صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سر النجاح

نزار محمد عثمان


مقدمة


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
فهذا برنامج قدمته عبر قناة طيبة الفضائية ـ جزى الله القائمين عليها خيرا، جمعت مادته أولا في كتاب أسميته (في سنن التغيير) الذي طبعته منظمة المشكاة الخيرية ـ وفق الله القائمين عليها ـ ، ثم قدمته في القناة في دورة تلفزيونية استغرقا سبع عشرة حلقة، وكانت في شكل جلسات حوارية تدريبية مع بعض الطلاب داخل استوديو القناة، واليوم أقدم مادتها الأصلية مقسمة على الموضوعات الرئيسة التي ناقشتها في عشرة أجزاء، سائلا الله أن يكون قولي فيها سديدا، وعملي مخلصا، كما أسأله أن يعظم النفع بها، ويجزل ثواب كاتبها وقارئها، وصلى الله وسلم على رسولنا الكريم.
 



1- أولويات التغيير
 

الكَلّ والعدل:
العالم الإسلامي اليوم - في أكثر بقاعه - يحوطه التقصير، ويكتنفه العجز، ومعظم أفراده غلبت عليهم الدَّعَة، وراج عندهم الكسل، وضَعُف عندهم الشعور بالمسؤولية رغم أنّ الكثيرين لا ينقصهم "التبحّر في العلم، ولا التعمّق في التفكير، ولا فضلٌ من ذكاء، ولا غنى من أدب، ولا نسب قريب بلغة الكتاب والسنة، ولا نعمة من استقلال .. والمجتمعات الإسلامية وقعت فريسة المادية الرعناء، ونهامة المال العمياء، والأمراض الاجتماعية والخلقية، والمثقفون - الثقافة الدينية أو المدنية - وقعوا فريسة الحرص على الجاه والمنصب والأمراض الباطنية من حسد وشح ورياء وكبر وأنانية وحب الظهور ونفاق ومداهنة وخضوع للمادة والقوة، والحركات الاجتماعية السياسية تفسدها الأغراض وعدم تربية النفوس وضعف القادة، والمؤسسات يُفسدها الخلاف والشقاق وقلّة الشعور بالمسؤولية، والتفكير الزائد في المادّة وزيادة الرواتب، والعلماء يُضعف سلطانهم اهتمامهم الزائد بالمظاهر وخوفهم الزائد من الفقر وسخط الخاصّة والعامة واعتيادهم الزائد للحياة الرخية والناعمة" [ربانية لا رهبانية، أبو الحسن الندوي، ص 15 بتصرف يسير] .. وعموماً فقد عمّ العجز و انعدمت الفعالية أو"الصفة التي تمكن الإنسان من أداء واجبه ليصل إلى الهدف الذي يرمي إليه" [عجز الثقات، د. محمد بن حسن بن عقيل الشريف، ص 19].
هذا الموضوع - موضوع العجز وغياب الفعالية - جدير بالاهتمام، وقد عبّر القرآن عنه في مَثَل الرجلين الذي ضربه الله تعالى إذ قال: ((ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيءٍ ومن رزقناه منّا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيءٍ وهو كلّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم)) [سورة النحل: 75-77].
إنّ مثال الكَلّ الذي لا يقدر على شيء والذي أينما وجهتَه لا يأتي بخير كثيرون في مجتمعاتنا ومثال العدل الذي رُزق رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً ويأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم قليل قليل.

ضرورة التغيير:

إنّ ضرورة تغيير الواقع الذي نعيشه أفراداً ومجتمعات لا تخفى على عاقل .. بل الكُلّ ينادي بضرورة تغيير الواقع .. وعند الشروع في خطوات عملية يقف الكثيرون حيارى: مِنْ أين نبدأ؟ ما أكثر الأشياء التي تحتاج إلى تغيير! نعم إنّ ما يحتاج إلى تغيير كثير .. غير أنّ أهمّه هو نفسي ونفسك، فلنبدأ بأنفسنا، وذلك هو الهُدى الربّاني، يقول سبحانه وتعالى: ((إنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)) [سورة الرعد: 11] .. هذه الآية حَوَت أموراً مهمةً في منهج التغيير لأي مجتمع .. وبوقفةٍ متأنيةٍ معها نلحظ ما يلي:
أولاً: سنّة التغيير المشار إليها في الآية - كشأن السنن الاجتماعية جميعها - سنّة عامة تسري على كل المجتمعات مسلمها وكافرها ولفظ ((ما بقوم)) الوارد في الآية يفيد ذلك.
ثانياً: في الآية تغيُّران: تغيير الله وتغيير القوم فتغيير الله هو تغيير ما بالقوم ((إنّ الله لا يغير ما بقوم))، وتغيير القوم هو تغيير ما بأنفسهم ((حتى يغيروا ما بأنفسهم)). وفي ترتيب حدوث التغيرين يقول جودت سعيد: "والتغيير الذي ينبغي أن يحدث أولاً هو التغيير الذي جعله الله مهمة القوم وواجبهم بإقدار الله لهم على ذلك، وإنّ حدوث أيّ تهاون في الخلط بين التغيرين وإدخال التغيير الذي يُحدِثه الله بالتغيير الذي يقوم به القوم أو العكس يُفقِد الآية فعاليتها وتضيع فائدة السنّة الموجودة فيها" [حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد ص 46].
"والرجاء بأن يحدث الله التغيير الذي يَخُصُّه قبل أن يقوم القوم "المجتمع" بالتغيير الذي خَصّه الله به يكون - هذا النظر - مخالفاً لنص الآية وبالتالي إبطالاً لمكانة الإنسان وأمانته ومسئوليته، ولمِا منحه الله مِن مقام الخلافة على أرضه، لأنّ هذا التحديد في مجالات التغيير وهذا الترتيب فيما ينبغي أن يحصل أولاً وما يحدث تالياً هو الذي يضع البشر أمام مسؤولية حوادث التاريخ" [المصدر السابق].
ثالثاً: مجال التغيير الأول - تغيير الله - هو ما بالقوم ويشمل كل ما يتعلق بالقوم من قوة وضعف .. ونجاح وفشل .. وعز وذلة .. وتطور وتخلف .. وهداية وغواية ونحوه.
رابعاً: مجال التغيير الثاني - تغير القوم - هو ما بالنفس ويشمل الأفكار والتصورات: كيف نرى ونفهم ونفسر الأشياء .. كيف نربط بينها .. كيف نجمع الأجزاء لنصل إلى الصورة الكبيرة .. مجال التغيير الثاني هو القيم والمبادئ والأفكار .. لا صدى القيم والأساليب والتقنيات .. كثير من الناس يخطئون حين يجعلون مجال ما يريدون تغييره - هو الأساليب والتقنيات ونظرة الناس والمجتمع لهم (صدى القيم) دون أن يركزوا على حقيقة ما يحتاج للتغيير عندهم من تصورات وقيم . إنّ الذي يريد أن يغير صورته الاجتماعية - نظرة المجتمع له - دون أن يغير حقيقة نفسه ليس أفضل حالاً ممن نظر إلى صورة وجهه في المرآة فوجده متسخاً فعمل على إزالة الأوساخ من المرآة وليس من وجهه.
إن الحقيقة الواضحة التي ذكرتها الآية مِنْ أنّ تغيير الواقع يبدأ بتغيير ما بالنفس من تصورات لاهية عابثة، لا تولد عملاً، إلى مبادئ متحركة فاعلة، تثمر عملاً يحدث تغييراً هي الحقيقة التي أيّدها تاريخ المسلمين عبر العصور، إذ لا يعرف التاريخ عصراً امتلأت فيه نفوس المسلمين بحبّ الله ورسوله، وعاشوا القرآن واقعاً ملموساً إلاّ وأحدث الله تغييره في الواقع مِن حولهم إلى واقع عزّة وقوّة ونماء وازدهار.
ولعلّ مِن أبرز الأمور التي أحدثت خلطاً في أولويات التغيير، هو ما كتب عن التغيير في العقود الماضية والذي كان يركز - في غالبه - على الاهتمام بتحصيل صدى القيم وصور المبادئ .. بالوصفات السريعة للأساليب والتقنيات التي نتبعها لنحقق التغيير .. لا بالأخلاق والصفات والقيم والمبادئ التي نروض أنفسنا لنكتسبها لننجح في التغيير. هذه الكتابات أعطت مفهوماً خاطئاً للنجاح .. مفهوماً يرتكز على صدى القيم لا عن جوهرها .. على صورة المبادئ لا حقيقتها .. فأصبح الناجح هو من صوّر له مجتمعه أنه ناجح .. وإن كان في ميزان المبادئ والقيم فاشلاً مُعدماً، والفاشل هو من صوّر له محيطه ومجتمعه أنه فاشل وإن تسنّم ذروة النجاح في ميزان المبادئ والقيم. لقد جعلت هذه الكتابات معيار النجاح يأتي من خارج النفس ولا ينبع من داخلها .. لذلك أصبح الناس أُسارى لأنماطٍ حياتية رتيبة، فجمدوا في عالم متحرك، وفقدوا المبادرة، وصاروا طوع محيطهم يحركهم كيف شاء ويملي عليهم تصرفاتهم.
إنّ سنن الله في الخلق تؤكد أنّ النجاح الأساسي هو الذي يأتي مِن جوهر القيم .. حقيقة المبادئ، بينما النجاح الثانوي هو الذي يأتي من صدى القيم .. وصورة المبادئ .. إنّ من سنن الله في النفس والمجتمع أنّ النجاح الثانوي لا يبقى طويلاً في غياب النجاح الأساسي .. إذ أنّ الوسائل والأساليب والتقنيات قد تُفِيد في الوصول إلى الأهداف القريبة .. بيد أن فشلها مؤكد في إدراك الأهداف البعيدة .. إنّ مَن يترقب الموسم ويبذر في الوقت المناسب ويسقي زرعه ويتعهده هو الذي سيحصد .. والذي يغفل عن ذلك لن تنفعه الوسائل والتقنيات مهما تطور. إنها سنَّة لا تتبدل.

تعريف التصور:

من أساسيات تغيير ما بالنفس أن نغير تصوراتنا لما حولنا .. للكون والإنسان .. للنجاح والفشل .. ونحوه حتى تتوافق مع التصور الإسلامي الصحيح .. نقصد بالتصور هنا الطريقة التي نرى بها الأشياء ليست الرؤية الحسية فقط بل الرؤية المعنوية أيضاً .. الرؤية التي تشمل فهم الأشياء وتفسيرها والحكم عليها وربطها ببعضها .. والتصور بهذا المعنى يملكه كل أحد .. ولكنه عادة ما يكون باهتاً في أذهان الكثيرين حتى أنهم لا يحسون بوجوده .. فكل إنسان يتحرك ومعه تصور معين تحدده عوامل شتى .. وتصور الإنسان ليس بالشيء الثابت بل هو قابل للنمو والارتكاس بل وربما التغيير الكامل.
كذلك تصوراتنا لأشياء يمكن أن تكون متناسقة متجانسة تتجمع وتتحد لتعطينا تصوراً كاملاً موحداً عن الكون والحياة .. ويمكن أن تكون تصورات مضطربة متناقضة لا يمكن أن تؤلف تصوراً موحداً.
لقد شبّه الدكتور ستيفن كوفي التصورات التي نحملها في ذهننا للأشياء بالخرائط التي نستعملها للوصول إلى موقع معين في المدينة، فإن كانت الخريطة صحيحة كان الوصول للموقع سهلاً، وإن كانت الخريطة خاطئة، أو لمدينة أخرى غير التي نريد، فعندئذ لا تنفع الأساليب ولا التقنيات ولا الاستراتيجيات في إيصالنا إلى الموقع الذي نريد.
وقال إنّ كلاً منا يحمل خرائط عديدة يمكن أن تُصنّف إلى صنفين:
- خرائط لواقع الأشياء (الحقائق).
- خرائط لما يجب أن تكون عليه الأشياء (المثال).
فنحن نقيم كل ما يمر بنا بناء على هذين النوعين من الخرائط [انظر The Seven Habits of Highly Effective People by S. R. Covey، ص 23-25].

التصور مبدأ الأفعال الإرادية:

من المعلوم أنه إذا أراد المهندس أن ينشئ بيتاً أو شارعاً أو مدينة فلا بدَّ له قبل الشروع في البناء الفعلي من تصوُّر واضحٍ لما يريد أن يفعله.. وبقدر دقة هذا التصور وصوابه تكون السرعة والنجاح في العمل.. وهكذا في كلِّ جوانب الحياة، لا بدَّ للعاقل من تصوُّر يتحرّك على ضوئه، وقد أفاض بعض علماء الاجتماع المعاصرين في توضيح حقيقة أنّ السلوك والأفعال تنتجان من التصور، فقال ستيفن كوفي إن السلوك والمواقف ينبعان من التصور، هذه الحقيقة ـ التي تكلّم عنها بعضهم وكأنها ظهرت في هذا العقد ـ لم تغِبْ عن علمائنا الربانيين، فقد قررها ابن القيم في مواضع كثيرة متفرِّقة من كتبه.. قال الإمام في معرض حديثه عن خطر الكذب إنّ التصور هو مبدأ كل فعل إرادي، تأمّلْ كلماته: "إياك والكذب، فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس"، وقوله: "وإذا فسدت عليه ـ أي الكاذب ـ قوّة تصوُّره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسرى حكم الكذب عليها". [الفوائد ص: 259].
وقال أيضاً: "مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصوُّرات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة، وجِماع ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقيقته، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة أو النار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرُّز منها.. إلخ". [الفوائد ص: 260]. وقال أيضاً: "أصل الخير والشر من قِبَل التفكُّر، فإنَّ الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحُبّ والبغض". [الفوائد ص: 293].
ولا يخفى على القارئ أنّ الفكر والتفكُّر والأفكار كلّها تشير إلى الطريقة التي نرى بها الأشياء، أو الفكرة التي نكوِّنها عن الأشياء ونفهمها بها ونتحرّك من خلالها وهو ما عرَّفناه بالتصوُّر.
يترتّب على ما سبق من مقدِّمات أن نؤكِّد أنه "إذا أردنا تغييراً صغيراً فيمكن أن نعمل على تغيير الأساليب والوسائل والاستراتيجيات، ولكن إذا أردنا تغييراً كبيراً ملموساً مستمراً فلا بدَّ أن نعمل على تغيير التصوُّر".
إن التصور الصحيح هو التصور الذي يرتبط بالمبادئ...التي هي قوانين ربانية مجربة تحكم نمو وسعادة الإنسان.. كالعدل والصدق والأمانة ونحوها.

التصوُّر والشخصية:

لقد سبق القول بأن التصور ينتج أفعالاً، والأفعال تتكرّر لتصبح عادات (خصالاً)، والعادات (الخصال) تتوالى لتنتج شخصية، والشخصيات تتجمَّع لتولِّد توجهاً، وكما قال الإمام ابن القيم: " مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصوُّرات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة"، فهل يمكن تغيير الخصال أو العادات؟ الجواب أنه يمكن تغيير الخصال لكن الأمر يحتاج إلى جهد كبير في البداية.. تماماً كالمركبة الفضائية.. فإنها تحتاج في الدقائق الأولى إلى طاقة كبيرة لمقاومة الجاذبية الأرضية ولقطع أميال معدودة.. لكنها بعد ذلك تقطع آلاف الأميال بنفس الطاقة التي أنفقتها في الأميال الأولى. كذلك الخصال السيئة يمكن أن تُغيّر، لكننا نحتاج على جهد كبير حتى نخرج من نطاق جاذبيتها ونحلِّق في آفاق النجاح.
في ما يلي من مقالات سنراجع بإذن الله بعض التصورات والخصال التي تتعلق بتغيير ما بالنفس والمجتمع.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
نزارمحمدعثمان
  • البحوث
  • المقالات
  • الردود الصحفية
  • قصائد وأشعار
  • في الأدب الإسلامي
  • برامج إذاعية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية