اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/msfer/4.htm?print_it=1

رفقاً .. أيها المصلحون

د.مسفر بن علي القحطاني
الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن


عندما يلد الإنسان و يخرج إلى الحياة ينساب في تيارها السائر السادر تحكمه نواميسها, ويعتلج في عراصتها متقلباً بين جوانبها المتنوعة المختلفة ، ينمو في أثناءها ولا يتوقف, يكبر فيه كل شي ولا يسكن , يتغير في كل لحظة بهدوء وأحياناً بعنف , فالتغير ..هو قانون الحياة .
إن ذلك النمو الذي يسري في كل أجزاء الإنسان لا يقتصر على جزء من كيانه دون الآخر بل يشمل بدنه وعقله وروحه وسلوكه وعواطفه وكل مكوناته .
إن الإنسان في نموه وتطوره كان يخضع لقانون التدرج والإنسياب في كل مراحله العمرية إلى أن ينتهي به المطاف وهو لايزال يخضع لهذا القانون , كما في قولة تعالى :
" الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير" [ الروم 54]
إن تجاوز قانون التدرج والمرحلية في التعامل مع الإنسان وبالأخص في مفاهيمه وأفكاره , أو دعوته لتغيير سلوكه وطبائعه , أو الرغبة في إصلاح بيئته ومجتمعه ، لن يحقق هذا التجاوز أي نفع في الإصلاح والتغيير المنشود بل قد يثمر في نفس ذلك الفرد ردّة فعل تقوده للتمسك بقديمه والافتخار بما كان عليه والاحتراب من أجله لو استطاع .
إن النفوس التي ألفت الاعوجاج وقد عاشت فيه دهراً طويلاً تتصلب على ما تألف من المعاصي والمخالفات, وإذا أردنا لها نقلة مفاجئة سريعة : صاحت وتمردت وتفلتت تبغي التملص فيُضطر إلى الترفق والتدرج في حملها على تنفيذ الحق والعمل بالشرع .
والأساس الفقهي الذي تستند عليه قاعدة التدرج يكمن في قواعد ترجيح المصالح الكبيرة والعظيمة والدائمة على سواها من المصالح الصغيرة والجزئية والمنقطعة ؛ لأن امتناع الناس عن الامتثال للشرع كله دفعة واحدة قد يؤدي بهم إلى الشقاق وإحداث الفتن العارمة ، وهي لا شك مفسدة كبيرة تُبعد وتُنأى باحتمال مفسدة تأخير إعلان تطبيق الشرع والحق الذي يرفضونه .
يؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها :
" إنما نزل أول ما نزل منه – أي من القرآن – سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام : نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء : لا تشربوا الخمر ، لقالوا لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل : لا تزنوا . لقالوا : لا ندع الزنا أبداً .. " [1]

إن الحكمة تفرض على المسلم مراعاة أحوال الناس والمخاطبين ، فمقدار امتثالهم لأحكام الشرع يختلف ويتباين فلا ينبغي للداعي إلى الله معاملة الناس جميعاً بالمثل أو التعجل في إلزامهم بالحق كله ونفوسهم قد ألفت غيره واعتادت عليه . ومن الأمثلة المبيّنة لذلك الأمر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن المعازف والضرب بها،ومع ذلك فقد جاء عن بريده أنه قال : خرج رسول صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه ، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : " يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدّف وأتغنى ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا " . فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر رضي الله عنه وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر فألقت الدّف تحت إستها ثم قعدت عليه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إني كنت جالساً وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف " .[2]
يقول ابن القيم معلقاً على تلك القصة وقصة عائشة مع الجاريتين اللتين كانتا يغنيان بغناء بعاث :
" فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصديق على أن الغناء مزمور الشيطان .. فعلم أن هذا من الشيطان ، وإن كان رخّص فيه لهؤلاء الضعفاء العقول من النساء والصبيان ، لئلا يدعوهم الشيطان إلى ما يفسد عليهم دينهم ، إذ لا يمكن صرفهم عن كل ما تتقاضاه الطباع من الباطل ، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فهي تحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما ، فإذا وصف العمل بما فيه من الفساد مثل كونه من عمل الشيطان ، لم يمنع ذلك أن يدفع مفسدة شرّمنه وأكبر ، وأحب إلى الشيطان منه ،فيدفع بما يُحبّه الشيطان ، ما هو أحب إليه منه ، ويحتمل ما يبغضه الرحمن ، لدفع ما هو أبغض إليه منه ، ويفوت ما يُحبه لتحصيل ما هو أحبّ إليه منه ، وهذه أصول من رزق فهمها والعمل بها فهو من العالمين بالله ، وبأمره " إلى أن قال : " وإذا لم يمكن حفظ العبد نفسه من جميع حظوظ الشيطان منه ، كان من معرفته وفقه وتمام توفيقه أن يدفع حظّه الكبير بإعطائه حظّه الحقير إذا لم يمكن حرمانه الحظين كليهما ، فإذا أعطيت النفوس الضعيفة حظاً يسيراً من حظّها ، يستجلب به من استجابتها وانقيادها خير كبير ، ويدفع عنها شراً كبيراً أكبر من ذلك الحظ ، كان هذا عين مصلحتها ، والنظر لها والشفقة عليها " . ثم قال وهو يتحدث عن حديث ضرب المرأة الدفّ بمناسبة قدومه :" واحتمل صلى الله عليه وسلم ضرب المرأة التي نذرت إن نجاه الله أن تضرب على رأسه بالدفّ لما في إعطائها ذلك الحظّ من فرحها به ، وسرورها بمقدمه وسلامته الذي هي زيادة في إيمانها ومحبتها لله ورسوله ، وانبساط نفسها وانقيادها لما تؤمر به من الخير العظيم ، الذي ضرب الدفّ فيه كقطرة سقطت في بحر ، وهل الاستعانة على الحق ، بالشيء اليسير من الباطل إلا خاصة الحكمة والعقل ، بل يصير ذلك من الحق إذا كان معيناً عليه ، ولهذا كان لهو الرجل بفرسه وقوسه وزوجته من الحقّ ،؛ لإعانته على الشجاعة والجهاد والعفّة ، والنفوس لا تنقاد إلى الحق إلا ببرطيل ، فإذا برطلت بشيء من الباطل لتبذل به حقاً وجوده أنفع لها وخير من فوات ذلك الباطل كان هذا من تمام تربيتها وتكميلها ، فليتأمل اللبيب هذا الموضوع حقّ التأمل ، فإنه نافع جداً .والله المستعان " .[3]

إن التدرج المطلوب لا يقصد به التملص من بعض الشرع ، فإن الشرع كامل وكله واجب ولكن تطبيقه على الناس في أول أيام الحكم أو في دعوة الناس له قبل الحكم، أو في تربية الدعاة عليه يسوّغ للعالم المتأمل أن لا يتحدث به أو يُطبّقه دفعة واحدة، بل في خطوات لا تُبطئ به عن إقامة حكم الله عز وجل وتطبيق شرعه ، هذه الخطوات ينظر فيها إلى الأهداف بدقة وبصيرة وتحدد الوسائل الموصلة إليها ، وبالتخطيط والتنظيم والتصميم تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام .. كل الإسلام .

ويدل على صواب هذا السلوك ما كان من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقد جاء إلى الحكم بعد مظالم ارتكبها بعض الذين سبقوه فتدرج ولم يستعجل . فدخل عليه ولده عبد الملك فقال : " يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل ؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك . قال : يا بني : إني إنما أروّض الناس رياضة الصعب ، إني أريد أن أحييَّ الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أُخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه "[4] أي يخرج طمعهم بالموعظة والتأني ليكون عن قناعة لا بخوف من السطوة والعقاب .
ويبدو أن هذا الولد الصالح قد حاز حماسة فاقت التي عند أبيه فدعته إلى معاودة الاستغراب من سياسة التأخير والتدرج فكان منه أن : " دخل على أبيه فقال : يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال : رأيت بدعة فلم تمتها أو سنة فلم تحيها ؟ فقال أبوه :
رحمك الله وجزاك من ولد خيراً ، يا بني : إن قومك قد شدّوا هذا الأمر عقدة عقدة ، وعروة عروة ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيدهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً يكثر فيه الدماء . والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجمة من دم ، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة".[5]
وقد شهد الحسن البصري رحمه الله على حصول هذا اليوم بقوله :
" ما ورد علينا قط كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة ، أو إماتة بدعة ، أو رد مظلمة " [6]
إن مرحلة التدرج التي طبقها عمر بن عبد العزيز في خلافته التي لم تستغرق عامين سطرت من الإنجازات ما ملأت به أسفاراً من كتب التاريخ حقيقٌ على أهل الإصلاح والتغيير تأمل هذا العمل والإنجاز العجيب .

-----------------
[1] رواه البخاري (4707) 4/1910 . 
[2] صحيح سنن الترمذي 3/206 رقم 2913 .
[3] الكلام على مسألة السماع  ص 311 – 314 .
[4] عمر بن عبد العزيز لعبد الستار الشيخ ص 226 . 
[5] تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 240 . 
[6] عمر بن عبد العزيز لعبد الستار الشيخ ص 204 . 

 

مسفر القحطاني
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية