صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أنا أعلم الناس بالنحو !

عبد الرحمن بن صالح السديس

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وسلم، أما بعد
فالاغترار بما عند النفس من العلم، له أسباب مختلفة، منها: أن لا يجالس طالب العلم إلا من هو مثله أو دونه = فيكسبه هذا غرورا بحاله وجهلا بنفسه؛ إذ لا يرى فيهم من يفوقه ويبين غلطه.
وأكثر ما يهلك طالب العلم ظنه أنه يستغني عن العلماء بما حصله، فيقتصر على القراءة، ومطارحة إخوانه وطلابه واستشارتهم، ويكتفي بذلك عن أهل العلم.
وتجد بعضنا يكتب البحث، ويورد الإيرادات التي يظن أن لا جواب عنها، وإذا عرضت على أحد العلماء، قال فيها: كلمة ارتجالا = فأفسدت كل استدلاله، وفعلت فيه كفعل الإبرة بالبالونة المليئة بالهواء، وقد رأى طلاب العلم من المشايخ الكبار من ذلك عجبا.

ومما يستطرف في ذلك ما ذكره الزجاجي في «مجالس العلماء» ص111، عن نصر بن علي: قال أبو عمر الجرمي يوما في مجلس الأصمعي: أنا أعلم الناس بالنحو!
فسكت عنه الأصمعي ساعة، قال: ثم قال له: يا أبا عمر، كيف تنشد:

قد كن يكنن الوجوه تسترا ** فالآن حين بدين للنظار

كيف تقول: بدين أو بدأن؟
قال أبو عمر: بدأن.
فقال له الأصمعي: يا أبا عمر، أنت أعلم الناس بالنحو ـ يمازحه ـ! وإنما هو: بدون؛ لأنه من بدا يبدو، أي: ظهرن. انتهى.
فهنا أدَّب الأصمعي هذا الرجل بطريقة لطيفة، وأظهر له جلهه بمسألة خفيفة، فمن جهلها، فكيف يكون أعلم الناس بالنحو؟!

وهكذا ينبغي لمن سمع مثل هذا أن يؤدب صاحبه بما يعود عليه بالنفع ليرتدع عن غروره.

ومما يذكر هنا أن في عرف المتقدمين أن النحو يشمل الصرف، والمسألة هنا صرفية.

ومما يستملح أيضا ما ورد في «سير أعلام النبلاء» 4/290، وغيره، عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: «قال أبو سلمة: أنا أفقه من بال!
فقال ابن عباس: في المبارِك!»، وفي بعض المصادر: «وعجب من قوله» . انتهى.

وأبو سلمة بن عبد الرحمن تابعي جليل من كبار فقهاء المدينة، وابن عباس رضي الله عنهما، هو حبر الأمة، فلم يترك هذه له، بل أدبه على هذا الكلام بمثل هذا العبارة الشديدة، التي تكسر حدته!
لكن المشكلة اليوم هو أن المجاملة وقلة التناصح والتأديب غالبة.

ومن جنس هذا التاديب ما رواه القاضي الأديب الحسن الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» ص251:
أخبرني أبـي ، أن القاسم بن نصر المخرمي حدثهم ، قال: سمعت علي بن المديني يقول: قدمت الكوفة ، فعنيت بحديث الأعمش، فجمعتها، فلما قدمت البصرة لقيت عبد الرحمن، فسلمت عليه، فقال: هات يا علي ما عندك، فقلت: ما أحد يفيدني عن الأعمش شيئا !
قال: فغضب، فقال: هذا كلام أهل العلم؟!، ومن يضبط العلم؟! ، ومن يحيط به ؟!
مثلك يتكلم بهذا ؟!
أمعك شيء تكتب فيه ؟
قلت: نعم.
قال: اكتب.
قلت: ذاكرني فلعله عندي!
قال: اكتب، لست أملي عليك إلا ما ليس عندك.
قال: فأملى علي ثلاثين حديثا لم أسمع منها حديثا !
ثم قال: لا تـَعُدْ.
قلت: لا أعود.
قال علي: فلما كان بعد سنة جاء سليمان إلى الباب، فقال: امض بنا إلى عبد الرحمن، حتى أفضحه اليوم في المناسك !
قال علي: ـ وكان سليمان من أعلم أصحابنا بالحج ـ قال: فذهبنا، فدخلنا عليه، فسلمنا، وجلسنا بين يديه، فقال: هاتا ما عندكما، وأظنك يا سليمان صاحب الخطبة.
قال: نعم، ما أحد يفيدنا في الحج شيئا !، فأقبل عليه بمثل ما أقبل عليَّ،
ثم قال: يا سليمان، ما تقول في رجل قضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، فوقع على أهله ؟
فاندفع سليمان فروى «يتفرقان حيث اجتمعا ويجتمعان حيث تفرقا»
قال اروِ ، ومتى يجتمعان ؟ ومتى يفترقان ؟
قال: فسكت سليمان.
فقال: اكتب، وأقبل يلقي عليه المسائل، ويملي عليه، حتى كتبنا ثلاثين مسألة، في كل مسألة يروي الحديث، والحديثين، ويقول: سألت مالكا، وسألت سفيان، وعبيدالله بن الحسن.
قال: فلما قمت، قال: لا تعد ثانيا تقول ما قلت.
فقمنا، وخرجنا، قال: فأقبل عليَّ سليمان، فقال: أيشٍ خرج علينا من صلب مهدي هذا؟!
كأنه كان قاعدا معهم! سمعت مالكا، وسفيان، وعبيد الله .انتهى.

قلت: وأخرجه من طريقة الخطيب في «الجامع» 2/417، و«التاريخ» 10/245.

والإمام عبدالرحمن بن مهدي من أكابر علماء هذه الأمة في الفقه، والحديث، ومن العباد الورعين، والأئمة الصادقين، والعلماء العاملين، تخرج عليه الأئمة الكبار كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبي حفص الفلاس، وأبي خيثمة، وطبقتهم.
وسليمان هذا يحتمل أن يكون ابن حرب الإمام الثقة الأزدي البصري قاضي مكة، ويحتمل أن يكون الشاذكوني، فهذه تشبه جرأته على الشيوخ وتطاوله عليهم.

وقد أحسن الإمام ابن مهدي حين أدبهما قولا وفعلا، فرحمه الله من إمام رباني.

وربما يأخذ الطالب العظة من الموقف؛ فيتوب إذا انكشف له ذلك، ومما يذكر هنا، ما جاء «مجالس العلماء» ص125:
قال أبو إسحاق الزجاج: كنت في ابتداء أمري قد نظرت في علم الكوفيين وانقطعت إليه، فاستكثرت منه حتى وقع لي أني لم أترك منه شيئا، وأني قد استغنيت به عن غيره.
فلما قدم محمد بن يزيد [المبرد] بغداد قصدته يوما وأنا عندي أنه إن ناظرني قطعته لا أشك فيه، فدخلت إليه فلما قعدت قلت له: كيف تقول: «ما أحسن زيدا؟» فقال: ما أحسن زيدا. قلت: زيد بأي شيء تنصبه؟ فقال: التقدير: شيء حسَّن زيدا، فـ«ما» اسمٌ مبتدأ، وأحسن خبره وفيه ضمير الفاعل، وزيداً مفعول به، والمعنى معنى التعجب.
فذهبت أتخطى المسألة فقال لي: على رسلك أقنعك هذا الجواب؟
قلت: ما تركتَ فيها شيئًا. قال: فإنها تنتقض عليك...[ثم ذكر وجهه] قال الزجاج: فذهبت أتجاوز، واستحسنت ما سمعت، فقال لي: أقنعك هذا؟
فقلت: لا أعلم فيه شيئا غيره.
[فأورد عليه إيرادا] قال: فبقيت ولم يكن عندي جواب.
فقال: الجواب... [فذكره ثم أورد الزجاج سؤال فأجاب عنه المبرد جوابا حسنا]
قال الزجاج: انصرفت من عنده، ثم بكرت إليه كالمعتذر، ولزمته.

ولخص الزجاج هذه الحادثة في رواية أخرى بقوله: «لما قدم المبرد بغداد جئت لأناظره، وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب، فعزمت على إعناته، فلما باحثته ألجمني بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني الزامات لم أهتد إليها، فاستيقنت فضله، واسترجحت عقله، وأخذت في ملازمته».


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبد الرحمن السديس
  • مقالات متنوعة
  • فوائد حديثية
  • مسائل فقهية
  • فوائد تاريخية
  • مسائل عقدية
  • الصفحة الرئيسية