اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/thomaaly/14.htm?print_it=1

انهدام الصروح

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


جرت سننٌ من الله _ تعالى _ في الكون على قَدَرٍ منه و قضاء .
و كانت تلك السنن محلَّ أنظارٍ من كثير من أهل النُّهى و العقل ، فكان أن منحوها شيئاً من التفكُّر و الاعتبار .
و أصبحت _ كذلك _ أماراتٍ و علامات يُسْتَدَلُّ بها على نتائجَ أحداثٍ و وقائعٍ تدور في رحاب التأريخ .
( و حين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله و تحقُّ كلمته ) [ في ظلال القرآن 4/2218 ]
و من تلك السنن ما كان منصوصاً عليه في شرع الله _ جل جلاله _ كتاباً أو سنةً _ ، و لم يكن هذا _ أيضاً _ قد خلا الزمان من وقوع ما يستدل به تمثيلاً له .
فلو قرأنا كتاب الله بتمعنٍ لرأينا فيه سننا لها دلالات بعيدة المعاني _ كما لها قريبة المعاني أيضاً _ ، و لكن السوء الذي يلحقنا في حِقَبِ التأريخ هو الجهل بالتأريخ .
و جهلنا بالتأريخ استجهال منا لتلك السنن المذكورة في الكتاب و السنة .
كثيرة قصصُ الله _ عزَّ جاهه _ عن الأمم السابقة ، و التي كانت في زمان تتشبب بجمالها الأخاذ ، و تتغنج بمشيتها المتمايلة ، و بين إغماضة عين و ضدها هَوَتْ تاركة أثراً لها بعد عين .
عجبٌ هي هذه الأمم أكانت على علم بمخبوء القدر ؟
أم كانت مسلوبة العقل و التبصر في الحقائق المفضية إليها تلك الأحوال التي تعيشها ؟
لا بد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها ، و لا للسر في الكون أن يكون ظاهراً .
تلك إحساسةٌ يعيشها ذو الحس التأريخي المرهف ، بل و يعبق بنسيم عليل من كان على قدر من الدراية بكتاب الله .
أمم كانت فبانت .
لكن ؛ لكينونتها أسباب و كذلك لبينونتها فما أسباب البينونة حيث تثير طلاسماً و علامات استفهام طويلة عريضة .
إن كينونة الشيء ليست بمستغربة كاستغراب الناس ببينونته .
لنكن أوفياءَ قليلاً و لنأخذ من القرآن شيئاً مما حوته آياته من أسباب بينونة الأمم ، و انهدام الصروح .
و حين نأخذ بها نكون قد أضفنا إلى علمنا ، عفواً إلى ثقافتنا فائدةً جديدة ، من خلالها نحوز فوائد كثاراً ، و نستقي عِبَرَاً كباراً .
لقد كان لـ ( انهدام الصروح ) عِللاً دبَّتْ في كيانها ، و كان لانهدامها إحداثاً للغزٍ حيَّر الناس أزمنة متوالية .
و ما زالت رواسب الحيرة كامنة في أحضان عقول أقوامٍ كثير ، فجاءت آيات الله تعالى في القرآن كاشفةً خبايا الزوايا ، و مظهرةً مكنون التأريخ .
فذكر الله _ تعالى _ أن من العِلل الدابَّةِ في كيان هاتيك الصروح المنهدمة ، علةٌ حسنٌ ظاهرها ، جميل تناسقها ، رائع نتاجها .
و أسفٌ أن أكثر العلل لها تلك الصفات الحسان .
علةُ ( الترف ) التي ما دبَّتْ في أمة إلا أردتها خاوية على عروشها ، و صيرتها أثراً بعد عين .
قال ربنا _ تقدَّس اسمه _ : { و إذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمرناها تدميراً } .
لنعش زمناً مباركاً في أفياءِ هذه الآية الكريمة ، و لنظهر منها أموراً من خفايا العلل ، و دسائس لأمراض .
لنتصور الأمةَ _ أيَّ أمةٍ _ جسداًً كاملاً في قوتيه العقلية و البدنية ، و لنكن ممن يأخذ بقانون الافتراض أن ذاك الجسد قد أغدق عليه صاحبه بالنعم ، و متعه بالراحة ، و وفَّر له جميع داعيات الخمول .
لنفترض أن شيئاً من ذلك حدث ، ما سيكون حال ذاك الجسد المُدلَّل ؟
الكل يُشاطرني أن مفسدات ستلمُّ به _ سريعاً _ و أعظم ما يكون قاتلاً بطيئاً هو الفراغ الذي يعمُرُ حياة ذاك الجسد المدلل .
نعم إن الفراغ أساس متين في إحداث شرخٍ كبير في ذاك الجسد المدلل ، فلا شاغلٍ يشغل الجسد في تلك اللحظات المارَّة في حياته ، و من ثمَّ يكون على أُهبةٍ تامةٍ لإلهاء نفسه بما يقدر عليه .
فيبدأ بطلب أنواعٍِ من المطاعم و المآكل ، و يتخير من أنواع المشروب ما شاء ، علماً بأن من كلٍّ ما هو محرم .
فيمل ذلك الوضع ، و يسأم تلك الحالة ، فهنا يكون بداية إنجاز المشاريع الشيطانية التي يعقد لها آلافاً من العقود على رؤوس أولئك المترفين .
فتفتح صفحة جديدة من صفحات اللهو العابث ، و ورقة سوداء في جسد متناهٍ في التنعم .
هي تلك الحالة التي تعيشها الأمم المترفة ، يعبث أطرافها بأنواعٍ من الفساد ، و يلتهمون في أوقاتهم اللذائذ المحرمة _ حسيةً و معنويةً _ .
و في غمار تلك المؤنسات ؟؟؟!!! يصبحهم من الله الموعود _ السابق في الآية _ .
و ترف ( المُهْلَكين ) على أنواع :
الأول : ترف في المظاهر الكمالية المباحة .
ظاهرة معتادة أن ترى مُتْرَفَاً يحرص على الكماليات الباهرة ، بل غير المُتْرَف ممن هم دونه .
لكن كون الترف ( الكمالي ) يصل إلى حدٍّ من الفحش في الإسراف هذا الذي هو نذير الخطر .
كم ترى من المُتْرَفين ممن يبني داراً كبيرة واسعة لا يشمله و أهله إلا زاوية خبيئة في أقصى الدار ؟
و كم ترى من المُتْرَفين من له في كل بلدة بيتاً على نفس النسق الآنف ؟
و كم ترى التزيُّن بالمظاهر من غير حاجة سوى الشره الترفي الكامن في تلك النفس الموبؤة ؟
صورٌ كثيرة هي هذه ، في حين يعيش مئات من الألوف من المسلمين تحت وطأة الفقر و العوز .
الثاني : الترف في المعاصي .
غريب هذا النوع ، لكنه كان و حصل ، و التأريخ يشهد بذلك .
و المُنكرُ لحقائق التأريخ ممن استحمق نفسه .
إن كثيراً من الخلق يعصون الله _ تعالى _ و لكن المُتْرَف يكون عصيانه مختلفاً عن عصيان سائر الخلق من  جهتين :
أما الأولى : فمن جهة كِبَر المعصية .
و أما الثانية : فمن جهة كثرة المعاصي .
فلا يزال ذا ترف في المعاصي و الذنوب حتى يأذن الله بتحقيق وعده
و لأمنه من العقوبة أساء الأدب مع ربه _ تعالى _ .
و لو سبرنا صفحات من التأريخ القريب و القريب فقط لرأينا كيف يكون الترف في المعاصي ، و أترك هذا مُبيَّضاً لإضافات القاريء النبيل .
و للعلامة ابن خلدون كلامٌ غاية في النفاسة حول هذه العلة سطَّرها في المقدمة في الفصل الثالث عشر ص 157.
فقد بيَّن في ذلك الموطن نفائس و دقائق من أبعاد هذه السنة الكونية  .
( و المترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال و يجدون الخدم و يجدون الراحة ، فينعمون بالدعة و الراحة و بالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم و تأسن ، و ترتع في الفسق و المجانة ، و تستهتر بالقيم و المقدسات و الكرامات ، و تلَغُ في الأعراض و الحرمات ، و هم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً ، و نشروا الفاحشة في الأمة و أشاعوها ، و أرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها و لها .
و من ثمَّ تتحلل الأمة و تسترخي ، و تفقد حيويتها و عناصر قوتها و أسباب بقائها ، فتهلك و تطوى صفحتها .
و الآية تقرر سنة الله هذه )
وصف دقيق لمعنى الآية ، و تبصير بالغ لأبعاد السنة الإلهية الكونية .
هذه كلمات قالها الكاتب الأديب سيِّد قطب _ رحمه الله و غفر له _ في ( في ظلال القرآن 4/2217 ) .
و لو تدبرنا هذين النقلين ( كلام ابن خلدون ، وكلام سيد ) لرأينا وجوده في هذا العصر المتلاطم فتناً و مآسيَ .
و حين إمعان النظر ، و إعمال الفكر يكاد يرجف القلب خوفاً و هلعاً من تتابع الفتن التي تؤذن بـ ( انهدام الصروح ) .
حقيقة غائبة آثرت تبيانها من خلال أسطر مستضيئاً بوحي آية ، مستأنساً بأحوال سنة كونية ..
و الله أعلم

 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية