اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/moslem/10.htm?print_it=1

التذكير ببعض آداب الفتوى

الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف

 
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، و نستهديه و نستغفره ، ونسترشده ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده ورسوله .
قال تعالى :  { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } سورة آل عمران ، الآية 102
و قال أيضاً : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } سورة النساء ، الآية 1 .
و قال جل جلاله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: 70-71) .

أما بعد :
فإن أحسن الكلام كلام الله ، عز و جل ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، و كل بدعة ضلالة ، و كل ضلالة في النار . (1)
و بعد :
الفتوى ، و الفتيا في اللغة : الإخبار بالشئ مطلقاً ، و الإنابة و الإيضاح . و الفتوى : اسم وضع موضع المصدر ، و يجمع على فتاوي بكسر الواو على القياس ، و يجوز فتحها للتخفيف .

أما في الاصطلاح : فالفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي خاصة ، و توضيحه ، لمن سأل عنه .

و الفتوى عند بعض أهل العلم : الإخبار بالحكم الشرعي على غير وجه الإلزام . (2)

و الاستفتاء في أمور الدين واجب على كل مسلم عند الحاجة ، و الجهل بالحكم .
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } سورة النحل ، الآية 43 .
و قد ورد لفظ الاستفتاء بهذا المعنى في موضعين في القرآن الكريم يتعلق كلاهما بأحكام الأسرة و الميراث : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} سورة النساء ، الآية 127.
و الآية وما بعدهافيها بيان الحكم فيما إذا خافت المرأة نشوزاً من زوجها ، و بيان معنى العدل المطلوب بين الزوجات .

و الثانية قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } سورة النساء ، الآية 176 .

و الآية االثانية فيها بيان ميراث الإخوة و الأخوات و الأشقاء أو لأب و تخصيص هذين الموضوعين بكلمة الاستفتاء دون كلمة السؤال مما يدل على شدة العناية بموضوعيهما ، و هو الأسرة و الحق المالي ، و ذلك نظراً لما يدل عليه الفرق بين الاستفتاء الذي يتطلب دقة النظر في إبداء الرأي و السؤال الذي لا يستدعي ذلك .

فإذا استفتي الإنسان و كان عالماً بالحكم فعليه الإخبار بما يعلم ، و إن كان جاهلاً به ، فعليه الصمت و الإحالة إلى من يعلم ، و إلا كان آثماً ، لأن الفتوى أمانة .

قال محمد بن كعب عليه رحمة الله : ( لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا للجاهل أن يسكت على جهله ) (3).
و الفتوى غير ملزمة قضاءً ، و لكنها ملزمة ديانة إذا اطمأن قلب المستفتي السليم من الهوى إلى صدقها .
و لهذا فعلى المستفتين أن يخصوا بذلك من تطمئن قلوبهم إلى علمهم و تقواهم ، و أن يبتعدوا عن سؤال الجهال و الفسقة و علماء السلطان و السوء ، لئلا يفسدوا عليهم دينهم ، و يشـوشـوا أفكارهم .
و قد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يتدافعون الفتوى ، و يتخوفون منها لشدة المسؤولية في ذلك ، و هذا توجيه لنا و لعلمائنا حتى لا يتسرعوا فيها .
و روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار "(4).
و قال السختياني عليه رحمة الله : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً باختلاف العلماء و الناس من الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء (5).

و قال سحنون عليه رحمة الله : ( أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً ) (6).
وقد نقل عن بعض أهل العلم قولهم بأن : ( المفتي موقعٌ عن الله تعالى و رسوله ) (7).

فينبغي لسلامة الفتيا و صدقها و صحة الانتفاع بها أن يراعي المفتي أموراً منها :

1- تحرير ألفاظ الفتيا ، لئلا تفهم على وجه باطل ، و ينبغي هنا للمفتي إن كان للمسألة تفصيل أن يستفهم السائل ليصل إلى تحديد الواقعة تحديداً تاماً .
2- أن لا تكون الفتوى بألفاظ مجملة ، كمن سئل عن مسألة في الزكاة ؟ فقال تصرف بنصابها على مستحقها .
3- ذكر دليل الحكم في الفتوى سواء أكان آية أو حديثاً حيث أمكنه ذلك ، فإنه أدعى للقبول في النفس و فهم لمبنى الحكم .
4- لا يقول في الفتيا : هذا حكم الله و رسوله إلا بنص قاطع الثبوت ، أما الأمور الاجتهادية ، فيتجنب فيها ذلك .
5- أن تكون بكلام موجز واضح تراعي حال المستفتي و درجته العلمية و الاجتماعية .

{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:286) .

الجمعة 29 رمضان /1425 هـ الموافق لـ 12/11/2004 م

---------------------------
[1] -هذه خطبة الحاجة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبته ، و يعلمها أصحابه ، و روى هذه الخطبة ستة من الصحابة – رضوان الله عليهم – و قد أخرجها جمع من الأئمة في مصنفاتهم مثل :  شرح صحيح مسلم  للنووي ، ج 6/153-156-157 ، وأبو داود في السنن ج 1/287.برقم 1097.       و النسائي في المجتبى ، ج3/104-105- و الحاكم في المستدرك ج2/182-183 و الطيالسي في المسند برقم 338 . و البيهقي في السنن الكبرى ، ج7/146 و ج 3/214. و ابن ماجه في السنن ج1/585 .
[2]  - القاموس الفقهي ، لسعدي أبو حبيب ، ص 281 .
[3]  - تفسير القرطبي ، ج4/304. و قد ورد في مجمع الزوائد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه و لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله ) و قال صاحب مجمع الزوائد : رواه الطبراني في الأوسط و فيه محمد بن أبي حميد و قد أجمعوا على ضعفه . مجمع الزوائد ، ج7/164- 165 .
[4]  - سنن الدارمي ، ج1/69 . و قال العجلوني صاحب كتاب كشف الخفاء ( ج1/51 ) : رواه ابن عدي عن عبد الله بن جعفر مرسلاً .
[5]  - الزهد لابن المبارك ، ج1/125 .
[6]  - سير أعلام النبلاء ، ج12/ 66 .
[7]  - انظر آداب الفتوى للنووي ، ج1/14. إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ، ج4/189 .

 

مسلم اليوسف
  • بحوث علمية
  • بحوث نسائية
  • مقالات ورسائل
  • فتاوى واستشارات
  • الصفحة الرئيسية