اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/shaya/40.htm?print_it=1

أخلاقيات التجار وأثرها على الأسعار

د. خالد بن عبد الرحمن بن حمد الشايع

 
من القضايا التي تهتم لها المجتمعات كافة ما يتعلق بأسعار السلع وتفاوتها غلاءً ورُخصاً.

وفي أيامنا المعاصرة تشكو مجتمعات عدة من غلاء أسعار بعض السلع ، وبخاصة الحاجيات منها والضروريات، أما الكماليات فالأمر فيها محتمل.

ومما يزيد في شدة وطأة غلاء الأسعار أنها تمس شريحة كبيرة في المجتمع، وهذا له انعكاسات في جوانب عديدة اجتماعية ونفسية وأمنية واقتصادية.

وتحرص الجهات التشريعية والتنفيذية في الدول على أن تكون الأسعار مستقرة ، بل إنها تقدم الدعم بصور متعددة للسلع الضرورية والأساسية.

وسأركز في هذا المقال على أحد الجوانب المهمة في ضبط الأسعار،ألا وهو الحديث إلى وجدان التجار وضمائرهم، بل إيمانهم بل واليوم الآخر ما داموا مسلمين، فالتاجر يكون إحدى الركائز المهمة في المنظومة الاقتصادية.

ولا ريب أن التجار إذا كانوا يتمتعون بذمم نظيفة وأخلاق كريمة فسيتجهون بأسواقهم إلى ما فيه الخير والرفق بمن يتعاملون معهم ، وهذا الاتجاه الأخلاقي أقوى داعم لاستقرار الأسواق ونضجها ، ولذا كان من المتعين أن يتقوى الجانب الأخلاقي لدى التجار حتى يتحقق للناس الرفق في معايشهم ؛ ذلك أن رخص الأسعار وتوفر السلع من علامات الرخاء والرفاه وأسباب السعادة للمجتمعات ، قال الله تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ ) الآية: 112 ، من سورة النحل.

وقبل الإشارة إلى أسس تلك الأخلاقيات فمن المهم أن يشار إلى أن من المتفق عليه بين خبراء الاقتصاد أن غلاء الأسعار يرجع لنوعين من الأسباب ، أسباب مبررة مثل تأثير العرض والطلب وما يتصل به من مؤثرات كالأمطار والقحط والحروب وقيمة الطاقة وتوفر المواد الأساسية وشحها وغير ذلك ، والنوع الثاني: أسباب غير مبررة بحيث إن العرض أو الطلب يكون في نطاقه الطبيعي وليس ثمة مؤثرات على توفر السلع.

إن تحلي التاجر بأخلاق الأمانة والسماحة والرفق تنعكس تلقائياً على المستهلكين فيطمئنون إلى جودة البضائع وخلوها من الغش والخلل المتعمد ، كما أنهم يطمئنون إلى صدقية الأسعار وتناسبها مع السلع فلا جشع ولا ابتزاز ولا مغالاة.

إن شريعة الإسلام قبل أن تسن التشريعات المنظمة للأسواق وتبايع السلع ؛ حرصت على أن تنشأ بين المتبايعين علاقة صدقٍ وثقةٍ أساسها الإيمان والمراقبة لله جل وعلا ، ومن أسس ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما ، وإن كتَمَا وكذبا محقت بركة بيعهما" .

وحيث إن التجار يتصرفون من خلال تجارتهم بجوانب حيوية ومهمة في حياة الناس فقد بادر المصطفى عليه الصلاة والسلام بالدعاء لهؤلاء التجار ومن شابههم ممن يتولون الأمور العامة بأن يجازيهم الله بجنس صنيعهم ، إنْ خيراً فخير ، وإنْ شراً فشر ، ففي صحيح مسلم عن عائشة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به " .

وفي جانب وجدانيٍ آخر يحكي النبي صلى الله عليه وسلم العاقبة الحميدة والفوز الكبير الذي آل إليه أحد التجار بسبب أخلاقياته العالية لدى تعامله مع من يبايعهم، ليكون أسوةً لنظرائه، ففي الصحيحين عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حُوسب رجلٌ ممن كان قبلكم ، فلم يوجد له من الخير شيءٌ إلا أنه كان يخالط الناس ، وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عزَّ وجلَّ : نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه " .

هذا الذي تقدم بعضٌ مما جاء في تقرير الأخلاقيات الفاضلة ، وبمثل ذلك جاء التنفير والتشنيع من أخلاقيات الكذب والغش والاحتكار وكل أنواع الإضرار بالآخرين ، والنصوص في ذلك كثيرة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ ضارَّ أضر الله به ، ومن شاق شاق الله عليه " رواه أبو داود والترمذي. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من احتكر فهو خاطئ". وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ، مَنْ غشَّ فليس مني" .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ، ـ وذكر منهم ـ ورجل أقام سلعته بعد العصر ، فقال والله الذي لا إله غيره لقد أُعطيت بها كذا وكذا ، فصدقه رجل" ، ثم قرأ هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران:77].

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار ، قال أبو ذر : خابوا وخسروا ، من هم يا رسول الله ؟ قال: " المسبِل ، والمنَّان ، والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب".

وجملة القول: أن التجار يتعين عليهم أن تحكمهم أخلاقيات كريمة وتعاملات نبيلة حتى تتحقق لهم العاقبة السعيدة إذا لقوا الله تعالى ، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " التاجر الأمين الصدوق المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة" رواه الترمذي وغيره.

قال ابن العربي: هذا الحديث وإن لم يبلغ درجة المتفق عليه من الصحيح فإن معناه صحيح؛ لأنه جمع الصدق والشهادة بالحق والنصح للخلق وامتثال الأمر المتوجه إليه من قبيل الرسول ، ولا يناقضه ذم التجار في الخبر الآخر ، لأنه محل لذم أهل الفجور والرياء والحرص ، بقرينة هذا الخبر ، أما مع تحري الأمانة والديانة فالاتجار محبوب مطلوب ، ولهذا كان السلف يقولون: اتَّجروا فإنكم في زمان إذ احتاج أحدكم كان أول ما يأكل بدينه.

وبهذا فإني أدعو كل تاجر ـ وبخاصةٍ تجار التصنيع والإنتاج والاستيراد ـ لأن يتحلوا بأخلاقيات الصدق والسماحة والرفق والتيسير فبذلك يطيب كسبهم وتهنأ حياتهم وتحسن عاقبتهم.
وفق الله الجميع لما فيه الخير وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


khalidshaya@hotmail.com
 

خالد الشايع
  • الدفاع والنصرة
  • مقالات دعوية
  • شئون المرأة
  • أخلاقيات الطب
  • بر الوالدين
  • ردود وتعقيبات
  • بصائر رمضانية
  • الصفحة الرئيسية