صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بوحة الفكر: العقل النجس

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


” إذا بلغ الماءُ قُلَّتين لم يحمل الخبث”
حديث نبويٌ شريف

الإنسان كائنٌ حيٌ، و الحياةُ تجديد و تقدُّمٌ و تطوُّرٌ، وما لا يتغيرُ ميتٌ. و العقلُ الإنسان جزءٌ حيٌّ، فيعتريه ما يعتري نظام الحياة. الخالق الكبير جعل عقل الإنسان متغيراً في أدق الأشياء و أسذجها، في أمور حياته عامة، و في متغيرات أحداث يومه و ليلته، و حيث جعله كذلك في ذلك فهو جاعلُه أيضاً مستعدا للتغير في أمور أكبر و أعظم، مما يُحقق حكمة الإيجاد الكبرى في عمارة الأرض، لتتحقق الغايةُ الشرعية عبادة الربُّ، فتلتئمُ الحكمة البشرية الاختلاف للتعارف. فخلقه الله تعالى متغيراً، و قابلاً له، من أجل أن يواكب حياته، و يعيش حياته كما تقتضيه أحوال زمانه و مكانه. تلك هي حقيقة العقل البشري، و لولاها لما كان ممتازا به الإنسان عن سائر المخلوقات.
 
حينما ننظر إلى أحوالنا نجد أنا كثيرين منا لم يُراعوا هذه الحقيقة، فأبقوا أنفسَهم في محالِّهم لم يتجاوزوها، و في مواضعهم لم يفارقوها، تعطيلاً لحكمة العقل، و تعمية لحقيقة الوجود، و جهلا بحكمة الرب تعالى. و نجد قِلةً خرجوا عن مألوف المكان العقلي إلى غيره، مستكشفين أسرار الحياة، باحثين عن حِكَم الكون، فأدركوا كثيرا، وما أُتوا من ضرر، وما أَتوا بضررٍ، فأزالوا بمغامرتهم وهم المجازفة، و أثبتوا حقيقة وجودهم.

عندما نؤمن بتلك الحقيقة للعقل، نُدرك أن التغيرات على العقل ترجع إلى الأحوال التي يمر بها الإنسان، كما ترجع إلى التغيراتِ الخَلْقية حسب السن، فأحوال الإنسان تُنمي عقله، إذا أرادها أن تُنميه، و تمنحه معارف متعددة، و تُعطيه حكمة الحياة، فحكمة الحياة تُنال بالتجارب أكثر منها بالسِّنِّ.

من تلك الأحوال الثقافة و المعرفة، فالعقل يتغذَّى أول أمره على ثقافة بيئته و مجتمعه، و ينشأ عليها، بغضِّ النظر عن كونها صحيحة أو لا، و عن كونها مفيدة أو لا. فالبيئة الأولى هي الأسبق للعقل، فتعطيه ما لديها، فينشأ نشأة صميمية، متينة البنية، راسخة القواعد، يقينية البراهين، حتى و إن خلَتْ من البراهين، فلا برهان للبيئات أقوى من ” إنَّا وجدنا آباءنا على أمة”. هذه حال أولى، تعتبر أساساً في ثقافة العقل، لا يُمكن إهمالها و لا استجهالها، و لكن لا يُمكن البقاءُ عليها. كثير من العقول تجد أماناً في ثقافة البيئة و المجتمع، فلا يرغبون في التطلُّعِ إلى أبعد منها، و ربما يرغبون و لكنهم لا يُغامرون، ففي مخالفة ثقافة البيئات خروج عن مُقدَّسٍ موروث، و إن حوى خللا و زللا، فهو ثقافة قُرون. و نوع آخر مع تقدُّمه في السن و الحياة تأتيه منائح الخلاق العظيم في مغادرة ثقافة البيئة إلى أوسع و أوثق منها، فيبدأ العقل الراشد بمواكبة أحداث التغيرات الثقافية، فيبين له الكثير من خلل البيئة، و يتضح له قدرٌ كبيرٌ من سوء البناء الفكري في مجتمعه. هذا النوع الآخر نوعٌ متحركٌ، حوى كثيراً من الإمكانات العقلية، كغيره من العقول، فنمَّاها و حرِصَ على توسعتها، فاحتوى تلك المعارف الآتية. لذلك كان طُهراً من العقول، و صفاءً من الأذهان. بخلاف العقل الآخر الباقي على ضيقِ إنائه، و صِغَرِ وعائه، فإنه لا يحوي شيئا، فتتكالب عليه الأغاليط، و تكثر عليه الجهالات، و تأتيه بصورة معارف، يتوهمها كذلك، فـ” يرى حسناً ما ليس بالحسنِ”، فلا يتجاوز مكانه إلا في حالةٍ من حربٍ من العقل الآخر الكبير.

عندما نقرأ في سير العظماء الذين صنعوا الحضارات نجدهم تجاوزوا ثقافة المجتمع و البيئة إلى ثقافة المعرفة و العلم، فقرءوا الكون، و تأملوا الحياة، و نظروا في سير الأمم، فأخذوا منها التعاليم، و بذلك قاموا على قدَمِ التقدُّم، و على ساقِ السباق.

أولئك الذين بقوا على ما لقوا عليه آباءهم_ و الآباءُ أنواع؛ منهم أب النسبِ، و أبُ العلم، و أب التربية_ أهملوا عقولهم فبدأوا بالنظر إلى كل ما ليس لديهم على أنه شر محضٌ، فيُحاربونه و أهله، و كل جديد يحسبونه مُبدداً لصرح بقائهم، فيحرمون أنفسهم عطايا السماء بمطايا الغباء. أمثال هؤلاء كثير في كل مجتمع، و ليسوا على صورة الجهل العام عند آحاد الناس، بل إنه موجود عند كثيرين ممن خاضوا المعارف أيضاً، فالقضيةُ ليست في إحاطة بالعلوم و المعارف، و إنما بإيمان بأنها حق، إيمانا يبعثُ على الإظهار للمكتوم المحجوب، إيمانا يبعث على التصحيح، إيمانا يبعث على نقلِ ما تُعُلِّمَ ليكون في مقامات العمل، إيمانا يبعث على الإصلاح. أما مجرد احتواء للمعارف، فلا حاجة للأمم إلى مزيد من كتب متحركة ناطقة، أشبه ببغاواتٍ لا تتجاوز حروفَ الدار.

عندما نسبُر أحوال الباقين على ما ألِفوه، نجد كثيراً من الموانع عن وضع ما حصَّلوه من معارف في أرض العمل بها، من ذلك: الخوف على الجاه. فربما كانوا كبارا في السن، لهم جاه، و الجاه غالباً لكبير السن، و في إظهار المعارف المخالفة للمعارف البيئية المجتمعية كسرٌ لمقدَّس، و كسرُ المقدسات، مهما كانت، مُوجبٌ إطاحة من كسرها، مهما كان، ومهما يكن الدافع. فيتركون الخوض في تلك المغامرة حتى يُبقوا أنفسهم في مناصبهم. من ذلك: الخوف من المغامرة. فما كلُّ من ملَكَ قوةً كان شجاعا. و المغامرات لا يقوم بها إلا أقوياء القلوب لا أقوياء الأبدان. أمور كثيرة مانعة أولئك من مغادرة المألوف البيئي.

وجود أولئك في البيئات ضرر كبير، و أشد أضرارهم حينما يتلبسون بالمقدسات، و أنهم أوصياء عليها، و يحتكرونها في ذواتهم وما نشأوا عليه، فيبدأ الجيل الجديد في تلقي ذلك، لأنه بصورة مُقدَّسَة، و هنا تكون التنشئة المغلوطة، و تكون تلك العقول محلاً لنجاسات الفهوم، فما قلَّ نجُسَ، ما كثُر نفُس. فما لم يتجدد و لم يتغير، وهو قليلٌ، يكون عُرضةً لنجاسات الجهل، وما تقدم حوى الطُهر، تماما كما ماءُ الإناءِ وماءُ البحر. فالطواريءُ السيئة تفعل بالعقول كما تفعل بالماء، قلةً وكثرة.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية