صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الكاتبُ المُبدعُ

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


كل كاتبٍ يرغبُ في أن يكون مُبدعاً في كتابته، فيسعى إلى ذلك بكل ما أوتيه من قوة وجُهد، فهناك من يُدركُ مطلبَه و آخرونَ تنكبوا الطريق و ثالثون مُرْجَون إلى وقتِ قدرٍ آتٍ. و تلك غايةٌ حميدة، و مطلبٌ شريفٌ، فالمرءُ ما خُلِقَ إلا ممتازاً عن غيره، و الأجدرُ به أن يصنع من امتيازه امتيازا.

هناك من سلَك الإبداع في الصياغة المعنوية، فضمَّنَ كتابته فكراً راقياً، و معرفة مُحقَّقَة، و هناك من درَجَ مدارج الإبداع الشكلي، فأتقن شكل المكتوب و صورته، و هناك آخرُ من رامَ الإبداع في البرهنةِ و الإقناع، و كلٌّ سالكٌ طريقاً، و طارقٌ باباً، و كلٌ نائلٌ مرادَه، على قَدمِ التوفيقِ و قانون القدرِ و عطاء الذات.

إلا أنَّ هناك إبداعاً فريداً، حظيظٌ بأن يُوقفَ عنده، و يُتمعَّنَ في دقيقته و سره، و لا يُدركُه إلا القِلَّة، و لا يُتقنه إلا النُّدْرة، و هو أن يجذب الكاتبُ خصمَه ليقرأ له بقوةٍ هادئة، و هدوءٍ صاخب، فتلك مهارة لا يُمكن أن تتوافر لأي كاتبٍ، إلا لكاتبٍ أدركَ مهاراتِ الجذبِ، و أتقنَ سرَّ السحرِ العقلي.

ليس كل كاتبٍ مقبولاً عند القراء، و ليس كل مكتوبٍ يلقى موافقة لدى الناظرين، بل لكل قارئ توجهاته و رؤاه، و تحكمه معتقداته، و غالبُ أحكام النفسِ على شيءٍ ما أنها تتمنَّع من الإقبال على باقيه، فهي إذا نفرتْ من جزءٍ ألحقت الكلَّ به، و ” أفرى الفرى أن يهجو الشاعر القبيلةَ بأسرها”، حيثُ أنها لا تقبلُ الإنصافَ لعلةِ الجهلِ المفطورةِ عليها، و المتفرعِ عنها الظلمِ بعد الإنصاف، فكان التمنُّعُ من قبول ما لدى الخصم حالةٌ غير مستغرَبةٍ من النفس، و العقلُ يَجبُن عند غلبةِ الهوى.

فالكاتبُ المُنتَقَدُ حين يجعل من خصمه مُلازماً ظِلَّ كتابه، باحثاً عن مفقودٍ منه، متابعاً لجديده و حديثه، فإنه بذلك يكون كاتباً مبدعاً، كاتباً متميزاً، كاتباً محترفاً، كاتباً شَعبياً، كاتباً يَحفُلُ به القُراءُ الكثيرون، من جميع الأطيافِ و المناهج. لكن ذلك لا يكون بالهُونِ، و ليس من السهل أن يصلَ الكاتبُ إلى الإبداع في الجذبِ، حتى يجعل خصمَه الناقدَ ملازماً لحرفه، مع ذمه و نقده. إذنْ كيف السبيلُ إلى ذلك؟

أولاً: الحَومُ حول الفكرِ.
فلا يغادر الكاتبُ المبدعُ الفكرة التي أراد، بل يبقى في محيطها حتى يُحررها، و يأتي بما تستحقه و تحتاجه على وجهٍ أكملٍ و أجملٍ، ليكون العرضُ أفضلَ و أرفلَ. فأما إن حام على غيرِ الفكرةِ، و رام سواها فإنه ناقضٌ قانون الإبداع، و خارمٌ دستور التألق، فلا يظفر بشيء.

ثانيا: حُسْن السبْك.
فسبْكُ الكلام، و حبْكُ الحرفِ، و سكبِ المعنى في جميل قالب المبنى إبداعٌ ساحرٌ، يَعمل في النفس عمله، فلا تجد النفسُ إلا تعلقاً و إقبالاً، و تحقُّقاً و اهتبالاً. و أما إذا كان السبكُ و الحبكُ و السكبُ في ركاكة و رداءةٍ فإنَّ النفوسَ تنفرُ، و لو كان المضمون أصح من شمس الضحى.

ثالثا: القَصْدُ الجميل.
فالنوايا مطايا، و الكتاباتُ بقلوبِ الكاتبين، و حيثما صحَّت المقاصدُ من الكتاباتِ صحَّتْ المقاصدُ في الإقبال بالقراءات، فمن أبدعَ في جذب القارئين إليه، فما ذاك إلا لحُسْنِ قصدٍ تمكَّن في الفؤاد في الصدقِ في البيانِ بالكتابةِ عن المرادِ، و حينَ يكون الكلام من القلبِ فإنه لا يجد المستقرَّ الآمن إلا القلبِ، فالأشياء لا تخرج إلى حيث كانت. و حين يكون الكاتبُ سيءَ القصدِ، قبيحَ النية، فإن كتابته لا تُغادرُ ظلَّ حبرِها، و الحبر لا يدوم.

رابعا: بيِّنةُ البرهان.
الدعاوى لا تُقبلُ إلا ببرهانٍ صريحٍ صحيح، فالعقلُ لا يقبلُ هوى النفس، و النفسُ تنفرُ من برهان العقل. فمتى أثبت الكاتبُ مكتوبَه ببرهانٍ وثيقٍ توثَّقَ في العقلِ، و متى سيطر العقلُ و صار سيداً أقبلَ بخيل النفسِ و رَجِلِ الذاتِ إلى إخوة المكتوبِ المقروءِ فيلزمُ عتبتَها و يتبعُ ظلَّها. و حين تنعدمُ البراهينُ، و تخبو الأدلةُ فإن العقلَ ينأى بنفسه، فهو رفيع لا يقبلُ رقيعا.

خامساً: إكرام القارئ.
باحترامه في تجويد العرْضِ، و إجلاله في ضبط النقضِ، مع الأدبِ في الإبانة، و العلمِ في الصيانة، فلا يتعاملُ مع القارئ كناظرٍ خاوٍ من عقلٍ واعٍ، بل يتعاملُ معه كقارئ مشاركٍ في الكتابةِ بعين الفاحص، و أيضاً ينقلُ القارئ ليعيشَ مُدنَ الحرفِ، و يُنقِّلَه عبرَ محيطات المعاني، ليُدركَ مَدرك الكاتبِ، و ربما أوقفَه الكاتبُ على ما لم يُبِنْهُ.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية