اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/sanad/2.htm?print_it=1

السلسلة الثالثة :
ضـرورة فقه تسلسل الأسباب والنتائج

سند بن علي بن أحمد البيضاني

 
بسم الله الرحمن الرحيم

(( سلاسل بحوث منهاجية لإصلاح تلك المضغة )) .
السلسلة الأولى : كم مِنّا مَنْ أسْلم وجهه لله عن إحسان !!
السلسلة الثانية : ماذا تعرف عن أصـول الصلة مـع الله ؟!

الحمد لله القائل ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله )) ، والصلاة والسلام على نبيه القائل:(( إذا همّ - وفي رواية إذا أراد - أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة...))، وعلى آله وصحبه أجمعين
.


توطئة :

يعد فقه تسلسل الأسباب والنتائج من أهم الأصول لإتقان مكاشفة النفس
[1] ،  وكذلك يعد عدم الفقه بها ؛ من أكثر الأشياء شيوعا في   تخبط  وتعثر كثير من الناس  في حل مشاكلهم ، بل وأحيانا زيادتها ، سواء  في علاقتهم  مع المخلوقين أو مع صلتهم  بخالقهم  ، وذلك حينما تُصنف النتائج على أنها من الأسباب ؛ لذا يخفق دائما في وضع الحلول العملية السهلة للخروج من الدوامة التي يعيش فيها .

فتراهم قد  يجتهدون  في معالجة الأعراض – النتائج – ويغفلون  عن معالجة  السبب الحقيقي أو السبب الأول
.ومن الأمور المعيبة عندما تجد من المتخصصين يخلط في الأمر و يضع النتائج  محل الأسباب ، فيزيد من معاناة من ولّاه الله لمساعدتهم أو تدريبهم وغيرهما ، ويزداد الأمر سوءا عندما يتعلق الأمر بالمرضى النفسيين ، وكذلك قد يتوهم الأصحاء بسبب هذا  الخلط أمورا هم في غنى عنها ،   لذا تم التطرق هنا إلى ذكر أمثلة كثيرة   ، عسى أن ينفع الله بها . ومن الله التوفيق .

المسألة الأولى : مقومات  تنمية ملكة  فقه تسلسل الأسباب والنتائج


من نعمة المولى سبحانه أن جعل لكل
حقيقة علامات وأسباب ونتائج ليطمئن إليها العبد ، أو ليراجع العبد نفسه  في طريق رحلته  إلى الآخرة أو الدنيا ، وإذا كان لكل سبب نتيجة ، فكل نتيجة هي سبب للنتيجة التي يليها. وهكذا إلى أن نصل إلى آخر نتيجة .   
وهناك مجموعة من المقومات  المهمة  تساعد على  تكوين وتنمية ملكة
[2] فقه تسلسل الأسباب والنتائج ، ويمكن تلخيص أهمها ، وهي كالتالي :

المقوم الأول : تدبر الأسباب والنتائج .
 
التدبر له شأن عظيم ، وأدواته أربعة : ( العقل ، القلب ، السمع ، البصر )  ، وتكون فاعليته   بتدبر العلاقة بين الأسباب والنتائج ، مثل قوله سبحانه :
 ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ))
[3] .
وسيتضح أكثر عند شرح المقوم الثاني  .


المقوم الثاني  : معرفة العلاقة   

تعد معرفة العلاقة من الأمور المهمة لتكوين وتنميه  هذه الملكة ،  فمثلا : إذا نظرنا إلى الآية السابقة ، لوجدنا العلاقة :  أن الزيغ عن الحق كان سببا لإزاغة قلوبهم .


المقوم الثالث  :  التحليل بعين البصيرة

1)
إذا حصل التدبر ، وعُرِفَت العلاقة التسلسلية بين السبب والنتيجة ، سهل  على العبد - بإذن الله - الربط بين تسلسل الأحداث  وتحليلها ، وصارت الرؤية واضحة من جميع الزوايا ، بشكل دقيق من غير خلط ولا لبس . وتقوى بصيرة  العبد  وفراسته وصحة غلبة ظنه .
2)
مما لا شك فيه أن هناك علاقة بين الآيات وخواتمها ، فمثلا :  نجد أن المولى سبحانه ختم  الآية السابق ذكرها ، بقوله : (( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )) .
فإذا نظرنا إلى الآية كلها  -  دون النظر للنصوص الأخرى -  نرى   أن  للزيغ
[4]  نتيجة أخرى غير مباشرة  ؛ وخرجنا  بصورة واضحة لتحليل الموقف العام لأثر الزيغ ، وهي أن عدم حصول  هداية التوفيق[5] من الله للقوم الفاسقين ، إلا أن يشاء الله غير ذلك -  فكيف إذا كان مع الزيغ من الذنوب ما الله بها عليم !!.
3)
وللتدريب على ذلك ينظر مثلا إلى الآيات التي ذكر فيها المولى سبحانه  بأنه لا يهدي : ((الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ، الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ  ، كَيْدَ الْخَائِنِينَ ،  مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ، مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ )) .ثم فليتدرج في تنمية هذه المَلَكة .

المقوم الرابع  : الاستنتاج والتوقع 

تعد هذه الخطوة من المراحل المتقدمة لثمار تنمية ملكة فقه الأسباب والنتائج ، فإذا تحققت المقومات  السابقة ، سهل على العبد -  بإذن الله - الاستنتاج والتوقع لسير الأمور  مستقبلا ، فمثلا قد يتوقع قبطان سفينة ؛ أنه إذا أبحر بسفينته في ظروف معينة أن تتعرض سفينته للغرق أو لمشاكل هو في غنى عنها . بينما قد يبحر آخر في ظل نفس الظروف فيهلك  ، جهلا منه  باستقراء الواقع بشكل جيد . وبالتالي خطأ في الاستنتاج والتوقع .


المقوم الخامس : معرفة  سنن المولى سبحانه في خلقه

1)
إن من أخطر الأمور عدم معرفة سنن الله في خلقه ، فقد يقع الاستدراج للعبد  من حيث لا يشعر العبد  ، فإذا كانت رحمة المولى سبحانه قد سبقت عذابه ، ويعفو عن كثير ، إلا أنه له سنن لا تتبــــــــدل ولا تتحول .
قال سبحانه : (( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ))
[6]
2)
هناك سنن عامة وخاصة - يطول شرحها - كسنة الاختلاف[7] والتدافع [8] والتمكين[9]  ، وسنن خاصة مثل سنن المولى سبحانه مع المتقين[10] ، والمعرضين[11] ، ومخالفة الشِرعة والمنهاج [12]،  وغيرها كثير .
3) فإذا عرف العبد هذه السنن ، أستطاع العبد تمييز كثير من الأمور المتشابهة من حيث المعنى ، وحفظه الله من التأويل غير الصائغ للنصوص والقياس الفاسد  ومعرفة الفرق بين الابتلاء والعقوبة ، والشجاعة والتهور ، والجبن والحذر  ، والخلاف والاختلاف ، ومعرفة أسباب عدم التمكين ، ومعرفة نتائج مخالفة المنهاج الرباني ، وعرف علامات الحقائق ، وغيرها من الأمور الكثيرة التي هلك عندها كثير من  الناس فضلا عن كثير من  طلبة العلم .  

المسألة الثانية : ثمار تنمية ملكة فقه الأسباب والنتائج

تم التطرق في المسائل السابقة  إلى بعض منها ، لذا فلا حاجة للتكرار حتى لا يطول المقام ؛ ولكن بالإمكان إضافة ثمار أخرى . أما الآثار السلبية للعزوف عن تلك التنمية ، فيمكن معرفتها من خلال معرفة الأضداد  ، فالليل يعرف من  بالنهار . ويمن تلخيص تلك الثمار بعدة أشياء
أهما :
1)
  تشخيص أي ظاهرة أو سلوك تشخيصاً دقيقاً ؛ حيث لا يمكن تصور الوصول لعلاج دقيق ، من  غير تشخيص دقيق قد سبقه ومبني على أسس علمية وعملية صحيحة   .
2)
  تطوير وتنمية الذات والقدرات والمهارات الفردية لنفسه أو لغيره  .
3)
  وضع التصورات والمقترحات والتوصيات والحلول العملية والعلمية ، سواء كانت عاجلة أو مرحلية أو إستراتيجية ، بجهد أيسر وزمن أقصر.
4)
  معرفة من أين جاء العقاب وأن تأخرت العقوبة ، وستأتي معنا قصة ابن سيرين وابن الجلاء  .
5)
  معرفة مكامن القوة وتنميتها وتطويريها ومراقبتها ومتابعتها  . 6)  معرفة مكامن القصور والضعف والمعوقات والعراقيل  ووضع الحلول المناسبة لها لتجاوزها أو التقليل منها  .

المسألة الثالثة :  أمثلة ونماذج من السيرة النبوية  والواقع

 وفي هذه المسألة سوف يتم التطرق إلى بعض الأمثلة من السيرة النبوية والواقع بنوع من التفصيل لزيادة بيان أهمية تنمية هذه الملكة وأثرها الشرعي وغير الشرعي .


المثال الأول : حديث ويل للأعقاب من النار .

1)
  مما هو معلوم لدى طلبة العلم ، أن الجهل والخطأ هما عذران يُرفع بهما الإثم ، ومع ذلك إذا تأملنا حديث ((ويل للأعقاب من النار )) ؛  فسوف يبرز سؤال مهم يؤكد أهمية فهم العلاقة التسلسلية للأسباب والنتائج .
 
2)  فعن عبد الله بن عمرو قال رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضئوا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
 ((ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء))
[13].
3) السؤال:
 
لمــاذا لم يعذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ بسبب الجهل أو الخطأ بل توعدهم بذلك الوعيد ؟

4) الإجابـــــة
:
-
   السبب الأول :  كان الاستعجال في الوضوء  .
-
   النتيجة الأولى لهذا السبب كانت  في :   عدم إسباغ الوضوء .
-
   النتيجة السابقة – عدم إسباغ الوضوء - كانت سببا لنتيجة أخرى وتمثلت :   في قوله عليه الصلاة والسلام :(( ويل للأعقاب من النار )) .
5) التحليل
:
الرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى السبب الأول الذي نتج عنه عدم إسباغ الوضوء ، وهو العجلة ، فالمسلم مأمور أن يأتي الصلاة وعليه السكينة والوقار
[14] ، فمخالفة هذا الأمر نتج  عنه الاستعجال ؛ وهذا الاستعجال ، نتج عنه ترك واجب شرعي ؛  هو شرط لعمل آخر ، وهي الصلاة .
ومعلوم عند الفقهاء والأصوليين أن من ترك واجباً أو فعل محرماً جهلاً ؛ وكان سببه المباشر تقصير في مطلب شرعي كان بإمكانه أن يؤديه ؛ فلا يعذر ؛ ومثاله : رجل كان باستطاعته أن يتعلم الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها ولكنه لم يفعل
.

المثال الثاني  : التفريق بين الأسباب والأعراض  
رجل أصابه التهاب ميكروبي في اللوز  ، فنتج عنه ألم في حنجرته وحمى وفتور ،  وألم في سائر الجسم وغير ذلك ،  فإذا استعمل أدوية مسكنة فقط ، فالاحتمال أكبر أن يزيد مرضه إلا أن يشاء الله ، ولكن الطبيب الحاذق سوف يعالج السبب الحقيقي للمرض  وليس  نتائجه – أعراضه - ، وذلك بإعطائه مضادا حيويا مثلا ، ولا بأس بأدوية أخرى مساعدة


المثال الثالث : تشخيص خاطئ

ذات مرة قرأت مقالة  بعنوان (( الأسباب التي تؤدي إلى  الاكتئاب ))  ، وتم ذكر أسباب كثيرة ، نذكر بعضها تجنبا للإطالة . وكانت كالتالي :
1)
  مشاكل في العلاقات مع الآخرين .
 
2)  ضعف الصحة .
3)    الاعتناء بصحة شخص لفترات طويلة .
4)
 متاعب ومشاكل مادية.   
5)  
 مشاكل لها علاقة بالعمل .
 6)  
 نزاعات مازالت عالقة .
7)
 تراكم المشاكل لدرجة لا يستطيع معها الشخص أن يتحملها.

تحليل ومناقشات لتلك الأسباب
1)
إذا تأملنا هذه الأسباب ؛ لوجدناها أنها في الحقيقة نتائج لأسباب أخرى ، ومع ذلك سوف يتم  التعامل معها كأسباب - فَرَضا -  وليس كنتائج لبيان أهمية الفرق التفريق .
   فمثلا ما قيل عنه أنه من أسباب الاكتئاب،أي
(( مشاكل في العلاقات مع الآخرين)). في الحقيقة هو نتيجة لسبب  ، ولا بد له من سبب مباشر قبله ، فإذا عُرف هذا السبب الحقيقي على وجه الدقة ، استطعنا تحليل ومعالجة مشكلته ، فمثلا قد يكون  السبب الحقيقي ، قلة المخالطة ، أو قلة الخبرة ، أو تربية غير سوية ، فالاحتمالات كثيرة ويجب تصفيتها واحدة تلو واحدة ، إلى أن يتم الوصول إلى السبب الحقيقي ،  ليسهل معالجته فيما بعد ، بإذن الله . مع العلم أيضا أن هذه الاحتمالات أو الأسباب هي نتيجة لأسباب أخرى سبقتها ، حسب ما تقدم تأصيله في السابق .   

2)
وممكن يقاس على ذلك بقية الأسباب التي وردت . ومثل هذه  الأمور إذا اعتبرت على أنها من الأسباب وليس من النتائج ، زادت المريض رهقا ، وعملت على زيادة توهم المرض عند الأصحاء ثم تؤثر سلبا  على الجماعات والمجتمعات ، فرحمة بالأمة يا أمة محمد – صلى الله عليه وسلم - .

3)
ويبقى السؤال الأهم ما هو السبب الأول للاكتئاب ،  وغيرها من الأمراض النفسية التي شاعت في هذا العصر وعجز الشرق والغرب عن معالجتها  بشكل نوعي ؟؟ وإنما غالب علاجهم لتخفيف الأعراض وقد يستمر المريض بتعاطي الأدوية سنين عددا ، أو يمل منها فيتركها ويبقى مرضه  .

4)  المولى سبحانه وتعالى قد بيّن السبب والنتيجة في أكثر من نص ، وهنا  نذكر بعض النصوص ؛  لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ، ومن هذه النصوص : قوله تعالى :
-
 (( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ))[15]
-
(( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى )) [16]
-
  ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[17]  .

5)
قد يقول قائل :
 أن سببه تعقيدات الحياة والبيئة ....  .
 فسيقال له :
لماذا لم تصب هذه الأمراض النفسية  الصالحين قديما – ويمكن حديثا - ؟؟ وقد كانت ظروفهم أصعب من ظروف اليوم ،  فمنهم من عُذّب وسُجن ،  وغيرها من الأمور المعروفة لمن قرأ سيرتهم ، وكفانا قدوة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم
.

6)
 إذن فالقوة ليست في هذه الأمراض النفسية ـ بل قوتها بسبب ضعف الإيمان والإعراض  وغيرها من الأسباب ، وإلا فقد أخبر  المولى سحبانه  بسنة الابتلاء والتمحيص وغيرهما . فقال سبحانه :
[  وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ))  (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ]
[18]
والشاهد : أن هذه السنة  لازالت تصيب الصالحين إلى اليوم ، ومع ذلك لا يُرى فيهم تلك الأمراض النفسية التي صارت توصف بأنها عالمية وصارت عابرة للقارات .


7)
 ومما ينبغي التنبيه إليه ؛ أن الأمراض النفسية تختلف عن الأمراض العضوية وأثرها أخطر من الأمراض العضوية  ، وإن كان  بينهما قاسم مشترك من حيث سنة الابتلاء والعقوبة والتمحيص وغيرها ، ومع ذلك  فغالبا ما يتم التركيز من  الفقهاء  على ربط  الأمراض النفسية مع النصوص الشرعية[19]  كعقوبة أو نتيجة ، لأن  الأمراض النفسية غالبا ما ترتبط  بأعمال قلبية كعدم السكينة والطمأنينة والرضا وصلاح البال وغيرها ، وقد قال المولى سبحانه :  (( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )) [20] .

والشاهد من الآية ما تقدم بيانه ، حتى لا يعترض معترض فيقول   :
((  لماذا لا يجعل الفقهاء الأمراض العضوية كالأمراض النفسية فهي- أي الأمراض العضوية -  تصيب أيضا الصالح وغير الصالح ؟ ))  .
 ومن جملة الردود أيضا أنك تجد غالب المنتحرين هم من المرضى النفسيين . نسأل الله الشفاء لنا ولهم وجميع المسلمين . اللهم آمين .


8) فالخلاصة
:
لابد لكل المختصين البحث بشفافية وتجرد لله  وهدوء عن السبب الحقيقي لتلك الأدواء ، عسى بعدها أن يمن الله علينا بالشفاء
، فلا زال الغرب عاجزا عن علاج الأمراض النفسية .
 ومن المرضى النفسيين يستمر في تعاطي الأدوية طول عمره أو سنين عددا دون جدوى ،  سوى تخفيف بعض  الأعراض في قليل أو كثير من الأحيان ، مع ظهور أعراض جانبية كثيرة ومنها ما يكون شديدا  .. وللأسف أن  الطب النفسي لا يركز كثيرا على العلاقة مع الله كسبب رئيس  . فزادوا مرضاهم  رهقا . وإن حصل من بعضهم ، فغالب ما  يكون بشكل ثانوي وتبقى عمدتم العلاج السلوكي النفسي أو بالأدوية النفسية .  والله المستعان .


المسألة الرابعة :  لا يغرنّــك  تأخر عقوبة الذنب

تم في السابق الحديث عن السنن ، ولأن القصص لها وقْع خاص على القلب وبقية أدوات التدبر ، فسيتم ذكر قصتين مع بعض الفوائد  :


القصة الأولى : قصة إفلاس ابن سيرين – رحمه الله –

قال ابن سيرين
[21]–رحمه الله (( عيّرت رجلاً فقلت : يا مفلس ، فأفلست بعد أربعين سنة )) .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((  وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ ، وَمَا نَزَلَتْ بِي آفَةٌ وَلَا غَمٌّ وَلَا ضِيقُ صَدْرٍ إلَّا بِزَلَلٍ أَعْرِفُهُ حَتَّى يُمْكِنَنِي أَنْ أَقُولَ هَذَا بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلْتُ تَأْوِيلًا فِيهِ بُعْدٌ فَأَرَى الْعُقُوبَةَ. فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَرَقَّبَ جَزَاءَ الذَّنْبِ فَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي التَّوْبَةِ ))
[22]
وقال أيضا :

(( وقد تتأخر العقوبة وتأتي في آخر العمر، فيا طول التعثير مع كبر السن لذنوب كانت في الشباب!
فالحذر الحذر من عواقب الخطايا، والبدار البدار إلى محوها بالإنابة، فلها تأثيرات قبيحة، إن أسرعت، وإلا، اجتمعت وجاءت ))
[23]

القصة الثانية : قصة ابن الجلاء عندما نظر إلى أمرد

قال ابن الجلاء
[24] رحمه الله : ((  رآني شيخ لي وأنا أنظر إلى أمرد ! فقال : ما هذا ؟ لتجدن غبها .. فنسيت القرآن بعد أربعين سنة! )) .

بعض الفوائد من  القصتين :

1)
  تأمل كيف عرفوا سبب نتيجة العقوبة ، رغم مرور تلك العقود !!
2)
  كم منا يستطيع تحطيم الأصنام التي فيه ، والأمراض التي تنخر قلبه ، لينصح أمته بمثل هذه الشفافية . لكي تتعظ وتعتبر وتستفيد الأمة من قصته !!
3)
  ترى كم منا لو عاقب الله أحدا على ذنب يعترض على الله إما حالا أو قالا !!
4)
  من أعظم المصائب أن يُسلب العبد  معرفة سبب العقوبة ، أو يظن  أن هذه العقوبة أو تلك هي من الابتلاء ، فحينها تتراكم النكت السوداء ، ويكل الله العبد إلى نفسه ، ومن وكله إلى نفسه هلك ، إلا من تاب وعمل عملا صالحا .
5)
  يجب وزن الذنوب بالميزان الشرعي وليس بميزان ما تعارف عليه الناس أو النفس  ، فكم من ذنب تحسبه هينا وهو عند الله عظيم .

وفي الختام .. هذا ما يسر الله إذا استخرته والخير ما يسره الله ، وما خاب من استخار والحمد لله رب العالمين .

توقيع محب الاستخارة
(( اللهم هذه غاية قدرتي فأرني قدرتك واجعل أفئدة المسلمين تهوي إليها وأرني ثوابها في الدنيا والآخرة .. اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين )) .



-----------------------
[1] ) لمزيد من الفائدة ، ينظر : (( أصول مكاشفة النفس )) .[2]
 ) الملكة في الاصطلاح: (صفة راسخة في النفس) ، وبعبارة أخرى: (الهيئة الراسخة في النفس) ، حيث تحصل في النفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، يقال لها (كيفية) أو (حالة)، فإذا كانت تلك الهيئة سريعة الزوال سميت كيفية أو حالة، أما إذا تكررت تلك الهيئة ومارستها النفس حتى رسخت فيها، وصارت متعذرة الزوال، أصبحت ملكة: كملكة الحساب، وملكة اللغة، وملكة الكتابة وغير ذلك )) عن ( تكوين الملكة الفقهية 1/21) أ. د. محمد عثمان شبير .
[3] )((  سورة الصف ، آية : 5)) .
[4] ) الزيغ : الميل ، وتأتي في القران بمعنى الميل عن الحق بعد وصول الحجة .
[5] ) الهداية  نوعان : إرشاد وتوفيق ، فهداية الإرشاد قد تمت باكتمال الوحي ، وهداية التوفيق هي معونة المولى للعبد إلى العمل .
[6] ) سورة فاطر ،  آية : 34)) .
[7] ) مثل قوله تعالى : ((  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) ( سورة البقرة ، آية 207) .
[8] ) مثل قوله تعالى : ((  وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ )) ( سورة البقرة ، آية 152) .
[9] ) مثل قوله تعالى : (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))(سورة النور،آية 55) .
[10] ) مثل قوله تعالى : ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ،  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )) .( سورة الطلاق : آية  3،2 )  .
[11] ) مثل قوله تعالى : ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى )) ( سورة طه ،آية : 124) .
[12] ) مثل قوله تعالى : ((وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا )) ( سورة لمائدة ، آية :48) .
[13])  أخرجه البخاري  ومسلم وغيرهما .
[14] ) فعن عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ، أَخْبَرَهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَ جَلَبَةً، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا سَبَقَكُمْ فَأَتِمُّوا». أخرجه مسلم .
[15] )  (( سورة الرعد ، آية  28))    .
[16] )   ((  سورة طه ، آية  124))    .
[17] )  ((  سورة النحل ، آية  97))    .
[18] )  ((  سورة البقرة )) .
[19] ) وللأسف أن كثيرا من المرضى النفسيين يتحسس من هذا الربط ، بل قد ينكره بشدة ، وكان الواجب أن يسأل أهل الذكر ، ليزول عنه الإشكال بإذن الله . وبعضهم قد يعترض بأنه يصلي ويصوم ، وكأن الدين مجرد صلاة وصيام ، وليس عبودية كاملة شاملة لله وحدة . كما أمر ، وليس حسب ما تهوى أنفسنا .
[20] )  ((  سورة الرعد ، آية : 28))
[21] ) محمد بن سيرين ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه ومات في شوال 110هـ  ، ولم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من ابن سيرين ، وقال عوف الأعرابي  : (  كان ابن سيرين حسن العلم بالفرائض والقضاء والحساب ) ، وقال محمد بن جرير الطبري  : ((  كان ابن سيرين فقيها ، عالما ، ورعا أديبا ، كثير الحديث ، صدوقا ، شهد له أهل العلم والفضل بذلك ، وهو حجة  )) وقال مهدي بن ميمون : (  رأيت محمد بن سيرين يحدث بأحاديث الناس ، وينشد الشعر ، ويضحك حتى يميل ، فإذا جاء بالحديث من المسند ، كلح وتقبض ) =  = وقال أشعث : (قال أشعث : كان ابن سيرين إذا سئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى تقول : كأنه ليس بالذي كان )) . واشتهر أبضا بتعبير الرؤيا .  عن سير أعلام النبلاء : (4/600) . للإمام الذهبي .
[22] ) (( صيد الخاطر / 1/315)) . أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) ، (( 1/472 )) (( الآداب الشرعية والمنح المرعية )) ((1/322)) . المؤلف  محمد بن مفلح المقدسي ، المتوفى ( 763هـــ )
[23] )  (( صيد الخاطر 1/ 215)) لابن الجوزي .
[24] ) قال الإمام الذهبي في ترجمته له : ((القدوة ، العارف ، شيخ الشام أبو عبد الله بن الجلاء ، أحمد بن يحيى ، وقيل : محمد بن يحيى .( وكان يقال))  : الجنيد ببغداد ، وابن الجلاء بالشام ، وأبو عثمان الحيري بنيسابور - يعني لا نظير لهم  (. توفي في (306هــ ) عن سير أعلام النبلاء (14/252) .

 


 

سند البيضاني
  • مقالات
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية