اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/shaya/3.htm?print_it=1

الملك فهد رحمه الله ... مآثر وبشائر

خالد بن عبدالرحمن الشايع

 
الحمد لله على كل حال ، ونسأله تعالى حسن المآل .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين ، أما بعد :

فقد فجعت الأمة صباح الاثنين 26/6/1426هـ 1/8/2005م بخبر وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود ، وأمام هذا الحادث الجلل فقد تزاحم في الخاطر عدد من المشاعر والانطباعات ومنها :

أولاً : رحيل مؤسف ومحزن :
لا ريب أن وفاة والد الجميع خادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز حدثٌ يحزن النفوس ويعتصر القلوب ويُدمع العيون ، بالنظر لكونه قائداً عزيزاً ، وإماماً فذَّاً أجرى الله على يديه من النفع للإسلام والمسلمين ما يسجله التاريخ بمداد الفخر الجليل والثناء العظيم ، فكتب الله له من المحبة والاحترام ما تختزنه القلوب وتحفل به النفوس ، فانطلقت النفوس لتعبر عن هذا الحب على سجيتها .
ومع كل ذلك لا نملك إلا أن نقول كما أرشدنا الله : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ )[البقرة : 155 ـ 156] .

ثانياً : توقف العمر واستمر العمل :
إن مما يخفف الحزن ويصبر النفس أن فقيدنا قد ترك من بعده أعمالاً صالحة مستمرةً غير منقطعه ، داخلة بإذن الله في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم .
فالصدقات وأعمال البر التي تبنَّاها الملك فهد لا تغيب عنها الشمس ، من أقصا الدنيا إلى أقصاها ، حيث إطعام الطعام ، وتقديم الكساء ، ومنح الدواء ، وتيسير الإيواء ، وغيرها من الأيادي البيضاء لكل محتاج وصريخ .

وما لسان حاله رحمه الله إلا كما قال الإمام الشافعيَّ :

يا لـهفَ قلبي على مالٍ أجود به *** على المُقِلِّـين من أهـل المُروءات
إنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني *** ما ليس عندي لَمِن إحدى المُصيبات

فصنع المعروف من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل ؛ ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً : « وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن ، تكشف عنه كرباً ، أو تقضي عنه ديناً ، أو تطرد عنه جوعاً » ، وحديث : « من أفضل العمل : إدخال السرور على المؤمن : يقضي عنه ديناً ، يقضي له حاجة ، ينفس له كربة » . ويقول صلى الله عليه وسلم : « أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة » .
قال بعض أهل العلم عقب إيراده له : « وإذا كان الله سبحانه قد غفر لمن سقى كلباً على شدة ظمئه فكيف بمن سقى العطاش ، وأشبع الجياع ، وكسا العراة من المسلمين ؟ ».
وفي أبواب الأعمال الجاري ثوابها نلحظ أن لمليكنا الفقيد القدح المعلَّى في أعمال جاء النص عليها في أحاديث نبوية ، فكان سابقاً إليها ، بل وكان متفرداً في كثيرٍ منها ، لا ينافسه أحد ، كما في عمارة الحرمين وطباعة المصحف الشريف .
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته ـ فذكر أعمالاً ومن ذلك ـ : ومصحفاً ورَّثَه ، أو مسجداً بناه ، أو بيتاً لابن السبيل بناه ، أو نهراً أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد موته » رواه ابن ماجة ، وحسنه الألباني ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « سبعة يجري للعبد أجرهن بعد موته وهو في قبره ـ وذكر منها ـ : أو كرى نهراً ، أوحفر بئراً ، أو غرس نخلاً ، أو بنى مسجداً ، أو ورَّث مصحفاً » رواه البزار وحسنه الألباني.
وما أحسن ما قال بعض السلف : أفضل الأعمال : سلامة الصدور ، وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة ، وبهذه الخصال بلغ من بلغ ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة .

وأما العلم : فقد كان فقيد الأمة رحمه الله رائده في الوطن الغالي ، وفي غيره من بقاع الدنيا ، فهو مطور التعليم العام والعالي في أرجاء المملكة ، وهو ممن تبنى المبادرة الحكيمة في إقرار تعليم البنات في إطار من الحشمة ووفق أسس شرعية ثابتة ، تميزت بها المملكة وباتت موضع الثناء.
وفي أرجاء الدنيا ثمة صروح علمية من أقصى أستراليا والصين إلى أقصى القارة الأمريكية ، تبنى الفقيد رحمه الله إقامتها ، لتكون منارات هدى لنشر العلم والثقافة الإسلامية ، المؤصلة على البر والإحسان فلم تملك حكومات تلك البلدان إلا القبول والترحيب بأن تحتضن بلدانهم تلك المراكز ، لما لمسوا فيها من سماحة مؤسسها وراعيها وحكته ، وسعيه للتواصل الإنساني الراقي .
وأما الخصلة الثالثة : فقد علم الناس ما في ذريته وما لهم من نصيب وافر في أعمال البر والإحسان ، وأياديهم البيضاء ومساعيهم النبيلة مما سارت بالحديث عنه الألسن ، مسير الشمس في فلكها ، فنرجو الله أن يجعل في ذريته الصلاح والفلاح .

ثالثاً : مشروعية إشاعة مآثر الموتى وخاصةً أئمتهم :
إن من حق أي ميت من أموات المسلمين أن تذاع فضائله وتنشر محاسنه ، ولا ريب أن المسلم إذا كان ذا هيئة ومكانة فإن هذا الحق يكون أجدر ، ومن حق فقيدنا الملك فهد ـ رحمه الله ـ أن يفصح كل صاحب بيان عن مآثره وخصاله الكريمة .
أحرر هذه الأسطر وأنا أستحضر البشارة النبوية العظيمة التي أرجو الله الكريم أن يهبها لفقيدنا الغالي ، ذلكم ما رواه البخاري رحمه الله عن أبي الأسود قال : قدمتُ المدينة وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمرَّت بهم جنازة فأُثنِيَ على صاحبها خيراً، فقال عمر : وَجَبَت ، ثم مُرَّ بأخرى فأُثنِيَ على صاحبها خيراً ، فقال عمر : وجبت ، ثم مُرَّ بالثالثة فأُثنِيَ على صاحبها شراً ، فقال : وجبت ، فقال أبو الأسود : فقلت : وما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت : كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة " فقلنا : وثلاثة ؟ قال : " وثلاثة " فقلنا : واثنان ؟ قال : " واثنان " ثم لم نسأله عن الواحد .
أقول : فدلَّ هذا على ما ينبغي من إشاعة مآثر الموتى وذكر محاسنهم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وهذا الحديث على عمومه ، وأن من مات من المسلمين فأَلْهَمَ الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة ، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا ، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة ، وهذا إلهامٌ يُستدل به على تعيينها ، وبهذا تظهر فائدة الثناء ، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا : " ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً إلا قال الله تعالى : قد قَبِلْتُ قولكم ، وغفرت له ما لا تعلمون " .
وفي ضوء ذلك : فإن من المهم أيضاً أن يعتنى بتدوين مآثر مليكنا الفقيد ، حتى تستفيد منها الأجيال ، ولذا فإني أدعو أقسام الدراسات العليا في الجامعات السعودية وأقترح عليها أن تسجل للباحثين دراسات متخصصة في مرحلتي الماجستير والدكتوراة ، يتم فيها رصد مجالات التميز في شخصية الملك فهد وسيرته ، في المجالات الشرعية كخدمة الإسلام والعناية بالمسلمين ، وفي المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها .

رابعاً : الأسرة المالكة والمجد الأثيل :
المتأمل في تأريخ أسرة آل سعود يلحظ ما وهبها الله من مجد أثيل وفضل كبير ارتبط بخدمة الإسلام ، فتوالى الأئمة من آل سعود على رفع راية التوحيد وإعلاء شأن الدين ، فنالوا من السؤدد والتمكين ما بقي ثابتاً إلى عصرنا هذا ، حيث جاء دور الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن وأبناؤه من بعده رحمهم الله ، وكان للفهد مزيد تفرد بما يسر الله له من العناية بأعظم مقدسات المسلمين ، ونشر الخير بين العالمين .
وإن مما ينبغي أن يسجل في هذا المقام ، وهو مما يبعث الطمأنينة والارتياح الكبير ، والولاء العظيم ، ما أثبتته الأحداث من تماسك الأسرة المالكة ، وما يعلمه كل فرد منهم من الحقوق لكبار الأسرة ومقدميها ، وتقديمهم للمصالح العليا للأمة ، ذلك أن هذه الأسرة لا تشبهها في العصر الحديث أي أسرة ، ولا تدانيها في مجدها وعزها ، فالأسرة المالكة ذات ارتباط استراتيجي بدين الإسلام على مدى أكثر من ثلاثمائة سنة ، وإن عز هذه الأسرة عزٌّ للإسلام والمسلمين .
وقد كان من اللغو العجيب ما تحدث به بعض الناس في الداخل والخارج حول ما يتعلق بخلافة الملك رحمه الله ، وقد كان هذا اللغو ناشئاً عن عدم إدراك لتاريخ الأسرة السعودية الملكية منذ عهد الإمام محمد بن سعود رحمه الله ، وحتى يومنا هذا ، وخاصة أبناء الملك عبدالعزيز وأحفاده ، فإن من يطلع على طبيعة علاقتهم ببعضهم وتعاملهم فيما بينهم ، يدرك أن الحديث عن خلافة الملك وتعيين معاونيه أمر محسوم ، وأن التأويلات المتشائمة ما هي إلا تخرصات دالة على جهل أصحابها أو نواياهم السيئة .

خامساً : في خليفة الفقيد عزاء كبير :
إن من أكبر العزاء في نفوسنا أن هذا القائد الكبير وهو يغادر دنيانا مأسوفاً عليه ، إلا أنه لم يدع موضع القيادة فارغة أو مهزوزة بقلة الخبرة وضعف الدراية ، بل إنه رحمه الله قد جعل له في حياته عضداً يشد أزره ويشركه في إدارة شئون البلاد ، وهما النائبان عبدالله وسلطان. وذلك لدى سفره أو غيره من عوارض الحياة .
فحين يغيب الملك فهد هاهو الملك عبدالله يتولى إدارة شئون البلاد وهو المؤهل العارف الخبير ، فلا مجال لممارسة تجارب مشكوك فيها،أو قدرات تعاني الاهتزاز والتردد،بل إن المتابع لسياسات البلاد الداخلية والخارجية لن يلاحظ تغييراً في مسارها، حيث إن الثوابت والمنطلقات بينة واضحة ، اللهم ما يكون من سياسات تقتضيها المرحلة وتفرضها المستجدات تحقيقاً للمصالح العليا .
وهاهو ولي العهد الأمير سلطان يتسنم منصباً آخر ، لن يكون فيه غريباً ولا مجرباً ، وإنما هو الخبير العارف ، ليستكمل معاضدة القائد كما كان في موقعه السابق .

إن إدراكنا لهذه الأسس لتبعث الطمأنينة الكبيرة في أن حاضر هذه البلاد ومستقبلها هو محل العناية والرعاية من أولئك القادة الأعزة ، خاصة وأن موقع هذا الوطن الغالي ومكانته لهما اعتبارات عدة ، أهمها كونه حاضن الحرمين الشريفين ومهوى أفئدة المسلمين ، وحامل لواء الدعوة إلى الله تعالى .

والله المسئول أن يرحم فقيدنا الملك فهد ، وأن يجزيه على خدمة الحرمين ونشر كتابه العزيز وخدمة المسلمين أفضل الجزاء وأعظمه ، وأن يسكنه جنات النعيم ، وأن يفرغ الصبر على بنيه وبناته وأهله ، وأن يخلف على الأمة فيه خيراً ، وأن يوفق خليفته الملك عبدالله لما فيه خير الأمة وسؤددها ، وأن يجعله وولي عهده الأمير سلطان مفتاحاً لكل خير ، مغلاقاً لكل شر ، وأن يرزقهما البطانة الصالحة الناصحة ، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .


نشر في جريدة الرياض ـ العدد ـ الخميس 6 رجب 1426هـ - 11 أغسطس 2005م - العدد 13562
 

خالد الشايع
  • الدفاع والنصرة
  • مقالات دعوية
  • شئون المرأة
  • أخلاقيات الطب
  • بر الوالدين
  • ردود وتعقيبات
  • بصائر رمضانية
  • الصفحة الرئيسية