبهم عن طريقٍ مقبولة .

إلا أننا لابُد من تبيانٍ لأمور ذات بال :
الأول : أن المرجعَ في معرفة الثوابت و خلافها في شريعتنا إلى الشرع ذاته ، و إلى ما هو مقرَّرٌ في مذاهب الأئمة الفقهية المتبوعة ، و إلى ما عليه اعتقاد أهل السنة أجمع ، فليس المرجعُ في ذلك إلى رجالٍ نالوا قدسية في نفوسِ بعضٍ ، و لا إلى مناهج فردية ، و إنما الأمرُ كما ذكر .

الثاني : بمعرفة السابق يكون اعتبارنا بمسائل الخلاف ، و أنَّ المعوَّلَ عليه في المرجعية بابُ خلافها واسع ، فالعذرُ مقبول ، و العمل على ما اتُّفِقَ عليه بين كلٍّ ، و ما جرى قدرُ الله تعالى به فكان الخلاف قائماً فيه فإنَّ لكلٍ مرجعه من أصول الأدلة و فروعها ، و الحمد لله الذي جعل خلاف أمتنا رحمة .

الثالث : للناس عوائد ، و للأقاليم أعراف ، و المروءة مراعاة ذلك ما لم يكن مخالفاً للشرع ، و أما ما خالف الشرعَ _ من قريبٍ أو بعيد _ فالمعوَّلُ على الشرع .

هذه خاطرةٌ أحسبها أفادتْ شيئاً مما يُعينُ في ساحة الدعوة ، و الأمرُ يحتاج إلى تمحيص ، و ما ذكرتُ غيضٌ من فيضِ الخواطر الدعوية ، و قليل من كثير ، و لكن الأملُ بالله تعالى كبير ، و الأمةُ إلى خير ، و بارك الله في الجهود .
 

حرَّرها
عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق
16/4/1426هـ
الرياض

 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية