صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الشيخ عبد المحسن العبيكان بين التناقض والمغالطة

الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ بْن ِ فَيْصَل الرّاجِحِيّ

 
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه ، وبعد :

فقد قرأتُ وسمعتُ لفضيلة الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيكان مؤخَّرا منذ نحو أربع سنوات ، نقدا لـ«هيئة كبار العلماء» بالمملكة ، ونقدا للنظام القضائي فيها أيضا ، وبيان بَعْضِ أوجهِ الخلل فيه .

ولا أذكرُ أَنِّي رأيتُ له ، أو سمعتُ منه في برامجه نقدًا لها على هذا النّحو قبل سنوات ! فكان نقدُه ـ حَقًّا أو باطلاً ـ مُتزامنًا مع حملة الغَرْبِ لأعلى وأكبر هيئة علمية في المملكة !

وكان اللائقُ به : أَنْ يَخُصَّ بنصائحِه تلك ونَقْدِه ، ولاةَ الأمر ، أو العُلماءَ القائمين عليها ، ولا حاجةَ لنشرها ولا إذاعتِها ، ولا فائدة لعامَّة الناس مِنْ معرفة ما ذكرَهُ على فرض صحَّته .

ولهذا كان الأصل في المناصحات «الإسرار» ، كما قال الشافعي رحمه الله :

تعمدني بنُصحك في انفراد  *** وجنبني النصيحة في الجماعة

وهذا في حال الُمنَاصَحِ إذا كان فَرْدًا وَحْدَهُ ، فكيف إذا كانت النصيحة لقطاع كبير عريض ؟!

فإِنْ كان الشيخ قد نصح للولاة أو العلماء : فما الحاجة حينئذ من إذاعتِها وإعلانها ؟!

وإِنْ لم يفعل : فَلِمَ ترك السّبل النافعة المأمونة ، واتَّجَهَ إلى سبل أُخرى أحسن أحوالـها عدم تحقّق المصلحة المأمولة !

ولم يَكْتَفِ الشيخ عبد المحسن بنقده لـ«هيئة كبار العلماء» فحسب ، وإنما صرَّح بمخالفتِه جُمْلةً من فتاواها ، واستنكر مُسْتغربًا بعض استدلالاتها ! كمُخالفته لها في «مسألة التأمين» ، ومخالفته لـ«اللجنة الدائمة للإفتاء» في «مسلسل طاش ما طاش» ! وكان يَسَعُهُ أَحَدُ أمرَيْنِ :

(1) إِمَّا الاكتفاء بفتواهم ، وإحالة الناس عليها ، حفظا لانضباط الفُتيا ، وبقاءً لقَدْرِهم . وليس مُضْطرًّا لا إلى المخالفة ولا إلى الموافقة ، وقد كُفِيَ الفتوى فيها . ولنا في حال الصحابة رضي الله عنهم وأتباعِهم ـ في تدافعهم الفتوى وعدم تصدُّرهم لها ، والفرح بمَنْ يكفيهم إيَّاها ـ عِظَةٌ وعِبْرَةٌ وقُدْوة .

(2) وإِمَّا ـ إِنْ أَبَى ـ أَنْ يُفْتِيَ بمُخالفتِهم ، دون إعلانٍ للمُخالفة ، ولا استغراب فتاواهم وتهوين قَدْرها .

ومِنْ آخر ما رأيتُ له مُنْدرجًا فيما سبق : دعوتُهُ لـ«تقنين الشريعة» في المحاكم في المملكة ، مع عِلْمِه بمُخالفة «هيئة كبار العلماء» ذلك ! بالإجماع أو الأغلبيَّة ، كما صَرَّحَ ـ هو ـ به في لقائه في «برنامج إضاءات» بـ«قناة العربية» يوم (28/10/1425هـ ) .

وجاءتْ دعوتُه هذه لـ«تقنين الشريعة» في لقاءٍ أجرتْهُ معه «جريدة الرياض» ، يوم الجمعة الموافق (20/3/1426هـ ) ، عدد ( 13458) . إِذْ أفتى بجواز «تقنين الشريعة» ! وأَنَّ هذا أَمْرٌ لا يَشُكُّ في صِحَّتِه عاقلٌ ! ولا يستطيعُ أحدٌ تحريمَه ولا منعَه ! وكَأَنَّ «هيئة كبار العلماء» وغيرهم من المانعين ، لا عقول صحيحة لهم ! ولا يخفى ذا لُبٍّ أَنَّ «تقنين الشريعة» في المحاكم قنطرةٌ للحُكْمِ بـ«القوانين الوضعية» !

وأَنَا أُجْـمِلُ مآخذي على الشيخ عبد المحسن العبيكان في وقفات ثمان :

الوقفة الأولى

قال الشيخ عبد المحسن العبيكان : ( إِنَّ صياغة الفقه على شكل مواد وقوانين ، لا يستطيع أحدٌ أَنْ يمنع هذا ، ولا أَنْ يحرِّمَهُ ، لأَنَّ الصياغة لم يَأْتِ بها نَصٌّ من كتاب ولا سُنَّة ، في أَنَّهُ لا يَصِحُّ إلا هذه الصياغة ، أو لا تَصِحُّ إلا هذه العبارة . إنما الذي جاء من الآيات الكريمة ، أو الأحاديث الصحيحة هي التي ينبغي أَنْ يُحافَظَ على نصوصها ) اهـ .

والجواب : أَنَّ عِلَّةَ مَنْعِ «التَّقنين» ، ليس إيجابَ المانعين التزامَ صياغة أو عبارة مُعيَّنة ، وإِنَّما لأَوْجُهٍ أُخْرَى ذكرَها المانعون ، كما في كتاب «تقنين الشريعة أضراره ومفاسده» للشيخ عبد الله بن عبد الرَّحمن البَسَّام رحمه الله ، وكتاب «التقنين والإلزام» للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله .

ولم أَرَ أحدًا من المانعين إطلاقا عَلَّلَ المنعَ بوجوب لزوم عبارة أو صيغة ! وهذا أَمْرٌ معلومٌ ، لا يحصل فيه النزاع .

فالشيخ عبد المحسن يختلقُ لخصمِه عِلَّةً لم يَقُلْ بها البتّة ! ثم ينبري مُهاجمًا ومُدافعًا لبيان فسادها ! مع عدم وجود تلك العِلَّة ! وعدم وجود خَصْمٍ مُسْتَدِلٍّ بها ! لكنَّهُ يذكر ذلك لِيُظْهِرَ خصمَه بحُجَّةٍ ضعيفةٍ لا يقوم بها استدلالٌ ، ويُظْهِرَ نفسَه مُحاجًّا لخصمِه خاصمًا له ، وإِنْ لم يكن في الحقيقة شيءٌ من ذلك !

الوقفة الثانية

قال الشيخ عبد المحسن العبيكان : ( كون لدينا كتب فقهية متنوعة ، وبعبارات ربما ثقيلة أو قوية على كثيرين من الناس ، الذين لا يستطيعون أَنْ يفهموا هذه العبارات القويَّة . أيضًا قد تكون تلك العبارات مُتناسبةً والعصر الذي سُجِّلَتْ هذه العبارات فيه . أَمّا اليوم : فقد تغيَّرت العبارات التي يُخاطب بها الناس ، فلا بُدَّ من أَنْ تكون هناك عبارات واضحة لِـمَنْ يقرأها أو يسمعها ) اهـ .

والجواب من وجوه :

أحدها : أَنَّ عامَّة الناس مِـمَّنْ لا يُدْركون عبارات الفقهاء ، لِقُوَّتِهَا أو ثِقَلِهَا : ليسوا مُطالبين أصلاً بالتَّفقه منها ، والأخذِ عنها ، وإنما الواجب عليهم سؤال أهل العِلْم عَمَّا جَهِلُوا ، والتّفقه بقَدْرِ ما يُقيمون به عباداتِهم ، وهذا شيءٌ لا يحتاج مِنَّا إلى إعادة صياغات ، لقوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ، وقوله : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .

فهذا فرض كفاية ، إذا قام به مَنْ يكفي سقط عن الباقين ، وقد قام به العلماء .

الوجه الثاني : أَنَّ جَهْلَ العامَّةِ ومَنْ في حكمهم لألفاظ الفقهاء ليس بمُسْتغربٍ ولا غريبٍ ، وليس هذا مُختصًّا ولا مُقتصرًا على كتب الفقه ، بل إِنَّ مُصنَّفات الأئمة في كل عِلْمٍ وفَنٍّ بهذه المثابة عندهم !

بل إِنَّ هذه العِلَّةَ المزعومةَ ، مُتَحقِّقةٌ كذلك في القرآن ! ففيه كثير من الألفاظ تخفى على العامّة ، وهو مصدر تشريع أساسي .

أَمَّا أهل العلم وطلابه : فهم أهل الفنّ وأربابُه ، فَإِنْ أشكل عليهم منه شيءٌ ، فعندهم من مُصنَّفات الأئمّة ما يُزيله ويرفعه .

ولو كانت كتب الفقهاء على هذه الصورة : لَتُرِكَتْ ولَـهُجِرَتْ ، ولم يستطع العلماءُ الاستنادَ والاعتماد عليها . ولكنَّها ليستْ على تلك الصورة إطلاقًا ، إلا على الُجهَّالِ مِنْ أهل البلادة والغباء ، الذين بلدت عقولُهم عن إدراك معاني ألفاظهم الرّفيعة الجليلة ، فانصرفوا عن الاعتراف ببلادتِهم ، إلى رمي كتب الفقهاء بالعبارات القويّة الثقيلة !

الوجه الثالث : أَنَّ وَجْهَ استصعاب الناس ـ من غير العلماء ـ بعضَ عباراتِ الفقهاء ، غالبًا لا يكونُ من حيث فَهْمُ اللفظةِ مُفْرَدَةً ، وإنّما من حيث تركيبُها مع غيرها في سياق . وهذه المشكلة لا تزول بمُجرَّدِ إعادة الصياغة والعبارة . وإنما بالشرح والاستفاضة في بيان المراد والتمثيل له . وهذا الأمر موجود في الكتب الفقهيَّة الُمطوَّلة لا المختصرات التي في عباراتها اختزالٌ مُرادٌ لكثيرٍ من المعاني ، تسهيلا للنّاشئة ومَنْ في حُكْمِهم في حفظها .

الوجه الرابع : أَنَّ الشيخ العبيكان ، إِنْ كان يَقْصِدُ بلغة تخاطب الناس اليوم «العامِّيَّة الدّارجة»: فهذا لا يقول عاقل بإعادة صياغة كتب الفقهاء بها ! مع اختلاف اللهجات وتباينها تباينا كبيرا في النطق والُمفْرَدةِ والمعنى .

وإِنْ كان مقصده بلغة التخاطب «الفصحى»: فليس النّاس اليوم يتخاطبون بها ! فكيف نكتب الفقه بعبارة أو صياغة ليس لها وجود ؟!

الوجه الخامس : أَنَّ مُرادَ أصحاب هذه الفِكْرة الخبيثة ، المدسوسة مِنْ دول الكُفْرِ والاستعمار ، تبديلُ الأحكام الشرعية التي يجدها الناس في كتب علمائهم ظاهرة ، فأرادوا صَرْفَ الناس عنها بتلك الترهات التي لا قيمة لها ، ولا حَظّ من نظر ، إلى كتبٍ عصريّةٍ خاليةٍ من تلك الأحكام ، فيها شريعة وشَرْعٌ لم يَشْرَعْ كثيرًا منه الله ولم يَأْتِ به رسولُ الله × ، بحُجَّةِ إعادة كتابة الفقه بصياغة جديدة وعبارة مُفيدة ! وإنما هو إعادة تشريع ، وإزالة شريعة .

والشيخ العبيكان يُرَدِّدُ ما يقولُه غَيْرُهُ دون نظرٍ فاحصٍ ، ولا فراسةٍ مُصِيبةٍ هداه الله ورَدَّهُ إلى الصّواب . ولا أُخْفي أَنِّي وجدتُ في عبارات الشيخ عبد المحسن العبيكان ما يُشْعِرُ بتأثُّره بتلك الدّعوات ! وبيانه في الوقفة الثالثة .

الوقفة الثالثة

قال الشيخ عبد المحسن العبيكان : ( نحن في هذا الزمن نحتاج إلى فقه جديد ، مع المحافظة على القواعد الشرعية ، والنصوص من الكتاب والسنة . فالأصول والنصوص يجب المحافظة عليها ، ولكن نحتاج إلى فقه جديد ، لا يخالف تلك النصوص ، ويستمد الأحكام منها . ولكن بدون تعصب لقول . وأيضا اختيار القول المناسب الذي يصلح لهذا الزمان والمكان ) اهـ .

والجواب من وجوه :

أحدها : أَنَّ دعوى الشيخ العبيكان في التمسك بالنصوص من الكتاب والسّنّة وبالقواعد الشرعية ، يُخالِفُها ويُنَاقِضُهَا ويُعَارِضُهَا ، زَعْمُهُ حاجتَهُ إلى فقه جديد ! إِذْ أَنَّ ما في النصوص والقواعد الشرعية فِقْهٌ قديمٌ ، مضى عليه أئمَّةُ الإسلام في كل عَصْرٍ ، مِنْ كُلِّ مذهبٍ ، مع اختلاف اجتهاداتهم . وليس خلافُهم مُخْرِجَهَا عن القِدَمِ . ولا يكونُ الفقه جديدا ، إلا بخروجه عنها .

فإِمَّا أَنْ يبقى العبيكان على النصوص والقواعد الشرعية : فلا فقه جديد حينئذ .

وإِمَّا أَنْ يجعلَهُ خلفَهُ ظهريًّا : فيكون حينها مُخترعًا فِقْهًا جديداً ! لكنَّه ليس من الإسلام في شيء .

ومُجرَّدُ تغيير العبارات والصِّيغِ لا تجعل الفقه قديمًا ولا جديدًا ، فما مُرادُ الشيخ العبيكان من الفقه الجديد الذي يُبَشِّرُ به ويسعى إليه ؟!

الوجه الثالث : أَنَّ في قوله «اختيار القول المناسب الذي يصلح لهذا الزمان والمكان» وقفةً أُخْرَى ! فهي لفظةٌ خطيرةٌ خبيثةٌ ! فأين زعم الشيخ العبيكان التمسّك بالكتاب والسّنّة ، وعدم مُخالفة نصوصهما ، إذا كان المُرجِّحُ عنده عند اختلاف العلماءِ ، واختيارِ الأقوال : صلاحيةَ الزّمانِ والمكانِ المزعومة ؟!

ولا أدري بعد ضابط الشيخ العبيكان هذا : ما حَالُ الُمحرَّماتِ والكبائر في عصر الصحابة والتابعين قبل خمسة عشر قَرْنًا ، أهي اليوم مُباحة ؟! أم هي مَسْنونةٌ سُنَّةً مُؤكَّدة ؟!

وما حَالُ ما حَرَّمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ على عباده في المدينة المُنوَّرة أهو حَرَامٌ عليهم في مَكَّةَ أم هو مُباحٌ ؟!

وما مُدَّةُ صلاحية أحكامِه الجديدة في فِقْهِه الجديد بعد ضابط صلاحيةِ الُحكْمِ للزَّمان ؟! أَهِيَ سَنَةٌ ، أو عَشْرٌ ، أو قَرْنٌ ، أو أكثر أو أقلّ ؟! وهل سَيَكْتُبُ فضيلتُه على مُنتجه الفقهيّ الجديد بعد اكتماله مُدَّةَ الصّلاحية ! وتاريخ الإنتاج ! أو يجعل ذلك مَنُوطًا بالجهات الصِّحيَّة والبلديَّة في المملكة ؟!

وهل سَيُعَمِّمُ فقهَهُ الجديدَ علينا في المملكة نَجْدًا وحجازًا وشمالاً وجنوبًا وشَرْقًا وغَرْبًا ؟ أَوْ أَنَّهُ سيجعل لِكُلِّ جِهَةٍ فِقْهًا جديدا ؟! وهل يَصِحُّ لغير السّعوديّين استخدامُ فقهه الجديد ؟ أَوْ أَنَّ ضابط المكان إذا تغيَّرَ لم يَصْلُحْ معه فِقْهُهُ الجديدُ للاستخدام ؟! فهل يقول بهذا مَنْ له مسكة من عقل ؟!

الوقفة الرابعة

قال الشيخ عبد المحسن العبيكان : ( إذن صياغة الفقه على شكل مواد ، بعبارات واضحة تتناسب مع هذا العصر : أَمْرٌ لا يشك في صِحَّتِه عاقلٌ . كذلك لسنا مُلْزَمِيْنَ بأَنْ نأخذ بمذهب واحد ، وإنّما نحن نبحث عن الدّليل والقول الرّاجح .

والتقليدُ المذمومُ الذي حصل في حُقْبَةٍ من الزّمن ذَمَّهُ الُمحقِّقُونَ وأنكروه . كذلك الأئمَّةُ أنكروا التّقليد ، وأمروا باتّباع القول الذي يسنده الدّليل من الكتاب والسّنّة ) اهـ .

والجواب من وجوه :

أحدها : أَنَّ نتيجتَهُ هذه مَبْنِيَّةٌ على مُقدِّماتٍ غير مُسَلَّمَةٍ أصلا له ، فنتيجتُها غير مُسَلَّمَةٍ أيضًا . بل إِنَّ مُقدِّماتِها فاسدةٌ ، فهي نتيجةٌ فاسدة .

الوجه الثاني : أَنَّ صياغةَ الفِقْهِ على شكل مواد ، وهو الُمسمَّى بـ«تقنين الشريعة» قد أفتى بتحريمه جماعاتٌ من أهل العِلْمِ ، فأفتتْ «هيئة كبار العلماء» في المملكة بتحريمه ، وصَنَّفَ في التّحريم الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرّحمن البَسّام كتابًا سَمَّاهُ «تقنين الشريعة أضراره ومفاسده» طُبعَ قَبْلَ أكثر من خمس وأربعين سنة ، وغيرُه .

فكيف بعد هذا يقول العبيكان : إِنَّهُ أَمْرٌ لا يَشُكُّ في صِحَّتِه عاقلٌ ؟!

الوجه الثالث : قوله «لسنا مُلزمين بأَنْ نأخذ بمذهب واحد ، وإنما نحن نبحث عن الدليل والقول الراجح»: مُنَاقِضٌ ومُخَالِفٌ لِـمَا دعى إليه وسعى فيه مِنْ «تقنين الأحكام» !

وهذا مِنْ جُمْلةِ تناقضاته الكثيرة ! فَإِنَّا إِنْ كُنَّا لسنا مُلزمين بمذهبٍ واحدٍ ، مع كون أَئِمَّةِ هذه المذاهب مُجْمعًا على فَضْلِهم وتَقَدُّمِهم ، فكيف يُلْزِمُنَا الشيخُ العبيكان بـ«تقنينٍ للشريعة» وَضَعَهُ عَصْريُّون ؟! وإذا كان مدار العبيكان على الدّليل والقولِ الرّاجح : فلماذا يُلْزِمُنَا بـ«تقنين الشريعة» ؟! أَمْ أَنَّهُ يرى موادَّ شريعتِه الُمقنَّنة أَدِلَّةً رافعةً للنزاعِ والخلاف ، وأقوالاً راجحةً وغيرها مرجوحة ؟!

ثُمَّ أَخْذُنَا بالقول الرّاجح ! على مَذْهَبِ مَنْ ؟! وباختيارِ مَنْ ؟! وبترجيح مَنْ ؟! وما مُرَجِّحاتُ ذلك القول الرّاجح ؟! وأَدِلَّةُ رُجْحَانِه على غَيْرِه ؟!

وكُلُّ عالمٍ في كُلِّ مذهبٍ يَزْعُمُ لقولِه ومذهبِه الرُّجْحانَ على غيره ، فما الميزانُ لاختيار الأقوال الرّاجحة من المرجوحة عند «التّقنين» ؟!

الوجه الرابع : أَنَّ دعوى العبيكان في ذَمِّ التقليد دعوى كاذبةٌ ، يُنَاقِضُهَا فِعْلُهُ ! بدعوته إلى «تقنين الشريعة» ! فهل يبقى لِأَحَدٍ اجتهادٌ أو قَوْلٌ بعد «التّقنين» ؟!

بَلْ إِنَّ التقليدَ المذمومَ الذي ذكرَهُ العبيكان ، وذَكَرَ ذَمَّ العلماءِ له ، أفضلُ بكثيرٍ من اتّباع «التّقنين» ، وذلك مِنْ وجهَيْنِ :

أحدهما : أَنَّ الُمقلِّدين التّقليدَ المذمومَ ، لا تُنْقَضُ أحكامُهم ، ولا يُلْزمون من أَحَدٍ بذلك التقليدِ المذمومِ ، فمتى أراد أحدٌ منهم مُخالفةَ ما ذهب إليه إمامُه فَعَلَ ، ولا بأس عليه .

أَمَّا مُخالفةُ «التّقنين»: فهي مُخالفةٌ نظاميةٌ تَنْقُضُ الأحكامَ ، وتَطَالُ تَبِعَتُهَا الُحكَّامَ ! فَإِمَّا أَنْ يحكم بما حَكَمَ به غيرُه دون بصيرةٍ ولا رَأْيٍ ولا هُدًى ، وإِلَّا فحكمُه مَنقوضٌ ، وشأنُه حينها مخفوضٌ !

الآخر : أَنَّ التقليدَ المذمومَ هو تقليدُ إِمَامٍ مُعتبرٍ اتَّفقتِ الأمةُ على فضلِه ورسوخِ قَدَمِه ، ولهجتِ الألسنُ بذكر عِلْمِه ، ووفورِ عَقْلِه ، بحيث لا يُخالِفُه المُقَلِّدُ في شيءٍ قَلَّ أو كَثُرَ ، وإِنْ بلغَهُ في ذلك دليلٌ صحيحٌ .

أَمَّا تقليد «التّقنين»: فهو تقليدُ عَصْريِّيْنَ لم يحصلْ لهم ـ مهما كانوا ـ ما حصل للأئمَّة السابقين من العِلْمِ والحفظِ والفقه والتَّقدُّمِ . بل رُبَّما كان فيهم مطاعنُ في دينهم وأمانتِهم وعِلْمِهم .

الوقفة الخامسة

قال الشيخ عبد المحسن العبيكان : ( لذا نحن نحتاج أَنْ تقوم لجنة على مستوى عَالٍ بصياغة الفقه على هذه الموادّ . أَمّا الإلزام فإنَّنا إذا وضعنا هذا الفقه وضعناه وخاصة ، الذي نحتاج هو ما يَمَسُّ فقه المعاملات ، وفقه الأنكحة ، والأحوال الشخصية ، والقضاء والجنايات . هذا الذي نحتاجُه ، لأَنَّهُ هو الذي يتعلّق به حُكْمُ القضاة .

أَمَّا العبادات : فهي أصلا لا تُنْظَرْ في المحاكم ، ولا نحتاج إلى صياغتها . لأَنَّ العبادات النصوص فيها كثيرة جِدًّا ، وهي مَبْنيّةٌ على التوقيف لا على الاجتهاد ، ولكن الذي نحتاجُه هو مبنيٌّ على الاجتهادات . والأصل فيه الجواز إلا ما دَلَّ دليلٌ على منعِه وتحريمِه ، وهذا هو ما ذكرناه من المعاملات ونحوها ) اهـ .

والجواب من وجوه :

أحدها : تناقضُ أقواله في هذا الموضع ! فزعم أَوَّلاً حاجتَنا إلى صياغة الفقه صياغة جديدة ، لِيَفْهَمَ الناسُ الفقه ، الذي تعذَّر عليهم فَهْمُه من كتب الفقهاء لاختلاف العبارات والصِّيغِ ، واستخدامهم ألفاظًا معروفة في أزمنتِهم ليست مُسْتخدمةً اليوم في تخاطب الناس بينهم!

ثم زعم ثانيًا هنا ، نَاقِضًا ما قَرَّرَهُ هناك : أَنَّ حاجتَنا إلى إعادة صياغة الفقه ، إِنَّمَا هي في المعاملات والأنكحة والقضاء والأحوال الشخصية والجنايات ، ونحوها دون العبادات !

مع أَنَّ العبادات هي الأصل ، وحاجة النّاس كُلِّهم إليها مُلِحَّةٌ ، وجَهْلُهم فيها ظاهر ! أَمَّا غيرها من المعاملات والحدود والأنكحة : فحاجة الناس إليها أقلّ ، وجَهْلُهم فيها أهون ، ورُبَّما لم يحتجْ إلى كثيرٍ منها كثيرٌ منهم ، وربما احتاجها الرجل مرَّة في عمره ، ورُبَّما أكثر . وعلى كل تقدير : فإِنَّ فقه العبادات عليه المدار في الفقه .

ثُمَّ مَنْ هم أصحاب اللجنة ذات المستوى العالي ، الُمنَاط بها «التّقنين» ، إذا كان علماؤنا الكبار مانعين للتّقنين ، رافضين له ؟!

الوجه الثاني : أَنَّ في قوله السابق مُغَالطةً ظاهرةً ، في تعليله عدم الحاجة إلى إعادة صياغة فقه العبادات بكثرة النصوص فيها ، وبنائها على التوقيف لا على الاجتهاد . فاختلاف العلماء في العبادات في المذاهب الفقهية بعضها مع بعض ، بل بين أرباب كُلِّ مذهبٍ واحدٍ فيها ، من حيث الشروط والأركان والواجبات والسنن والمستحبات والمفسدات ونحوها : أكثر وأكبر وأشهر من اختلافاتهم في المعاملات والحدود والأنكحة ونحوها .

ولا أَدَلّ عليه من حجم قسم العبادات في كتب الفقهاء بحيث يفوق حجم فقه المعاملات وغيرها . وما ذاك إلا لكثرة النصوص الواردة فيه ، المحتاجة إلى بيانٍ واستنباطاتٍ وجَمْعٍ بين النصوص مُتعارضةِ الظاهر ، وغيرها .

وكونُ العباداتِ مَبْنِيَّةً على التوقيف : ليس مانعا لها من وقوع الاختلاف في فروعها كما سبق . واختلاف العلماء فيها مع كونها توقيفية : دليلُ ذلك .

وأربابُ كُلِّ مذهبٍ يَسْتدلُّونَ على ما رجَّحوه واختاروه وذهبوا إليه بدليلٍ ، يُشْعِرُ بأَنَّ قولهم مأخوذٌ بتوقيفٍ . وإِنْ كانوا مُختلفين في الاختيار ، وفي أَوْجُهِ الاستدلال ، وفي الأَدِلَّةِ الُمستدلّ بها ، وفي أَوْجُهِ رَدِّ ما يُعارِضُ استدلالاتهم وتأويلهم إيّاها .

الوقفة السادسة

قال الشيخ عبد المحسن العبيكان : ( فإذا أخذنا بالأقوال الرّاجحة ، ووضعنا صياغة واضحة ، وطُبعتْ فَفَهِمَهَا الناسُ في تعاملاتِهم ، وعرفوا ما يَحْكمُ به القضاةُ ، وعَرَفَ القُضاةُ ما يحكمون به ، وعَرَفَ الذين يأتوننا مِنْ خارج البلاد أَنَّ هذه أحكامُنا ، ويستطيعون أَنْ يعرفوا ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات ) اهـ .

والجواب من وجوه :

أحدها : أَنَّهُ إذا كانتْ تلك الأمورُ المذكورةُ مُعَلَّقَةً بإعادةِ صياغةِ الفقه وتقنينِه : فمُعاملاتُ الناسِ قَبْلَها حتى اليوم ، وأحكامُ القضاة ، وإنفاذُ وُلاةِ الأمر الحدودَ وغيرَها باطلةٌ ! صادرةٌ عن جَهْلٍ وعَدَمِ مَعْرفةٍ !

وهذا مَعْلومُ البطلان ، ولا يستطيعُ ادَّعاءَه ، وإلَّا كان هو أَحَدُ الُجناةِ ! إِذْ كان يَوْمًا ما قاضيًا يحكم بين النّاس ، ولـمّا تُصَغْ كتبُ الفقه صياغةً جديدة حينذاك ، ولم تُقنَّن الأحكام !

الوجه الثاني : أَنَّ إعادة الصياغة أو تقنين الأحكام ، سواءٌ كانت أحكامًا شرعيَّة ، أو أحكامًا وضعيَّةً : لا يُزِيْلُ الإشكالات ، ولا يمنع التّساؤلات ، ولا يعصمُ مِنْ خطإ في الفهم ، أو ورود وَهْمٍ .

وليستِ العبارةُ ـ مُجَرَّدَةً ـ كافيةً لإيصال المعنى الُمرادِ تامًّا في كُلّ حالٍ ، وفي كُلّ مسألةٍ ، وعند كُلِّ قارئٍ .

ويَدُلُّ على هذا أُمورٌ :

مِنْهَا : تحذير العلماءِ وأئمَّةِ الدّين من أخذ الرّجل العِلْمَ من الكتب دون التّعلّم عند أهل العِلْمِ ، وقولهم المشهور «مَنْ كان شَيْخُه كتابَهُ كان خطأه أكثرَ من صوابه».

ولم تَكُنِ العِلَّةُ الصياغةَ ولا العبارةَ ، إِذْ أَنَّهَا مُصنَّفاتٌ أُلِّفَتْ في وقتِهم ، وبألفاظِهم وصِيَغِهم ، وكانت ألسنتُهم قويمةً ، وعربيَّتُهم مُسْتقيمةً . وإِنَّما العِلَّةُ قصورُ أفهامِ النّاس عن إدراك معاني الألفاظ مُجرَّدةً عن أهل العِلْمِ وشروحِهم وكلامِهم وبيانِهم . وهذا لا يرتفع بإعادةِ الصياغات ، ولا بتحسين العبارات .

وَمِنْهَا : كتابةُ أَهْلِ القانون شروحًا للقوانين الوضعيَّة ، مُحاولةً منهم لإزالة ما يغمض منها وما يُشكل ، فلو كانتْ كافيةً بنفسها لم يفعلوا .

وَمِنْهَا : احتياج أهل تلك البلدان المحكومةِ بالقوانين إلى مُحامين ومُسْتشارين ، فلو كان «التّقنينُ» كافيًا في معرفة الناس ما سَيَحْكُمُ به القضاةُ لَـمَا احتاجوا إليهم ! ولَـمَا دفعوا لهم الأموال الكثيرة !

وَمِنْهَا : جَهْلُ المحامين أنفسِهم ، بما سَيَحْكُمُ به القضاةُ ، مع كون مصدر الحكم بينهم واحدًا ! وهو شَرْعٌ مُقنَّنٌ ، بموادّ مُقنَّنةٍ ! بل صدور الأحكام أحيانًا مُخالِفةً لِـمَا ظنُّوه وأمَّلُوه ! وهذا مشهورٌ معروفٌ !

الوجه الثالث : أَنَّ مَنْ يأتي من خارج المملكة إليها مِنْ العرب حُكْمُه حُكْمُ أَهْلِ البلاد فيما قدَّمنا . أَمَّا غير العرب : فلا تنفعُهم صياغة جديدة ، ولا البقاء على قديمة ، فليسوا عَرَبًا ، وليس قدومُهم جديدًا علينا ولا طارئًا .

الوقفة السابعة

قال الشيخ عبد المحسن العبيكان : ( وكذلك فَهِمَ الناسُ والمحامي ، وحصل الانضباط في صدور الأحكام ، وعدم تلاعب البعض ، لا من المحامين ولا من القضاة ، ولا من غيرهم . لأنَّه قد يكون هناك من القضاة مَنْ يتلاعب ، فيأخذ مَرَّةً بقولٍ لأجلِ مَصْلحتِه الشخصيّة ، ثمّ يأخذ في قضيَّةٍ أُخْرَى بقول آخر ... وهذا يفتح له بابًا واسعًا للتّلاعب ) اهـ .

والجواب : أَنَّ جِنْسَ حصول التّلاعب من القضاة ، وجَهْلَ بَعْضِهم : حَقٌّ لا رَيْبَ فيه ، ومُشْكلةٌ تحتاج إلى حَلٍّ ونظرٍ وبحثٍ ، وليس سَبَبُهُ «التّقنينَ» ولا عدمَه ، وإنما سببُه سُوْءُ الاختيار . و«التقنينُ» يزيد الطين بلّة ، والسّوءَ سُوْءًا ، ولا يصلح به الحالُ ولا يستقيم .

وإنّما الحلُّ في أُمور ثلاثة بإذن الله :

(1) اختيار الكُفْءِ ، عِلْمًا وديانة وصلاحا وذكاء وفطنة .

(2) وإدامة المراقبة والتدقيق والمحاسبة ، والتنبه إلى تباين حكم القاضي الواحد في المسألة الواحدة !

(3) وتَـمْييز أحكامه .

أَمَّا إذا اختير قَاضٍ غير ثِقَةٍ في دينه أو عِلْمِه : فهذه مُصِيْبَةٌ عَظِيمةٌ ، لا يعصم منها إلا الله ، لا تقنينٌ ولا صياغةٌ ولا عبارةٌ .

الوقفة الثامنة

قال الشيخ عبد المحسن العبيكان : ( لكن إذا حُدَّ من هذا التلاعب بالصياغة ، قيل له هذا هو الذي يجب العملُ به ، ولا نلزمُك . ولكن إذا وصلتَ إلى درجةٍ تكون فيها مُجْتهدًا ، تستطيع أَنْ تأخذ بقولٍ آخر مع الاجتهاد الذي يُخَوِّلُ لك هذا ، وهذا بالطبعِ نادرٌ . وهنا قد يُفْتَحُ له الباب ، ولكن قد يكون هذا قليلا جِدًّا أو نادرًا .

وأَنَا أقصد أَنَّ القضاةَ عمومًا سيعملون بهذه الصياغة ، وبالمواد التي وُضِعَتْ ، ولن يكون هناك عملٌ إلا بهذه الموادّ ، وسوف يكون العملُ العَامُّ بها ، وذلك بدون إلزامٍ ، ولكنَّهُ في معنى الإلزام ، لأنه لا يُسْمَحُ لقاضٍ ليخرج عن هذا إلا إذا وصل حَدَّ الاجتهاد ، واليوم يندر أَنْ يكون هناك قاضٍ بهذه الصفة .

فهذا ولله الحمد خطوةٌ جَيِّدَةٌ مُبارَكةٌ ، تُنِيْرُ للناس حقوقَهم ، إِذْ أَنَّ الأسئلة والتي تأتينا عن طريق الهاتف ، أَنَّ قاضيا حكم بكذا وآخر حكم بكذا ، مثلا امرأة تقول : هل استحق حضانة أو لا استحق حضانة ؟ لأَنَّ هناك خلافًا بين العلماء في الحضانة بعد سِنِّ السابعة . هل تبقى المرأة عند أُمِّهَا حتى تتزوَّج ؟ فالناس لا يعرفون ، فنجد أَنَّ قاضيًا يحكم بهذا ، وآخر يحكم بخلافه ، فالناس مُتذبذبون لا يعرفون بماذا سيحكم القاضي ، هل سيحكم بهذا المذهب أم بذاك القول ، وهذا مِـمَّا يفتح المجال لتأثير المغرضين ) اهـ .

والجواب من وجوه :

أحدها : أَنَّ في قوله هنا تناقضاتٍ :

فَمِنْهَا : إلزامُه القضاةَ بالُحكْمِ بما في «التّقنين» ، وإلا نُقِضَ حُكْمُه ، مُخالِفٌ لِـمَا دعى إليه أَوَّلَ لقائه من الاجتهاد ، وفَتْحِ بابه ، واتّباع الدّليل ، وعدم التّقيّد بمذهبٍ ! وتقدَّمَ التّنبيهُ عليه .

وَمِنْهَا : أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ في «التقنين» والإلزام به مَصْلحةً في معرفة الناس ما سيحكم به القضاةُ إلى آخر ما ذكر . وهذا يُناقِضُه فَتْحُهُ المجالَ لبعض القضاةِ ـ الذين بلغوا درجة الاجتهاد ـ أَنْ يجتهدوا ! فيعود النّاسُ إلى جَهْلِهم الأَوَّلِ بما سيحكم به القضاة ! وهل مَنْ أُحِيْلُوا عليه منهم بالغٌ درجةَ الاجتهادِ فرُبَّمَا خالفَ «التقنينَ» ، أو لم يَبْلُغْهَا فيبقى عليه ؟!

الوجه الثاني : أَنَّ العاصمَ من تلاعب القضاة صَلاحُ القاضي وديانتُه وعِلْمُه واستقامتُه ، وحصولُ المراقبة عليه لتقويمه إِنْ زَلَّتْ به القَدَمُ ، وليس «التّقنين» بحَدِّ ذاته عاصمًا . فَإِنَّ التلاعبَ موجودٌ في محاكم قريبة خارج المملكة وهي ذات شرائع مُقنَّنةٍ ! ولم تُغْنِ عنها شيئا ، إِذْ أَنَّ إنزالَ المادّة القانونيّة على حال المتخاصمين ، وجَعْلَ عِلَّةٍ غَيْرِ مُؤَثِّرَةٍ مُؤَثِّرَةً ، أو نَفْي تأثيرِها مع كونها مُؤَثِّرَةً في الحقيقة ، عَائِدٌ إلى القاضي لا إلى «التّقنين» ! وقبول شهادات الشهود ، أو الطعن فيهم ، والأخذ بالقرائن ، أو تَرْكها ، ونحو ذلك لا يُضْبَطُ ! فمتى أُحْسِنَ اختيارُ القاضي ديانةً واستقامةً وعِلْمًا وذكاءًا : لم يَظْهَرْ خَلَلٌ في الأحكام . ومتى تُرِكَ أو خَفَّ ظَهَرَ الَخلَلُ !

الوجه الثالث : أَنَّهُ إذا رُفِعَ الخلافُ في المحاكم بين القضاة بـ«التّقنين» المزعوم ! فلا يُستطاعُ رَفْعُه إِطْلاقًا بين العلماء المعاصرين خارج القضاء ! فما يصنع الناسُ إذا حُكِمَ لِأَحَدٍ بإثبات أَمْرٍ ما ، وسَمِعَ عَالِـمًا من العلماء الُمعْتبرين المعاصرين نَفْيَهُ ؟! ألا يُحْدِثُ ذلك اضطرابًا في نفسه في ثبوتِ ما حُكِمَ له به ؟! ويخشى أَنْ يكون القاضي قد حكم له بشيء لا يَصِحُّ له ؟!

فَإِنْ كانتِ العامَّةُ تُدْرِكُ أَنَّ هذا من باب اختلاف العلماء الاجتهاديّ . فَهُمْ يُدْرِكُونَ أيضًا أَنَّ اختلاف أحكام القضاة في المحاكم مِنْ هذا الباب أيضًا .

وَإِنْ كانوا غَيْرَ مُدْرِكِينَ : فالمُشْكلةُ قائمةٌ ، لم يَرْفَعْهَا «التّقنينُ» !

وإذا كانتْ أعلى جِهَةٍ شرعيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ دِيْنيَّةٍ عندنا في المملكة هي«هيئة كبار العلماء»، ولها مكانةٌ داخل المملكة وخارجها . ولم يَمْنَعْ ذلك الشيخ عبد المحسن العبيكان مِنْ مُخالفتِها مرارًا ! والتصريحِ بتلك المخالفة ! بل وتفنيدِ استدلالاتهم ! وإسقاطِ اجتهاداتِهم ! كما سبق التمثيلُ له ، بمُخالفتِه لفتواهم الصادرةِ منهم في تحريم «التّأمين» ، وفي تحريم مُشاهدة المسلسل التلفزيوني الُمشارِ إليه ، وتحريم «التّقنين» وها هو هنا ينتصرُ له ، ويجعل مُخالِفَهُ فيه مِـمَّنْ لا عَقَلَ له !

فكيف بعد ذلك كُلِّهِ : يَظُنُّ أَنَّ «التّقنين» سيرفع الخلاف ؟! مع أَنَّ المُقنِّنين لن يكونوا أعلى درجة من علماء «الهيئة» !

الوجه الرابع : أَنَّ في تصوُّرِه للقضاء بعد «التّقنين» اضطرابًا ، فمَنِ الذي سيحكم للقاضي ببلوغه درجةَ الاجتهاد ، التي يَصِحُّ له معها مُخالفةُ «التّقنين» ؟ أيحكم هو لنفسه ؟! أم يحكم له غيرُه ؟! وما ضابطُ الاجتهاد ؟ ولو قُدِّرَ أَنَّ ضوابط الاجتهاد صَحَّ تحقّقُها في جملةٍ كبيرةٍ من القضاة ، فهل سَيُلْغَى «التّقنين» أو يبقى ؟ وما فائدتُه حينذاك ؟

وما عُذْرُ الشيخ العبيكان أَمَامَ الُمتخاصمين والمحامين والمتحاكمين عند القاضي المجتهد إِنْ خَالَفَ حُكْمُهُ الُحكْمَ الُمقنَّنِ ؟!

* * *

ثُمَّ إِنَّ الاجتهاد الذي يَصِحُّ معه الُحكْمُ ، وإنْ كان مُخالِفًا لِـمَذْهَبٍ فِقْهيٍّ ما ، نوعان :

اجتهادٌ مُطْلَقٌ : يحصل للعالم بحفظ كثير ، وتحصيل كبير ، بحيثُ ما مِنْ مسألةٍ إلَّا وقد حَرَّرَهَا ، وعَرَفَ أَدِلَّةَ العلماءِ الُمختلفين فيها ، وسَبَرَهَا ، صِحَّةً ودَلالةً ، وتكونُ أقوالُه مُعْتبرةً مُرَاعاةً ، لا ينعقد إجماعٌ بمُخالفتِه ، ولا يُغْفَلُ عن قوله . كما هو حال الأئمَّة الُمعْتبرين ، كالإمام مالك والشافعي وأحمد وسفيان والأوزاعي والليث بن سعد ، ومَنْ تلاهم كشيخ الإسلام ابن تيمية ونحوهم .

واجتهادٌ مُقيَّد : يحصل للعالم في مسألةٍ دون أُخْرَى ، بِأَنْ يُطِيْلَ بَحْثَهَا ، ويجمعَ أَدِلَّتَهَا ، ويَنْظُرَ في أقوال أهل العِلْمِ فيها ، ونحو ذلك ثم يحكم فيها بحُكْمٍ اجتهاديٍّ يُرَجِّحُه على غَيْرِه . فإِنَّ هذا وإِنْ لم يكن عنده الاجتهادُ الُمطْلَقُ ، إلا أَنَّ عنده أهليَّة للاجتهاد المُقَيَّدِ في بعض المسائل دون بعض .

وهذا النوع الأخير ، يَصِحُّ تحقُّقُه في كثير مِنْ أهل العِلْمِ ، إِنْ كانت لهم مشاركة ومعرفة ، وبحثوا ما أشكل عليهم ويريدون الخروج فيه بقول راجح عندهم .

ومِـمَّنْ يَصِحُّ تحقُّقُه فيهم كثيرٌ من القضاة ، أو أكثرهم .

فإِنْ كان مُرادُ الشيخ العبيكان بدرجة الاجتهاد ، التي يَبْلُغُهَا بَعْضُ القضاة ، ويُسْمَحُ له معها بالاجتهاد ، ومُخالفةِ التّقنين «الاجتهادَ الُمطْلَقَ»: فهذا لَنْ يكونَ إلَّا ما شاء الله ، وقد قال جماعاتٌ مِنَ الأئمَّة بانقطاعه ، لِضَعْفِ الُمتأخِّرين عن ذلك .

وعليه : فلا يَصِحُّ للشيخ العبيكان ولا للجنتِه العُلْيا ـ المزعومةِ المُقَنِّنةِ ـ مُخالفةُ المَذْهَبِ ، لعدم بلوغِهم درجةَ الاجتهاد ! وهذا حُكْمُ العبيكان نفسِه .

وإِنْ كان مُرادُه بالاجتهادِ «الاجتهادَ المُقيَّدَ»: فكثيرٌ مِن القضاة هم من هذا الباب .

وعليه : فلا يَصِحُّ للعبيكان مَنْعُ هؤلاء ذوي الاجتهاد الُمقيَّدِ من الاجتهاد ، فيكون هو قد حَكَمَ بالشّيءِ ونقيضِه ، فَحَكَمَ بالتَّقنين والإلزامِ به مِنْ حيث عدم السَّمَاحِ بإمضاءِ حُكْمٍ مُخالِفٍ له ، وحَكَمَ بعدم إلزام البالغِ درجة الاجتهاد بالتّقنيين ، مع كَثْرَتِهم !

هذه جُـمْلَةُ مآخذي على الشيخ عبد المحسن العبيكان في لقائه الأخير .

أَسألُ اللهَ جَلَّ وعلا لي وله الهدايةَ والتّوفيقَ لِـمَا يُحِبُّهُ ويرضاه ، وأَنْ يعصمَني وإِيَّاهُ مِنْ مُضِلَّاتِ الفتن ، وأَنْ يجعلَني وإيَّاه مفاتيح للخير مغاليق للشّرِّ ، مِـمَّنْ يَسْتنُّون ويهتدون بهدي محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، من دُعاة الُهدَى لا مِنْ دعاة الضّلالة ، إِنَّهُ قريبٌ مُجِيبُ الدّعاء ، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ ، وعلى آلهِ وصحبِه وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا ،،،
 

كـتـبـه /عبد العزيز بن فيصل الراجحي
يوم الجمعة (5/4/1426هـ)
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
الرّاجِحِيّ
  • كتب وبحوث
  • ردود وتعقيبات
  • الصفحة الرئيسية