بسم الله الرحمن الرحيم

صناعة الأوهام


العاطفة ملكة فطرية حباها الله جل وعلا للإنسان ، ويختلف تدفقها بطبيعة الحال من شخص لآخر …

وعندما نؤسس كثير من الرؤى والمضامين المتعلقة بقضايا الأمة المصيرية على بنية عواطفنا ، والتي تؤثر سلباً على إنتاجيتنا وضوابطها .. سنجد أن النتاج المحصل في نهاية المطاف : بناء عاطفي مكرس بالهزائم وبائن بالخسران لكثير من مدخرات هذه الأمة ..

وإن مجاوزة الحد في عواطفنا مكمن ضعف أُتينا من خلاله ، فكما أن الغلو في العقل مكمن خلل سقطت كثير من الأقنعة جراء الغلو فيه ، فكذلك عندما نفلت زمام العاطفة ولا نقيم لها ضابطاً معيناً فنبحر بين أرجائها ونردد أدبيات الماضي المجيد والعصر الباهر ، ولا نعرف من قواعد لغتنا إلا إنشاد أفعال الماضي ( كنا .. وكانوا .. كانت لنا .. واسألوا عنا … ) .

أو أن نترنم ونستنجد من على المنابر أو من بين طيات الطروس بصناع تاريخنا الذي نحفل به ، فتجد رمزاً ما ، واقفاً على منبره محمر وجهه منتفخة أوداجه كان منذر حرب يصيح بأعلى صوته : أين أنت يا عمر ويا صلاح الدين … هبوا لنجدتنا ، وانظروا شقوتنا !!
سبحان الله !!
( وغاية الخشونة
أن تندبوا قم يا صلاح الدين قم
حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة
كم مرة في العام تطلبونه ؟
كم مرة على جدار الجبن تجلدونه ؟
أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة ؟
دعوا صلاح الدين واحترموا سكونه …
لأن لو قام – حقاً – بينكم فسوف ( تسجنونه ) !! )

إذا افتخرت بأقوام لهم شرف *** نعم صدقت ؛ ولكن بئس ما ولدوا

إن تربية عوام الناس على هذا المبدأ ، وإحيائهم في جو من أمية العاطفة ، وحياة الوهم ، وتسطيح عقلياتهم … يتقدمهم حداتهم بأصواتهم النشاز ، لن يكون إلا عقبة في طريق الإصلاح ، ولن ينتج إلا جماهير ذات أرقام منبتة لا لظهر أبقت ولا لأرض قطعت .

قال الشيخ محمد قطب – حفظه الله – :
(( برغم كل عواطف الجماهير ، وكل حماستهم التي يبدونها حين يذكر الإسلام فهي حماسة عاطفية لاتقيم بناءا حقيقيا .. ولاحركة حقيقية .. إنما تحتاج القاعدة إلى الإنشاء من جديد .. فردا فردا حتى يكتمل بناء متماسك كبناء الجماعة الأولى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ))

ولا يفهم في سياق قولنا أننا ندعو لهجران العاطفة والتخلي عنها .. كلا
إنما نحن في مجتمعاتنا قد تشكلنا عاطفيا ، لكن هلا حاولنا لمعاودة صياغتها من جديد ضمن ضوابط تعطي الوسطية التي تثبت طيش عاطفتنا في التعامل مع مجريات الواقع وذلك في تلاقي العاطفة مع قيم العقل فتأتي بعد ذلك النصوص – الكتاب والسنة – مهيمنة عليهما في ابتغاء رؤية مؤصلة لاتغيرها المستجدات ، بقدر ماهي تستوعب المستجد فتوجهه وفق مرادات النصوص المتكئة على فهم السلف الصالح

نحن بطبيعة الحال نشكل إفرازا لمجتمعاتنا ، ومهما بلغ الإنسان من مرحلة نضج فكري وعقلي سيبقى متطبعا ببعض الطبائع التي فرضت عليه أعراف المجتمع ونمطياته …

ونحن في مجتمعاتنا العربية ، غلب على تربيتنا الإغراق في التربية العاطفية ، والتي أثرت على آلية التفكير وكنهه فكان أن تعامينا عن الأخطاء والعيوب ، وافتقدنا الاتزان والموضوعية ، وانسقنا - تجاوباً مع هذه العاطفة الجيَّاشة - ، إلى اتخاذ المواقف والقرارات استجابةً لتلك العاطفة .

وعندما نسلط العدسة المكبرة على مجتمع الصحوة سنجد المظاهر الواضحة لأمية العاطفة ، والتي أثرت وبشكل واضح على كثير من المشاريع والجماعات .. فعلى سبيل المثال لا الحصر :

الصورة الأولى : أن تحكمنا العاطفة في الحكم والتقويم
كثيرة هي الأحكام التي نطلقها في أحكامنا ومواقفنا من الرجال والأعمال والجهود والمواقف من وحي العاطفة فقط ، ويكون الحاكم الأول والأخير ، والقاضي والشهود والمدعي هو العاطفة وحدها .. ولاشك ان الحكم حينئذ سيكون جائرا متطرفا .

ومع تأكيدنا على أن الثناء على من يُحسن أمر مطلوب ، وأن الإعجاب بمن يستحق الإعجاب أمر لا يُدعى إلى إلغائه والتخلي عنه. لكننا مع ذلك لا يسوغ أن نُفرِط و أن تحكمنا العاطفة في تقويم مواقف كثيرة من مواقف العمل الإسلامي، فتقود إلى نتائج مؤلمة .

فالاتزان مطلب هام جدا في العملية التقويمية ، وذلك لا يتأتى إلا بوعي لمجريات الأحداث ، وفقه للواقع الذي نعايشه …

وعندما يعطل الإنسان السوي فكره ومداركه ، ويجعله أسيراً وفق نمطية معينة استلهمها من رمز من الرموز البشرية فيعلق المنهج بأطروحته ..ولا يعرف الحق به ، فما قاله هو عين الصواب والحكمة ، وماحذر منه فهو الخطر المتربص .. ويزداد عجبك عندما ترى شخصا آخر يقول مثل ماقال ويحذر مثل ماحذر … لكن تراه يواجه بالهجوم والاستنقاص وعدم الفقه !! ، لماذا ؟

ذلك لأن صاحب العاطفة الذي يتجاوب معها لا يملك أن يضع الأمور في نصابها أو أن يقول هذا صواب وهذا خطأ و يزن الأمور بميزان العدل .. فهو لايحمل إلا حكمين لا ثالث لهما القبول أو الرفض .. الحب المغرق فيه أو البغض المغرق فيه .

باختصار : العاطفة هي التي تحكمت في وجهات نظرنا .. فأصبحنا نعرف الحق بالرجال لا العكس .

الصورة الثانية : أن تكون العاطفة هي الدافع الوحيد للعمل
ذلك أن يتجاوب المرء مع عاطفته ، فيعمل عملاً ، أو يتخذ قراراً ، أو يقف موقفاً ، والدافع الأول والوحيد له هو العاطفة – لا غير - وهذا عنوان الفشل والانحراف والأمية في العواطف .

وعندما تكون العاطفة وحدها هي الدافع للعمل، فإنها ستقود إلى نتائج غير محمودة ، وسيوأد العمل في مهده ولن يحقق إلا نتائج ضبابية لن ترى ، وتهدر العديد من الطاقات وتستنزف في غير محلها الصحيح .

الصورة الثالثة : انتظار المارد الذي يخرج من القمقم !!
نعم .. فأمتنا بدأت تستهوي قصص الأسلاف وأصحاب الحمية ، وهذا أمر لابأس فيه ، والله عز وجل ذكر أن الاعتبار من القصص من سمات أولي الألباب حينما قال ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب )

ورحم الله ذلك الألمعي بقوله :
كرر علي حديثهم يا حادي *** فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

والآخر يقول :
إقرأوا التاريخ إذ فيه العبر *** ضل قوم ليس يدرون الخبر

لكن ..
عندما تعزف عواطفنا على هذا الوتر هرباً من واقعنا الذي نعيشه ، وانزواءاً عن المسؤولية المناطة بنا في حمل أمانة هذه الأمة .. فنحاول أن نوهم الناس بأن الفاس وقع بالراس ، وأننا غير قادرون على أن نأتي بما أتى به الأوائل … وان مشاكلنا من صنع الجيل السابق وسيحلها الجيل اللاحق ومانحن إلا على الهامش !! ..

فتبحر عواطفنا في بحر لجي لاساحل له .. نهيم معها على أوجهنا ، نترنم بحداء الآباء والأجداد ونترقب في كل صباح أن يبرز لنا ذلك المارد من قمقمه ليحقق لنا أمانينا ويهب لنصرتنا !!



إنه عندما ينتابنا هذا الشعور العاطفي المجرد فهذا يعني حدوث القصور والخلل في العديد من المرافق الحيوية والطاقات الإسلامية .

فإن كنت تدعي الحمية ، ولم ترض بالدنية … فقل لنفسك :
وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لم تستطيع الأوائل

واعلم أن هذه الأمة ودود ولود ، غضة الإهاب موفورة الشباب ، تعطي من يهب نفسه لها ، لا أن يتغزل بحسنها فحسب .

قد أكون أسهبت وأطلت في وصف المرض والداء، ولكني أشعر أن وصف الداء يتضمن في ثناياه وصف العلاج والدواء ..

وبالعموم ..
أرجو أن لا يفهم أني أحذر من العاطفة ..كلا ، بل هي مطلب هام ، لكن إنما كان تحذيري من أميتها ، متمثلا بقول القائل :
ولا تغلوا في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم

أبو عبدالعزيز الظفيري

الصفحة الرئيسة