اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/nizar/72-8.htm?print_it=1

سر النجاح

نزار محمد عثمان


8- هل أنت مستمع جيد؟


تخيل أنك واجهت مشكلة في الإبصار، وأن عينيك لم تعد ترى كالسابق، تخيل أنك ذهبت للطبيب و بعد سماعٍ مختصر لشكواك نزع الطبيب نظارته وأعطاك إياها و قال لك - استخدم هذه العدسات.. أنا أستخدمها منذ عشر سنوات، وقد ساعدتني كثيراً، لا تقلق من ناحيتي فعندي زوج من العدسات في البيت.
تخيل أنك وضعتها على عينيك لكنها لم تزد الأمر إلا تعقيداً، أنت لم تر شيئاً، صاح بك الطبيب:
- ما الأمر!! إنني أرى بها جيداً، حاول واصبر، سوف تصل إلى ما وصلت إليه بالمحاولة و الصبر.
وأنت تقول: لقد حاولت و صبرت و لكن الرؤية منعدمة تماماً.
والطبيب يصر: ما الأمر معك؟ فكر بطريقة إيجابية.
- حسناً ولكنني لا أرى شيئاً!
- أنت كثير الشكوى و ناكر للجميل، أبعد كل الذي فعلته لمساعدتك لا ترى شيئاً؟ ألا تريد أن تفهم أن هذه العدسات بالمحاولة و الصبر هي علاجك؟!!
الآن ما هي احتمالات رجوعك لهذا الطبيب المرة القادمة عندما تشكو من شئ في عينيك؟ لاشك أنها صفر، لماذا؟ لأنه لا يجيد فن الاستماع، و يصف الدواء قبل أن يشخص، كم من مرة نتصرف مثل هذا الطبيب، ونصر أن دواءنا هو العلاج الوحيد قبل أن نفهم المشكلة.[1]

الشخصية و الاتصال:

وسائل الاتصال الأساسية أربعة: القراءة، والكتابة، والمحادثة و السماع، و إجادة هذه الوسائل مهمة جداً لنجاحنا، ولعل حسن الاتصال بالآخرين هو أهم مهارة يمكن أن نكتسبها
لقد أمضينا عمراً من حياتنا نتعلم كيف نقرأ و كيف نكتب بل وكيف نتكلم، لكن تأمل معي كم من عمرنا أمضينا لنتعلم كيف نستمع؟ قليلون جداً هم الذين تدربوا على كيفية السماع المشجع الذي يعكس بصدق تفهمك للآخرين.

السماع المشجع :

إن محاولتنا أن نستمع و نفهم قبل أن نحاول إفهام الآخرين.. تعد نقلة في التصور، إذ أننا عادة نحاول أن نُفهَم أولاً، وأكثر الناس يستمعون ليس بغرض الفهم بل بغرض الرد، فهم إما متكلمون أو يعدون أنفسهم للكلام، و يقيسون كل شئ وفق تصوراتهم الخاصة, و يقرأون سيرتهم الذاتية على الناس ويرددون عبارات مثل: أنا أدرك تماماً كيف تشعر الآن، لقد مررت بنفس الظروف، دعني أحدثك عن تجربتي ؛ إنهم يريدون أن يلبسوا نظاراتهم لكل من يشكو من عينيه.

من يستمع لمن :

كثير من الناس عندما تحدث له مشكلة مع آخر (ابن، جار، صديق، موظف، …) يردد هذا الشخص لا يريد أن يفهمني، يروى أحد المتخصصين في مجال التحفيز[2] قائلاً: "في إحدى المرات قال لي أب: (( لا أستطيع أن أفهم ابني، إنه لا يريد أن يستمع إلي ))، قلت له دعني أعيد صياغة ما قلته الآن: أنت لا تستطيع أن تفهم ابنك لأنه لا يريد أن يستمع إليك، فأجاب نعم هذا ما عنيته ، قلت له لقد أخطأت التعبير فالصواب : أنك لا تستطيع أن تفهم ابنك لأنك أنت لا تريد أن تستمع إليه ، فمن يريد أن يفهم يجب أن يستمع أولاً لا أن يُسمَع ، قال الأب : (( نعم لكنني أفهمه أعرف الظروف التي يمر بها لقد مررت أنا نفسي بها لكن الذي لا أستطيع فهمه هو لماذا لا يريد أن يستمع إلىّ ))"!!.
هذا هو حال الكثيرين ـ خاصة الآباء _ يشعرون أن تجربتهم ثرة، وأن سيرتهم الذاتية عطرة، مليئة بالخبرات فقط يريدون من يفهمهم و يستمع إلى نصحهم.

طرق السماع التقليدي:

عندما يتحدث إنسان فإننا نستمع إليه بإحدى أربعة طرق _عادةً_ هي:
1. السماع التجاهلي: و هو أن تتجاهل المتحدث تماماً و لا تستمع إليه و تشغل نفسك بأمر آخر.
2. السماع التظاهري: وهو أن تتظاهر بالسماع و تردد آه آه نعم نعم صحيح و المتحدث يستطرد و أنت مشغول بشيء آخر.
3. السماع الانتقائي: وهو أن توزع تركيزك بين الاستماع إلى شخص وأمر آخر فتستمع إلى جزء من الحديث و تهمل الباقي.
4. السماع الانتباهي : و هو أن تركز كل حواسك مع المتحدث لفهم ما يقول من كلمات .. قد يكون بقصد الرد أو توجيه دفة الحديث أو نحوه.
هناك نوع من هذا السماع الانتباهي هو السماع المشجع وهو السماع بقصد أن نفهم الطرف الآخر بصدق و عمق، أن نستمع بحيث نرى القضية كما يراها المتحدث تماماً، أن نحس بإحساسه ولا يعني هذا أن نوافقه في كل ما يقول قد نخالفه لكن المهم هو أن نفهمه بعمق عاطفياً و عقلياً .
السماع المشجع يشمل أكثر من تسجيل وعكس أو حتى فهم الكلمات التي قيلت، ويذهب أعمق من الكلمات و العبارات إلى نبرة الصوت وإيماءات عضلات الوجه و حركة اليدين ونحوه وقد خلص فريق من الباحثين[3] في بريطانيا عام 1970إلى أن الكلمات والعبارات تنقل 7% فقط من الرسالة الخطابية بينما تنقل نبرة الصوت 38% منها كما تنقل تعبيرات الجسم الأخرى من حركة العيون و عضلات الوجه و الجسم 55% من الرسالة .
إن السماع المشجع يعني أن تستمع بأذنيك، و تنصت بقلبك و عينيك، أن تستمع للكلمات، و تراقب النظرات، وتفطن للإيماءات، و تتابع الأحاسيس و الخلجات، قد تنقل لك الكلمات معنىً وتوصل لك الإيماءات و تعبيرات الوجه معنىً آخر مغايراً للأول. إن السماع المشجع أداة قوية جداً لتزويدك بالمعلومة الحقيقة التي يمكن أن تبني عليها بدلاً من تبني على أفكار و دوافع وأحاسيس تخيلية ومن ثم تخلص إلى تفسيرات و معالجات خاطئة.
السماع المشجع كذلك يشكل إيداعاً كبيراً في رصيدك العاطفي، عند المتكلم لأنه لا يمكن للشيء أن يحسب إيداعا إلا بقناعة الشخص المودع لديه .. يمكنك أن تفعل المستحيل و تركب الصعب لتحقق إيداعا في رصيدك عند شخص ما ، لكن كل ذلك قد لا يعني شيئاً ، بل ربما يتحول إلى سحب من الرصيد كبير إذا اعتبر الشخص ما تفعله مناورة ،أو طُعماً تبتغي من ورائه صيداً أكبر، أو شبكة تنصبها للإيقاع به.
إن السماع المشجع يداوي الشخص المتكلم و يعالجه و يوفر له جواً نفسياً مريحاً، والجو النفسي يأتي –في سلم الاحتياجات الشخصية _ في المرتبة الثانية مباشرة بعد الجو الطبيعي ( الهواء) الذي من حولنا، أرأيت إن سحب الهواء منك وأنت تقرأ هذه الأسطر هل ستفكر في مواصلة القراءة ؟ حتماً ستخرج لاهثاً تبحث عن هواء ، لكن و الكرة الأرضية مليئة بالهواء هل تشعر به؟ بالكاد لا !! لماذا ؟ هذا يقودنا إلى مبدأ مهم في الدوافع الإنسانية هو: الاحتياجات الموفرة لا تولد دافعاً مهما عظمت هذه الحاجات.. الحاجات غير الموفرة هي التي تولد الدوافع، وأهم شئ بعد الوجود الجسدي هو الوجود النفسي، أن نُفهم و نُشجع و نُقدر و نُمتدح.
عندما تستمع إلى شخص بتفهم فإنك توجد جواً نفسياً طيباً يمكنك من النفاذ إلى قلبه ودعوته إلى فكرتك.
إن السماع المشجع يجعل المستمع مرهفاً و متعاطفاً مع المتكلم الأمر الذي يحتاج إلى قوة الارتباط بالمبدأ حتى يتضح الحق من الباطل ويتميز الزبد مما ينفع الناس؛ ولا تجرفنا العاطفة بعيداً عن الصواب .

السماع طريق الفهم:

حتى نفهم جيداً لابد أن نتعلم كيف نستمع جيداً، إن طرق استماعنا في أغلبها لا تساعدنا على الفهم الصحيح، وبتفحص لطريقة استماعنا للآخرين نجد أن معظمنا يستمع انطلاقاً من سيرتنا الذاتية بإحدى أربعة طــرق:-
1. التقييم: إما أن نوافق المتحدث أو نعارضه.
2. التحقيق: أن نسأل أسئلة من حصيلة معلوماتنا حول الموضوع.
3. النصح: أن نعطي إرشادات منطلقين من تجربتنا الخاصة.
4. التفسير: أن نحاول أن نفسر دوافع الأشخاص وسلوكهم. منطلقين من دوافعنا وسلوكنا الشخصي.
هذه الاستجابات الأربعة تأتى إلينا بصورة طبيعية لأننا نعيش في بيئة تعج بالآلاف من أصحاب هذه الطرق، لكن هل تساءلنا يوما هل تساعدنا هذه الاستجابات في الفهم الحقيقي للشخص المتحدث.
إذا كنت أتحاور مع ابني هل سيشعر أنه حر ويخرج لي ما بداخله عندما أقوم بتقييم كل ما يقول ؟ هل أوفر له الجو النفسي ؟ وكيف يشعر عندما أبدأ بالتحقيق معه؛ إن التحقيق هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الآباء لا يفهمون أبناءهم وتجعل الأبناء لا يصارحون آباءهم .

تجد الحديث في كثير من الحالات يدور في عموميات:
كيف تسير الأمور يا بني ؟
- جيداً.
حسناً وماذا تنوي أن تفعل الآن ؟
- لا شيء.
طيب، وما الجديد في المدرسة ؟
- لا جديد.
وماذا تنوي أن تفعل في عطلة هذا الأسبوع ؟
- لست أدري.
هكذا تكون الأجوبة في الوقت الذي لا تستطيع أن تبعده عن التلفون عندما يتحدث إلى زميله. إنه يمضي الدقائق بلا عدد ولا يشعر بالملل بينما معك يكتفي بكلمة أو اثنتين.
وعندما تتأمل الأمر أكثر وتبحث الأسباب بأمانة سل نفسك لماذا يصارحك ؟ وفي كل مرة يصارحك فيها ألم تكن تنصحه منطلقا من سيرتك الذاتية.
ألم أخبرك هذا من قبل يا بني. ألم أنبهك إلى ذلك ؟
إن هذه الاستجابات الأربعة تسيطر علينا تماما حتى أننا لا نشعر أننا نستخدمها كأننا مفطورون عليها.
فهل من سبيل إلى طريق أفضل للسماع؟ هذا سؤال له مقام آخر بإذن الله.

----------
[1] راجع الخصال السبع للأشخاص الأكثر تأثيراً، لـ د. إستيفن أر كوفي، الخصلة الخامسة.
[2]علم التحفيز هو العلم الذي ظهر في الغرب باسم Motivation Science، وهو العلم الذي يهتم بشحذ دوافع الإنسان لحيازة النجاح والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل
[3] حتى لا تكون كلاً لـ د . عوض محمد القرني ص 123

 

نزارمحمدعثمان
  • البحوث
  • المقالات
  • الردود الصحفية
  • قصائد وأشعار
  • في الأدب الإسلامي
  • برامج إذاعية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية