اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/nizar/16.htm?print_it=1

خذوا تعقلكم .. واتركوا عواطفنا

نزار محمد عثمان


منذ عهد غير قريب ظهرت في العالم الإسلامي ـ تأثراً بالنهضة العلمية المادية في الغرب ـ آراء تعظِّم العقل وتستهجن العاطفة وكأنهما طرفا نقيض يمنع أحدهما وجود الآخر، وقد وقف وراء هذه الآراء أفراد وجماعات أرادوا للأمة أن تكون كتلة ذهنية مجردة تتفاعل مع معطيات الواقع بميزان الربح والخسارة المادي.. بعيداً عن العواطف التي يرون أنها أسهمت في تخلف الأمة وتأخرها، وازدادت قوة طرح هذه الآراء بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر فاتُّهِم كل من رأى صحة موقف طالبان ووجوب نصرتها بالعاطفية وضيق الأفق والبعد عن التعقل، ثم جاءت أحداث فلسطين وتمادى دعاة التعقل في استهجان رفع شعار قتال اليهود، وقالوا إن الأمة ليست مُعَدّةً لقتال، ونسبوا الدعوة للقتال لفَوْرة الحماس ولدفق العاطفة ولغياب التعقل، وصرّح بعضهم أن الدفاع عن القدس لا يكون بمعارك غير متكافئة كما تفعل (حماس) و(الجهاد الإسلامي) و(كتائب الأقصى)، ولا بالشعارات العاطفية التي تحض على الجهاد، بل يكون بإقامة معاهد الدراسات والبحوث التي تضع الاستراتيجيات التي يمكن تبنيها حتى تقوى الأمة وتسترد عافيتها وتستعيد القدس!! ودعا بعض الصحفيين إلى أن نرسل قلبنا إلى (مشوار قريب) وننفرد بعقلنا حتى نكون بعيدين عن العاطفة والشعارات الممجوجة.. وبالعقل المجرد من كل نزوة (حتى نزوة الإحساس بالظلم).. لنرى بوضوح لماذا نحن أمة مستعدة للموت في سبيل الإسلام لكنها غير مستعدة (للعيش) به [صحيفة الرأي العام عدد 7 أبريل 2002 الصفحة الأخيرة].
وبعيداً عن أن الإحساس بالظلم لا يمكن أن يوصف بالنزوة، وبعيداً عن أن من لم يعش بالإسلام لا يمكن أن يموت في سبيله.. نقول إن هذه الدعوة العقلانية البحتة تسئ إلى الاسلام من أوجه أهمها:
أولاً: أنها تعمل على تحريف الفهم الصحيح للدين، والذي يعلي من قيمة العاطفة وعمل القلب ويُرتِّب عليهما من الثواب مالا يرتب على أعمال الجوارح.. بل لا سبيل إلى تذوق طعم الإيمان إلا بهذه العاطفة (ثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) [صحيح البخاري، باب الإيمان، كتاب حلاوة الإيمان، حديث رقم 15]، فالحب والخوف والخشوع والرجاء والرضا والشكر والحياء واليقين والسكينة والغيرة والصفاء والفرح كلها من صميم هذا الدين.
ثانياً: هذه الدعوة العقلانية قد تنجح في تكوين شباب مثقف نشط لكن علاقته مع ربه ستكون ضيقة محدودة جافة جامدة رسمية فارغة من الكيفيات الداخلية التي يجب على المؤمن أن يتكيف بها… فمن الطبيعي ومما يتفق والعقل والمنطق والقياس ـ في هذه الحال ـ أن يحيد ركب السعي والعمل عن جادة الإيمان بالغيب والحنين إلى الآخرة، والشوق إلى الشهادة، وطلب رضا الله والتفاني في حبه، تلك الجادة التي وضعه عليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى طلب الحكم والعز والغلبة والوصول إلى الحكم، وبالتالي المادية المجردة. [التفسير السياسي للإسلام، أبو الحسن على الحسني الندوي، ص 102 بتصرف].
ثالثاً: العاطفة الصادقة هي شأن العارفين، يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: "لم يزل العارفون المحققون والعلماء الراسخون في كل دَوْر من أدوار التاريخ الإسلامي ينتصرون للحب والعاطفة ويثيرونهما، ويديلون من غلو العقل والمنطق والخضوع الزائد للمقدمات والمصطلحات، وجفاف القلب والروح، ويعيدون الحياة والنشاط والحماس والتفاني واللذة والنشوة إلى هذه الأمة التي تصبح في فترة من فترات التاريخ فريسة المادية الرعناء والتطرف العقلي والجمود العاطفي" [ربانية لا رهبانية، الشيخ أبو الحسن على الحسني الندوي، ص 55].
رابعاً: العاطفة الصادقة هي أساس الجهاد، يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: "إن اليقين والحب هما جناحان لصقر الجهاد والاجتهاد يحلق بهما في السماء، إنه لا يستطيع أحد أن يترفع عن أهواء نفسه وعاداته ومألوفاته ومصالحه ومنافعه وأغراضه وشهواته، ولا يمكن لأحد أن يترفع عن المستوى السافل الذي أشار الله إليه بقوله: ( ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) إلا إذا تجلى فيه اليقين و الحب، فأصبح كالبرق الخاطف في الليل البهيم، أو كالشعلة المتأججة التي لا تخمد نارها ولا يهدأ أوارها" [المصدر السابق ص 115]، لا يمكن لأحد أن يموت شهيداً في سبيل الله إلا إذا عاش مسلماً ملتزماً ذا عاطفة جياشة يقدم روحه رخيصة ليعيش الناس من بعده أعز حمى و أوفر كرامة وأحسن دينا، "وكلما تغلبت على الأمة هذه الأوضاع الفاسدة، ودهمتها الليالي القاتمة، وبدا التغيير محالاً، أسعفها رجل من رجال الحب واليقين، وغير تيار الحياة بعاطفته القوية الغامرة وإقدامه الطموح البعيد، فكان ما قال الله تعالى: (يخرج الحي من الميت)، (ويحيي الأرض بعد موتها)" [المصدر السابق ص 117].
ومصداق هذا أن القدس لم يحررها إلا أهل الحب الصادق و العاطفة الجياشة الذين منعهم وقوع القدس في أيدي الصليبيين من الابتسام أو التللذ بالنساء، روى أبوشامة عن اغتمام السلطان نور الدين محمود زنكي عندما نزل الصليبيون على دمياط [وكان فيها جيش نور الدين بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي] قائلاً: "وبلغني من شدة اهتمام نور الدين ـ رحمه الله ـ بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج" [مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، اختصار د. محمد بن حسن بن عقيل، ص 140].
ولما جاءت صلاح الدين الأيوبي الأبيات التي كتبت على لسان المسجد الأقصى والتي تقول:
يا أيهــا الملك الذي لمعالم الصلبان نكَّـسْ
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدسْ
كل المساجد طُهِّرت ساحاتها وأنا على شرفي أُنَجّسْ
فانتخى ونادى وا إسلاماه، ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل حتى حرر بيت المقدس من الصليبيين.
لقد كان من رقة صلاح الدين وجيشان عاطفته أن قال عنه أبو شامة: "وكان ـ رحمة الله ـ خاشع القلب، رقيق الدمعة إذا سمع القرآن العزيز يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته" [المصدر السابق ص 377].
إن الحب الصادق والعاطفة الجياشة هما سبيل المصلحين والفاتحين على مر العصور والأزمان.. إنها قاعدة لا تتخلف أبداً.. يشهد لها التاريخ.. وتؤيدها السير.
خامساً: إن العاطفة التي نريد مبصرة وليست عمياء، والقلب الذي نعرف يدرك و يعقل.. (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [الحج 46]، والقلوب العاقلة.. التي عشقت العبادة.. وجربت الخلوة.. وعرفت المناجاة.. وذاقت حلاوة الإيمان.. وفاضت عاطفتها على الأكوان.. تنفذ بفكر صاحبها إلى ما وراء العالم المادي الطاغي في دنيا الناس اليوم وتصل إلى ما لاتصل إليه العقول المستنيرة ومعاهد الدراسات المترجمة.. وتضع في تصورها الدنيا والآخرة.. وتدرك أن الفوز في العض على المبادئ بالنواجذ و الصبر على ذلك.. وتعي أن طلب الشهادة والسعي لها لا يعد عواطف هوجاء أو تصرفات رعناء.. أو خسارة للأمة.. بل ربح أي ربح على المستوي الفردي والجماعي.
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
كريم يروي نفسه في حيـاته
ستعلم إن متنا غداً أينا الصدي
 

نزارمحمدعثمان
  • البحوث
  • المقالات
  • الردود الصحفية
  • قصائد وأشعار
  • في الأدب الإسلامي
  • برامج إذاعية
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية