صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







غسان جدو احترق حتى النهاية

مبارك عامر بقنه


"غسان جدو" استهجن كل شيء، فاستهجن الناس والعلماء والمفكرين ، ورأى أنهم ليسوا على مستوى إنشاء ثورة فضلا عن إدارتها وتوجيهها وأنهم رعاع همج متمردون انفعاليون غوغائيون .. الخ يا ويح لسانه ما أكذبه وما أجهله. وقد استهجنت الكاتب لاستهلاك المعاني لقبيح شتمه وسوء لفظه، ولضعف المعاني اتجه الكاتب للخطاب المتعالي واصفاً الثورات بالقطيع وأنها لا تعرف نعمة الفكر ونكهة الفلسفة وأنها مجرد تمرد أهوج وانفعال لا طائل منه سوى الدمار.

مغالطات الكاتب وتجنيه ينم عن رغبة في بقاء الديكتاتوريات لدرجة أن كلماته تفوح بعمالة مقنعة وإن كنت لا أرغب برمي التهم لأحد واتجه لإحسان الظن فأقول سقط في جهالة وتعصب وقلق وخوف من سقوط نظام الأسد والذي أوشك على الرحيل، فقد ذكر الكاتب سابقاً أنه على علاقة شخصية مع حسن نصر الله وأنه متعاطف مع السياسة الإيرانية، فمنطلقه ليس منطلقا فكرياً فلسفياً بل منطلق سياسي طائفي ولهذا لن تجد في خطابه سوى الجعجعة اللفظية التي بذل جهداً في تحسينها وتنميقها ولكن اللفظة البديعة لا يكتمل جمالها ويزداد حسنها إلا بزينة معناها، والعاقل لا تغره الألفاظ بل تجذبه المعاني التي تحمل معنى رصين، فمن السقطات الكبرى نفيه وجود "ربيع عربي" ولأنه نفى وجود الشمس لكان أهون في قوله فالعالم أنسه وجنه شهدوا بوجود "الربيع العربي" فالتوهم بأن ما يعيشه الناس هو مجرد تمرد أهوج هو مما يضحك الصبيان ويسقط شخصية قائلها.

من الجهل مقارنة الثورات العربية الحادثة بالثورات الغربية فهي تختلف عنها في منطلقاتها أساليبها، فالثورات الغربية سبب نشؤها هو الخروج على الكنيسة فهي متمردة على النظام الديني؛ أما الثورات العربية فهي خروج على الأنظمة الاستبدادية فهي متمردة على النظام السياسي. وهذا فرق جوهري، حيث يتحتم على الثورات الغربية أن تستبدل الدين المتمثل في الكنيسة بدين جديد يحقق رغباتها؛ ولن يستطيع عامة الناس أن يضعوا منهجا بديلا فكانت الحاجة ماسة للفلاسفة لتشكيل نظاما فلسفيا بديلا. أما الثورة العربية فهي لم تقم لمناهضة الدين واستبداله وإنما لاستبدال النظام السياسي فهي ليست بحاجة لفلاسفة وإنما بحاجة لقادة فكرية سياسية قادرة على تحقيق ما يحلم به الناس من كرامة إنسانية ، ورفاة في المعيشة، وحرية في التعبير .

الثورات العربية تختلف في الوسيلة عن الثورات الغربية، فالثورات الغربية دموية اتخذت الصراع المسلح للقضاء على خصومها فهي أقصت المخالف بل أبادته وسلبته حق البقاء ، وفرضت فكرها وفلسفتها بالقوة وليس بالقناعة، وعندما تفرض الأفكار بحد السيف فهو يدل على خلوها من المعنى الإنساني وأنها لا تملك الحقيقة التي يبحث عنها الإنسان، ففلاسفة الثورة الغربية ومفكروها أسسوا منهج الديكتاتورية والاستبداد، "فمكيافيللي" يرى أن العدالة هي في إذعان الضعيف للقوي فالسيادة لا تحق للضعيف بل تكون للقوي، وأن الحاكم عليه أن يكون ماكراً مخادعاً بحيث يظهر للناس الصفات الحسنة ويبطن لهم المكر ، وقد سار على نهجه "نيتشه" الذي كان يرغب في القضاء على الضعفاء. فهذه أخلاق الفلسفة الغربية "البقاء للأقوى" كما قرر ذلك "تشارلز داروين"، فالضعيف لا حق له في الحياة. وقد نهجت الثورة الفرنسية هذا المنهج الفلسفي فأزهقت آلاف الأرواح على المقاصل بمجرد الشبهة . أفهذه الفلسفة التي يمجدها غسان والتي تمجها النفوس السوية، وترى أن البهائم أزكى عقلا.

الثورة العربية ثورة سلمية، فقد تركت السلاح جانباً وإن كانت قادرة على حمله ، ووقفت بصدورها عارية أمام طلقات الاستبداد ، وقفت الملايين متجردة من كل صور العنف والمواجهة المسلحة، تطالب بحقها دون إقصاء للآخر والقضاء عليه، وهذا لم يكن في الثورات الغربية، فأيهما ، بربك ، أرقى فكراً وأجمل أسلوباً ؛ الثورة التي أبادت الناس أم الثورة التي أحيت الضمائر وصانت الدماء والأعراض. الثورات العربية أنموذج إنساني راقي لم يدركه الغرب ولم يستطيع الفلاسفة الغربيين بما ملكوه من فكر وثني أن يرتقوا إلى هذا الاسلوب الراقي.

الثورات العربية لا تريد فلاسفة كفلاسفة الغرب الذين ازدروا بالإله وأزلوه من حياة الناس واستبدلوه بالإنسان وجعلوا الإنسان هو المركز والمنطلق والمآل، لا نريد فلاسفة يؤسسون للديكتاتورية، ويأطرون للرذيلة. الربيع العربي بحاجة لمن يقودها إلى بارئها ويحيي فيها روح الإيمان ويحققه في واقعها، هي بحاجة لعلماء ربانيين عرفوا الواقع ومتطلباته وأدركوا مقاصد الشريعة، وعاشوا معاناة الناس واهتموا بقضاياهم فلم يمنعهم فكرهم وعلمهم أن يعيشوا في معزل عن الناس.

الشارع العربي لم يختر "عزمي بشارة" متحدثا عنه، فعزمي لا يمثل الناس لا عقيدة ولا منهجا ولكن القناة الجزيرة هي التي اتخذته معبراً لها ومناصراً للثورة من منطلقات قومية، ولكنه أحسن حالا من "غسّان بن جدّو" الذي لم يناصر الثورة بل وقف ضدها واستهجن بفكرها وسلوكها ومقاصدها. وللحق فإن "عزمي بشارة" من قبل بروز الثورات العربية كان ينتقد الدولة الصهيونية انتقاداً لاذعا حتى أنه قرر عدم العودة لإسرائيل ، وهذا الكلام أقوله ليس تأييدا لفكره ومنهجه ولكن للحقيقة فقد تجنيت على الرجل وجعلته كأنه عميلا لإسرائيل لتوهم للقارئ أن الثورات العربية من نتاج الفكر الصهيوني.

وددت من الكاتب أنه تجاوز الخطاب العاطفي وركز على الفكرة والمضمون بدلا من السباب ، فقد كان بارعاً في الشتم والقذف والاستهجان، فقاموسه اللغوي ملئ بالألفاظ الشتائمية لدرجة يستغرب المرء كيف تسللت هذه الألفاظ إلى ذهنه وكيف تجرأ وذكرها في مقاله، وكنت أظن هذه الألفاظ السوقية قد رحلت مع رحيل الأنظمة البائسة التي أفسدت حياة الناس ولوثت مفاهيمها ولكن يبدو أن بعض العقول لازالت تحمل في ذاكرتها كثيرا من عفن الماضي.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مبارك عامر بقنه

  • مقالات شرعية
  • مقالات تربوية
  • مقالات فكرية
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية