صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الاحتياط في مسألة الاختلاط

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد  

سمير بن خليل المالكي

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الاحتياط في مسألة الاختلاط


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على ســيد المرســلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد ، فقد اطلعت على المقال الصحفي المنشور في صحيفة عكاظ في العددين رقم 15810 ورقم 15811 والذي تقدم بهما الشيخ أحمد الغامدي رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة .
وقد أطال الشيخ في الاحتجاج على جواز الاختلاط بين الرجال والنساء ، وسرد عدداً من الأدلة على ذلك ، وهي أدلة صحيحة ، أكثرها مخرج في الصحيحين ، ولكنه أبعد النجعة في الاستدلال بها على ما هو أعظم خطراً من مسألة الاختلاط ، وهو جواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية ، وجواز مس المرأة الأجنبية للرجل وجواز الخلوة بها .
وهذه المسائل الثلاث ما كنت أظن أن أحداً يخفى عليه حكمها مع كثرة الأدلة على تحريمها ومنعها ، ، وظهور الفتنة المتحققة بإباحتها .
ولقد أشاد الشيخ أحمد الغامدي في مقاله بمقال الدكتور جاسم المشاري رئيس لجنة الفتوى بمنتدى السلفية في أوربا الذي نشر في جريدة الجزيرة بتأريخ 19 / 11 / 1430هـ وقال \" وكان تعليقه علمياً حقاً ومؤصلاً ندر في شموله مثله ، لمن تناول الموضوع بنظرة وسطية بارعة وعبارة مختصرة قارعة \" .
ومقال الدكتور المشاري ، قد ذكر فيه أنه استفاده من بعض الباحثين ، ولم يسمِّ منهم إلا الشيخ القرضاوي .
فمقالة الشيخ الغامدي إذاً عبارة عن مجموعة أبحاث ومقالات لعدة باحثين ، منهم الدكتور المشاري أعاد الشيخ نشرها وأضاف إليها شيئاً يسيراً .

ما أراد هـــؤلاء ؟


لقد تأملت فيما جاء في تلك المقالات والبحوث من شبهات في مسألة الاختلاط ، وليس فيها جديد ، فالمسألة قديمة والجدال فيها قديم وعقيم ، فما رأينا من ثمرة لإثارة مثل تلك الشبهات إلا التشكيك بين الناس ، خاصة العوام .
ما الذي يضير هؤلاء أن يتمسك الناس بما عرفوه من الفضائل ، حتى لو فرض أنها ليســت واجبة ، كالحجاب ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء في الوظائف والتعليم وغير ذلك ؟ .
وهب أن الناس قد اعتادوا ، فطرة أو غيرة ، على منع نسائهم من الاختلاط بالرجال الأجانب في الميادين والمحافل ، ورأوا أن ذلك أزكى وأطهر لقلوبهم وقلوبهن ، وأبعد عن الفتنة ، فهل هناك أدنى مصلحة في تشكيك الناس والتشبيه عليهم ، بأن تلك العادات التي ألفوها و نشأوا عليها ، مخالفة لما كان عليه عصر النبوة والخلافة الراشدة ، حيث كان فيه الاختلاط سائداً ، كما يزعمون ، بين الرجال والنساء في كل الميادين ؟ .
هل يرى هؤلاء المشككون أن في الاختلاط فضيلة وقربة وتأسياً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف ، وأن في تركه معصية أو بدعة ، أو خلاف الأولى ؟.
وهل يرون أن في منع الاختلاط بين الرجال والنساء ، في التعليم وغيره ، ضعفاً وتخلفاً ، وأن الحضارات المدنية لا تبنى إلا على الاختلاط ؟ .
لو كان الأمر كما يزعم هؤلاء ، فلماذا ظلت الدول العربية التي سمحت بالاختلاط في كل المرافق والميادين ، ضعيفة متخلفة في سياستها واقتصادها كما هو حال مصر ولبنان ودول المغرب العربي وغيرها من البلدان ؟
وما حصل في مثل تلك الدول من تقدم يسير في بعض العلوم فليس سببه الاختلاط ، وهذا لا يحتاج إلى دليل أو برهان ، ولا ينبغي أن يختلف عليه اثنان .
والأمم الكافرة نفسها لم تنهض وتقوى حضارتها بسبب الاختلاط ، بل لأنها أخذت بأسباب القوة .

التأريخ الأســود يعيد نفســه


إن الدعوة إلى الاختلاط التي يتزعمها بعض المثقفين والصحفيين اليوم ، ومنهم المشاري والغامدي ، ليست وليدة اليوم ، بل هي دعوى قديمة ، سبقهم بها من هو أقدر منهم على المراء والجدل وأكثر جرأة في طرح الفكرة والتشبيه على العوام وإقناعهم بها ، فقد أوتوا حظاً وافراً من الفصاحة والبيان ، ولا تزال منهم نخالة منتشرة في بلاد الإسلام ، ممن أطلق عليهم لقب \" دعاة التغريب \" ، و \" دعاة تحرير المرأة \" ، وغيرهما من الألقاب .
وقد قيض الله لأولئك المستغربين من يرد عليهم ويجــادلهم ويدمغ باطلهم منذ أكثر من نصف قرن .

ليســـوا ســـواءً


وأحب أن أنبه إخواني القراء أن من تناول مسألة الاختلاط ، ليسوا على شاكلة واحدة ، فبعضهم من أولي العلم والفضل ، لكنه اشتبه عليه الأمر ، وبعضهم ربما تابع غيره ثقة منه بعلمه ، وبعضهم ربما يكون له مآرب أخرى أو أراد الصيد في الماء العكر .
وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ، فأرادوا بلوغ مناصب دنيوية أو إرضاء أصحاب الرئاسة والوجاهة ، ولهذا تجدهم يبالغون في المديح والإطراء إلى حد يمجه حتى المعنيون بذلك الإطراء ، فتجدهم يدبجون مقالاتهم بذلك المديح ، مع أن المسألة شرعية ، لا دخل لها بإنجازات فلان أو مناقب فلان .
وقد جاءت النصوص الصريحة في النهي عن التزكية والمبالغة في المدح ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أولى وأحق بكل كمال ومديح يليق بالبشر (( لا تطروني )) ! رواه البخاري [ 6 / 354 ] .
وسمع المقداد رضي الله عنه رجلاً يثني على عثمان رضي الله عنه ، فأخذ المقداد تراباً فحثا في وجهه وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب )) . رواه مسلم وغيره . جامع الأصول [ 11 / 52 ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سمــعه يثني على رجــل (( ويلك قطعت عــنق صاحبك .. )) الحديث . متفق عليه . جامع الأصول [ 11 / 51 ] .

قال ابن الأثير \" أي أهلكته بالإطراء والمدح الزائد .. \" .
فأين هؤلاء المداحون من هذا الهدي النبوي الكريم ؟ .

مصطلح الاختلاط


لا يوجد في النصوص نهي صريح عن اختلاط الرجال بالنساء ، وذلك لأن الاختلاط يختلف حكمه بحسب الحال ، ولكن وجدت عبارات سلفية في التحذير من الاختلاط والتنبيه على خطره ، خاصة في عبارات المتأخرين .
وليس العبرة بوجود المصطلح في النصوص الشرعية ، فهناك مصطلحات فقهية كثيرة حادثة ، لم يكن لها اسم في القرون الأولى ، ولم يمنع ذلك من إطلاقها وإدراجها في الأحكام التكليفية الخمسة ، التحريم والكراهة والإباحة والاستحباب والوجوب .
أو الأحكام الوضعية ، كالصحة والفساد .
وقد تختلف المصطلحات باختلاف العصور والبلدان ، والعبرة بالمقاصد والمعاني ، لا بالألفاظ والمباني .
ولعل فساد الاختلاط بين الرجال والنساء لم ينتشر في القرن الأول ، إلا في نطاق ضيق ، لكنه أخذ في الازدياد شيئاً فشيئاً في القرون التالية ، ومن ثم نبه العلماء عليه وحذروا منه ، وشددوا في سد الذرائع المفضية إلى الفتنة .
وممن أشار إلى فساد الاختلاط بين الرجال والنساء الإمام أبو بكر الطرطوشي وهو من علماء القرن السادس الهجري ( توفي سنة 520 هـ ) .
وقد نقل أبو شامة عنه إنكاره بدعة الاجتماع ليلة النصف من شعبان ، وذكر من منكراتها : اختلاط الرجال بالنساء . انظر الباعث [ ص 52 ] .
وكذا أنكر الطرطوشي اجتماع الناس ليلة الختم في قيام رمضان ، فقال \" وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان ، من اختلاط الرجال والنساء ومضامة أجسامهم ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريب .. \" إلى أن قال \" وحكت لنا امرأة أن رجلاً واقعها ، فما حال بينهما إلا الثياب ، وأمثال ذلك من الفسق واللغط ، فهذا فسوق ، فيفسق الذي يكون سبباً لاجتماعهم \".
إلى أن قال \" وأعظم من ذلك ما يوجد اليوم في هذا الختم من اختلاط الرجال والنساء وازدحامهم وتلاصق أجساد بعضهم ببعض ، حتى بلغني أن رجلاً ضم امرأة من خلفها .. \" الخ ما قاله . انظر الباعث [ ص 57 – 58 ] .
وذكر الطرطوشي أيضاً ، ما يفعله بعض الناس ليلة عرفة ، عند صعودهم جبل عرفات \" .. واختلاط الرجال بالنساء في ذلك صعوداً وهبوطاً .. \" الخ . انظر الباعث [ ص 153 ] .
قلت : وهذا كان في ذلك الزمان ، وفي تلك المواضع الفاضلة ، في المساجد والمشاعر ، وهم متلبسون بالعبادة ، فكيف بزماننا هذا ؟ .

الفتــنة بالنســاء


وقد شحنت مصنفات الفقه والتفسير وشروح الأحاديث بالتحذير من فتنة النساء ، وشدد العلماء في أمر النظر والخلوة ، وفي كل ما يدعو إلى إثارة الشهوة ، ولا يكاد يأتي ذكر شيء مما يتعلق بالنساء في حضرة الرجال ، إلا ويأتي التحذير من الفتنة بهن .
فهل يصح أن يخطـّأ كل أولئك الأئمة والعلماء مع اختلاف مذاهبهم وعصورهم ، أو يقال عنهم إنهم متشددون أو متنطعون ؟
ونصوص الكتاب والسنة فيها إشارة وتحذير إلى كل ما يؤدي إلى الفتنة بالنساء ، وهي ظاهرة لمن تدبرها .
وإليك بعض تلك النصوص باختصار :
1 – قال الله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ..} الآية [ النور 30 – 31 ] .
2 – وجاء في معنى الآية أحاديث كثيرة في الأمر بغض البصر ، وهي مشهورة .
قال ابن كثير \" ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً \" .
3 – قال الله تعالى { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً } . الأحزاب [ 32 ] .
وهذا أدب من الله تعالى أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهن أتقى النساء ، ونساء الأمة تبع لهن في هذا الأمر من باب أولى .
فنهاهن عن ترقيق الكلام عند مخاطبة الرجال ، حتى لا يطمع من في قلبه دغل .
قلت : هذا مع أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين ومحرمات عليهم على التأبيد ، وذلك العصر هو أتقى عصور التاريخ ، فكيف بزماننا هذا ؟
4 – قال الله تعالى { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } الآيــــــة ، الأحــزاب [ 33 ] .
قال ابن كثير \" أي الزمْـن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة ، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه ... \" .
وذكر ابن كثير من معاني قوله تعالى { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } \" قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية \" .
قلت : وسيأتي بعد قليل الكلام عن الإذن في خروجهن إلى المسجد كيف يكون .
5 – قال الله تعالى { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن} الآية . الأحزاب [ 52 ] .
قال القرطبي في تفسيره [ 14 / 227 ] \" في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتين فيها ، ويدخل في ذلك جميــع النســاء بالمعنى ، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها ، كما تقدم ، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة .. \" اهـ .
قلت : تأمل قوله \" وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة .. \" الخ . فإن هذه الأصول هي التي تمسك بها المانعون من الاختلاط ، وهي أدلة شرعية منصوص عليها في الكتاب والسنة ، أو مستنبطة منهما .
6 – حديث \" المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان \" . رواه الترمذي [ 1173 ] .
7 – حديث \" ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء \" . رواه البخاري [ 5096 ] ومسلم [ 2740 ] .
8 – حديث \" ... اتقوا الدنيا واتقوا النســاء ، فإن أول فتنــة بني إســرائيل كانت في النســاء \" رواه مسلم [ 2742 ] .
9 – حديث أبي أسيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق \" استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق ، عليكن بحافات الطريق \" .
قال : فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصــــوقها به . رواه أبوداود [ 5272 ] .
قلت : هذا الحديث سكت عليه أبوداود . وقد ذكر أئمة الحديث أن سكوت أبي داود على الحديث يعني أنه حسن عنده .
وسكت عليه أيضاً المنذري في مختصره . وانظر عون المعبود [ 14 / 191 ] .
وحسنه الألباني . انظر السلسلة الصحيحة [ 856 ] .
10 – حديث جابر \" إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان ، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله ، فإن ذلك يرد ما في نفسه \" رواه مسلم [ ح 1403 ] .
قال النووي في الشرح [ ص 870 ] \" قال العلماء : معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بها ، لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء ، والالتذاذ بنظرهن وما يتعلق بهن ، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له .
ويستنبط من هذا : أنه ينبغي لها أن لا تخرج بين الرجال إلا لضرورة ، وأنه ينبغي للرجال الغض عن ثيابها والإعراض عنها مطلقاً \" اهـ .
قلت : فمن وصفها النبي صلى الله عليه وســلم بمثل تلك الصــفات ، \" عــــورة \" و \" فتنــة \" و \" صورة شيطان \" ، هل يفهم منه إلا وجوب الاحتياط لها ، ومنها ، بالستر والمباعدة قدر الإمكان عن الاختلاط بالرجال ؟
11 – وأما عن خروجهن لأماكن العبادة ، كالمساجد ، فإنه قد قيد بقيود ، فهم منها الأئمة ، من الصحابة وغيرهم ، أنها متى ما فقدت ، أو ظن فقدها فإنهن يمنعن من حضور المساجد ، وشهود الأعياد ، ومن ذلك :
أ – جاء في حديث ابن عمر \" إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن \" متفق عليه . انظر جامع الأصول [ 11 / 198 ] .
بوب له البخاري بقوله \" باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس \" .
ب - وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته ، يمكث قليلا في مقامه ، حتى ينصرف النساء قبل الرجال .
رواه البخاري [ ح 866 ] والنسائي [ 3/67 ] وأبو داود [ ح 1040] من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت \" إن النساء كنّ إذا سلمن من المكتوبة قمن ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله ، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال \" .
وفي رواية \" قال : نرى – والله أعلم – أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال \" .
قلت : وفي معنى هذا الحديث أيضاً ، الحديث الآخر الذي رواه البــخاري [ 872 ] ومســــــــلم [ 645 ] وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها \" كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة ، لا يعرفهن أحد من الغلس \" . وانظر جـــــــامع الأصول [ 5/223] . وبوّب له البخاري بقــــــوله \" باب سرعة انصراف النساء من الصبح ، وقلة مقامهن في المسجد \" .
قال الحافظ في الفتح [ 2/351 ] \" قيّد بالصبح ، لأن طول التأخير فيه يفضي إلى الإسفار ، فناسب الإسراع بخلاف العشاء ، فإنه يفضي إلى زيادة الظلمة ، فلا يضر المكث \" ا هـ .
ج - وقد خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء باباً يدخلن منه إلى المسجد .
فقد روى أبو داود [ 571] في الصلاة . باب : التشديد في خروج النساء إلى المساجد . من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال \" لو تركنا هذا الباب للنساء \" ؟
قال نافع \" فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات \" .
وروى أبو داود أيضاً [ 464] باب : في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال .
من حديث نافع مولى ابن عمر قال \" كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى أن يُدخل المسجد من باب النساء \" .
د - ولهذا فقد رغبها الشارع في الصلاة في بيتها ، وجعل لها أجراً في ذلك أفضل من صلاتها في المسجد .
يدل عليه حديث ابن عــمر\" لا تمنعوا نساءكم المســاجد وبيــوتهن خيــر لــهن \" رواه أبــو داود [ 567] .
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده [ 6/371 ] من حديث أم حميد الساعدية ما يشهد لهذا حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني أحب الصلاة معك . قال \" قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خيــر لك من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي \" .
قال الراوي \" فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل \" ا هـ .
قال الحافظ في الفتح [ 2/350] بعد أن ذكر هذا الحديث وحسّن إسناده \" ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل ، تحقق الأمن فيه من الفتنة ، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة \" ا هـ .
قلت : وقد ذكر أكثر أهل العلم ، ومنهم الحنفية ، نـحو هذا الكلام ، وشددوا في خروج النساء إلى المساجد ، خاصة الشواب منهن .
قال الإمام النووي في المجموع [ 4/198] \" إن أرادت المرأة حضور المسجد للصلاة ، قال أصحابنا : إن كانت شابة أو كبيرة تشتهى ، كره لها ، وكره لزوجها ووليها تمكينها منه ، وإن كانت عجوزاً لا تشتهى ، لم يكره .. \" ثم ذكر أثر عائشة المتقدم \" لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء ... \" ا هـ .
وذكر النووي نحو ذلك أيضاً في شرح مسلم [ ص 369 ] وصرح فيه أن لا تكون \" مختلطة بالرجال \" .
وقال في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل [ 2/449] نقلاًُ عن القاضي عياض \" وشرط العلماء في خروجهن أن يكون بليل غير متزينات ولا متطيبات ، ولا مزاحمات للرجال ، ولا شابة مخشية الفتنة .
وفي معنى الطيب إظهار الزينة وحسن الحلي ، فإن كان شيء من ذلك ، وجب منعهن خوف الفتنة \" ا هـ .
وقال في الهداية ما نصه (( \" ويكره لهن حضور الجماعات \" ، يعني الشواب منهن ، لما فيه من خوف الفتنة ، \" ولا بأس للعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء \" ، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ... ))
قال في فتح القدير في التعليق على قوله \" يعني الشواب منهن \" (( واعلم أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال \" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله \" وقوله \" إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها \" ، والعلماء خصوه بأمور منصوص عليها ومقيسة . فمن الأول ( أي : المنصوص عليها ) : ما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال \" أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء \" .
وكونه ليلا ، في بعض الطرق في مسلم \" لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل\" .
والثاني ( أي : الأمور المقيسة ) : حسن الملابس ومزاحمة الرجال ، لأن إخراج الطيب لتحريكه الداعية ، فلما فقد الآن منهن هذا ، لأنهن يتكلفن للخروج ما لم يكنّ عليه في المــنزل ، منعن مطلقا .. )) إلى آخر ما جاء في كلامه [ 1/317 ] .
قلت : هذا ما يخص خروجها للمساجد ، وقد رأيت ما قاله العلماء ، ومنهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وهي أفقه نساء الأمة ، وأعلم بما يختص بهن من أحكام .
وقد جاء في صحيح مسلم \" باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال \" .
وذكر حديث أم عطية ، ثم ذكر النووي سبب الأمر باعتزال الحيّض المصلى ، فقال \" سببه الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة \" .
ثم ذكر النووي أن من السلف من منعهن شهود العيد مطلقاً ، وسمى منهم : عروة والقاسم ويحي الأنصاري ومالك وأبو يوسف .
قلت : قد رأيت عبارات الأئمة ، وتصريحهم بمنع \" الاختلاط \" ، \" ومزاحمة الرجال \" ، والأمر \" بمفارقة النساء للرجال \" وكلها عبارات تؤدي إلى معنى واحد . فإذا كان هذا فقه السلف في شهود النساء العيد ، وهو لا يحصل إلا مرتين في العام ، ووقته قصير ، صلاة وخطبة قد لا تتعدى النصف ساعة ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإخراج النساء إلى العيد ، حتى الحيّض ، مع أنهن لا يصلين ، لكن علل ذلك بقوله \" يشهدن الخير ودعوة المسلمين \" .
وقد جاءت الإشارة إلى أنهن كن بعيدات خلف صفوف الرجال في المصلى ، ولهذا لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبة العيد ، ظن أنه لم يسمع النساء ، فذهب إليهن فوعظهن وذكرهن والرواية متفق عليها . انظر جامع الأصول [ 6 / 134 ] .
ومع ذلك فقد وجد من السلف من منعهن خوف المفسدة والفتنة . فماذا يقال في خروجهن في هذا الزمان ، لا لعبادة ، ولا لوقت يسير ، بل لتقضي الساعات في حضرة الرجال ، وأي رجال هم رجال هذا الزمان ؟
فكيف إذا كان النساء والرجال كلهم في سن الشباب ، كما هو الحال في طلاب وطالبات المعاهد والجامعات ، وأكثرهم عزاب ؟ .
12 – وقد جاء في أحكام الحج ، وهو من العبادات التي يختلط فيها الرجال والنساء في المشاعر والطواف والسعي ، مما يخص المرأة في مسألة التلبية ، أنها لا ترفع صوتها بها كالرجال .
قال ابن قدامة \" قال ابن عبدالبر : أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها ، وإنما عليها أن تسمع نفسها .
وبهذا قال عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي . وروي عن سليمان بن يسار أنه قال : السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال .
وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ، ولهذا لايسن لها أذان ولا إقامة ، والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح \" . انظر المغني [ 5 / 160 ] .
13 – وجاء في الطواف أنها تستتر قدر الإمكان ، بأن تطوف ليلاً ومن وراء الرجال .
قال ابن قدامة \" ويستحب للمرأة الطواف ليلاً ، لأنه أستر لها وأقل للزحام ، فيمكنها أن تدنو من البيت وتستلم الحجر \" .
ثم ذكر ابن قدامة رواية عن عائشة أنها أرسلت إلى أصحاب المصابيح أن يطفئوها فأطفأوها ، فطافت في ستر أو حجاب . انظر المغني [ 5 / 161 ] .
وجاء في الصحيح من حديث ابن جريج عن عطاء أنه قال \" طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال . قلت كيف يخالطن الرجال ؟ قال : لم يكنّ يخالطن . كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم ، فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين . قالت انطلقي عنك ، وأبت .
قال عطاء \" يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال ، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن ، وأخرج الرجال \" رواه البخاري [ ح 1618 ] .
وبوب له بقوله \" باب طواف النساء مع الرجال \" .
قال الحافظ \" أي : هل يختلطن بهم ؟ أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط ؟ أو ينفردن ؟ .. \" . انظر الفتح [ 3 / 480 ] .
وهاهنا تصريح من الراوي بأنهن كن لا يخالطن الرجال أثناء الطواف ، بل كن يحتطن بأمرين :
الأول : الطواف من وراء الرجال معتزلات عنهم . وهذا ما يفيده فعل عائشة أم المؤمنين ، لأنها كانت تطوف \" حجرة عن الرجال \" أي معتزلة عنهم .
ويؤيده رواية البخاري التي بعدها [ ح 1619 ] حين قال النبي صــــلى الله عليه وســلم لأم ســلمة \" طوفي من وراء الناس \" .
قال الحافظ \" وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها \" .
الثاني : الطواف بالليل . وقد صرح به في الحديث بقوله \" متنكرات بالليل \" .
أي : مستترات بالليل .
وكن يحتطن أيضاً عند دخول الكعبة ، فينتظرن حتى يخرج الرجال . وهذا فعل أمهات المؤمنين ، في عصر النبوة والقرون المفضلة ، وفي أطهر بقعة ، وفي حال تلبس بالعبادة ، فكيف باختلاط الشابات بالشبان في مثل هذا الزمان ، في وضح النهار ، وهم ليسوا في عبادة ولا في مثل طهارة ذاك المكان ؟
هذا وقد ذهب بعض الأمراء وهو ابن هشام ، إلى منع طواف النساء مع الرجال ، زيادة في الاحتياط ، وقد جاء مصرحاً به في رواية البخاري هذه ، وذكر الحافظ رواية أخرى عن خالد القسري أيضاً في زمن عبدالملك بن مروان .
ولسنا مع ما ذهب إليه أولئك الأمراء ، لكننا نقول : إن هذا يدل على زيادة في الحرص على حرمات المسلمين وعلى منع الاختلاط حتى في الطواف ، وهو عبادة تختص بأشرف مكان وأطهره ، والنفوس السوية تأبى أن تحدث نفسها فيه بسوء .
هذا مع أن الطواف يصعب الفصل فيه بين الرجال والنساء إلا بمشقة ، خاصة مع كثرة الزحام وقت الحج ، إلا كما فعلت أمهات المؤمنين .
وكل ذلك منتفٍ في أماكن التعليم في المعاهد والجامعات ، لأنه بالإمكان أن يفصل بين الجنسين ، إما بإنشاء جامعات أخرى منفصلة ، أو بتخصيص أوقات للفتيات يدرسن فيها .
وقد رأينا نحو هذا التخصيص في بعض مدارس البنين عندنا ، وسمعنا عن مثله في بعض البلدان ، حيث يقسم الطلاب إلى فترتين صباحية ومسائية ، وذلك لقلة عدد المدارس .
فيمكن أن يصنع نفس الشيء في الجامعات إذا احتيج إلى ذلك ، وهو أولى وأسلم ، بلاشك ، من الاختلاط .

تنبـــيه


وسؤال الراوي لعطاء \" كيف يخالطن الرجال \" ؟ فيه أن علماء السلف كان متقرراً عندهم أن السلامة هي في مباعدة النساء عن الرجال ، حتى أثناء أداء العبادة ، فلهذا ســأل متعجباً ، فأجابه عطاء بنفي الاختلاط . ولم يقل له : أنت متشدد أو متنطع ، بل وافقه على ذلك ، وأجابه بما يسرُّه من فعل أم المؤمنين رضي الله عنها .
14 – وورد الاحتياط في مسألة الاختلاط أيضاً في الاعتكاف .
فقد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن معه في المسجد في رمضان وضربن أخبية ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( آلبر ترون بهن )) ؟ ثم ترك الاعتكاف ذلك الشهر ... الحديث . رواه البخاري [ 2033 ] ومســـــــلم [ 1183 ] .
ونقل الحافظ في الفتح أن الشافعي كره للنساء الاعتكاف في المسجد الذي تصلى فيه الجماعة قال الحافظ \" واحتج بحديث الباب فإنه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها ، لأنها تتعرض لكثرة من يراها .
وشرط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها , وفي رواية لهم أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها , وبه قال أحمد \" .
ثم قال الحافظ \" وفيه أن المسجد شرط للاعتكاف , لأن النساء شرع لهن الاحتجاب في البيوت , فلو لم يكن المسجد شرطا ما وقع ماذكر من الإذن والمنع , ولاكتفى لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن ..\"
إلى أن قال \" وفيه أن المرأة إذا اعتكفت في المسجد استحب لها أن تجعل لها مايسترها \" اهـ . باختصار . انظر الفتح ] 4/275- 277[ .
وقال ابن قدامة في المغني ]4 / 465[ \" وإذا اعتكفت المرأة في المسجد استحب لها أن تستتر بشيء , لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربت في المسجد , ولأن المسجد يحضره الرجال , وخير لهم وللنساء أن لا يرونهن ولا يرينهم \" اهـ .
15 – وفي اتباع الجنائز أيضاً ، وردت التفرقة بين الرجال والنساء ، سداً لذريعة الاختلاط .
ففي الصحيحين من حديث أم عطية رضي الله عنها أنها قالت \" نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزم علينا \" . البخاري [ ح 1278 ] ومسلم [ ح 938 ] .
ونقل الحافظ عن الزين بن المنير قوله \" فصل المصنف بين هذه الترجمة وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تشعر بالتفرقة بين النساء والرجال .. \" إلــى أن قال \" ومن ثم اختلف العلماء في ذلك \" .
قال الحافظ \" ولا يخفى أن محل النزاع إنما هو من حيث تؤمن المفسدة \" الفتح [ 3 / 145 ] . وبوب البخاري في صحيحه بقوله \" باب حمل الرجال الجنازة دون النساء \"
قال الحافظ \" لأن الجنازة لابد أن يشيعها الرجال ، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال فيفضي إلى الفتنة \" . الفتح [ 3 / 182 ] .
وقال الحافظ في موضع آخر ، في بيان حكم زيارة القبور \" واختلف في النساء ، فقيل : دخلن في عموم الإذن ، وهو قول الأكثر ، ومحله إذا أمنت الفتنة \" [ 3 / 148 ] .
16 – وورد ما يخص المرأة من المبالغة في الستر حتى وهي ميتة .
قال ابن قدامة \" ويستحب أن يترك فوق سرير المرأة شيء من الخشب أو الجريد ، مثل القبة ، يترك فوقه ثوب ليكون أستر لها \" المغني [ 3 / 484 ] .
وذكر في موضع آخر أيضاً أنه يستحب تغطية قبر المرأة ، وقال \" لأن المرأة عورة ، ولا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون \" . المغني [ 3 / 431 ] .
17 – وجاء نص في فصل النساء عن الرجال في تعليم العلم .
ففي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال \" قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفســك . فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن .. \" الحديث . رواه البخاري [ ح 101 ] وبوب له بقوله \" باب : هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم \" وأخرجه مسلم [ ح 2633 ] .
قال العيني في عمدة القاري [ 2 / 93 ] \" معناه أن الرجال يلازمونك كل الأيام ويسمعون العلم وأمور الدين ، ونحن نساء ضعفة لا نقدر على مزاحمتهم ، فاجعل لنا يوماً من الأيام نسمع العلم ونتعلم أمور الدين \" اهـ .
قلت : والأدلة في منع الاختلاط المفضي إلى المفسدة أو الفتنة ، وكلام أهل العلم في التحذير من ذلك ، أكثر من أن يحصر ، وأكتفي بما ذكرته هنا ، وسيأتي ذكر مزيد منه عند الرد على شبهات المخلـِّطـين .

كشــف الشــبهات


هذا وقد أورد المشاري وتبعه الغامدي بعض النصوص التي تبيح الاختلاط كما زعموا ، وهي على ثلاثة أقسام :
الأول : نصوص تدل على إباحة اختلاط الجنسين في الأماكن العامة ، كالأسواق والطرقات ونحوها ، وهذه لاخلاف في إباحتها إذا التزمت النساء بما أوجب الله عليهن من التســتر والحجاب ، ومثل هذه النصوص لا تنحصر بعدد .
الثاني : حوادث عين لا عموم لها ، إما لخصوصية ، وإما لوجود ضرورة أو حاجة ملحة ، اقتضت شيئاً من التقارب بين الرجل والمرأة . وهي لا عموم لها ، كإرداف الرجـــل لامرأة أجنبية ، مثلاً .
الثالث : نصوص مشتبهة ، تخالف النصوص المحكمة ، التي ورد فيها النهي عن الخلوة ، والسفر بغير محرم ، والتلاصق أو المباشرة ، ومنها المصافحة ، ومس بعض أعضاء الجسم ، وهذه لا ينبغي أن يختلف فيها ، ويجب أن يرد المتشابه منها إلى المحكم ، لا العكس .
والعجيب أن هؤلاء المخلـِّـطين اكتفوا بإيراد تلك النصوص واستنبطوا منها الأحكام ، دون الرجوع إلى أقوال علماء الإسلام ، ومنهم شراح الأحاديث ، ولهذا وقعوا في كثير من الأوهام ، وخلطوا بين الحق والباطل .
وسأسرد لك الآن ما جاء في مقالات الغامدي من شبهات ، والجواب عليها باختصار .


الشــبهة الأولــى
\" وضوء النساء مع الرجال الأجانب \"


استدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما \" كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً \" .
رواه البخاري [ ح 193 ] في باب \" وضوء الرجل مع امرأته وفضل وضوء المرأة \" .
قال المخلطون : وفيه جواز الاختلاط عموماً وأنه ليس من خصوصياته عليه السلام \" .
وذكروا شواهد له تدل على الاختلاط أيضاً ، ومنها حديث أم صبية الجهنية قالت \" اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد \" .
رواه أبو داود [ ح 78 ] في باب \" الوضوء بفضل وضوء المرأة \" .
قال الغامدي \" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه . وإسناده صحيح . وأم صبية الجهنية ليست من محارمه صلى الله عليه وسلم ، ففيه جواز الاختلاط ، وجواز وضوء الرجال مع غير محارمهم من النساء ، ولا يلزم منه رؤية مالا يجوزمن المرأة \" .
ثم ذكر الغامدي حديث ابن عمر ، واللفظ الذي أخرجه أبو داود \" كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ندلي فيه أيدينا \" .
ثم قال الغامدي \" والمعنى في هذه الألفاظ واحد ، وكلها تفيد جواز الاختلاط عموماً . وقد وجهه البعض بأن القصد هو وضوء الرجل وزوجه فقط ، وهو توجيه باطل ، يرده منطوق تلك الروايات التي تقطع بجواز الاختلاط عموماً \" انتهى كلامه .
قال سمير : ظن الغامدي وأضرابه أنهم أهل لطرح مثل هذه المسائل والخوض فيها واستنباط الأحكام منها ، وهم أقل من أن يفهموا المراد من تلك النصوص على وجهها ، دون الرجوع إلى أهل العلم المختصين .
وغاية ما تدل عليه هذه الروايات إباحة وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة . هذا الذي فهمه أهل العلم وبوبوا عليه أبواب الفقه في كتبهم . ولم يتعدوا إلى الفهم السقيم الذي فرح به المخلـَّـفون وظنوه دليلاً على الاختلاط المذموم .
وتعجب من قوله \" وجهه البعض \" ! تقليلاً من شأنهم ، ويكفي أن من هؤلاء \" البعض \" الإمام البخاري ، فقد بوب لهذا الحديث بقوله \" باب وضوء الرجل مع امرأته ، وفضل وضوء المرأة \".
وبوب له أبو داود بقوله \" باب الوضوء بفضل وضوء المرأة \" .
وذلك لأن في المسألة خلافاً ، لم يتنبه إليه الجاهلون ، وهو : هل يصح أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة أم إن استعمال المرأة للماء يمنع من ذلك .
قال ابن عبدالبــر \" في هذا الحديث دليل واضــح على إبطال قول من قال : لا يتوضأ بفضل المرأة .. \" . التمهيد [ 14 / 164 ] .
والمسألة مشهورة ، والخلاف فيها مشهور .
و لما كانت بعض ألفاظ الحديث قد يفهم منها \" البعض \" !! مثل ذلك الفهم السقيم ، وهو وضوء الرجال والنساء الأجانب ، فقد بادر العلماء إلى الجواب عنها حتى يـــزيلوا الإشــكال عن أولئــك \" البعض \" .
قال الحافظ في الفتح \" وحكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضئون جميعاً في موضع واحد ، هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة \" .
قال الحافظ \" وكأن هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب .. \" .
ثم قال الحافظ \" والأولى في الجواب أن يقال : لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب ، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم \" اهـ . انظر الفتح [ 1 / 300 ] .
وهذا الحديث ، ومثله حديث أم صبية الجهنية لو صح ما زعمه المستدل به من إباحة وضوء الرجال والنساء الأجانب ، فإنه يحمل على الخصوصية في ذاك الزمان ، أو على حال يقل فيه الماء ويخشى من فوات الوقت ، لا أنه كان على شكل الدوام .
هذا مع أن وقت الوضوء قصير ، فلا يصلح أن يستدل به على اختلاط يطول وقته ، كما في التعليم والوظائف .
ثم نقول لهؤلاء المتعالمين : أيسركم أن يفهم المسلمون ما فهمتموه من تلك النصوص المحتملة فيجتمع النساء والرجال أثناء الوضوء أو قضاء الحاجة , مثلاً ؟
و ما المصلحة في مثل هذا الاختلاط الذي لم تسمح به حتى الأمم الكافرة , فإنها خصصت للنساء أماكن منعزلة لاستعمال الماء وقضاء الحاجة ؟
ومع ذلك فإننا نقول : لو فرض أن الحاجة دعت إلى أن يتوضأ الرجال والنساء جميعاً , كما قد رأيناه في مواسم الحج , عند شدة الزحام , فربما خشي الرجال والنساء من خروج الوقت أو ذهاب الرفقة , فاجتمعوا لا عن قصد منهم لذلك الاجتماع , فتوضئوا في مكان واحد .
ففي مثل هذه الحال يغتفر مثل هذا الاختلاط , لكن لا يقتضي أن يفعل على شكل الدوام , وفي كل الأحوال .

الشــبهة الثــانية
\" الخلوة بالمرأة الأجنبية \"


واستدلوابحديث أنس بن مالك قال \" جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخلا بها , فقال : والله إنكم لأحب الناس إلي \" .
رواه البخاري [ 5234 ] في باب \" ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس \" .
ورواه مسلم [ 2509 ] .
قال الغامدي \" وفيه جواز الاختلاط , وجواز الخلوة بالمرأة عند الناس . وكل خلوة تنتفي فيها التهمة لا يتحقق فيها النهي , على الصحيح , وإنما المحرَّم منها ما تحققت فيه التهمة فقط \" انتهى كلامه .
قال سمير : وهذا من عجائب ما أتى به الشيخ , أصلحه الله , ويكفي أنه يعارض به الأحاديث الصحيحة المحكمة في تحريم الخلوة .
والحديث ليس فيه أنه خلا بها عن الناس , حتى يعارض به الأحـــاديث الأخـرى في تحـريم الخلوة , بل صرح البخاري بقوله \" .. عند الناس \" , ومعناه واضح , وهو أن الخلوة ليست مطلقة , بل مقيدة .
وأما الخلوة المطلقة , فهي محرمة , لا خلاف فيها .
قال الحافظ (( قوله \" باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس \" أي : لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم , بل بحيث لا يسمعون كلامهما , إذا كان بما يخافت به كالشيء الذي تستحيي المرأة من ذكره بين الناس )) .
إلى أن قال (( وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سراً لا يقدح في الدين عند أمن الفتنة , ولكن الأمر كما قالت عائشة \" و أيكم يملك إربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه \" ؟ )) اهـ . الفتح [ 9/333 ] .
وقال النووي [ ص 1515 ] \" هذه المرأة إما محرم له صلى الله عليه وسلم ، كأم سليم وأختها ، وإما المراد بالخلوة أنها سألته سؤالاً خفياً بحضرة ناس ، ولم تكن خلوة مطلقة ، وهي الخلوة المنهي عنها \" اهـ .
وللإمام النووي كلام آخر عن الخلوة في مواضع من شرح صحيح مسلم ، ومن ذلك :
1 – حديث \" أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت : يارسول الله إن لي إليك حاجة ، فقال : يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك . فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها \" رواه مسلم [ ح 2326 ] .
قال النووي [ ص 1432 ] \" أي : وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة ، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية ، فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها ، لكن لا يسمعون كلامهما \" اهـ .
2 – حديث \" لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم \" .
رواه مسلم [ ح 2171 ] .
قال النووي [ ص 1360 ] \" قال العلماء : إنما خص الثيب لكونها التي يدخل إليها غالباً ، وأما البكر فمصونة متصونة في العادة ، مجانبة للرجال أشد مجانبة ، فلم يحتج إلى ذكرها ، ولأنه من باب التنبيه ، لأنه إذا نهي عن الثيب التي يتساهل النــاس في الدخول عليها في العادة ، فالبكر أولى \" اهـ .
3 – حديث عقبة بن عامر \" إياكم والدخول على النساء ..\" . رواه البـــــــــخاري [ 9 / 290 ] و مسلم [ ح 2172 ] .
قال النووي [ ص 1360 ] \" في هذا الحديث ، والأحاديث بعده ، تحريم الخلوة بالأجنبية ، وإباحة الخلوة بمحارمها ، وهذان الأمران مجمع عليهما \" اهـ .
قال سمير : تأمل حكايته الإجماع على تحريم الخلوة بالأجنبية ، وقول الغامدي \" كل خلوة تنتفي فيها التهمة لا يتحقق فيها النهي على الصحيح \" !
ولم يخبرنا – حفظه الله ورعاه – الصحيح عند من ؟ هل عنده هو فقط ؟ أم عنده وعند الجاهلين من أمثاله ؟
والحاصل أن خلوة النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة الأنصــارية وغيرها ، لم تكن خلوة مطلقة ، كما تقدم .
ويؤيد ذلك حديث أنس \" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه ، فمـــر به رجل فدعاه ، فقال : يا فلان هذه زوجتي فلانة . فقال يا رسول الله من كنت أظن به فلم أكن أظن بك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من الإنسان مجــرى الدم \" رواه مسلم [ 2174 ] .
قال النووي [ ص 1361 ] \" فيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الإنسان ، وطلب السلامة ، والاعتذار بالأعذار الصحيحة .. \" .
ويؤيد ذلك أيضاً حديث صفية في الاعتكاف وفيه \" \" على رسلكما إنها صفية \" .
رواه البخاري [ 2038 ] ومسلم [ 2175 ] .
ولو كانت الخلوة المطلقة – عند عدم تحقق التهمة – مباحة لما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى التنبيه إلى أنها زوجته .
هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتقى الخلق ، والزمان أفضل الزمان ، فكيف بالله يبيح مثل هذا المتعالم الخلوة المطلقة في مثل هذا الزمان ؟ .

الشــبهة الثــالثـة
\" دخول الرجال الأجانب على النساء \"


واستدلوابحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما \" لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان \" رواه مسلم [ ح 2173 ] .
وأول الحديث له قصة ، وهي دخول نفر من بني هاشم على أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، فكره ذلك أبو بكر ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
قال النووي في الشرح [ ص 1361 ] \" ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية ، والمشهور عند أصحابنا تحريمه ، فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك \" .
قلت : استدل المخالف بهذا الحديث وأحاديث أخرى على جواز الاختلاط بين الرجال والنساء ، وسأسرد لك بعض الأحاديث التي ذكرها ، والجواب عليها .
1 – حديث عائشة في قصة الإفك ، وقوله صلى الله عليه وسلم \" .. ذكروا رجلاً ما كان يدخل على أهلي إلا معي .. \" .
قلت : الحديث مشهور ، رواه البخاري [ 4750 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم عن صفوان بن المعطل \" ما كان يدخل على أهلي إلا معي \" . كان ذلك الأمر قبل نزول الحجاب ، لأن حادثة الإفك وقعت بعده بقليل . انظر الفتح [ 8/463 ] .
ومن تأمل قصة الإفك سيجد فيها ما ينقض ما استدل به المخلـِّـطون ، ومن ذلك :
أ – أن النساء كنّ يستترن عن الرجال بركوبهن وحدهن في الهودج . مبالغة في الستر ، وأشار إلى ذلك الحافظ في الفتح .
ب – أن صفوان حين رأى عائشة استرجع ، وكانت نائمة ، قالت \" فاستيقظت باسترجاعه فخمرت وجهي بجلبابي \" ، وهذا مع كونه كان يراها قبل الحجاب ، وهي أم المؤمنين أيضاً .
ج – وقالت عائشة \" والله ما كلمني كلمة \" . قال الحافظ \" مبالغة منه في الأدب .. \" .
د – أن صفوان حين أراد أن يُركب عائشة على ناقته أناخها ووطئ على يدها .
قال الحافظ (( أي ليكون أسهل لركوبها ، ولا يحتاج إلى مسها عند ركوبها . وفي حديث أبي هريرة \" فغطى وجهه عنها ، ثم أدنى بعيره منها \" )) .
2 – حديث فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال \" تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ، فإذا حللت فآذنيني \" رواه مسلم [ ح 1480 ] .
قال النووي [ ص 937 ] \" ومعنى هذا الحديث : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون أم شريك ويكثرون التردد إليها لصلاحها ..\" .
3 – حديث سهل بن سعد \" كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة ، فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في قدر ، وتكركر حبات من شعير ، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا ونسلم عليها ، فتقدمه إلينا .. \" رواه البخاري [ 6248 ]
بوب لهذا الحديث البخاري بقوله \" باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال \" .
وذكر الحافظ في الشرح الاختلاف في جوازه ، وقــال \" والــمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة \" .
إلى أن قال \" قال ابن بطال عن المهلب : سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة ، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سداً للذريعة ، ومنع منه ربيعة مطلقاً .. \" انظر الفتح [ 11 / 34 ] .
قال سمير : والقصة المذكورة صرح فيها سهل بن سعد أن المرأة كانت عجوزاً .
وتقدم قول النووي في دخول الصحابة على أم شريك ، أنها كانت امرأة صالحة .
ويقال في كل ما أورده المخالف من دخول الرجال على النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن ذلك كان من غير خلوة ، وكانت النساء من الصالحات أو العجائز ، ولم يكن يدخل شاب على شابة ويخلو بها في بيت ولا في غيره .
فأين هذا مما يدعو إليه أولئك المخلـِّـطون ، من إباحة اختلاط الشباب بالشابات في كل مكان في مثل هذا الزمان ؟
والعجيب في استدلال المخالفين بحديث فاطمة بنت قيس على الاختلاط ، دون التنـبُّه إلى احتياط النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة ، حيث منعها من الاعتداد عند أم شريك ، وعلل ذلك بخوف أن يقع نظرهم على ما تكرهه ، وأمرها أن تعتد عند ابن أم مكتوم ، لأنه أعمى .
والقوم عكسوا الأمر ، فاستدلوا بالحديث على الاختلاط بدلاً من أن يستدلوا به على الاحتياط من الفتنة والنظر إلى المرأة الشابة .
4 – واستدلوا أيضاً بحديث عائشة قالت \" لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وعــــــك أبو بكر وبلال . قالت : فدخلت عليهما فقلت : يا أبت كيف تجــدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ .. \" الحديث .
رواه البخاري [ ح 5654 ] في باب \" عيادة النساء الرجال \" .
قال الحافظ \" أي ولو كانوا أجانب ، بالشرط المعتبر \" .
ثم قال \" وقد اعترض عليه بأن ذلك قبل الحجاب قطعاً . وقد تقدم في بعض طرقه \" وذلك قبل الحجاب \" ، وأجيب : بأن ذلك لا يضره فيما ترجم له من عيادة المرأة الرجل ، فإنه يجوز بشرط التستر ، والذي يجمع بين الأمرين ، ما قبل الحجــاب وما بعده ، الأمن من الفــتنة \" اهـ . الفــتح [ 10 / 117 – 118 ] .
قال سمير : أولاً : القصة كانت قبل الحجاب .
ثانياً : الزيارة كانت بحضور أبيها ، لأنها قالت : فدخلت عليهما ، ومقتضاه أن بــــلالاً كان مع أبي بكر ، ولم يكن منفرداً .
ثالثاً : هذه أم المؤمنين ، وذاك بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رابعاً : ذاك الزمان هو أطهر وأتقى من كل زمان .
ثم بعد ذلك تأمل قول الحافظ \" بالشرط المعتبر \" وقوله \" بشرط التستر \" وقوله \" الأمن من الفتنة \" .
فهل يصح أن يستدل بمثل هذه القصة على اختلاط تشوبه شوائب الفتن من كل جانب ؟
5 – و مما استدلوا به أيضاً حديث سهل بن سعد قال \" لما عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد .. \" الحديث .
رواه البخاري [ ح 5182 ] في باب \" قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس \" .
قال الحافظ \" في الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه ، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة ، ومراعاة ما يجب عليها من الستر \" الفتح [ 9 / 251 ] .
قال سمير : نبه الحافظ هنا أيضاً على شرط أمن الفتنة ومراعاة الستر ، ولاشك أن هذا الأمر كان متحققاً في ذلك الزمان أكثر من غيره ، والقصة ليس فيها أنها جلست مع الضيوف تخالطهم وتتحدث إليهم ، وغاية ما فيها أنها قامت بالخدمة عليهم ، وهذا يقتضي أن تكون أكثر الوقت مجانبة عنهم لتهيء لهم الطعام وغيره .
ثم من هم أضيافها ؟ إنهم أفضل وأتقى ضيف ، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام .
فهل يصح أن يقاس على مثل هذه الحادثة ، الاختلاط الذي يحصل في كثير من الأماكن بين الرجال والنساء في زماننا هذا ، وهو اختلاط يفضي إلى مفاسد كثيرة يغلب على الظن وقوعها ؟
6 – واستدلوا أيضاً بحديث الربيع بنت معوذ في قصة زواجها ، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، وفيه قالت \" فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر ... \" الحديث . رواه البخاري [ ح 5147 ] .
قال الحافظ \" قال الكرماني : هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب ، أو كان قبل نزول آية الحجاب ، أو جاز النظر للحاجة أو عند الأمن من الفتنة اهـ . والأخير هو المعتمد \" .
ثم قال الحافظ \" والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها ، وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية \" اهـ .
الفتح [ 9 / 203 ] .
قال سمير : وقولها في الحديث \" جويريات \" بالتصغير ، يدل على صغر سـنهن .
وسيأتي الكلام على قصة أم حرام في الرد على الشبهة التالية .

الشبــهة الــرابعــة
\" مس المرأة للرجل الأجنبي \"


استدلوا بحديث أنس في دخول النبي صلى الله عليه وسلم على أم حرام ، ونومه عندها ، وتفليتها شعر النبي صلى الله عليه وسلم .
رواه البخاري [ ح 6282 ] ومسلم [ 1912 ] .
ومثله حديث أنس في دخول النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم أخت أم حرام ، و نومه عندها . انظر صحيح البخاري [ ح 6281 ] .
وقد تقدم جواب الحافظ عن هذا بقوله \" والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنــظر إلــيها ، وهو الجــواب الصحيح عن قصـــة أم حرام .. \" الخ . الفتح [ 9 / 203 ] .
وقد أجاب الأئمة على هذه الشبهة بأجوبة أخرى ، ذكرها الحافظ في الفتح ، فقـــال \" قــــــــــــال ابن عبدالبر : أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أختها أم سليم ، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة ، فلذلك كان ينام عندها وتنال منه ما يجوز للمحرم أن ينال من محارمه .. \"
و ذكر الحافظ أن ابن وهب وابن الجوهري والداودي والمهلب ذهبوا إلى أنها كانت من محارمه.
ونقل قولاً آخر حكاه ابن العربي وهو \" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً يملك إربه عن زوجته ، فكيف عن غيرها ، مما هو المنزه عنه ، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقول رفث ، فيكون ذلك من خصائصه \" .
ثم ذكر الحافظ أن الدمياطي اعترض على ما ذكر من المحرمية ، واستدل بحديث صريح صحيح في ذلك ، وهو حديث أنس \" كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه ، إلا أم سليم ، فإنه كان يدخل عليها ، فقيل له في ذلك ، فقال إني أرحمها ، قتل أخوها معي \" . رواه البخاري [ 2844 ] ومسلم [ 2455 ] .
فهذا صريح في أن دخوله صلى الله عليه وسلم على أم سليم لم يكن لمحرمية بينهما ، وإنما لأمر آخر .
وقال الحافظ \" وجه الجمع بين ما أفهمه هذا الحصر ، وبين ما دل عليه حديث الباب في أم حرام ، أنهما أختان كانتا في دار واحدة ، كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار ، وحرام بن ملحان أخوهما معاً ، فالعلة مشتركة فيهما \" .
وقال النووي في شرح الحديث الآخر [ ص 1492 ] \" قد قدمنا في كتاب الجهاد ، عند ذكر أم حرام أخت أم سليم ، أنهما كانتا خالتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم محرمين ، إما من الرضاع ، وإما من النسب ، فتحل له الخلوة بهما ، وكان يدخل عليهما خاصة لا يدخل على غيرهما من النساء إلا أزواجه \" .
ثم قال النووي \" قال العلماء : ففيه جواز دخول المحرم على محرمه ، وفيه إشارة إلى منع دخول الرجل إلى الأجنبية ، وإن كان صالحاً ، وقد تقدمت الأحاديث الصحيحة المشهورة في تحريم الخلوة بالأجنبية \" اهـ .
قال سمير : قوله في الحديث \" فقيل له في ذلك \" أي : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك العمل الذي تقرر عند الأمة تحريمه ومنعه ، وهو الدخول على النساء والخلوة بهن ، فأجاب بما أجاب به .
ومن هنا يعلم أن هذه حادثة خاصة لا عموم لها ، سواء ثبتت المحرمية أم لم تثبت .
وقد استنبط العلماء من هذا الحديث منع الخلوة بالأجنبية ، كما ذكره النووي ، ولو كان الرجل صالحاً ، وإلا لما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على السؤال .
ونحو ذلك ما ذكر عن أبي موسى الأشعري ، حين دخل على امرأة من نساء بني قيس ففلـّـت رأسه . رواه البخاري [ 3 / 416 ] ومسلم [ 1221 ] .
قال النووي [ ص 780 ] \" هذا محمول على أن هذه المرأة كانت محرماً له \" .
وحسبنا من كل ما ذكر أن نقول : إن النصوص المحكمة صريحة في النهي عن الدخول على النساء والخلوة بهن .
وهذا الحديث ونحوه يحتمل أكثر من احتمال ، وأجاب عنه الأئمة بما ذكرته لك ، ولولا أنهم فهموا أن هذا معارض لتلك المحكمات ، لما تكلفوا الجواب عليه ، ولا يصح أن يترك المحكم ويؤخذ بالمتشابه ، فإن هذا فعل أهل الزيغ والفتنة كما في الآية { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } .
والمتشابه ليس خاصاً بالآيات ، بل الأحاديث أيضاً فيها نصوص متشابهات .
وأما تفلية الرأس ، فهذا أشد من الخلوة ، لأن فيها مخالطة أكثر ومماسة كما لا يخفى ، والفتنة بهذا أشد من مجرد النظر والخلوة ، وقد حرمت النصوص الأمرين ، فتحريم هذا من باب أولى .
ولهذا لم يفهم أحد من العلماء من قبل جواز مس المرأة لشيء من أعضاء الرجل الأجنبي ، بل صرحوا بتحريم ذلك .
ومن عجيب ما قاله الغامدي ، بعد أن ذكر قصة أم حرام ، \" وفيه جواز فلي المرأة رأس الرجل ، ونحوه القص والحلق .. \" !!
قال سمير \" حسبك من شرٍّ سـماعه \" .
لا أدري من أين أتى بمثل هذا النوع من الفقه والاستنباط ؟
لم يكتف بإباحة الاختلاط المفسد ، ولا بإباحة الخلوة المتفق على تحريمها ومنعها ، بل تجاوز إلى إباحة القص والحلق الذي لم يجرؤ حتى \" دعاة التغريب \" على إباحته .
وأنا أجزم أن العوام أيضاً ، ينكرون مثل هذه الدعوى التي تأباها الفطرة السوية ، وتأباها العقول السليمة ، فضلاً عن أن تقرها الشريعة الإسلامية التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .
قال الإمام الشاطبي في الموافقات [ 3 / 85 ] في تقريره لقاعدة \" سد الذرائع \" \" وحرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية ، وأن تسافر مع غير ذي محرم .. \" .
ثم قال \" إلى غير ذلك مما هو ذريعة ، وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة .
والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحــزم والتحرز ممــا عسى أن يــكون طريقاً إلى المفســدة \" اهـ . باختصار .

الشــبهة الخامسـة
\" مصافحة النساء للرجال الأجانب \"


وهذه أيضاً من عجائب ما أورده المخالف في مقالاته ، حيث أورد عدة أحاديث زعم أنها تدل على جواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية .
فقد ذكر حديث أم عطية رضي الله عنها في مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء ، وجاء فيه قولها \" فقبضت امرأة يدها فقالت : أسعدتني فلانة ، أريد أن أجزيها .. \" الحديث .
رواه البخاري [ 4892 ] ومسلم [ 937 ] .
قال الغامدي (( وفيه ما يشير لمشروعية مصافحة النساء ، من قولها \" فقبضت امرأة يدها \" ، ولا صارف يصرف النص عن ظاهره ، فضلاً عما يشهد له من النصوص الأخرى .
فحديث أم عطية رضي الله عنها يفيد جواز ما هو أكثر من الاختلاط ، وهي المصافحة . وهذا لايعارضه ما روته عائشة رضي الله عنها بقولها \" ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة ، إلا امرأة يملكها \" .
فإن ذلك لا يؤخذ منه تحريم المصافحة ، لأنه ليس فيه إلا إخبار عائشة عما رأته ، وليس فيه نهي ولا نفي لما لم تره .
وقد روى ما يدل على مشروعية مصافحة المرأة غير عائشة رضي الله عنها ، ويشهد لصحة معناه أحاديث أخرى . وروي بنحوه عن فاطمة بنت عتبة رضي الله عنها ، ولفظه \" فكفَّ النبي صلى الله عليه وسلم يده وكـفـّت يدها \" .. )) اهـ .
قال سمير : يكفي في الرد على هذه الشبهة المتهافتة ، أنه لم يذكر دليلاً واحداً صريحاً في مصافحة أي امرأة لرجل أجنبي ، مع كثرة ما ورد في مصافحة الرجل للرجل ، من أحاديث وآثار .
وغاية ما أورده المخالف ، روايات محتملة ليست صريحة في المصافحة ، وفي حالة خاصة ، وهي المبايعة ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة .
فكيف استنبط من كل تلك الخصوصيات حكماً يعم كل الحالات ؟ كيف وقد صرحت الأحاديث بنفي مصافحة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم عند المبايعة ؟ مع أن المصافحة في تلك الحالة مؤكدة ، لكنها خاصة بالرجال ، ولو فرض أنها جائزة للنساء أيضاً ، لصرحت به الروايات ، ولو حصل هذا لكان حكماً خاصاً بحال البيعة على الإسلام .
فهل يصلح أن يستدل بمثل ذلك على إباحة مصافحة الرجال للنساء في كل الأحوال ؟
وحديث أم عطية الذي شغب به المخالفون ليس فيه تصريح بمصافحة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قالت فيه \" بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ علينا { أن لا يشركن بالله } ، ونهانا عن النياحة ، ، فقبضت امرأة يدها فقالت : أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها ، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ، فانطلقت ورجعت ، فبايعها \" .
فقولها هنا \" فقبضت يدها \" يحتمل المصافحة ، لكنه يحتمل أيضاً أموراً أخرى صرحت بها الروايات الأخرى .
وقد أقسمت الصديقة عائشة رضي الله عنها ، أم المؤمنين ، وأفقه نساء العالمين ، على نفي المصافحة أثناء البيعة ، فقالت في أثناء حديثها \" .. فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد بايعتك ، كلاماً ، ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ، ما يبايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك \" .
رواه البخاري [ 4891 ] ومسلم [ 1866 ] .
قال الحافظ ابن حجر (( وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية ، فعند ابن خزيمة ، وابن حبان .. عن أم عطية في قصة المبايعة قال \" فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ، ثم قال : اللهم اشهد \" .
وكذا الحديث الذي قالت فيه \" قبضت منا امرأة يدها \" ، فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن .
ويمكن الجواب عن الأول ، بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة ، وإن لم تقع مصافحة .
وعن الثاني : بأن المراد بقبض اليد التأخر عن القبول ، أو كانت المبايعة تقع بحائل ، فقد روى أبو داود في \" المراسيل \" عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده وقال \" لا أصافح النساء \" .
وعند عبدالرزاق من طريق إبراهيم النخعي مرسلاً نحوه .
وعند سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم كذلك .
وأخرج ابن إسحق في المغازي من رواية يونس بن بكير عنه عن أبان بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم \" كان يغمس يده في إناء ، وتغمس المرأة يدها فيه \" . ويحتمل التعدد .
وقد أخرج الطبراني أنه بايعهن بواسطة عمر .
وروى النسائي والطبري من طريق محمد بن المنكدر \" أن أميمة بنت رقيقة أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع ، فقلت يا رسول الله ابسط يدك نصافحك .
قال : إني لا أصافح النساء ، ولكن سآخذ عليكن ، فأخذ علينا حتى بلغ { ولا يعصينك في معروف } ، فقال : فيما طقتن واستطعتن ..
وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب .. )) .
اهـ . باختصار من فتح الباري [ 8 / 636 – 637 ] .

تنبيه

زعم الغامدي أن حديث أميمة ضعيف ، ولم يتنبه إلى أن الحافظ قد سكت عليه ، كما رأيت .
وقد صححه الألباني في صحيح النسائي [ ص 876 ] ، ويشهد له أحاديث أخرى ، ومنها حديث أسماء بنت يزيد ، الذي حسنه الحافظ ، كما سيأتي .
ولا ريب أن هذه الشواهد كلها تقطع بصحة الحديث .

* وذكر الحافظ في موضع آخر من الفتح [ 13 / 204 ] رواية صريحة عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \" إني لا أصافح النساء \" . وحسن الحافظ إسنادها .
وزعم الغامدي أن هذا الحديث إسناده ضعيف ، لضعف راويه شهر بن حوشب . وقد رأيت أن الحافظ حسن إسناده ، وهو أعلم من ألوف من مثل الغامدي . ثم إن شهر بن حوشب لم يتفق على تضعيفه ، بل هناك من حسن أحاديثه وقبلها ، انظر ترجمته في التهذيب [ 4 / 369 ] .
وقال النووي في شرح حديث عائشة [ ص 1203 ] \" فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف .. وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة ، وأن صوتها ليس بعورة ، وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة ، كتطبب وفصد وحجامة وقلع ضرس وكحل عين ونحوها ، مما لا توجد امرأة تفعله ، جاز للرجل الأجنبي فعله للضرورة \" اهـ .
وأطال ابن عبدالبر في التمهيد في سياق الروايات التي صرحت بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء ، ومنها رواية أميمة بنت رقيقة التي ذكرها الحافظ – كما تقدم – ثم قال ابن عبدالبر (( في قوله صلى الله عليه وسلم \" إني لا أصافح النساء \" ، دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له ، ولا يمسها بيده ، ولا يصافحها )) اهـ .
انظر التمهيد [ 12 / 235 – 248 ] .
قال سمير : والأمر كما رأيت ، ليس فيه ما شغب به المخالف ، ويكفينا قوله صلى الله عليه وسلم الصريح \" إني لا أصافح النساء \" ، وقد ثبت من طرق عديدة كما رأيت ، وأكدته أم المؤمنين عائشة بقسمها الذي لم تحنث فيه ، والذي نفت فيه مصافحته صلى الله عليه وسلم للنساء .
والروايات الأخرى ، وإن كانت مرسلة ، لكنها تشهد لها الروايات الصحيحة ، وفيها أنه بايعهن من وراء حائل ، من غير مماسة .
وقد رأيت أن حديث أم عطية ، ليس صريحاً في المصافحة والمماسة ، فليس فيه معارضة لما تقدم ، ولو فرض أنها صرحت فيه بالمصافحة والمماسة من غير حائل ، فإنه لا يصح أبداً أن يحكم به على الروايات الأخرى ، بل يعرض على القواعد الأصولية والحديثية التي نص عليها أهل العلم عند تعارض الأدلة .
وقد نصوا على أن الحديثين إذا تعارضا - ظاهراً – فإنه يصار – أولاً – إلى الجمع بينهما ، لأن العمل بالحديثين أولى من اطراح أحدهما .
فإن لم يمكن الجمع ، وعرف التأريخ ، فيصار إلى النسخ ، فيحكم بالمتأخر زمناً على المتقدم .
فإن لم يعرف التأريخ ، فيصار إلى الترجيح ، فإن لم يمكن فالتوقف . ( انظر نخبة الفكر للحافظ ابن حجر ) .
وذكروا من وجوه الترجيح أن تأتي نصوص أخرى توافق أحد الدليلين المتعارضين ، فيحكم له على الآخر بتلك الموافقة .
وقد جاء في قواعد الشريعة أنه \" إذا تعارض حاظر ومبيح ، قدم الحاظر \" .
وذكروا من القواعد أيضاً \" إذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال \" .
فلو أعملنا تلك القواعد في مسألتنا هنا ، لترجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء . ولو فرض أنه صافحهن في البيعة ، فإن ذلك يعتبر حكماً خاصاً به صلى الله عليه وسلم في حالة خاصة ، وهي البيعة ، لا يصلح أن يعم كل حالة .
* وعندنا نص صحيح صريح في المسألة ، وهو حديث \" كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى ..\" وفيه قال \" واليد زناها البطش \" رواه البخاري ومسلم .
انظر جامع الأصول [ 2 / 371 ] . وهذا لفظ مسلم .
وهو صريح في إطلاق اسم الزنا على مس المرأة الأجنبية . انظر شرح النووي [ ص 1573 ] . والمحكمات من النصوص تؤيد هذا أيضاً ، فقد جاء الأمر بغض البصر عن النســاء ، سداً للذريعة ، فكيف بما هو أشد من النظر وهو اللمس ؟
* وأمرت النساء بالقرار في البيوت ، ونهين عن التبرج ، وعن الخضوع بالقول عند مخاطبة الرجال الأجانب ، وكل ذلك سداً لذريعة الفساد والفتنة ، فكيف بما هو أشد من ذلك ، وهو ملامسة الأيدي عند المصافحة ؟
وقد أغرب المخالف في مقاله حين رد حديث عائشة بقوله \" فإن ذلك لا يؤخذ منه تحريم المصافحة ، لأنه ليس فيه إلا إخبار عائشة رضي الله عنها عما رأته ، وليس فيه نهي ولا نفي لما لم تره .
وقد روى ما يدل على مشروعية مصافحة المرأة غير عائشة رضي الله عنها ، ويشهد لصحة معناه أحاديث أخرى \" اهـ .
قال سمير : تحريم المصافحة لم يؤخذ من حديث عائشة ، بل من نصوص أخرى ، ومن قواعد الشريعة المتفق عليها ، ومعلوم – قطعاً – أن نصوص القرآن والسنة قد حرمت ما هو أقل من المصافحة ، فالمصافحة داخلة في تلك النصوص من باب أولى .
وهذا كما أن نصوص القرآن والسنة حرمت سب الوالدين ونصت على التأفيف { فلا تقل لهما أف } . فيدخل في عمومها كل ما فيه أذى وإهانة ، كالضرب ونحوه ، بل هو أولى بالتحريم كما لا يخفى .
فحديث عائشة ، حين نفت مصافحته صلى الله عليه وسلم للنساء ، لا تقصد منه بيان حكم المصافحة ، المقرر بالنصوص الأخرى ، وإنما قصدت نفي حصوله وقت البيعة ، فكأنها ترد على من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بهذا الحكم ، في حال بيعة النساء ، كما اختص عن سائر الأمة بأحكام أخرى .
وليس هذا النفي الوارد في حديث عائشة مثل نفي الأمور المباحة ، حتى يقال إنه لا دلالة فيه على النهي .
وأما قول المخالف \" وقد روى مشروعية مصافحة المرأة غير عائشة رضي الله عنها ..\" فهو محض افتراء ، وفيه جهل فاضح للمصطلحات الشرعية .
فالمشروعية لا تطلق إلا على الأمور التي جاء الأمر بها ، وحض عليها الشرع ، وجوباً أو استحباباً ، وأما الأمور الأخرى المباحة بحكم البراءة الأصلية ، فإنه لا يطلق عليها إلا الإباحة أو الجواز .
فيقال : يباح أكل الأرانب ، وركوب الدواب ، ولبس القميص ، ولا يقال \" يشرع \" .
وقد ورد الترغيب في المصافحة ، لكن العلماء خصوه بمصافحة المؤمن لأخيه المؤمن . قال الحافظ في الفتح \" قال ابن بطال : المصافحة حسنة عند عامة العلماء ، وقد استحبها مالك بعد كراهته ، وقال النووي : المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي .. \" وذكر بعض الأحاديث الواردة في استحبابها ، ثم قال \" ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن \" اهـ . [ 11 / 55 ] .
قال سمير : هذا وقد وردت أحاديث أخرى ، تؤيد ما تقرر في الشريعة من تحريم مس المرأة الأجنبية ، ومن ذلك :
* حديث معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم \" لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمسّ امرأة لا تحل له \" .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [ 4 / 329 ] \" رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح \" .
وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [ ح 226 ] .
ولا يلتفت لتضعيف الغامدي له ، فإنه ليس أهلاً للحكم على الأحاديث .
* حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \" إياك والخلوة بالنساء والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما ، ولأن يزحم رجل خنزيراً متلطخاً بطين أو حمأة ، خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له \" .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [ 4 / 329 ] \" رواه الطبراني ، وفيه علي بن يزيد الألهاني ، وهو ضعيف جداً ، وفيه توثيق \" .
وقد ترجم الذهبي لعلي بن يزيد في كتابه \" الميزان \" [ 3 / 161 ] ونقل أقوال من ضعفه ، ثم قال \" وعليٌّ في نفسه صالح \" .
قال سمير : وعلى فرض ضعف هذا الحديث ، وكذا الذي قبله ، فإن النصوص الأخرى تشهد له وتعضده .
وقد تساهل كثير من العلماء في أحاديث الترغيب والترهيب ، خاصة ما كان لها شواهد وأصول صحيحة ، وقالوا : إن الأحكام لم نأخذها من تلك الأحاديث الضعيفة ، وإنما أخذناها من النصوص الصحيحة ، وهذه الضعيفة إنما جاءت في الترغيب أو الترهيب ، فهي لم تؤسس حكماً جديداً .

الشـبهة السادسة
\" إرداف الرجل للمرأة الأجنبية \"


أورد المخلـِّـط هنا أيضاً شبهة , زعم أنها تؤيد ما ذهب إليه من إباحة الاختلاط المفسد .
فذكر حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما حيث قالت في حديث لها \" كنت أنقل النوى من أرض الزبير , التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم , على رأسي , وهي مني على ثلثي فرسخ , فجئت يوماً والنوى على رأسي , فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومعه نفر من الأنصار فدعاني , ثم قال : إخ إخ , ليحملني خلفه , فاستحييت أن أسير مع الرجال , وذكرت الزبير وغيرته , وكان أغير الناس , فعرف رسول الله صـلى الله عليـه وسـلم أني قد استحـييت فمضى , فجئت الزبير فقلت : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى , ومعه نفر من أصحابه , فأناخ لأركب , فاستحييت منه وعرفت غيرتك .
فقال : والله لحملك النوى كان أشد عليَّ من ركوبك معه .
قالت : حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس , فكأنما أعتقني )) . رواه البخاري [ 5224 ] ومسلم [ 2182 ] .
قال المخالف \" فيه جواز إرداف المرأة , وهو يفيد جواز ما هو أكثر من الاختلاط , كالإرداف والمصافحة ونحوهما , وهو على ملأ من الصحابة , ولم يخصص نفسه عليه السلام بذلك \" اهـ .
قال سمير : قد قدمنا مراراً أن مثل هذه الروايات المحتملة لا يصح أن يعارض بها النصوص المحكمة المتواترة ، التي سدت ذرائع المفسدة والفتنة ، وهذه القصة حادثة عين ، ولم تتكرر ، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أردف امرأة أجنبية خلفه ، بل ولا النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا في هذه القصة ، ولم يحصل الإرداف أيضاً ، فمن أين كل تلك الاستنباطات التي أتى بها هذا المتحاذق ؟
قال الحافظ في شرح هذا الحديث ، بعد أن ذكر قول أسماء \" ليحملني خلفه \" \" كأنها فهمت ذلك من قرينة الحال ، ، وإلا فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد أن يُركبها وما معها ، ويركب هو شيئاً آخر غير ذلك \" .
وقال الحافظ في شرح قول الزبير لأسماء ، لما أخبرته بالقصة ، \" والله لحملك النوى على رأسك كان أشد علي من ركوبك معه \" \" وجه المفاضلة التي أشار إليها الزبير : أن ركوبها مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ينشأ منه كبير أمر من الغيرة ، لأنها أخت امرأته ، فهي في تلك الحالة لا يحل له تزويجها أن لو كانت خلية من الزوج .. فما بقي إلا احتمال أن يقع لها من بعض الرجال مزاحمة بغير قصد ، وأن ينكشف منها حالة السير ما لا تريد انكشافه ، ونحو ذلك ، وهذا كله أخف مما تحقق من تبذلها بحمل النوى على رأسها من مكان بعيد .. \" .
ثم قال الحافظ بعد ذلك \" والذي يظهر أن القصة كانت قبل نزول الحجاب ومشروعيته \" اهـ . باختصار . انظر الفتح [ 9 / 323 – 324 ] .
قال سمير : فمع وجود تلك الاحتمالات ، ومنها أن القصة حدثت قبل الحجاب ، إضافة إلى الحال التي كانت عليها أسماء رضي الله عنها ، من المشقة والإعياء ، من مشيها مسافة طويلة ، وحملها النوى على رأسها ، مع كونها أيضاً أخت عائشة ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل يصح أن يستدل بها عاقل على جواز الاختلاط المفســد ، وجواز إرداف أي رجل لأي امرأة أجنبية ؟
ولماذا لم يتنبه لما جاء في القصة من تصريح أسماء \" فاستحييت أن أسير مع الرجال \" وتصريحها بشدة غيرة الزبير ، وصبرها على تجشم كل تلك المشقة الشديدة ، عوضاًً عن الارتداف خلف أتقى وأطهر خلق الله ، صلى الله عليه وسلم .
ونقول مع ذلك ، إنه لو فرض حصول مثل تلك الحالة التي كانت عليها أسماء ، واضطرت المرأة إلى الركوب مع رجل أجنبي ، أو تختلط مع عدد من الرجال ، فتلك حالة اضطرار ، لا يقاس عليها حال الاختيار .
وقال النووي في شرح الحديث [ ص 1365 ] \" فيه جواز إرداف المرأة التي ليست محرماً إذا وجدت في طريق قد أعيت ، لاسيما مع جماعة رجال صالحين . ولاشك في جواز مثل هذا .
وقال القاضي عياض : هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم ، بخلاف غيره ، فقد أمرنا بالمباعدة من أنفاس الرجال والنساء ، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم مباعدتهن ليقتدي به أمته .
قال : وإنما كانت هذه خصوصية له ، لكونها بنت أبي بكر ، وأخت عائشة ، وامرأة للزبير ، فكانت كإحدى أهله ونسائه ، مع ما خص به صلى الله عليه وسلم أنه أملك لإربه \" اهـ .
قال سمير : كلام القاضي عياض لا مزيد عليه ، وقد كفى وشفى ، وتأمل قوله \" فقد أمرنا بالمباعدة من أنفاس الرجال والنساء \" .

تنبيــهات لطيفــة
* أخرج البخاري حديث أسماء هذا في باب \" الغيرة \" لأن القصة مدارها على هذه الخصلة الحميدة ، وهي من خصال المؤمنين الصادقين . وفيها أيضاً التنبيه على ما كان عليه نساء المؤمنين من الحياء ، ومراعاة الأزواج في غيابهم ، وهو الذي منع أسماء من ركوبها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .
وهؤلاء المخالفون قد عكسوا القضية رأساً على عقب ، فبدلاً من أن يفهموا الأمر على وجهه ، ويأخذوا بما في القصة من العبرة ، بالتمسك بالحياء والغيرة على النساء ، جعلوها دليلاً على الاختلاط والتصاق الرجال بالنساء .
* وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الناس ، وكان أصحابه كذلك ، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر .
أقول هذا رداً على ما ذكره المخالف في مقاله حيث شنع على أهل الغيرة في منعهم الاختلاط المؤدي إلى الفساد ، واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم \" أتعجبون من غيرة سعد ، لأنا أغير منه ، والله أغير مني \" .
وهذا الحديث كثيراً ما يدندن حوله المرجفون ، ويظنون أنه دليل لهم على ترك الاحتياط في مسائل التبرج والخلوة والاختلاط .
والصواب أن هذا دليل عليهم لا لهم ، لأنه نص على أن الغيرة محمودة ، ولهذا كانت صفة من صفات الله تليق بجلاله وعظمته ، وكانت من أخلاق الأنبياء والصالحين من عبادالله وإمائه .
والإنكار على سعد بن عبادة ، لا من أجل غيرته الشديدة ، ولكن لأنه رأى أن يقتل من وجده مع أهله ، مع أن ذلك معارض لحد من حدود الله ، وفيه الإقدام على قتل من لا يستحق القتل .
فأين هذا من غيرة المؤمن على حرمات المسلمين ، حتى لو كان أصل الشيء مباحاً ، فإنه لا ينكر عليه غيرته ، إن منع منه سداً لذريعة الفتنة ، خاصة عند تغير الحال وكثرة الفساد في البلاد والعباد .
وقصة أسماء هنا فيها إشارة وتنبيه إلى حمد الغيرة ومراعاتها ، والاحتياط في مسألة الاختلاط .
* وقد ساق البخاري بعد قصة أسماء حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \" بينما أنا نائم رأيتني في الجنة ، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر ، فقلت لمن هذا ؟ قال : هذا لعمر ، فذكرت غيرته فوليت مدبراً . فبكى عمر ، ثم قال : أو عليك يا رسول الله أغار \"؟ .
[ ح 5227 ] .
ففي هذه القصة مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لغيرة عمر رضي الله عنه ، وفيها إقرار له عليها ، وفيها أيضاً أن الجنة ليس فيها اختلاط ، مع أنه أبيح فيها بعض ما حرم في الدنيا لكن بقي الاختلاط والنظر على المنع ، كما تدل عليه نصوص الكتاب والسنة .
ومنها قوله تعالى { قاصرات الطرف } وقوله { مقصورات في الخيام } .
* وقصة عمر في موافقة القرآن له على الحجاب مشهورة ، ونزول الآية كان بسبب قوله للنبي صلى الله عليه وسلم \" لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر \" . الحديث . رواه البخاري [ 402 ] .
* ولم يكتف عمر رضي الله عنه بذلك ، بل أراد المبالغة في حجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، حين رأى سودة بنت زمعة قد خرجت لحاجتها فقال \" يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين \" ، فلما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ، بعد أن نزل الوحي وقتها \" إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن \" . رواه البخاري [ 4795 ] .
فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم غيرته تلك ، وإنما ذكر الرخصة لهن في الخروج للحاجة .
* وفي حديث عائشة رضي الله عنها حين أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحج لتعتمر من التنعيم ، مع أخيها عبدالرحمن ، قالت \" فأردفني خلفه على جمل له ، قالت فجعلت أرفع خماري أحسره عن عنقي ، فيضرب رجلي بعلة الراحلة . قلت له : وهل ترى من أحد .. \" ؟ الحديث . انظر صحيح مسلم [ 1211 ] .
قال النووي [ 765 ] \" أي يضرب رجلي عامداً لها في صورة من يضرب الراحلة ، بسوط أو عصا أو نحو ذلك حين تكشف خمارها عن عنقها غــيرة عليها ، فتقول له هي : وهل ترى من أحد ؟ أي نحن في خلاء ليس هنا أجنبي أستتر منه \" اهـ .
قال سمير : قد اطلع الله عز وجل على ما صنعه عبدالرحمن مع أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك منكراً ، أو فيه مبالغة ، أو تجاوز، لما أقره على فعله . هذا وقد صرحت عائشة بخلو المكان من الرجال ، ومع ذلك فقد أبت غيرة عبدالرحمن رضي الله عنه أن تتساهل فيه .
والقصص في هذا الباب كثيرة ، وفيها دلالة واضحة على تغليب جانب الاحتياط بين الرجال والنساء ، وأن ذلك ليس من التشدد ولا من التنطع في الدين .

الشـبهة السابعة
\" مداواة النساء للرجال في الحرب \"

استدل المخالف بحديث الربيع بنت معوذ قالت \" كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة \" رواه البخاري [ 2883 ] .
قال المــخالف \" فيه جواز خــروج المرأة في الغزو لخدمة القوم ومداواتهم ورد الجرحى و القتلى \" اهـ .
قال الحافظ في الفتح [ 6 / 80 ] \" فيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة .
قال ابن بطال : و يختص ذلك بذوات المحارم ثم بالمتجالات منهن , لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه , بل يقشعر منه الجلد , فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة ولا مس .
و يدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت و لم توجد امرأة تغسلها , أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس , بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم , كالزهري , و في قول الأكثر تيمم , و قال الأوزاعي تدفن كما هي .
قال ابن المنير : الفرق بين حال المداواة و تغسيل الميت أن الغسل عبادة , و المداواة ضرورة , و الضرورات تبيح المحظورات \" اهـ .
وقد وردت أحاديث أخرى بنحو حديث الربيع , منها حديث أنس وحديث أم عطية و حديث ابن عباس , أخرجها مسلم في صحيحه .
قال النووي [ ص 1175 ] \" وهذه المداواة لمحارمهن و أزواجهن , وما كان منها لغيرهم لا يكون فيه مس بشرة إلا موضع الحاجة \" اهـ .

قال سمير : كان في المسلمين قلة في الرجال , وكانوا يحتاجون أن يخرج معهم النساء للخدمة والمداواة وسقاية الغزاة , ونحو ذلك , وكل تلك الأمور مما يعين على الجهاد و إعلاء كلمة الله , ولا يظن أن يكون هناك فتنة في مثل تلك الحال , ومع ذلك فقد رأى فقهاء الإسلام , أن تلك المداواة ينبغي أن يحتاط فيها , فلا تباشرها إلا ذوات المحارم مع محارمهن , كالزوج والأب والأخ ونحوهم , أو المتجالات مع الأجانب , للضرورة .
\" والمتجالة \" , هي المرأة التي أسنّت وكبرت . انظر لسان العرب [ 11/116 جلل ] .
فكيف يعقل أن يستدل بمثل هذا على مخالطة الفتيات للشبــاب أو مماستــهن لهم ، في التعليم وغيره ؟ .
وبعد ، فقد أتيت على أكثر ما أورده المخالف في مقالاته من شبهات ، وهي كما رأيت لا تصلح أن يستدل بها على الاختلاط الذي يدعو إليه المخلِّطون .
وقد نقلت لك كلام الأئمة ، مع اختلاف عصورهم ومذاهبهم ، ورأيت تشددهم في مسألة الاختلاط ، واحتياطهم في كل ما كان سبباً للفتنة بالنساء ، ورأيت تواطــأهم على لفظ \" خــوف الفتنة \" و \" إذا أمنت الفتنة \" و \" درءاً للمفسدة \" ونحوها من الألفاظ الدالة على الاحتياط الشديد في مسألة الاختلاط بين الرجال والنساء .
ولا ريب أن الزمان كلما تباعد عن عصر النبوة والخلافة الراشدة ، كان أبعد عن الخشية والتقوى ، وأكثر عرضة للفتنة ، لا يماري في هذه الحقيقة إلا مكابر أو مفتون .
 



ملخــص البحــث


وبعد فإني قد أطلت كثيراً في بحثي هذا ، وسألخص ما ذكرته ، حتى يجمع شتات ما جاء فيه من تقرير ومناظرة ، فأقول :

# الاختلاط كلمة مطلقة ، لايحكم بمنعه مطلقاً ، ولا بالإذن فيه مطلقاً ، حتى يتبين المراد منه ، وأين ومتى وكيف يكون الاختلاط ؟
والاختلاط ، بمعنى وجود الرجال والنساء في الأماكن العامة ، سواء للعبادة ، كالحج والصلاة ، أو لشئون الحياة والمعاش المعتادة ، كالطرقات والأسواق ونحو ذلك ، لا يماري في إباحته وجوازه أحد ، ولا يحتاج إلى الاستدلال عليه ، فإن أدلته لا تنحصر .
لكن هناك ضوابط شرعية لمثل هذا الاختلاط ، في العبادات والعادات ، منها ماهو منصوص عليه بعينه ، ومنها ما يدخل في المنصوص عليه ، بالعموم المعنوي ، لأنه في معناه ، أو هو أولى بالدخول فيه .

# وقد دلت النصوص المحكمة ، من الكتاب والسنة ، على أن المباعدة بين أنفاس الرجال والنساء مطلوبة ، وأن النفوس البشرية السوية قد جبلت على ميل كل جنس للآخر ، من الرجال والنساء ، ليس في ذلك أدنى شك أو مراء .
وهذه الشريعة الإسلامية السمحة ، صالحة لكل زمان ومكان ، وصالحة لكل إنسان ، ولهذا فإنها لم تحدد كثيراً من الأمور المعتادة ، رفعاً للحرج والمشقة عن الأمة ، لكنها نصت على القواعد العامة في مثل تلك العادات ، حتى يتبصر بها من أراد إصابة الحق وموافقة مقاصد الشرع .

# فخروج النساء ومشاركتهن في بعض الأعمال ، كالزراعة ورعاية الماشية ونحو ذلك ، مما اعتادت عليه بعض المجتمعات البدوية في كثير من البلدان ، وهو شبيه بما كان عليه الناس في قديم الزمان ، لا يصلح أن يقاس عليه خروج النساء في المدن واختلاطهن بالرجال في الجامعات وفي الوظائف ، فالاختلاف بين الحالين ظاهر لكل عاقل .

# والمفاسد المترتبة على اختلاط الجنسين في الحالة الأولى ( المجتمع البدوي ) ، أقل منها بكثير في الحالة الثانية ( المجتمع المدني ) .
والشريعة الإسلامية تضبط المصالح والمفاسد بالكثرة والغلبة ، فتحكم بموجبها على القــلة والندرة .
ولأن أكثر من يتكلم في مسائل الاختلاط والحجاب ، ويزعم أنه ينتصر فيها لجانب النساء ، لا علم لهم بقواعد الشريعة ، فيظنون أن العبرة بوجود النصوص في أي مسألة ، فمتى ما وقف على شيء من تلك النصوص ، فقد حصل المطلوب ، واستوى هو والفقيه في العلم بتلك المسألة .
وربما استدل على تلك المساواة بأن الله تعالى قد يسر هذا الدين لكل الناس ، وأنه خاطبهم بالأحكام على حد سواء ، فقال { يا أيها المؤمنون } وقال { يا أيها الناس } . ومن هنا يحصل الغلط والخلط في كثير من المسائل التي يتناولها كتاب الصحف ونحوهم من المثقفين ، ممن أوتوا حظاً من بعض العلوم ، لكنهم ليسوا أهلاً للخوض في كل مسائل الشريعة ، خاصة تلك المسائل المشتبهة .
نعم هناك يسر في فهم بعض النصوص في الأحكام العامة ، من الواجبات والنواهي والحدود .
فأحكام العبادات ، كالصلاة والصيام والحج ، والمعاملات ، كالنكاح والطلاق والبيع ، مما يحتاجه الناس ، يسهل فهم أصولها ، وتبقى الفروع مما يتفاضل الناس في فهمه وإدراكه .

# وتبقى مسائل الحلال والحرام , وفهم مقاصد الشرع , وتنزيل النصوص على الوقائع الــمعاصرة , وتنازع المصالح والمفاسد في كثير من تلك الوقائع , إلى غير ذلك , مما يشتبه على كثير من الناس , ويحتاج فيه إلى فهم الراسخين من أهل العلم , ليحكموا عليها بموجب القواعد الشرعية , ولا يصح أن يتكلم فيها غيرهم , لما ذكرته من أسباب .

# ونحن لا ندعي أن كل اختلاط نحتاط فيه يؤدي إلى الفساد حتماً , فهذا لا يصح إطلاقه على الأمور التي صرحت النصوص بتحريمها كالخلوة والسفر بغير محرم , فضلاً عن غيرها من الأمور المشتبهة .
لكننا رأينا بالاستقراء لأحوال الأمم الذين تساهلوا في الاختلاط , فوجدنا مفاسده طافحة , ولم نر ما يقابلها من المصالح المزعومة .

# والاختلاط في مراحل التعليم , كالجامعات مثلاً , ما هي المصالح المرجوة منه ؟ إن كانت اقتصادية ، بحيث توفِّرعلى الدول إنشاء جامعات مستقلة للبنات , فإن ذلك التوفير يمكن أن يتحصل عليه بغير الاختلاط , وهو أن تقسم الأوقات بين البنين والبنات .
وقد ذكرنا أن هذا التقسيم حاصل في بعض المدارس الحكومية بسبب قلة المدارس وكثرة الـطلاب .
وهناك طرق كثيرة وسبل متنوعة يمكن منها فصل الجنسين في التعليم , إذا وجدت النية الصادقة
والتخطيط السليم .
وإن زعموا أن في الاختلاط مصالح أخرى ، اجتماعية أو إنسانية ، فليأتوا عليها ببرهان إن كانوا صادقين .

# ومن أعجب ما يثرثر به دعاة الاختلاط ، تبعاً لإخوانهم من دعاة التغريب وتحرير المرأة ، زعمهم أن في دعوتهم نهضة للأمة ، لتلحق بركب الحضارة المدنية التي تتزعمها الأمم الكافرة ، وأنه لن يحصل للأمة تقدم ولا رفعة إلا بذلك ، وأن مخالفيهم من المشددين في أمر الاختلاط ، يريدون أن تبقى الأمة على ماهي عليه من الضعف والتخلف والذلة . ويستشهدون على ذلك بحال الأمم الكافرة اليوم .
ولا أظن عاقلاً ينخدع بمثل هذا الهراء ، ويكفي في الرد على تلك الشبهة أن يقال : كيف نهضت أمة الإسلام في عصر النبوة والخلافة الراشدة والعصور التي تلت ذلك ، والتي سبقت ولادة الحضارة الغربية ؟
أكانت نهضتها بما يدعو إليه هؤلاء ، من التغريب ، أو تحرير المرأة ، أو اختلاط الرجــال بالنساء ؟
والجواب على ذلك معروف ، يشهد له التأريخ ويشهد له واقع الأمة ، ولا يصلح آخرها إلا ما أصلح أولها .
هذا ما أحببت ذكره ، وأسأل الله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمرَ رُشــد ، يعلو فيه الحق وأهله ، ويدمغ فيه الباطل وأهله ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر ، ويحكم فيه بالكتاب والسنة ، لا بأهواء دعاة السوء والفتنة ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

تنبيـــه
قبل نشــــــر هذا البحــث اطــلعت على ما كتــبه الدكتـــور عبدالعزيز الطــريفي عن الاختــلاط ، فوجدته بحثاً نفيسـاً للغاية ، قد أجاد فيه وأفاد ، جزاه الله خيراً ونفع بعلمه .


وكتب سمير بن خليل المالكي
مكة المكرمة
1 / 1 / 1431 هـ
جوال / 0591114011


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سمير المالكي
  • الكتب والرسائل
  • الصفحة الرئيسية