صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







حركة الداعية‏

 مبارك عامر بقنه

 
الحركة علامة الحياة، وأشبه ما يكون بالموت والفناء السكون. وحياة الدعاة المنتجين مليئة بالحركة والتنقل. فمن يحمل قضية ويدعو لها تجد نفسه لا تسكن ولا تهدأ؛ بل يترحل بفكره وبدنه بحثاً لتحقيق هدفه ونشر مبدأه بين الناس.

وفي ظل المتغيرات العصرية ومع ترابط العالم وتشابكه بدرجة عالية يتطلب من الشخص الذي يريد أن يغير ويطوّر أن تكون له دراية ومعرفة بهذا العالم الفسيح وانطلاقة دعوية أو علمية معرفية؛ وليس هذا بدعاً من القول فالمولى يقول : ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20) ويقول تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (الروم:42) فالسير في الأرض يزيد من وعي الشخص ويكسبه ثقافات جديدة تساعده على فهم أفضل للحياة والكون والناس، ولا يعني السير في هذه البسيطة أن نكتسب ثقافة ومعارف فقط؛ بل أيضاً تنقل ما لدينا من ثقافة وقيم للآخرين. ومن العجيب في سيرة أسلافنا أنك لا تكاد تجد سيرة عالم إلا وقد ارتحل وكان له سيراً وضرباً لأكباد الإبل تحقيقاً لمفهوم الآية وبحثاً عن معرفة واكتشافاً للمجهول وبناءاً للذات.

وفي هذا يقول الشافعي:

سافـر تـجد عوضاً عمّـن تفـارقه *** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيـت وقـوف الماء يفـسده *** إن سال طاب وإن لم يـجر لم يطب
الأُسدُ لولا فراق الغاب ما قنصـت *** والسهم لولا فراق القـوس لم يصب
والشمسُ لو وقفت في الفلك دائمة *** ملهـا الناس من عجم ومـن عرب
والتبر كالتـرب ملـقى في أماكنـه *** والعود في أرضـه نوع من الحطب
فإن تغـرب هذا عـز مطلبــه *** وإن أقـام فلا يعلـو علـى رتب

إننا بحركتنا وتنقلنا نرى حساً كيف يسير العالم وأين نقف، بحركتنا نكتشف نقصنا وندرك أماكن قوتنا، بحركتنا نستشرف المستقبل بصورة أدق ونعيش واقعنا كما هو بعيداً عن الخيالات والظنون والأحلام النرجسية، فمن ضروريات العصر ـ وخصوصاً للداعية ـ أن يكون لديه وعياً وتصوراً واضحاً لحضارات وثقافات الأمم المعاصرة، فنحن لن نستطيع أن نعمّم ديننا وثقافتنا ما لم يكن لدينا التصور الواضح لثقافة الأمم وخصوصاً الأمم المتقدمة منها.

إن السكون والبقاء داخل الإطار المجتمعي يشكل للفرد تفكيراً أحادياً ونمطاً ثقافياً تقليدياً لا يملك القدرة فيه على الإبداع والتفكير بطريقة مغايرة لما حوله. ولا يعني حديثي ذلك الخروج على معتقدات وقيم المجتمع أو حتى العادات الحميدة الفاضلة منها وإنما أقصد أنه بسكونه يسير في دائرة ضيقة منعزل عن الفضاء العالمي ينشأ عنه تعصب يرفض فيه أي فكرة إيجابية لم تك نتاج بيئته.

إننا إن أردنا التغيير الإيجابي فعلينا أن نعرف ونفهم هذا العالم ونقرأ كيف تسير الأمم، فجهلنا لسير هذه الأمم ، وتجاهلنا بقوانين الحياة، وإغفالنا لسنن الكون جعلنا نعيش حالة الوهن والتخلف الحضاري. ولا يعني امتلاكنا للقيم المثلى والمبادئ العليا إننا قادرون على المنافسة في هذا الكون ما لم نطبق هذه القيم الرفيعة الربانية على أنفسنا ومجتمعنا، ونجعلها رمزاً نعيشه في حياتنا لا شعارات ندعيها وألفاظ نلوكها بألسنتنا وتتبرأ منها أفعالنا.

في الحركة إثارة، وقصص، وتجارب تروى، وخبرات تكتسب، ونضج عقلي وثقة وعزيمة وإصرار وهذه علامات لأفراد المجتمع الراغب في التغيير للأفضل. ولاشك إن استقرار الشخص مع عائلته وفي مجتمعه قد يكون شيئاً ضرورياً لسعادته؛ ولكن تحديات الوضع الراهن تتطلب منا البحث والتنقيب ومعرفة كيف تطور الآخرون وتقدموا وبقينا نحن نسير بسكون وهدوء في المؤخرة.

فالحركة والتنقل الإيجابي للداعية أمراً ضرورياً وليس سلوكاً ترفيهياً، فالداعية لا يستطيع ينشر دعوته ما لم يتحرك لها ويبذل جهداً بدنياً وفكرياً، ولو تأملنا في الشعائر التعبدية كلها . نجد أنها لا تؤدي بمجرد النية ، ولا بمجرد التوجه الروحي . ولكن مع هذا التوجه يرافقه عمل وحركة، فالإسلام دين روحي وبدني كما قال سيد رحمه الله تعالى في الضلال (1/128):" في كل عبادة حركة ، وفي كل حركة عبادة ، ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها ، وينسق بين طاقاتها ، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص."

ومما يعلم بالضرورة أن رسول الله لم يتمكن من التغيير وإظهار ميلاد بشري جديد إلا بالحركة والعمل، فانتقل من مكان إلى آخر وبعث الرسل ودافع الكفار بالسيف والبيان، فلم يكتف بالبيان وإلقاء الخطب على قريش؛ بل استخدم كل الوسائل العملية المتاحة لتبليغ الرسالة. فسيرته عليه الصلاة والسلام تظهر لنا بوضوح أنه لا يمكن تغيير واقع الناس وتصحيح مفاهيمهم إلا بالحركة والعمل ؛ إذ أن الواقع لا يقابل بنظريات مجردة بل بحركة دائمة تتجه إلى الإمام لإنقاذ الناس وإخراجهم من عبودية المادة وعبودية الذات إلى عبودية الله تعالى.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مبارك عامر بقنه

  • مقالات شرعية
  • مقالات تربوية
  • مقالات فكرية
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية