صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







النصر بين عوامل البناء ومعاول الهدم

د. نزار محمود قاسم الشيخ

 
الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل قائد، وخير مجاهد، ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم منه، ولا غازياً أَرْأَفَ منه، رسولُ المرحمة ونبيّ الملحمة، وعلى آله وصحبه.

وبعد فإن الآية السابقة لمن أعظم الأدلة على وجوب اتباع منهج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم في الجهاد؛ لأن نصرة الله تعالى لا تكون إلا باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا غاب المنهج النبوي عن فكر كثير من الشباب غاب النصر، وتبقى القاعدة إذا غابت التقوى فالنصر للأقوى!
يأتي هذا المقال ليعالج المرتكزات الأولى للنصر، وأن غياب تلك المرتكزات كافية بإحلال الهزيمة لأي مسلم مهما علا شأنه.

ومما لا خلاف فيه بين أهل العلم أن الجهاد فُرِضَ في المدينة المنورة، وأنه لم يُبِحِ الله تعالى للمسلمين القتال في الفترة المكية الدعويَّة، بل كانوا مأمورين بالصبر والعفو والصفح، وجهاد النفس، وجهاد الدعوة، بالقرآن والحجة والبرهان، وذلك لأمور عدّة؛ ومنها قلّة عددهم، ومن أجل تهيئةِ نفوسِهم بالإيمان الراسخ([1]).

لكن وردت ثلاث آيات في القرآن المكيّ ذُكِرَ فيها «الجهاد» والمعنى فيها منصرف إلى غير القتالِ بالسيف، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]، وقال تعالى: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 6]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

فورود الجهاد في القرآن المكيّ يؤكِّد أمرَين اثنين؛ الأول: وجوب تزكية النفس والاستعداد للجهاد، والثاني: أنَّ أنواع الجهاد الأخرى ـ كما سيأتي ذكرها ـ لا تقلَّ أهمية في لزوم الاعتناء بها عن جهاد القتال. 
لذا كان المعيار الحقيقيّ للنصر في الجهاد في جميع ميادينه العسكرية؛ هو بامتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، مع التوكّل على الله تعالى حقّ التوكُّل في الأخذ بأسباب النصر؛ لقول الله تعالى السابق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ..﴾ [محمد: 7]، ولقول الله تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ..﴾ [آل عمران: 160].

وعلى هذا دأب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في الأخذ بأسباب النصر قدْرَ ما يستطيعونه، والباقي يتكفَّل الله تعالى به، ومن شواهد ذلك ما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن عِياض الأَشْعَرِي، قال: شَهِدْتُ اليَرمُوكَ، وعلينا خمسةُ أُمَراءَ: أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ، ويزيدُ بنُ أبي سُفْيانَ، وابنُ حَسَنةَ، وخالِدُ بنُ الوَليدِ، وعِياضٌ.
قال: وقال عُمرُ: إذا كانَ قتالٌ فعليكم أَبو عُبَيدةَ.
قال: فكتبنا إليهِ، إنَّهُ قَدْ جَاشَ [أي تدفَّق] إلينا الموتُ، واستمدَدْناهُ [أي طلبنا منه أن يمدَّنا بمزيد من الجنود].
فكتبَ إلينا: إنَّهُ قد جاءَني كتابُكمْ تَسْتَمِدُّونِي، وإنِّي أدُلُّكم على منْ هو أَعَزُّ نَصْرًا وَأَحْضَرُ جُنْدًا: اللهُ عزَّ وجَلَّ، فاسْتَنْصِرُوهُ، فإنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ قد نُصِرَ يومَ بدْرٍ في أقلَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ، فإذا أتاكُمْ كتابي هذا فقاتِلُوهُمْ، ولا تُراجِعوني.
قال: فقاتلْناهُمْ فهزمْناهُمْ([2]).

هذا، وإنّ من أكبر الطامّات في التخطيط في سبيل الله  لدى بعض الشباب هو قصر الجهاد على جهاد القتال والجهل بأحكامه، مع أنَّ أصناف الجهاد في القرآن جاءت متساوية في وجوب الأخذ بها، فمن أهمِّ ركائز النصر الأخذ بأنواع الجهاد، وكل إهمال لواحد منها سبب للهزيمة في إحدى جوانب الجهاد،  وهي:

1ـ جهاد العلم: ويكون بتعلُّمِنا وتعليمنا الأحكام الشرعية خاصة، وغيرها من العلوم الكونية، كالطبِّ والفيزياء والرياضيات؛ وهذه على الكفاية، ولا تخفى أهميتها على بصير في التخطيط الاستراتيجي العسكري؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].
ومن هذا القبيل الجهاد بالقرآن الكريم، ويكون بتعلُّم القرآن الكريم وتعليمه، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52]([3]).
ومن جهاد العلم هنا المعرفة بمشروعية الجهاد وأحكامه، ومعرفة الراية التي يُجاهد تحتها، وكيفية إخلاص النية لله تعالى في الجهاد، وإلا كان جهادُه وَبالاً عليه؛ لما رواه مسلم وغيره عن أبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسولَ اللهِ  صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ  يقول: إن أَوَّلَ الناس يُقْضَى فيه يوم القِيامةِ ثلاثةٌ؛ رَجلٌ اسْتُشْهِدَ فأُتي به، فعَرَّفهُ نِعَمَهُ فعَرَفَها، فقال: وما عَمِلْتَ فيها؟
 قال: قاتَلْتُ فيكَ حتى قُتِلْتُ.
 قال: كذبتَ، ولكنَّكَ قاتَلْتَ لِيُقالَ هو جريء فقدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فيُسْحَبُ على وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النَّارِ..([4]).  

2ـ جهاد اللسان:
ويأتي بالدرجة الثانية بعد أن نتعلَّم العلوم الشرعية، والأحكام المُخْتَلَف فيها؛ وذلك بأن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، مع مراعاة الخلاف في المذاهب الفقهية والعقدية التي عليها أهل السنة والجماعة، أو بالدعوة إلى الإسلام وشرائعه، أو بإقامة الحجّة على الباطل، أو ببيان الحقّ وإزالة الشبهات، أو بتحريض المؤمنين على القتال، أو الدعاء لهم..؛ قال الله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ [النساء: 84]، ولما رواه أبو داود وغيره رحمه الله تعالى عن أنسٍ رضي الله عنه، أن رسول الله  صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ  قال: «جَاهدُوا المشركينَ بأموالِكم وأنفسِكُمْ وألسنتِكم»([5]).
ومن أنواع الجهاد العمل الإعلاميّ والدعائيّ؛ بمثلِ ما سبق في كل مرئيٍّ ومسموع، ومن ذلك صفحات التواصل الاجتماعيّ والمنتديات وصفحات الإنترنت وغيرها؛ لما  روى مسلم رحمه الله عن عائِشةَ رضي الله عنها أَنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آله وسَلَّمَ قالَ: «اهْجوا قُرَيْشًا، فإنَّهُ أَشَدُّ عليها مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ، فأرسلَ إلى ابْنِ رَواحةَ فقالَ: اهْجُهُمْ فهجاهُمْ فلمْ يُرْضِ، فأرسلَ إلى كعبِ بنِ مالكٍ، ثُمَّ أرسلَ إلى حسَّانَ بنِ ثابتٍ، فلمَّا دخلَ عليهِ، قال حسَّانُ: قدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إلى هذا الأسدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَدْلَعَ لسانَهُ فجعلَ يُحرِّكُهُ، فقالَ: والَّذِي بعثَكَ بالحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ بلساني فَرْيَ الأَديمِ.
 فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا تَعْجَلْ، فإنَّ أبا بكرٍ أعلَمُ قُرَيْشٍ بأنْسابِها، وإنَّ لي فيهم نسَبًا، حتَّى يُلَخِّصَ لكَ نسَبي فأتاهُ حسَّانُ.
ثُمَّ رَجَعَ فقالَ: يا رسولَ اللهِ! قَدْ لَخَّصَ لي نسَبَكَ، والَّذِي بعَثَكَ بالحَقِّ لأَسُلَّنَّكَ منهُم كما تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ العَجينِ.
قالتْ عائشةُ: فسمعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقولُ لحسَّانَ: إنَّ رُوحَ القُدُسِ لا يَزالُ يُؤَيِّدُكَ، ما نافحتَ عَنِ الله ورسولِهِ.
وقالتْ: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولُ: هجاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى واشْتَفَى.
قَالَ حَسَّانُ:

هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ الله في ذاكَ الجَزاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا ... رَسُولَ الله شِيمَتُهُ الوَفاءُ
فإنَّ أَبِي ووالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقاءُ
ثَكِلْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَدَاءِ
يُبَارِينَ الأَعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ ... على أَكْتافِها الأَسَلُ الظِّمَاءُ
تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ ... تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فإنْ أَعْرَضْتُمُو عَنَّا اعْتَمَرْنَا ... وكانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وإلَّا فَاصْبِرُوا لِضِرابِ يومٍ ... يُعِزُّ اللهُ فيهِ مَنْ يَشاءُ
وقالَ اللهُ: قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا ... يَقُولُ الحَقَّ لَيْسَ بِهِ خَفاءُ
وقالَ اللهُ : قَدْ يَسَّرْتُ جُنْدًا ... هُمُ الأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
لَنا في كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ ... سِبابٌ أَوْ قِتَالٌ أَو هِجاءُ
فمَنْ يَهْجُو رسولَ الله مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
وجِبْرِيلٌ رسولُ الله فينا ... وَرُوحُ القُدسِ لَيْسَ لَهُ كِفاءُ([6]).

3ـ جهاد القلب والنفس: بأن نجاهد الشيطان والنفس عن الشهوات المحرّمة، ونجاهد أنفسنا بالصبر على الطاعات، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].  
وقال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا 10﴾ [الشمس: 9-10].  
وروى الترمذيّ رحمه الله تعالى وغيره عن فُضَالَةَ بنِ عُبيْدٍ رضي الله عنه.. أنه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ يقول: «المُجاهِدُ مَنْ جاهَدَ نَفْسَهُ»([7]).
 وجهادُ النفس على أربع مراتب: أُولَاها حمْلُها على تعلُّم أمور الدِّين، ثم حملها على العمل بذلك، ثم حملها على تعليم مَنْ لا يعلم من أهل الإسلام وحضِّهم على التمسّك بالدِّين، ثم الدعوة إلى توحيد الله في حقّ مَنْ لمْ يُسلم.

4ـ جهاد اليد:
ويتجلّى بإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى أولاً، وبزجر أهل المنكر ثانياً، على حسب استطاعة الناهي عن المنكر وصلاحياته؛ لقول الله تعالى: ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41].
ولما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ يقولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فبقَلبِهِ، وذلكَ أَضْعَفُ الإيمانِ»([8]).
ولما رواه الشيخان عن أبِي هُرَيْرةَ رضي الله تعالى عنه أنَّ رسولَ الله  صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ قال: «الخَيْلُ لِثَلاثةٍ: لِرَجُلٍ أجْرٌ، ولِرَجُلٍ سِتْرٌ، وعلى رَجُلٍ وزْرٌ؛ فأمَّا الَّذي لَهُ أجْرٌ؛ فرَجُلٌ ربَطَها في سَبيلِ الله فأطالَ في مَرْجٍ أوْ رَوْضَةٍ، فَما أصابَتْ في طِيَلِها ذَلكَ مِنَ المَرْجِ أو الرَّوْضَةِ كانَتْ لَهُ حَسَناتٍ، ولَوْ أنَّها قَطَعَتْ طِيَلَها فاسْتَنَّت شَرَفاً أوْ شَرَفَينِ، كانَتْ أرْواثُها وآثَارُهَا حَسَناتٍ لَهُ، ولَوْ أنَّها مَرَّتْ بِنَهْرٍ فشَربَتْ مِنْهُ، ولمْ يُردْ أنْ يَسْقِيَها، كانَ ذَلكَ حَسناتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلكَ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَها تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ في رِقَابِها، ولا ظُهُورِها، فَهِيَ لِذَلكَ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَها فَخْرًا ورِياءً ونِواءً لأَهْلِ الإِسلامِ، فَهِيَ على ذَلكَ وِزْرٌ.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنِ الحُمُرِ، فقالَ: «مَا أُنْزِلَ عليَّ فِيها شَيءٌ إِلَّا هَذِهِ الآيةُ الجامِعةُ الفاذَّةُ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾ [الزلزلة: 7-8]([9]).

5ـ جهاد القتال:
أن نقاتل المشركين بالسلاح من أجل الإسلام؛ دفاعاً عنه، أو نقاتل مَن وقف في طريق دعوته؛ حتى يُسلم الكفار أو يسالموا؛ لقوله تعالى: ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 41﴾ [التوبة: 41].
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إِلَهُ إلا اللهُ وأَنَّ مُحمَّدَاً رسولُ الله، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤْتُوا الزكاةَ، فإن فَعَلُوا عَصَمُوا دِماءَهُم وأَمْوالَهُمْ إلا بِحَقِّها وحِسابُهُمْ على الله»([10]).
ولما رواه أبو داود وابن ماجه رحمهما الله تعالى _ بإسناد حسن _ عَنْ أَبي أُمامةَ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ: «مَنْ لِمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غازِياً، أَوْ يخلُفْ غازِياً في أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى بِقَارِعةٍ قبلَ يومِ الْقِيامة([11]).

6ـ جهاد الرباط:
الرباط هو قسيم جهاد السلاح، إذْ كلُّ مرابطٍ مجاهدٌ، وليس العكس.
 وقد أمر الله تعالى به في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 200﴾ [آل عمران: 200].
 ومن الأدلة على فضل الرباط ما رواه الطبراني رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ: «أولُ هذا الأمرِ نبوةٌ ورحمةٌ، ثم يكونُ خلافةٌ ورحمةٌ، ثم يكونُ مُلكاً ورحمةً، ثم يكونُ إمارةٌ ورحمةٌ، ثم يتكادَمونَ عليها تكادمَ الحميرِ، فعليكم بالجهادِ، وإن أفضلَ جهادِكم الرباطُ، وإن أفضلَ رباطِكم عَسْقلان»([12]).
وروى النَّسَائيُّ والحاكم وغيرهما رحمهما الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ: «ألا أُنبئكم بليلةٍ أفضلَ من ليلةِ القدر؟! حارسٌ حَرَسَ في أرضِ خوفٍ لعلّه أن لا يرجعَ إلى أهله»([13]).
وتدخل هذه الأقسام جميعها في قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ..78﴾ [الحج: 78]، فكل مَن أتعب نفسه في ذات الله تعالى فقد جاهد في سبيله، إلا أن الجهاد إذا أُطْلِقَ لا يقع إلا على مجاهدة الكفار بالسلاح.
فمَن وجب عليه الجهاد وجبت عليه المشاركة فيه بنفسه، فإن لم يستطع فعليه دفع المال لتجهيز الغزاة، فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله، وعلى هذا فيجبُ على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها، أو يجاهد بتعليم الناس الخير، ويكفّ عنهم أذاه، أو يخلف الغازين في أهلهم بخير، فإن لم يستطع فعليه بالدعاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


د. نزار محمود قاسم الشيخ
 

-------------------------------------
([1]) يراجع تفسير ابن كثير 2/359.
([2]) مسند الإمام أحمد رقم 326.
([3] ) تفسير الطبري 18/15.
([4]) صحيح مسلم رقم 5032.
([5]) سنن أبي داود رقم2504، وسنن النسائي الكبرى رقم4304، وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 2/81.
([6]) صحيح مسلم رقم6478.
الأسل: الرماح، الظماء: الرقاق العطشى لدماء الأعداء، الأعنّة: جمع عنان؛ وهو سير اللجام الذي تُمسِك به الدابة؛ والمقصود: الخيل، أفري: أمزّق أعراضهم بالهجاء كما يمزّق الجلد، النَّقع: الغبار.
([7]) سنن الترمذي رقم1621، وقال أبو عيسى: «..حديثُ فُضَالَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ».
([8]) صحيح مسلم رقم86.
([9] ) صحيح البخاري رقم 7356، وصحيح مسلم رقم 987.
قوله: «في مرج أو روضة» المرج: الأرض الواسعة ذات نبات كثير تمرج فيها الدواب، أي تخلّى تسرح مختلطة كيف شاءت، والروضة: الموضع الذي يستنقع فيه الماء، قوله: «طِيَلها» هو الحبل الذي ترتبط به ويطول لها  لترعى، قوله: «فاستنّت» من الاستنان؛ وهو العدْوُ، و«الشَّرَف» الشوط. عمدة القاري 14/151، والنهاية لابن الأثير 4/315.
([10]) البخاري رقم 25، ومسلم رقم 22.
([11]) أبو داود رقم 2503، وسنن ابن ماجه رقم (2762). وانظر رياض الصالحين 1/247.
قوله: «أو يخلف» أي لم يقم بعده في خدمة أهله، بأن يصير خليفة له ونائباً عنه في قضاء حوائجه، قوله: « بقارعة» أي: بداهية مهلكة، يقال: قرعه أمر، إذا أتاه فجأة، وجمعها قوارع.
([12]) معجم الطبراني رقم11138، ورجال الحديث ثقات. انظر ‏مجمع الزوائد رقم8964.
    وقوله: «يتكادمون عليها»: الكدم: العضُّ، والمراد أنهم يتنافسون على أخذها وقبضها كما يعضّ الحمار على عُشبه.
وعسقلان: مدينة في فلسطين على ساحل البحر الأبيض بين غزّة وبيت جِبْرين، ويقال لها: عروس الشام، ويقال لدمشق: عسقلان أيضاً. ينظر معجم البلدان 4/122.
([13])‏ سنن النسائي الكبرى رقم 8868، والمستدرك على الصحيحين رقم 2424.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. نزار الشيخ
  • مقالات
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية