اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/saud/10.htm?print_it=1

شباب الصحوة الإسلامية،،، رؤية من الداخل

أبو عبدالعزيز سعود الزمانان

 
ولست أدعي بأن هذا حال جميع شباب الدعوة الصحوة المباركة ، فحاشا لله أن أقول مثل هذا القول ، فإن هناك الكثير من الشباب الناضج الذي تقلب في الدعوة إلى الله آناء الليل وأطراف النهار ، ونهل من العلم وتوجه إلى حلقاته ، وترك لذة النوم وهجر الفراش ، في وقت يهجع فيه الكثيرون ، وزاحم العلماء وطلبة العلم بالركب ، فهو كالغيث أينما حل نفع : في منزله ، في مسجده ، في سوقه في مجتمعه .

فأحببت في هذه الكلمات أن أضع النقاط على الحروف ، وأبين الداء وأصف الدواء لعل الله جل وعلا أن ينفعنا بما نقول إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ومن المظاهر السيئة التي التصقت ببعض شباب الصحوة ما يلي :

1 . الزهد في طلب العلم :
من المعلوم أنه لن يعود للمسلمين عزتهم إلا بالانطلاق من الكتاب والسنة الصحيحة وما كان عليه سلف هذه الأمة ، وقد أرشدنا الله إلى تقديم العلم على العمل قال تعالى { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك }، ومن ثم يكون العمل به والدعوة إليه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " عليكم بالعلم فإن تعليمه حسنة ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة "[1] ، وفي هذا الزمان عزف الكثير من الشباب عن طلب العلم ، وزهد فيه ، فقصرت هممهم وركنوا إلى الحماسة وإثارة العواطف ، دون تأصيل وتأسيس ، واقتصر الكثير منهم على مراجعة مسألة أو مسألتين ، فإذا كان في مجلس تكبر على الحاضرين وأثار مسألة البحث ، ليظهر علمه ، وقد قيل : " العلم ثلاثة أشبار ، من دخل الشبر الأول : تكبر ، ومن دخل الشبر الثاني : تواضع ، ومن دخل في الشبر الثالث : علم أنه ما يعلم " .[2]

قال الحافظ الذهبي – رحمه الله - : " فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون تقياً ذكياً ، نحوياً لغوياً ، زكياً حيياً سلفياً ، يكفيه أن يكتب بيديه مئتي مجلد ، ويحصل من الدواوين المعتبرة خمس مئة مجلد ، وأن لا يفتر من طلب العلم إلى الممات بنية خالصة وتواضع ، وإلا فلا يَتَعَنَّ "[3]

قلت : رحمك الله يا إمام ، كيف لو نظرت إلى حال المسلمين اليوم ، ورأيت الجهل عند الكثير من المنتسبين إلى الدعوة ، الذين أصبح شغلهم الشاغل تتبع عورات العلماء ، والتفتيش عن زلاتهم ، والتطاول عليهم ، والاتكاء على الأرائك وتصنيف الناس بظلم وعدوان ، فلست أشك أيها الإمام في أنك سوف تكبر أربع تكبيرات بلا ركوع وبلا سجود وتسليمة عن يمينك على هؤلاء !!

ولا يمكن للإنسان المسلم أن يفهم دينه ويعمل به ، إلا إذا عرف أحكامه ، وأولاها اهتمامه وعنايته ، وبذل جهده وطاقته للإلمام بها ، فكيف يعرف المسلم أن هذا الماء طاهر أو نجس ، وأن هذا الماء يجوز التوضؤ فيه أو لا ، وأن هذا الطعام أو الإناء أو الصيد أو اللباس مباح أو حرام أو مكروه أو مستحب ، وكيف نعرف أن اقتناء هذا المال أو إنفاقه حرام أم حلال ، وكيف نهتدي إلى العبادات ونعرف أوقات الصلوات ومستحباتها و مكروهاتها ومبطلاتها ، وكيف نقيم الحدود و المعاملات فيما بيننا ، وكيف نبني الحياة الزوجية على منهج الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - .

فالعلم الشرعي ليس مقتصراً على النواحي التعبدية كما يزعم بعض الناس ، بل إنه علم يربط المخلوق بخالقه برباط متين ، ويقيم أفضل العلاقات بين الإنسان وأهله وأقاربه ، وبين الإنسان وأخيه ، بل أرشدنا هذا الدين كيف نعامل الحيوان الأعجم بالرفق والرحمة والإحسان ، قبل أن يتظاهر الغرب بالرفق بالحيوان ، وهي لم ترفق بعد بالإنسان ولم ترع حقوقه ، وما المجازر التي ارتكبت في الشيشان منا ببعيد .

كما أن العالم بأحكام الشريعة له من الفضيلة والمنـزلة ما ليس للجاهل ، قال الإمام القرطبي – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله } [4]: " وفي هذه الآية دليل على أن العلم له من الفضيلة ما ليس للجاهل ، لأن الكلب إذا علِّم يكون له فضيلة على سائر الكلاب ، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس ، لا سيما إذا عمل بما علم " .

قال ابن القيم – رحمه الله - : " العلماء هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك ، فموتهم فساد لنظام العالم ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين منهم خالفاً عن سالف يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده ، وتأمل إذا كان في الوجود رجل قد فاق العالم في الغنى والكرم ، وحاجتهم إلى ما عنده شديدة وهو محسن إليهم بكل ممكن ثم مات وانقطعت عنهم تلك المادة ، فموت العالم أعظم مصيبة من موت مثل هذا بكثير ، ومثل هذا يموت بموته أمم وخلائق كما قيل :

تعلــم ما الرزيــة فقــد مـــال    ولا شاة تمـوت ولا بعيــر
ولكن الرزيـــة فقــد حــر    يمـوت بموتـه بشـر كثيـر " ا.هـ[5]

ولا ينبغي على المسلم أن يستنكف من حفظ آية أو حديث واحد ، فإن للعلم الشرعي بركة تعصم الإنسان من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فهذا الصحابي الجليل أبو بكرة قد عصمه من القتال في الفتنة بفضل حديث واحد سمعه بأذنه ووعاه بقلبه وجوارحه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وذلك حينما خرجت الصديقة عائشة – رضي الله عنها – للإصلاح بين الناس فتسارعت الأحداث ونشب القتال فيما بينهم ، فلما أراد أبو بكرة – رضي الله عنه – اللحاق بركب عائشة تذكر حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك كما أخرجه البخاري في صحيحه (7099 ) عن أبي بكرة – رضي الله عنه – أنه قال : " لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لما بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – أن فارساً ملّكوا ابنة كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " فامتنع عن القتال ببركة حديث واحد سمعه من النبي – صلى الله عليه وسلم - .

فينبغي على المسلم أن يتزود من العلم وأن يتدارسه مع نفسه وغيره ، وأن يطرد كل فتور وكسل ، وأن يستغل وقته في طلب العلم ، قبل أن يبتلي بكثرة المشاغل ، وأن يضع في معتقده أن طريق العلم طويل جدا ، وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : " منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب دنيا " [6]وقد قيل لعبد الله بن المبارك – رحمه الله - : " لو بعثت بعد موتك ماذا تفعل ؟ قال : أطلب العلم حتى يأتيني ملك الموت مرة ثانية "

2 . وقوعهم في التقليد وسقوطهم فيما عابوا عليه أهل المذاهب الفقهية :
ويلاحظ وقوع بعض الشباب في شَرَك التقليد ، والتعصب لأقوال بعض أوعية أهل العلم المعاصرين ، والأخذ بها دون معرفة للأدلة الشرعية وكيفية الاستدلال بها ، وتعظيم أقوالهم بحيث تقدم على النصوص الشرعية أحياناً ، والتزام أقوالهم ونبذ ما سواها ، مدعين بأن هؤلاء العلماء المعاصرين أعلم بالنصوص وربما اطلعوا على شئ لم يطلع عليه السابقون ، وربما كان هذا الدليل منسوخاً ، بل وصل الأمر إلى تسفيه آراء العلماء المتقدمين ، أو عدم الاهتمام بها ، وغمط أصحاب العلم حقهم ، وإلى تخطئتهم مع أنهم من أكابر العلماء ، بل قد يكونون من الصحابة ، وقد يكون قولهم أرجح دليلاً ، فلو تعارض قول للإمام أحمد مع أحد العلماء المعاصرين على سبيل المثال ، لأخذوا برأي العالم المعاصر لا لشيء سوى التعصب لهؤلاء الأئمة ، ويزعمون بأنهم لم يأخذوا بأقوالهم إلا بسبب ثقتهم في هؤلاء العلماء ، وتعظيمهم لأهل العلم ، ولا شك أن هذا التعظيم والتوقير ليس من النوع الذي شرعه الله عز ، وإلا لكان الجميع فيه سواء ، ونسى هؤلاء الشباب أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون به ، وانه لا يجوز التعصب لزيد أو عمرو ، ولا لرأي فلان أو علان ، ولا لحزب أو طريقة أو جماعة ، بل يجب اتباع كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – في جميع الأحوال ، في الشدة والرخاء ، في العسر واليسر ، في السفر والإقامة ، وعند اختلاف العلماء ينظر في أقوالهم ، ويؤيد منها ما وافق الدليل من دون تعصب لأحد من الناس ، ولا يجوز أبداً التعصب لواحد مطلقاً .

ولا يفهم من هذا الكلام بأن التقليد لا يجوز بشكل عام ، فالحق أن التقليد جائز في الجملة والاجتهاد جائز في الجملة ، فالتقليد جائز للعامة الذين لا قدرة لهم على النظر في الأدلة واستنباط الأحكام منها ، قال ابن عبد البر – رحمه الله - : " ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وأجمعوا أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممّن يثق بميزه القبلة إذا أشكلت عليه ، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه " [7]

قلت : فتوى العالم تكون بمحل الأدلة الشرعية بالنسبة للجاهل ، فيجوز تقليد من عُرف بالعلم والاجتهاد من أهل الدين والصلاح ، والله أعلم .

أما من فهم الدليل وعرف الحق فلا يجوز له التقليد ، بل الواجب عليه اتباع ما تبيَّنَتْ له صحته ، خاصة إذا كان في التقليد مخالفة واضحة للنصوص الشرعية أو لإجماع الأمة .

فمن أراد الالتزام بقول عالم من العلماء فعليه أن يراعي الضوابط التالية:

الضابط الأول : أن لا يكون هذا الالتزام سبيلا لاتخاذ هذا المذهب دعوة يُدعى إليها ، ويوالي ويعادي عليها ، مما يؤدي إلى الخروج عن جماعة المسلمين ، وتفريق وحدة صفهم ، فإن أهل البدع هم الذين ينصِّبون لهم شخصاً أو كلاماً يدعون إليه ويوالون به ويعادون عليه .

أما أهل السنة والجماعة فإنهم لا يدعون إلا اتباع كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وما اتفقت عليه الأمة ، فهذه أصول معصومة دون ما سواها .

الضابط الثاني : ألا يعتقد أنه يجب على جميع الناس اتباع واحد بعينه من الأئمة دون الآخر ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " فمن تعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة ، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون قول الإمام الذي خالفه ، فمن فعل هذا كان جاهلاً ضالاَ : بل قد يكون كافراً ، فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، بل غاية ما يقال : إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحداً لا بعينه ، من غير تعيين زيد ولا عمرو" [8]

الضابط الثالث : أن يعتقد أن هذا الإمام الذي التزم مذهبه ليس له من الطاعة إلا لأنه مبلغ عن الله دينه وشرعه ، وإنما تجب الطاعة المطلقة العامة لله ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – .

الضابط الرابع : أن يحترز من الوقوع في شيء من المحاذير الآتية :

المحذور الأول : التعصب والتفرق .

المحذور الثاني : الاعراض عن الكتاب والسنة .

المحذور الثالث : الانتصار للأقوال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة .

المحذور الرابع : تنزيل الإمام المتبوع منزلة النبي – صلى الله عليه وسلم - قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله ، من غير ذكر دليل يدل على صحة ما يقول فليس بصحيح ، بل هذه المرتبة هي مرتبة الرسول التي لا تصلح إلا له "[9]

3. عدم تقديم الأولويات في طلب العلم :

هناك قاعدة قعّدها أهل العلم تنص على أنه : " من استعجل الشيء قبل أوانه فإنه قد يعاقب بحرمانه " ، وهذه القاعدة نستطيع أن ننزّلها على واقع الكثير من الشباب الذي لم يتدرج في طلب العلم الشرعي ، فترى الكثير منهم يزاحم طلاب العلم في حلقات العلم ، وما هي إلا مدة قصيرة حتى ينقطع بالكلية عن الطلب ، بسبب أنه لم يسلك الطريق القويم ، ولم يتدرج في طلب العلم ، والتدرج سنة من سنن الله في الكون وهو موافق للشرع والعقل ، فترى الكثير منهم يوغل في أمور ومسائل فرضية قد تكون نادرة الوقوع ، ويترك ما هو أهم وأولى .

دخل ابن جريج إلى مجلس عطاء بن السائب في أول طلبه للعلم ، وكان في المجلس أبو عمير ، أحد الأئمة ، فقال عطاء لابن جريج : هل قرأتَ القرآن ؟ قال ابن جريج : لا ، قال : فاذهب فاقرأه ثم اطلب العلم ، فذهب ابن جريج فغاب زمانا حتى قرأ القرآن ، ثم جاء عطاء ، فقال عطاء :هل قرأت الفريضة ؟ قال ابن جريج : لا . قال : فتعلم الفريضة ثم اطلب العلم ، فطلب الفريضة ، ثم جاءه ، فقال : الآن فاطلب العلم . فلزم ابن جريج عطاء سبع عشرة سنة .

قلت : أرشده هذا الإمام ودله على تقديم الأولويات ، والتدرج في طلب العلم الشرعي .

ويتصل بما سبق ما يلاحظ من قيام بعض الشباب بطلب العلم الشرعي ممّن لم ترسخ قدمه فيه ، ومن صغار السن أحياناً ، مع وجود من هو أكبر منهم سناً وأرسخ علماً ، والتماس العلم عند الأصاغر ، وهذا الأمر قبل أخبر عنه المصطفى – صلى الله عليه وسلم – بوقوعه في آخر الزمان وهو من علامات الساعة الصغرى كما في الحديث الذي أخرجه ابن المبارك في " الزهد " " إن من أشراط الساعة ثلاثاً : إحداهن : أن يُلتمس العلم عن الأصاغر ... " والحديث في صحيح الجامع للألباني – رحمه الله - ، وقد قال ابن عمر – رضي الله عنهما - : " إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كبراكم ، فإذا العلم في صغاركم سفّه الصغير الكبير " ، وهذا الأمر ليس على إطلاقه ، فقد أفتى ودرّس جمع من الصحابة والتابعين في صغرهم بحضرة الأكابر ، فإذا وُجِد الصغير وظهرت رصانته في العلم فليؤخذ منه ، ومن أراد العلم من منابعه الأصلية فيبادر في أخذه من العلماء الكبار وليلزمهم قبل أن يفقدهم ، وليس كل من وعظ موعظة بليغة أو ألقى محاضرة هادفة أصبح مجتهداً من المجتهدين ، والحق أن ينزّل هؤلاء منزلتهم ، والشريعة جاءت بالعدل والتوسط في جميع الأمور .

ووصل الأمر إلى قيام بعض المبتدئين بالعلم أو ممّن لم ترسخ أقدامهم فيه إلى خوض غمار التأليف فيما وصل إليه الأكابر ، وللعلامة الشيخ بكر أبو زيد كلاماً نفيساً عن هؤلاء قال – حفظه الله - : " ومنه شغف المبتدئين بالتأليف ، والبداية مَزِلة ، وهذا عين تشيّخ الصحفيّة ، إذ تعلمه حقيقة " مجذوباً " ، فتراه يخوض غمار التأليف فيما وصل إليه الأكابر ، بعد قطع السنين ، في مُثافَنَةِ الأشياخ ، ومسك الدفاتر ، ثم يأتي هذا " المجذوب الطري " ، ويثافِنُ مؤلفاتهم ... والمطابع تفرز كل يوم لنا قراطيس ورزماً ، إن لم يكن هذا هو الاحتراق في الغرور ، فما أدري له سبباً سواه ، فنعوذ بالله من هذه الفتنة الصماء ، وأنصح نفسي وإخواني في الطلب ، وتحرير المسائل ، وضبط الأصول ، وجرد المطولات ، وكثرة التلقي ، والدأب في التحصيل ، وأن لا يشغل المرء نفسه بالتأليف في مثاني الطلب قبل التأهيل له ، فإن التأليف في هذه المرحلة يقطع سبيل العلم والتعلم ، ويعرض المرء فيه نفسه قبل نضوجها ، والتأليف المقبول لا بد أن يكون بقلم من اتسعت مداركه ، وطال جده وطلبه ، والصنعة بصانعها الحاذق ، ومعلمها البارع " [10]انتهى.

4. أخطاء الشباب في اللباس :

لبس الثياب تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة ، الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم ، فالواجب منه ما يستر به العورة ويدفع به الحر والبرد .

والمندوب إليه أو المباح ما يحصل به أصل الزينة وإظهار النعمة لا سيما في الجُمع والأعياد ومجامع الناس إذا لم يكن للتكبر ، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي الأحوص عن أبيه قال : " دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – فرآني سيئ الهيئة فقال : ألك شيء ؟ قلت : نعم . مِن كل المال قد أتاني الله تعالى فقال : إذا كان لك مال فَلْيُرَ عليك " [11]

والمكروه ما يكون مظنة للتكبر والخيلاء ، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " [12]

والمحرم ما يقصد به الكبر والخيلاء أو لبس الحرير والذهب أو الإسبال لقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه ( 5787) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار "

وقد وقع المنتسبون إلى الدعوة إلى الله في محاذير شرعية بين إفراط وتفريط ، وجنحوا عن الاعتدال والوسطية بسبب قلة فقههم وشطط فهمهم بدعوى الاتباع والالتزام بتعاليم هذا الدين .

ومن مظاهر هذه المحاذير الشرعية في اللباس ما يلي :

أولا : إسبال الثياب :

لجأت بعض الجماعات الإسلامية إلى تمييع قضايا الدين وتهميش تعاليمه ، فشحذوا الهمم لإنشاء جيل مترف من الشباب بدون تصفية ولا تربية إسلامية ، حتى يكثروا بهم السواد ، ولاستخدامهم لأغراضهم الحزبية ، فأجازوا لهم إسبال الثياب ، هاجرين بذلك سنة نبيهم محمد – صلى الله عليه وسلم – المحذر من الإسبال في أحاديث عديدة ، بلغت مبلغ التواتر المعنوي ، في الصحاح والسنن والمسانيد ، والتي تفيد النهي الصريح الدالة على التحريم ،فالإسبال محرم مذموم شرعاً في حق الرجال إن كان لغير الخيلاء ، وكبيرة من الكبائر إن كان للخيلاء ، لقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه " ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار " وهذا الحديث يعمّ من أسبل ثيابه تكبراً أو لغير ذلك من الأسباب .

وقد دلت النصوص الشرعية بأن مجرد الإسبال " خيلاء " ، فعن جابر بن سليم – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " وإياك والإسبال فإنه من المخيلة " ، فمجرد الإسبال يستلزم الخيلاء ، حتى لو لم يقصد المسبل ذلك ، فالمسلم ممنوع منه لكونه مظنة للخيلاء ، فمن لم يسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك ، والوسائل لها حكم الغايات .

أما من جر ثوبه خيلاء صار الإثم و كبيرة من الكبائر لقوله – صلى الله عليه وسلم - : " من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " .

لذا أنصح أخواني الشباب المنتسبين إلى هذه الجماعات تقديم قول الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – على قول سأداهم وكبرائهم ،وأن ينتهوا عما نهى الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – عنه ، وأن يرفعوا ثيابهم إلى الكعبين ، فإنه أنظف وأطهر واتقى لربهم ، وأسأل الله التوفيق والرشاد لجميع المسلمين .

ثانياً : الإفراط في تقصير الثوب :

أفرط بعض الشباب في تقصير الثوب تديناً ، مخالفين بذلك بما عليه المجتمع المسلم الذي يسير وفق السنة ، وهو كون اللباس إلى الكعبين ، وذلك لأنهم حملوا بعض الأحاديث على غير محلها ونزلوها على غير منزلتها ، فلم يفهموها كما فهمها الراسخون في العلم ، فتنطعوا في دين الله ، ظناً منهم أن هذا هو أقرب للسنة ، وقد نص علماء الحنابلة – رحمهم الله – على كراهية تقصير الثوب إلى نصف الساق ، لأن به إشهارا للنفس ، ومظنة لانكشاف العورة في الصلاة ، قال البهوتي – رحمه الله - : " ويكره كون ثيابه فوق نصف ساقه " قال ابن قاسم – رحمه الله – في حاشيته : " ولأن ما فوقه مجبلة لانكشاف العورة غالبا ، وإشهار لنفسه ، ويتأذى الساقان بحر أو برد ، فينبغي كونه من نصفه إلى الكعب ، لبعده عن النجاسة ، والزهو والإعجاب "[13] ا.هـ .

قال ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله - : " ويكره فوق نصف ساقيه ، نُصّ عليه ، وقال أيضاً : يشهر نفسه " [14]

قلت : من الأسباب التي أدت لإفراط الشباب في تقصير الثوب إلى نصف عضلة الساقين ما يلي :

1 : عدم تفريقهم بين الثوب والإزار :

الثوب ليس كالإزار معنى ولا وصفاً ولا حكماً ، فالثوب هو القميص وهو ما يلبس على الجلد من قطن وكتان ، وله جيب وكمان ، لذا لا يجوز للمحرم أن يحرم بقميص أو ثوب ، بينما يشرع له أن يحرم بإزار ، والإزار هو ما يتزر به ، ويكون ثابتا على النصف الأسفل من البدن من السرة فما دون ، فالروايات التي جاءت بالسنة المطهرة التي تحكي بأن يكون اللباس في حق الرجال إلى عضلة الساقين أو إلى أنصافهما ، وفي بعض الروايات إلى الكعبين ، إنما جاءت كلها بلفظ " الإزار " ، قال العلامة بكر أبو زيد – حفظه الله - : " إن ألفاظ الروايات بجعل الإزار إلى عضلة الساقين أو إلى أنصاف الساقين كلها جاءت بلفظ " الإزار " ولم أقف على شيء منها بلفظ " الثوب " فلنقف بالنص على لفظه ومورده ... وقال أيضاً : الإزار ثابت على النصف الأسفل من البدن من السرة فما دون ، فلا يرتفع عند الركوع والسجود ، أما الثوب فإذا كان طوله وطرفه إلى عضلة الساقين ، أو إلى أنصاف الساقين ، فإنه مع الركوع والسجود تحمله الكتفان والظهر ، فينجر إلى أعلى ، ويكون كشف مؤخرة الفخذ مئنة ، أو مظنة قوية لانكشاف العورة ، ولو انكشفت عورته وهو يصلي لبطلت صلاته "[15] ا.هـ.

2 : عدم مراعاة المعتاد في لباس عرف البلاد مما لا يخالف الشرع :

عدم مراعاة بعض الشباب المعتاد في لباس عرف بلادهم مما لا يخالف الشرع ، يفضي إلى مفسدة عظيمة، وهو العجب الذي يأخذ صفة التدين، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " يحرم لبس الشهرة، وهو ما قصد به الارتفاع ، وإظهار الترفع ، أو إظهار التواضع والزهد ، لكراهة السلف ذلك " ا.هـ.

وقال ابن النجار الحنبلي – رحمه الله - : " ويكره أن يلبس خلاف زي بلده بلا عذر ، وثوب الشهرة ما يشتهر به عند الناس ويشار إليه بالأصابع ، لئلا يكون ذلك سبباً إلى حمله على غيبة فيشاركهم في إثم الغيبة ، ويروى عن أبي هريرة مرفوعاً : " أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الشهرتين فقيل : يا رسول الله وما الشهرتان ؟ قال : رقة الثياب وغلظها ، ولينها وخشونتها ، وطولها وقصرها ، ولكن سداداً بين ذلك واقتصاداً "[16]... وكان الحسن يقول : إن قوما جعلوا خشوعهم في لباسهم ، وشهروا أنفسهم بلباس الصوف ، حتى أن أحدهم بما يلبس من الصوف أعظم كبراً من صاحب المطرف بمطرفه .

وقال في الرعاية : ليس التواضع في اللباس ولبس البياض والنظافة في بدنه وثوبه ، مجلسه ، والتطيب في ثوبه وبدنه ، والتحنك والذؤابة وإرسالها خلفه " [17] ا.هـ

وأسوق كلاما لفضيلة الشيخ العلامة بكر أبو زيد – حفظه الله – بنصه وبحروفه كاملاً لقوة حججه وبيانه فقد قال أثابه الله : " ونقل القاضي عياض عن العلماء :" أن الإسبال كل ما زاد عن المعتاد في اللباس في الطول والسعة "[18]وقال ابن عقيل : لا ينبغي الخروج من عادات الناس إلا في الحرام " وقال السفاريني : " شهرة لابس : له بمخالفة زي بلده ونحو ذلك ... ولأن لباس الشهرة ربما يزري بصاحبه وينقص مروءته ، ثم ذكر عن صاحب " الغنية " للجيلاني قوله : " ومن اللباس المنزه عنه كل لبسه يكون بها مشتهراً بين الناس ، كالخروج من عادة بلده وعشيرته ، فينبغي أن يلبس ما يلبسون ، لئلا يشار إليه بالأصبع ، ويكون ذلك سبباً إلى حملهم على غيبته ، فيشركهم في إثم الغيبة "

وذكر أن الإمام أحمد – رحمه الله – رأى رجلاً لابساً بُرْداً مخططا ، : بياضا وسوادا ، فقال ضع هذا والبس لباس أهل بلدك ، وقال : ليس هو بحرام ، ولو كنت بمكة أو المدينة لم أعب عليك ، قال الناظم لأنه لباسهم هناك"

ثالثاً : الاسترسال والترفه والمبالغة في لبس الغالي من الثياب :

أفرط بعض الشباب في الأخذ بالمباحات والاسترسال في التنعم الزائد والرفاهية ،والمبالغة في لبس الغالي والنفيس من الثياب ، فتأنثت طباعهم وتبلدت أحاسيسهم ولان دينهم ، وانشغل بالتأنق في ملبسه ، ونسىقول النبي – صلى الله عليه وسلم – " البذاذة من الإيمان " [19]، أي التقشف والتواضع في اللباس وترك الافتخار به ، ولم يأخذوا بوصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : " وإياكم والتنعم ، وزي العجم وتمعددوا واخشوشنوا "[20] ، فقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين متورعين عن الإسراف في المباحات ، فتركوا الترفه في المطعم والمشرب والمركب والمسكن ، والتوسع في المباحات قد يكون مورثاً للأخلاق السيئة ، وترك الخصال الحميدة ، لذلك قال القاضي عياض – رحمه الله - : " جُعل الشرُّ كله في بيت ، وجُعل مفتاحه حب الدنيا ، وجعل الخير كله في بيت ، وجعل مفتاحه الزهد "[21]، وقال الكتاني الصوفي : " الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ولا مدني ، ولا عراقي ولا شامي ، الزهد في الدنيا ، وسخاوة النفس ، والنصيحة للخلق " [22]

ولا يفهم من ذلك أننا نحرم ما أحله الله ، ولقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحب الحلواء والعسل ، وكان يستعذب له الماء ، ويتطيب بالمسك ، ولكننا نقصد المبالغة في الترفه ، والاهتمام الزائد بالمظهر ، و الاسترسال في الأخذ بالمباحات والإفراط في التنعم ، إذ أن هذا ليس سمتاً للصالحين ، والحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن ، لذلك فإن الإسراف والمبالغة في لبس الغالي من الثياب فيه تشبه لأهل الأهواء وطالبي الدنيا ، فأصبح بعض الدعاة مشابهين في الهدي الظاهر والمظهر والسلوك مع أهل الدنيا ، وهذا التشابه يورث شعوراً واضحاً وقويا بالتقارب والتعاطف والتواد ، وهذا ما أكده الشرع ووافقه العقل ، لقوله – صلى الله عليه وسلم - : " من تشبه بقوم فهو منهم " .

فينبغي على المنتسبين إلى الدعوة عدم الاسترسال في الترفه والمبالغة بحسن المظهر ، وتقصد لباس التنعم والرفاهية ، وليأخذوا من اللباس ما يزينهم ولا يشينهم ، وليس معنى هذا أن أن ندعوهم إلى لبس المشوه والممتهن من الثياب ، بل المطلوب الاقتصاد في اللباس بما يوافق الشرع ، وهو اللبس الذي لا يجعل في لابسه مقالاً لقائل ، ولا لمزاً للامز ، وأن يتوافق اللباس بما لديهم على شرف حمل العلم الشرعي ، فهو أدعى لتعظيمهم لهذا العلم والانتفاع به ، والله أعلم .

رابعاً : تقصير الثوب وإطالة السراويل :

أساء بعض الشباب هداهم الله إلى هذا الدين ، بسبب سوء مظهرهم ، فلم يراعوا حسن الهيئة وتناسب اللباس ، وخرجوا بذلك عن الأعراف التي تخالف الشرع المطهر ، فأعطوا المجال للمستهزئين واللامزين المخذِّلين للإنتقاص منهم والاستهزاء بهم ، بسبب خطأ وشطط فهمهم لهذا الدين الحنيف ، فقصّروا ثيابهم وأطالوا سراويلهم ، ولم يعلموا أن الإسبال يكون في كل ما يلبس من إزار أو ثوب أو حلة أو كساء أو عباءة أو سراويل إلى غير ذلك مما يلبسه الرجال ، مخالفين بذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه أنه قال : " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جر منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ( صحيح أبي داود للألباني 3450)
 

سعود الزمانان

  • بحوث علمية
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية