صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سلسلة طالب العلم (10)
طالبُ العلم .. والصناعة البحثيَّة

مشاري بن سعد الشثري
@m_alshathri

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 
العلمُ بتنوُّعِ أبحاثه وتشعُّبِ مسائله يحتاج من طالبه أن يكون واعيًا في تحصيله، وكثيرٌ من طلاب العلم يملكون الكثير من القدرات والأدوات والأوقات، لكنَّ هذا الكثيرَ يتيه حينما يفقد الطالبُ الوعيَ في تحصيله، ومن هذا الوعيِ أن يَعرِض الطالبُ نفسه على مسالك الطلب وملكاته لينظر في حظِّه منها، والغفلة عن ذلك تُفقِدُ الطالبَ كثيرًا مما كان خليقًا به أن يتمثَّله، وقد لا يشعر الطالب بذلك، ولا يشعر بفقده ذاك الشعور، (فإنَّ الشعور بالشيء غير الشعور بالشعور) كما يقول الغزالي[1].

وطالب العلم في قراءته وحفظه وغشيانه مجالس العلم أوَّلَ طلبه يطلب تحصيل مادَّة العلم، تصوُّرًا وتصديقًا، فهو في كلِّ علمٍ يسعى ابتداءً في تلقُّف موادِّه وتحصيل مسائله ودلائله .. هذه مرحلة أولى في طلب العلم يمكن تسميتها بمرحلة الجمع، ولهذه المرحلة ملكاتٌ إذا حصَّلها الطالب وروَّض نفسه عليها كانت أرضُ بنائه العلمي صلبةً لا تزيلها عن صلابتها عوادي الأيام، ومن أخصِّ ملكات هذه المرحلة: قوة الحفظ، وحسن الفهم، وسرعة التصوُّر.

تعقبها مرحلةٌ يُعنى فيها الطالب بدَرْسِ ما جمعه، ثم ينطلق إلى ما وراء ذاك المجموع ملاحقًا بقيَّةَ المسائل والدلائل بحاسَّة متجددة تجمع وتقوِّم وتستثمر، وها هنا ملكاتٌ تتخلَّق وتنمو متى ما التفتَ إليها الطالبُ وجدَّ في تحصيلها ورعايتها، ومن أخصِّ تلك الملكات: التحليل، والتركيب، والمقارنة، والتقويم.

ثم تأتي من بعد ذلك مرحلة الإنتاج بملكاتها من حسن الإبانة عن العلم، وجودة تصويره، وفقه تعليمه، وإتقان كتابته وتدوينه.

وليس من لازم هذا التوزيع لهذه الملكات أن تستقلَّ كلُّ مرحلةٍ بملكاتها، فلا يخلو الطالب في مبتدأ طلبه من تحليلٍ ومقارنةٍ وتقويمٍ، كما لا يخلو الطالب في المراحل اللاحقة من حفظٍ وفهمٍ وتصوُّرٍ، لكنَّ القصدَ من هذا الفصل الإشارةُ إلى أنَّ كمَّ ذلك وكيفَه يختلف باختلاف ظروف الطالب العلمية، فمن جهة الكمِّ يكون الطالب في أول أمره أكثر عناية بالجمع منه على أن يكون دارسًا مستشكلًا، ومن جهة الكيف فليس الجمع في أول التحصيل كالجمع آخرَه، فالجمع في أوله لا يرتهن غالبًا لقواعدَ تميِّز بين رُتَب المسائل، بخلافه آخرَه حيثُ يكون الجمعُ موجَّهًا، لا سيَّما إن كان الطالب قد توفَّر على علمٍ من العلوم وأراد التخصص فيه، فلا يكاد يحفِل من المسائل إلا بما تعلَّق بتخصصه، كما هي حال الفرَّاء فيما يحكيه عنه هنَّاد السري، حيث قال: (كان الفراء يطوف معنا على الشيوخ، فما رأيناه أثبت سوداء في بيضاء قط، لكنه إذا مرَّ حديثٌ فيه شيء من التفسير أو متعلِّقٌ بشيء من اللغة قال للشيخ: "أعِدْه عليَّ"، وظنَّنا أنه كان يحفظ ما يحتاجُ إليه)[2].

وإذًا فهذا الفصل بين المراحل تجريديٌّ يُرادُ به تصوُّرُ وظيفةِ كلٍّ منها، لا أن تكون كلُّ مرحلةٍ ناسخةً لملكات ما قبلها، ولا أن تكون السابقةُ عريَّةً عن ما بعدها.

*****

 
ومن بين ملكات طالب العلم: ملكة الصناعة البحثيَّة، وهذه الملكة ركيزةٌ أساسيَّةٌ في خارطة ملكات طالب العلم، وبها ينال رُتَبًا عاليةً من التحقيق والتحرير بوساطةِ ملاحقاته البحثية في بطون الكتب والمصادر .. الطالبُ في بحثه يلاحقُ المادة ويطاردُها، ويختبرُها بعرضها على نظائرها، ويجوِّدُها بوضعها في حاقِّ موضعها، بينما هو في قراءته وحفظه وفهمه أسيرٌ لها، تحرِّكه المادَّة وتقلِّبه.

ثمَّ إنَّ الصناعة البحثيَّة مَلَكةٌ جامعةٌ، ينال الطالب بالدربة عليها ملكاتٍ عدَّةً، لِمَا أنَّ الصناعة البحثية تفعيلٌ للمادَّة وانفعالٌ بها، يتقلَّب فيها الطالبُ بين القراءة والجمع والتحليل والتركيب والمقارنة والتقويم، فلا يغادر المادة المبحوثة إلا وقد فُتِّحَت له أبوابُ جُمَلِها، وألقتْ بمفاتيحِها خَزَنةُ تفاصيلها .. وقد قال الإمامُ الجرجانيُّ - أحدُ أساطين البحث والابتكار في العلوم العربيَّة والإسلاميَّة -: (واعلم أنَّك لا تشفي العلَّة ولا تنتهي إلى ثَلَجِ اليقين حتى تتجاوزَ حدَّ العلم بالشيء مجملًا إلى العلم به مفصَّلًا، وحتى لا يقنعك إلا النظرُ في زواياه، والتغلغلُ في مكامنه، وحتى تكون كمن تتبَّع الماء حتى عرف منبَعَه، وانتهى في البحث عن جوهر العُود الذي يُصنَع فيه إلى أن يعرفَ مَنبِته ومجرى عروق الشجر الذي هو منه)[3].

*****


كثيرٌ من الكَتَبة حين حديثه عن البحث العلمي يتناول ما يتعلق بالكتابة البحثية .. والكتابة البحثية بأنواعها وخطواتها وتقسيماتها شيءٌ، والصناعة البحثية شيءٌ آخر، وهذه الورقة تتناول الحديث عن الصناعة لا الكتابة، فالكتابة البحثية وسيلةٌ ناقلةٌ، بينما الصناعة البحثية وسيلةٌ منتِجةٌ، وربَّما كان محصَّلُ الصناعةِ البحثيَّةِ سطرًا واحدًا، لكنَّ الطالبَ الباحثَ احتاج للوصول إلى هذا السطر أن يقرأ عشرات وربما مئات الصفحات، كما احتاج أن يستثمر مختلف حواسِّه المعرفية، ولذا فهذه الورقة لا تتحدث عن الكتابة البحثيَّة، بل تتحدَّث عن الصناعة البحثيَّة التي لا يخلو الطالب منها مهما كانت مرحلته، وبالتالي فهي لا تتحدَّث عن نوعٍ من الطلبة، بل تتحدَّث عن عموم الطلبة، فالطالب قد لا يتهيَّأ للكتابة البحثية ولو بلغ من العلم منتهاه، لكن خارطة ملكاته لا يمكن أن تخلو من ملكة الصناعة البحثية ما دام يبغي من العلم دفائنَه وجواهرَه.

هذا، وإنّ مما تفترضه هذه الورقة أنَّ من ضرورات الصناعة البحثيَّة العلمَ بمصادرِ المعرفة، ومظانِّ العلم - ومعرفةُ مظنَّة العلم نصفُ العلم كما يقول الطناحي[4] -، وأنَّ القدرة البحثية فرعٌ عن القدرة المعرفية، فإذا اشتدَّ عُود هذه اشتدَّ عُود تلك، كما تفترض أنَّ للمواهب الفطرية أثرًا بالغًا في جودة البحث وإبداع الباحث.

وقد قيَّدتُ في هذه الورقة ستَّ صناعاتٍ بحثيَّةٍ، وهي: التمييزات المعرفيَّة الذهنيَّة، احتفال العقل بالسؤالات، توخِّي موقع المادَّة من عمود الصورة، توسيل المعلومة، استشكال المادَّة، استجلاب الأفق المعرفي .. ولم أُرِد بهذه الستِّ حصرَ الصناعات، وإنَّما أردت أن أثبتَ جملةً منها لأدلَّ على ما هو من جنسها.

******

 
(1) التمييزات المعرفيَّة الذهنيَّة:

والمراد بالتمييزات المعرفية: ملاحظةُ أنواع المعارف وأجناسها، وفرزُها .. وتقييدُها بالذهنيَّةِ ضرورةَ أنَّ الناظر لا بدَّ أن يستصحبها حال قراءته ومعالجته.

وهذه الصناعة من ضرورات تجويد جمع المادة وفرزها، ولها مرحلتان، قبليَّة وبعديَّة:
أمَّا الأولى فعلى الطالب قبل الخوض في البحث قراءةً وتنقيبًا أن يُجهِد عقله في وضع تمييزاتٍ تُعِينه على إنزال كلِّ معلومةٍ محصَّلةٍ في موضعها اللائقِ بها من أوعية الموضوع المراد بحثه.
ومن مثارات الغلط البحثي أن يستعجل الطالب في البحث عن مطلوبه قبل أن يُديرَ في ذهنه التمييزات الصالحة لبحثه.
وأمَّا الثانية فمن الطَّبعيِّ أن تنشأ تمييزاتٌ معرفيَّةٌ بعد شروعه في البحث، لأن الباحث مهما أعدَّ من تمييزاتٍ، فلا بُدَّ أن يصادفَ من الموادِّ ما يحرِّك في ذهنه مزيدًا من التمييزات المعرفيَّة.

وأنا أضرب لهذه الصناعة مثلًا من الفقه:

أولًا لا بُدَّ أن يدرك الباحث أنَّ للفقه تمييزاتٍ كثيرةً تختلف باختلاف موضوعاته، فمنها التمييز بين المسائل والدلائل، والمقدمات والنتائج، والآثار والمؤثرات، ومواضع الوفاق والخلاف، ثمَّ تحت هذه التمييزاتِ تمييزاتٌ أخرى تتفرَّع عنها، ففي الدلائل ثمةَ تييزٌ بين ما هو أصلي وبين ما هو تبعي، وفي الخلاف ثمة تمييزٌ متعلِّق برتبة الخلاف وطبقات الفقهاء المختلفين، وفي الآثار بين ما هو مؤثرٌ مستقلٌّ، وبين ما هو مؤثرٌ مع مؤثراتٍ أُخَر، ونحو ذلك، ولكلٍّ من هذه التمييزات كلماتٌ مفتاحيَّةٌ متى صافحت عينَ الباحث دلَّته عليها، ومنها ما هو غامضٌ خفيٌّ.

من مسائل فقه الصيام حكم صوم التطوع بنية منعقدة في النهار، وفيه خلافٌ بين الفقهاء، فأجازه الجمهور خلافًا لمالك، ثم إن المجوِّزين اختلفوا في ثواب صوم التطوع بنيَّة نهاريَّة، أيبتدئ من وقت النية، أم ينال الصائم ثواب اليوم كله؟

فإذا رجع الباحث لمصادر الفقه الرئيسة، وطالع المغني لابن قدامة فسيجد فيه قوله:
(يُحكَمُ له بالصومِ الشرعيِّ المثابِ عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
وقال أبو الخطاب في "الهداية": يُحكَمُ له بذلك من أول النهار. وهو قول بعض أصحاب الشافعي، لأن الصوم لا يتبعَّض في اليوم ...
ولنا: أنَّ ما قبل النية لم ينو صيامه، فلا يكون صائمًا فيه؛ لقوله - عليه السلام -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى». ولأن الصوم عبادة محضة، فلا توجد بغير نية، كسائر العبادات المحضة.
ودعوى أن الصوم لا يتبعض = دعوى محل النزاع، وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شيء من اليوم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عاشوراء: «فليصم بقية يومه» ...
إذا ثبت هذا فإن من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية، ولا فعل ما يفطره، فإن فعل شيئا من ذلك، لم يجزئه الصيام، بغير خلاف نعلمه)[5].
 
الباحث الذي ينظر في هذه المادة نظرًا جُمْليًّا بلا تمييزاتٍ حاضرةٍ سيخرج منها بأنَّ في المسألة قولين في مذهب أحمد، هما قولان للشافعيّة، واستدل هؤلاء بهذا الدليل، والآخرون بذاك، ثم ينقل ما وجده نقلَ مِسطَرة.

وأمَّا الذي يقرأ هذه المادَّة مستحضرًا التمييزاتِ السابقَ ذكرُها فسيخرج من هذه القطعة بجملة من الفوائد، منها:

1. أنَّ في المسألة بين المجوِّزين موضعَ خلاف، وموضعَ وفاق، أمَّا الوفاق فأنَّ مَن فعل شيئًا من المفطِّرات قبل عَقدِ النيَّة النهارية لم يجزئه الصيام ولم ينلْ ثوابه، وأمَّا الخلاف ففي حالِ ما إذا نوى في أثناء النهار ولم يكن قد أفطر قبل ذلك .. فهذه فائدة متعلقة بالوفاق والخلاف.
2. أن الخلاف داخل مذهب أحمد بين قولين أحدهما نصُّ إمام المذهب، والآخر قولٌ لأبي الخطاب، فليس القولان روايتين عن الإمام، وهذا ينزل بالقول الثاني رتبةً في التحقيق المذهبي .. فهذه فائدة متعلقة برتبة الخلاف المذهبي.
3. أنَّ ابن قدامة نصَّ على أبي الخطاب من بين سائر الحنابلة، وهذا مثارُ بحثٍ، فلماذا نصَّ على أبي الخطابِ وحدَه وهذا القول قولٌ لشيخ أبي الخطاب كذلك وهو القاضي أبو يعلى، والظاهر أنه ما دامَ شيخَه فهو قد أخذه عنه، لا سيَّما وأنَّ هذا القول لم يُنقَل عن حنبليٍّ قبل أبي يعلى، وهذا يقوِّي تأثر أبي الخطاب بشيخه في هذه المسألة، فإذا رجع الباحث لإنصاف المرداوي وجد عن القاضي قولين، أحدهما كالمنصوص وذلك في "التعليقة"، والآخر كقول أبي الخطاب، وذلك في "المجرَّد"، فلما اختلف النقل عنه، وكان القاضي قد صنَّف "المجرَّد" قديمًا[6]، وكان كتابُ التعليقةِ كتابَ بسطٍ وتدليلٍ، كان قوله في "التعليقة" أقعد، فلم ينقل عنه ابن قدامة القول الآخر .. كما نقل المرداوي هذا القول عن المجد ابن تيمية وغيره، أمَّا المجدُ فمن الواضح سببُ عدم ذكر ابنِ قدامة لقوله فقد كان عمره حين توفي ابن قدامة 30 سنة، وذلك أنه عاش بين (590هـ - 652هـ)، وابن قدامة عاش بين (541هـ - 620هـ)، والظاهر أنه لم يصنف وهو في تلك السن كتبه الفقهية الذائعة، فضلًا عن أن تنتشر ويعتمد ابن قدامة النقل عنها، وأمَّا بقية من ذكرهم المرداوي فقد أتوا بعد ابن قدامة، فالأمر فيهم بيِّن .. ثم إنَّ هذا يجرُّ إلى فائدة أخرى للباحث وهي معرفة موقع هذا القول في طبقات أصحاب المذهب، فلم يَقُل بهذا القول من الحنابلة بين الإمام أحمد (241هـ) وابن قدامة (620هـ) إلا القاضي أبو يعلى وتلميذه أبو الخطاب، ثم إنَّ القاضي رجع عنه، فما أبعد هذا القول أن يكون مذهبًا، لا سيما مع مناهضته للمنصوص عن الإمام .. وهذه الفائدة متعلِّقٌة بطبقة الخلاف الفقهي، كما أنَّ لها دلالةً على بعض مناطق التأثُّر والتأثير.
4. أنَّ الدليل الأصيل للقول الأول نقليٌّ، وهو حديث النيَّات، والدليل العقلي الذي ذكره - وهو أن الصوم عبادة محضة فلا تقع بغير نية فما قبل النية لا يثاب عليه الصائم - فتبعيٌّ، وأمَّا دليل القول الآخر فعقليٌّ، وهو أن الصوم لا يتبعض، وهذا ليس بقاضٍ في الترجيح، لكن القصد هنا بيان بعض التمييزات البحثية .. وهذه فائدةٌ متعلِّقةٌ برُتَب الدليل الفقهي.
 
ومِن وراء هذه الفوائدِ فوائدُ أخرى متعلقة بالنقد الفقهي وغيره، ليس هذا موضعَ بسطها، والغرض من هذا تنبيهُ الطالبِ الباحثِ من خلال هذا المثال الجزئي على ضرورة التمييزات المعرفيَّة، وملاحظتها حين القراءة والبحث، فهي حاضنة الفوائد.

والتمييزاتُ المعرفيَّة تختلف باختلاف أغراض الباحث، ولكلِّ علمٍ/موضوعٍ من التمييزات ما يشارك فيه غيره من العلوم، كما أنَّ له تمييزاتٍ خاصةً به أو كانت فيه أكثر حضورًا من غيره، كتمييز الباحث في أصول الفرق العقدية ومذاهبها بين ما هو مقالاتها، وبين لوازمها، ثم في مقالاتها هناك ما هو من صميم مذهبها، وما هو من المقالات التي اضطرت إليها فرارًا من فساد بعض أبنيتها، وكتمييز الباحث الاجتماعي بين الوصف والتقييم، فالوصف مجرَّدٌ عن ملاحظة القِيَم، بخلاف التقويم الباعث على محاكمة الأشياء والظواهر، ولكلٍّ من هذين الصنفين معلوماتُه وفوائدُه .. وأهلُ كلِّ فنٍّ يعلمون من القضايا الفاعلة والأوعية الحاوية في فنِّهم ما يمكِّنهم من سَبكِ تمييزاتٍ تنفخ في روح أبحاثهم حياةَ التحقيق، فليتلمَّس طالب العلم عند أهل العلوم تمييزاتِهم، وكلَّما اتَّسع اطلاع الطالب على مختلف العلوم والمعارف اتسعت مداركُ عقله ومسالكُ بحثه.

وصناعة التمييزات تعين الباحث على التحليل والتركيب والتجريد، كما تعينه على التهميش والتركيز، تهميشِ ما لا يحتاجه والتركيزِ على ما يحتاجه، وهذا من الأهمية بمكان، فبفقدان ذلك ربَّما أفنى الباحث وقته بما حقُّه التهميش، وأعرض عمَّا حقُّه التركيز، فيفوته بذلك انجماع ذهنه على المعلومات المنتجة ويتشوَّش بما لا ثمرة له في بحثه، والذهنيَّة البحثيَّة لا ينبغي أن تكون محضَ آلةٍ تجمعُ على غير قانون.

وحين يُعبَّر بالتركيز في هذا السياق فهو تعبيرٌ مقصودٌ، يُراد به التركيزُ على المعلومات المهمة في إطار البحث المعيَّن، لا المعلومات المهمَّة بإطلاق، بيانُ ذلك أنَّ من المعلومات ما له دلالةٌ مهمَّةٌ لكن حقها أن تُهمَّشَ في بابٍ ويُحتفَلَ بها في آخرَ، وسبب ذلك (أنَّ المعلوماتِ وحداتٌ دلاليَّةٌ قابلةٌ للسير في اتجاهات مختلفة، أو قابلةٌ للتشكُّل في بُنًى أكبرَ منها، حسب احتياجات الفكر أو مقتضيات الرؤية)[7]، ولذلك كانت الحاجةُ البحثيَّةُ ماسَّةً لصناعة التمييزات، فكما أنَّها تمكِّنُ الباحث من استثمار المعلومات، فهي كذلك تمكِّنه من ضبط مسارها.

ثمَّ إنَّ هذه الصناعة البحثية فرعٌ عن تمثُّل المنهج ووجود النَّسَقِ العلميِّ الناظمِ لأفراد المعلومات، وإلا فلو عُدِم المنهجُ وفُقِد النَّسَقُ فلن يكون للتمييزات المعرفيَّة شرعيَّةُ وجودٍ .. ومن الكتب المعاصرة التي تبدَّت فيها قدرةُ التمييزاتِ المعرفيَّةِ على رَصْف المعلومات والجزئيَّات في هيئةٍ متقنةٍ أشرقت فيها الصناعة البحثيَّة: كتاب (منهج ابن تيمية المعرفي) لـ د. عبدالله الدعجاني، وهي محاولةٌ جادَّةٌ قدَّمها الكاتبُ لتطويق جُمَل المشروع التيمي، ودراستُه خليقةٌ بأن تكون مَعمَلًا يمرِّن فيه الطالب نفسه على توليد التمييزات واستثمارها، وقد قال في مقدمتها: (تتجمَّد المعرفة، بل وتموت، حينما تصبح حوضًا تتراكم فيه المسائل، وتتجمَّع فيه المعلومات والوقائع، دون نسقٍ علميٍّ ينظمها، ونظريةٍ معرفيَّةٍ تحتضنها، وواهمٌ من يظن البحث العلمي لا يعني إلا المعلومة في ذاتها مبتورةً عن موضوعها الكلِّي، معزولةً عن إطارها المعرفي، إذ لا أهميَّة لتلك المعلومة ما لم تتضح علاقتها العلميَّة بكُلِّيَّتِها ونمطِها المتكرِّر)[8].

ومن ضرورات القول في هذا السياق أنَّ وضعَ التمييزات المعرفيَّة لا يكون بمحض هوى الباحث، فليس له أن يضعَ منها ما اتَّفق له في خاطره، ولا أن يكونَ وضعُ التمييزات سابقًا للنظر في المنهج، بل لا بُدَّ أن تكون التمييزاتُ لاحقةً له منقادةً لشرائطه، فليس كلُّ تمييزٍ يصلح أن يكون خيطًا ناظمًا للمعلومات المنثورة، لا سيَّما إذا كانت هذه التمييزات معبَّأةً بمكوِّناتٍ تفسيريَّةٍ، فاختلالُها يفضي إلى ليِّ أعناق المعارف وصرفِها عن وجهها، كصنيع د. محمد عابد الجابري في مشروعه النقدي للعقل العربي حين قام بتمييز التراث في دوائرَ ثلاثٍ، مستقلٍّ بعضُها عن بعضٍ، وهي: البيان، والبرهان، والعرفان، وفاضَلَ وافتعَلَ الصدام بينها، ومن ثم قرأ التراث بحبالٍ واصلةٍ بين مختلف مكوناته وبين ما وضعَ من تمييزاتٍ، ومع ما لظاهر هذا الصنيع من جِدَةٍ وابتكارٍ، إلا أنَّه مجافٍ لمنطق التراث وواقعه، مُفضٍ إلى اختلال قراءته وتفسير مواقفه، وذلك أن تمييزه الثلاثي هذا لم يخضع لمعيار منهجي يكون أساسًا صالحًا للتمييز والتقسيم،  ولذلك قال المفكر المغربي د. طه عبدالرحمن: (إن التقسيم الثلاثي: البرهان والبيان والعرفان = تقسيمٌ فاسد، ودليل فساده ازدواج المعايير المتَّبعة في وضعه، هذا الازدواج الذي لا يؤدي إليه إلا عدم تحصيل الملكة في العلوم الصورية والمنهجية)[9] .. وليس الغرضُ هنا تفصيلَ القول في ذلك، وإنَّما أردتُ التنبيهَ على أنَّ للتمييزاتِ في كلِّ علمٍ شروطًا وضوابطَ، وهي تُحصَّل من كتب أهله المحققين الذي أسَّسوا منهج النظر فيه وأحكموا القول في تطبيقاته.

******

 
(2) احتفال العقل بالسؤالات:

ولهذه الصناعة نوعُ اتصالٍ بما قبلها، لكن هذه تضرب في عَظم المشكلة البحثية، بينما تقف تلك دون ذلك، وذلك أن صناعة التمييزات تُعَدُّ حاضنةً لفوائدَ يُرادُ منها أن تكون خادمةً لمشكلة البحث، فحين يميِّز الطالب في بحثِ موضوعٍ ما بين أجناس فوائده وأنواعها على النحو المتقدم، فهو لا يعالج بذلك الموضوع معالجةً مباشرةً، بل إنما يتغيَّا بذلك أن يُكوِّن ذخائر معرفيَّة تعينه على جمعٍ راشدٍ لمادَّةٍ بقصد تحليلها ودراستها، أمَّا صناعة السؤالات فليس من وظيفتها جمع المادَّة، وإنما الوصول إلى النتائج، وبعبارة موجزة مقاربة يمكن أن يُقالَ: صناعة التمييزات بحثٌ في المقدِّمات وإن كان لها أثرٌ في الوصول إلى النتائج، وصناعة السؤالات بحثٌ في النتائج وإن كان لها أثرٌ في إيجاد المقدِّمات، فبينهما التقاءٌ وافتراق.
السؤالاتُ البحثيَّة هي السبيلُ إلى الوقوف على جوامع المعارف، فالعقل المحتفل بالسؤالات حين يقصد إلى مصادر المعرفة يرى من المعلوماتِ المتناثرةِ وشائجَ متصلةً يشدُّ بعضها بعضًا، ويرى الجزئيَّات منتظمةً في سلك الكليَّات .. السؤالاتُ تجمع أجزاء المعرفة لتصهرها في قوالب الإجابات.

ولتقريب ذلك فلنأخذْ قضية (التفسير اللغوي للقرآن الكريم) مثالًا، فحين النظر في هذا الموضوع يمكن أن نضع تمييزاتٍ عدَّةً لتكون أوعيةً جامعةً لفوائده، من ذلك مثلًا: المفردات والأساليب، التفسير اللغوي عند اللغويين وعند غيرهم، ضوابط التفسير اللغوي، ظواهر التفسير اللغوي، ونحو ذلك.

أمَّا سؤالاتُ مثل هذا الموضوع فكثيرةٌ، مِن عُمَدها: ما مدى استفادة اللغويين من تفسير السلف في البحث اللغوي؟
هذا السؤال كان من الممكن أن يكون في ضمن التمييزات، إلا أنه إلى أن يكون سؤالًا أجدرُ وأحرى، لأنه ليس مجرَّدَ وعاءٍ معرفيٍّ تُجمَع فيه الفوائد وتُضَمُّ فيه النظائر، بل هو قضيةٌ مشكلةٌ تنحلُّ عُراها عروةً عروةً حتى يستقرَّ جوابها في آخر المطاف البحثي من مجموعِ التمييزات الموضوعة.

وقد كانت قضية التفسير اللغوي للقرآن الكريم موضوع أطروحة الدكتوراه للشيخ د. مساعد الطيار، وإذا تصفَّحتَ خطة البحث فلن تجد من أبحاثها هذا السؤال، لأن مثل هذا السؤال لا يستقلُّ بمبحث، بل هو سؤالٌ تجيبُ عنه الأطروحةُ كلُّها، وهذه خاصَّةُ السؤالات الكبرى - وليست كلُّ السؤالاتِ كبرى - وقد كشف الشيخ عن جواب السؤال في مقدمة أطروحته نظرًا لمركزيَّته، وأشار إليه في ثنايا بحثه، فقال: (كنت أظنُّ أن أجدَ لأعلام المفسِّرين ذكرًا كثيرًا في كتب اللغة كما هو الحال في ذكر أعلام اللغويين، ولكن من خلال ما قرأته من كتب اللغة وجدت أنه لم يكن لكثيرٍ من اللغويين عناية بنقل تفسير السلف، ولم يعتمدوا عليه في بيان مدلولات ألفاظ اللغة، ولا في بيان الألفاظ القرآنية التي يفسرونها)[10].

وأمثال هذا السؤال إن عَرِيَ عنها ذهن الباحث فلن يظفر بجوابها ولو قرأ في الموضوع ما قرأ، ولكنه إذا استصحبها تخلَّقت أجوبته في جدران بحثه طورًا بعد طورٍ.

ولذا فمن ضرورات الابتكار البحثي والإبداع المعرفي احتفال عقل الطالب بالسؤالات وقدرته على توليدها، ومن هنا كان عليه أن يَجِدَّ في تحصيل مسالك ذلك كما يحصِّل العلوم المصنَّفة، فتحصيل السؤال والتمكُّن من توليده تحقيقٌ في نفسه، ومن طرائق ذلك إدمان النظر في كتب المحققين في كل علم، وإطالة المكث عند معالجاتهم المعرفيَّة بِنيَّة الوقوف على سؤالاتهم والارتياض على طرائق تحصيلهم لها وسوقهم إياها وجواباتهم عنها، وهذه لا تلوح من ظواهر كلامهم، بل حتى ينفذَ الطالب في بواطن تحريراتهم، وذلك متى ما تعامل الطالب معها بصفتها مرجعيَّاتٍ لا مراجع، (فالمراجع تتناول الاقتباسات المباشرة، أما المرجعيَّة فتتناول جذور الفكر نفسه وتُشكِّل النموذج التفسيريَّ والتحليلي)[11]، وإذا أدمن الطالبُ قرعَ باب التحقيق فما أحراه أن يُفتَح له، فيكون مِن بعدُ قادرًا على بذر السؤالات في عقله ليحصد ثمارها في أبحاثه.

******

 
(3) توخِّي موقع المادَّة من عمود الصورة:

وهذا مما تَدِقُّ فيه الأنظار وتغمُضُ فيه المسالك، وذلك أن الباحث بعد رسمِه خارطة التمييزات الصالحة لبحثه، وطلبِه المادة، ووضعِه إيَّاها في موضعها اللائق بها من تلك الخارطة = فإنَّ عليه بعد ذلك أن يسلكَ تلك الموادَ المميَّزةَ وينظمَها في خيطِ بحثِه نظمًا دقيقًا، ويتوخَّى لكلِّ مادَّةٍ موقعَها الصحيحَ، ليستبينَ منزلتَها مما قبلها، وأثرَها فيما بعدها، وتخلُّفُ ذلك كفيلٌ باضطراب بحثه وتخبُّط نتائجه.

وهذه الصناعة من أجلِّ الصناعات البحثيَّة، وذلك أنَّها تُطلِعُ الباحث على مواقع التأثر والتأثير - وذلك من سبل تحقيق المعرفة وضبط معاقدها - وتعينُه على الوقوف على مسارات المواد المعرفية وضبط تحرُّكاتها، وكذلك تنمِّي حاسَّته النقدية، فيبصرُ بها زَيْفَ المعارف النادَّة عن مواقعها .. وهي صناعةٌ شاقةٌ تتطلَّب تقنياتٍ تفصيليَّةً تتنوَّعُ بتنوُّعِ موضوعات الأبحاث وأغراض الباحثين، وأنا أضرب لذلك مثلًا يدلُّ الفطِن على جوهر هذه الصناعة ويرشده إلى شريحةٍ عريضةٍ من مخبوء تقنياتها، وليكن هذا المثال في البحث التاريخي.

نشر الأديب النصراني د. لويس عوض مقالاتٍ في جريدة الأهرام سنة 1384هـ تحدَّث فيها عن أبي العلاء المعري، أراد بها أن يعرض الخلفية التاريخية لكتابه "رسالة الغفران"، ويبين شيئًا من طبيعة عصره وأهم معتقداته ونحو ذلك، وختمها بذكر خبرٍ فيه أنَّ أبا العلاء درس وهو صبيٌّ بدَيرٍ في أنطاكية على راهبٍ شيئًا من الفلسفة وعلوم الأوائل.

فدارت من أجل مقالاته هذه حماليقُ أقلامِ شيخ العربية أبي فهر محمود شاكر، فكتب خمسًا وعشرين مقالةً جُمِعت في كتابٍ بعنوان: "أباطيل أسمار" تعرَّض فيها لهذا الخبر وغيره، ولستُ في صدد عرض تفاصيل ذلك، وإنما الذي أنا بصدده الآن: كيف وظَّف أبو فهر هذه الصناعة في معالجة هذا الخبر؟

ابتدأ أبو فهر الحديث بذكر قضيَّة المنهج، وقسمه إلى شطرينِ: شطرٍ في تناول المادَّة، وشطرٍ في معالجة التطبيق، ثم قال:
(فشطر المادَّة يتطلَّب قبل كلِّ شيءٍ جمعَها من مظانِّها على وجه الاستيعاب المتيسِّر، ثم تصنيفَ هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيصًا دقيقًا، وذلك بتحليل أجزائها بدقَّة متناهية، وبمهارة وحذر، حتى يتيسَّر للدارس أن يرى ما هو زَيْفٌ جليًّا واضحًا، وما هو صحيحٌ مستبينًا ظاهرًا، بلا غفلةٍ، وبلا هوًى، وبلا تسرُّع)

ثم تحدث عن الشطر الثاني - وهو محل شاهد هذه الصناعة - فقال:
(أمَّا شطر التطبيق فيقتضي إعادة تركيب المادة بعد نَفيِ زَيفِها وتمحيص جيِّدها، باستيعابٍ أيضًا لكِّل احتمالٍ للخطأ أو الهوى أو التسرُّع، ثمَّ على الدارس أن يتحرَّى لكلِّ حقيقةٍ من الحقائق موضعًا هو حقُّ موضعها، لأنَّ أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها خليقٌ أن يشوِّه عمودَ الصورة تشويهًا بالغَ القُبْح والشناعة)[12].

ثم أخذ يطبِّق هذا المنهج في معالجة هذا الخبر عبر قاطرة تاريخية متقنة تجسَّدت فيها هذه الصناعة في أبهى حُلَّة، حيث قام أبو فهر بمَسحٍ تاريخيٍ لـ 28 كاتبًا ترجم لأبي العلاء، ورتبهم ترتيبًا تاريخيًّا: الثعالبي، فالخطيب البغدادي، ثم الباخرزي، السمعاني، ابن الأنباري، ابن الجوزي، القفطي، ياقوت الحموي ، ابن الأثير، سبط ابن الجوزي، ابن العديم، ابن خلكان، أبو الفداء، الذهبي، ابن الوردي، ابن فضل الله العمري، الصفدي، اليافعي، ابن كثير، ابن الشحنة، ابن حجر، العيني، ابن تغري بردي، السيوطي، عبدالرحيم العباسي، ابن العماد، البديعي، وختم بالعباسي الموسوي.

ثم أخذ يحلِّلَ موادَّ تراجمهم، مبيِّنًا مَن ذكر تلك القصة ومَن أهملها، ناصًّا على مَن ابتدأ ذكرها ومن قلَّده، وكيف اختصر بعضهم الخبر حتى أحاله عن وجهه، وما أثر ذلك، وغير ذلك من متعلَّقات الخبر .. ثم خلَصَ إلى قوله:
(وبيِّنٌ جدًّا من هذا السياق المختصر لتسلسل القصة التاريخي أنه لم يذكره ممن ترجم لأبي العلاء سوى تسعة من ثمانية وعشرين، وأنه قد انقضى ما بين الثعالبي إلى ابن الجوزي، أي إلى سنة 597هـ، ما بين معاصر لشيخ المعرة وغير معاصرين، وإلى ما بعد وفاة أبي العلاء بأكثر من مئة وخمسين سنة، والخبر غير معروف، مع إغراق بعض هؤلاء في النيل من شيخ المعرة ودينه، حتى إذا جاء القفطي (568هـ - 646هـ) انفرد وحده برواية الخبر بلا إسنادٍ إلى أحد، وفيه عللٌ قادحة .. فبأيِّ وجه بعد ذلك يأتي أستاذ جامعي، فيعمد إلى خبرٍ انفرد بروايته القفطي، والثمانية الباقون نقلوا عنه نقلًا مع بعض التصرُّف؟ وإذن فهو خبرٌ غريبٌ لا يُسلَّم)[13].

فلأجل هذه النتيجة، ولأجل إيقاع المادَّة في موقعها الصحيح من عمود الصورة البحثية، قام أبو فهر بهذه الرحلة البحثية الشاقة، مستخدمًا تقنية الملاحقة التاريخية للقبض على منابعِ القصَّةِ محلِّ البحث، فرسم موقعها من صورة البحث رسمًا متقنًا، وعَلِم موضع هذا الخبر من مجموع التراجم المتفرقة لأبي العلاء، فاستبانت له الطريق، واستقام له تصوُّر موقع المادَّة، ملاحظًا موضعَها مما قبلها وتأثيرَها فيما بعدها.

وهذا المثال كما قدَّمتُ يدلُّ الفَطِنَ على جوهر هذه الصناعة ويرشده إلى شريحة عريضة من مخبوء تقنياتها، فليتتبع كلُّ طالبٍ مواقعَ قطرِ أبحاثه، والله الهادي.

******

 
(4) توسيل المعلومة:

بدلًا من جعل المعلومة غايةً فإنَّها تستحيل بهذه الصناعة لتكون وسيلةً ومفتاحًا، فالمعلومة هنا ليست هي محلَّ المعالجة بل هي السائقةُ إلى غيرها من المعلومات والمعارف.

ولتوسيل المعلومة صورٌ كثيرةٌ، فمنها: أن يطالع الطالب معلومة مهمة في أحد الكتب، فيحتاج أن ينظر في متعلقاتها، فيتتبع إحالات ناقلها، ويقارن بين مختلف المصادر لتتشكل له وحدة معرفية متعلقة بتلك المعلومة.

ومنها: أن تكون المعلومةُ مسكونةً بنوع إجمال، ويكون في مفرداتها بعض المفاتيح البحثيَّة، فيستثمرها الباحث لإقامة مشروع بحثي يتتبع فيه ذيولها.

ولا بأسَ أن أذكر لهذه الصناعة مثالًا تمرينيًّا متعلقًا بعلم أصول الفقه والتصنيف فيه، مثالًا يبين معناها وإن لم يكن مكتملًا، فالغرض الإبانة عن الصناعة والتمرين عليها لا تقرير النتائج العلمية:

قال ابن فارس في باب الحروف من كتابه "الصاحبي":
(هذا بابٌ يصلح في أبواب العربية، لكني رأيتُ فقهاءنا يذكرون بعض الحروف في كتب الأصول)[14].
هذه المعلومة تأتي في كتاب "الصاحبي" عَرَضًا، غير أنه من الممكن أن نتوسَّل بها إلى بعض النتائج.

يعين هذا النقل عن ابن فارس على البحث في تأريخ دخول مبحث (معاني الحروف) في الكتب الأصولية عند غير الحنفية، وذلك محصَّلٌ من خلال تحرير جانبين:
[1] زمن تأليف "الصاحبي".
[2] مراده بقوله: (رأيت فقهاءَنا).

[ م ] معطى    [ ن ] نتيجة

أولًا: 
(م1) ابن فارس متوفى سنة (٣٩٥هـ).
(م2) ذكر ابن فارس في مقدمة كتابه أنه عنون كتابه بـ "الصاحبي" لأنه لما ألفه أودعه (خزانة الصاحب الجليل كافي الكفاة عَمَرَ الله عِراصَ العلم والأدب والخير والعدل بطول عمره) يعني به الصاحب بن عباد، وهو الملقب بكافي الكفاة.
(م3) ابن عبَّاد توفِّي سنة (٣٨٥هـ) بالرَّي.

= (ن1) ألَّف ابنُ فارس "الصاحبي" زمن حياة الصاحب ابن عباد، وذلك قبل عام 385هـ.

ثانيًا: 

(م4) بعد مطالعة ترجمة ابن فارس من عدة كتبٍ كنتُ باديَ الرأي أفترض أن ابن فارس ألف "الصاحبي" في آخر حياته لما سافر إلى الري، لأن ابن عباد كان فيها، وابن فارس إنما استوطن الري بأخرة كما في إنباه الرواة للقفطي[15].

فأردت أن أحصر تاريخ تأليفه للصاحبي بين مطلع انتقاله للري ومقطع وفاة الصاحب، ولما شرعت في البحث عن الخيوط المرشدة لسنة انتقاله للري وجدتُ معطًى انمحق معه افتراضي، وذلك أنه حُمِل للري ليقرأ عليه أبو طالب ابن فخر الدولة[16].. وأبو طالب هذا هو مجد الدولة رستم، وقد توفي والده فخر الدولة سنة ٣٨٧هـ، قال الذهبي في السير[17]: (وملَّكوا بعده ابنه مجد الدولة أبا طالب رستم، وله أربع سنين).

= (ن2) وهذا يعني أن مجد الدولة كان عمره حين توفي الصاحب: سنتين، فدل هذا على أنَّ تلقيَه العلم عن ابن فارس كان بعد وفاة الصاحب قطعًا، وهذا يقتضي أن ابن فارس سافر للري بعد وفاة الصاحب، فالبحث عن تأريخ انتقاله للري ليس بذي بال في تحديد زمن تأليف الصاحبي، لأنه انتقل للري بعد أن صنَّف الصاحبي.

(م5) وكنتُ بنيتُ على الافتراض الذي تبين غلطه أنه يعني بفقهائنا = المالكيَّة، وذلك لأنَّه كان شافعيًّا، فلما انتقل للري تحوَّل مالكيًّا، فإنه لما ذهب للري لم يجد ناصرًا لمذهب مالك فانتحله، وعن ذلك قال: (أخذتني الحمية لهذا الإمام أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه)[18].. وفي معجم الأدباء أنه قال: (دخلتني الحمية لهذا البلد - يعني الري - كيف لا يكون فيه رجل على مذهب هذا الرجل المقبول القول على جميع الألسنة؟!)[19]. وبذلك يتبين أن ما في ترجمته من إنباه الرواة[20] نقلًا عن بعض المتأخرين من أن ابن فارس (كان يناظر في الفقه، وكان ينصر مذهب مالك بن أنس) يُعَدُّ تأريخًا لحاله آخر حياته.

= (ن3) فإذا جعلنا (ن2) معطًى، وهو أنه انتقل للريِّ بعد أن ألف "الصاحبي"، وضممنا إليه (م5) الدال على أنه تحول للمذهب المالكي بعد انتقاله للري، علمنا أنه كان شافعيًّا زمن تأليفه الصاحبي، فقوله (رأيت فقهاءَنا) يريد به الشافعيَّة.
 
المحصّلة:

تحرَّر مما مضى أن ابن فارس ينقل عن فقهاء الشافعية تناولَهم لمعاني الحروف في كتب الأصول المدونة قبل سنة 385هـ - كحدٍّ أقصى - وهذا يفيد في كونه يؤرِّخ لمرحلة لم يصلنا فيها من كتب الأصول الشافعية شيء.
             
قد يكون هناك من الشواهد ما هو أقربُ إلى تحقيق تلك النتيجة من نصِّ ابن فارس، لكن كما تقدَّم فهذا مثالٌ للإبانة عن هذه الصناعة، وكثيرٌ هي المعلومات التي تصلح أن تكون وسائلَ للبحث وفواتحَ للتحقيق.

******

 
(5) استشكال المادة:

وذلك أنه كثيرًا ما تَعرِضُ لطالب العلم في قراءاته بعضُ المعارف والمعلومات المشكلة، وهذا الإشكال إمَّا أن يدركه القارئ بتنافر موادِّ المعلومة الماثلة بين عينيه، أو ينصَّ عليه الناقل، والقارئ حيال ذلك ربَّما سلَّم بهذا الإشكال وأذعن لبادي رأيِه أو لاستشكال غيره، فلم يظفر إلا بكون هذه القضية من المحارات، وهذا بحدِّ ذاته حصادٌ معرفيٌّ، لكنَّ الأمثلَ أن يجعل القارئ من هذا الإشكال مبتدَأَ بحثٍ بتثوير مكوِّنات المادَّة المبحوثة، فربما كان هذا الاستشكال مبنيًّا على خطأٍ في النقل أو نقصٍ فيه، ومثلُ هذه الموادِّ تبعثُ على القراءة والتنقيب، وتحقِّقُ لطالب العلم فوائدَ كثيرةً.

وجوهر هذه الصناعة ليس في كون هذا الاستشكال باعثًا على البحث، فليس هذا بمجرَّده من الصناعة، ولكن القصد أن حضور الاستشكال للمعلومات المبحوثة يعين على حرثها وتثويرها.

ولنأخذ على صناعة الاستشكال هذه مثالًا في علم التفسير:
قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في سياق بيان حكم العاجز عن الصوم:
(بالتتبع والاستقراء تبين أن العجز ينقسم إلى قسمين: قسم طارئ، وقسم دائم.
فالقسم الطارئ هو الذي يرجى زواله، وهو المذكور في الآية فينتظر العاجز حتى يزول عجزه ثم يقضي لقوله تعالى: «فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».

والدائم هو الذي لا يرجى زواله وهو المذكور في قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» حيث فسرها ابن عباس رضي الله عنهما بالشيخ والشيخة إذا كانا لا يطيقان الصوم فيطعمان عن كل يوم مسكينًا، والحقيقة أنه بالنظر إلى ظاهر الآية ليس فيها دلالة على ما فسره ابن عباس رضي الله عنهما، لأن الآية في الذين يطيقون الصوم: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ»، وهذا واضح أنهم قادرون على الصوم، وهم مخيرون بين الصوم والفدية، وهذا أول ما نزل وجوب الصوم كان الناس مخيرين إن شاؤوا صاموا، وإن شاؤوا أفطروا وأطعموا، وهذا ما ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.

لكنَّ غَورَ فقه ابن عباس وعِلمَه بالتأويل يدل على عمق فقهه رضي الله عنه، لأن وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى جعل الفدية عديلًا للصوم لمن قدر على الصوم، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم نسخ التخيير إلى وجوب الصوم عينا، فإذا لم يقدر عليه بقي عديله وهو الفدية، فصار العاجز عجزًا لا يرجى زواله، يجب عليه الإطعام عن كل يوم مسكينًا)[21].
 
ما ذكره الشيخ من وجهِ دلالةٍ صحيحٌ، لكنَّ وَصْلَه بما نقله عن ابن عباس رضي الله عنه محلُّ إشكالٍ، وقد ظللتُ زمنًا وهذا التقرير من الشيخ رحمه الله عالقٌ في ذهني، أستصحبه كلَّما جرى ذكر ابن عباس وغور فقهه، لكنِّي بعد مراجعة هذا الموضع مرارًا لم أقنَع بهذا التقرير، واستشكلتُ المادَّة لعلَّ في مساءلتها ما يبعث على حلِّ هذا الإشكال.

وبعد مراجعة المصادر تحصَّل لي ما يلي:
جاء في صحيح البخاري[22]: حدثني إسحاق، أخبرنا رَوحٌ، حدثنا زكريَّاء بنُ إسحاق، حدثنا عمرو بن دينار، عن عطاءٍ أنه سَمِع ابن عباسٍ يقرأُ: «وعلى الذين يُطَوَّقُونَهُ فديةٌ طعام مسكين» قال ابنُ عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكانَ كلِّ يومٍ مسكينًا.

والذي تدل عليه هذه الرواية أن قراءة ابن عباس: «يُطَوَّقُونَهُ» لا «يُطيقونه» .. وقد ساق ابن جرير الطبري بأسانيده إلى عطاء وعكرمة ومجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: «وعلى الذين يُطَوَّقُونَهُ»[23].
قال ابن حجر: ( قوله: "يُطوَّقونه" بفتح الطاء وتشديد الواو مبنيًّا للمفعول مُخفَّفَ الطاء، من طُوِّقَ - بضم أوَّله - بوزن: قُطِّع، وهذه قراءةُ ابن مسعود أيضًا)[24].
وهي كذلك قراءة عائشة رضي الله عنه كما في تفسير الطبري[25].

إذا تحرَّر هذا عُلِم أن ظاهر الآية بقراءة: «يُطَوَّقُونَهُ» دالٌّ على ما فسَّره ابنُ عبَّاس رضي الله عنه خلافًا لما ظنَّه الشيخ ابن عثيمين، فإن الشيخ بنى على أنَّ ابنَ عباسٍ يقرؤها: «يُطيقونه»، وليس كذلك، ومما يدل على أن الشيخ رحمه الله لم يتنبَّه لذلك أنه في تفسيره لسورة البقرة قال:
(قوله تعالى: «وعلى الذين يُطيقونه» أي: يستطيعونه. وقال بعض أهل العلم: "يطيقونه" أي: يُطوَّقونه، أي: يتكلَّفونه ويبلغ الطاقة منهم حتى يصبح شاقًّا عليهم. وقال آخرون: إن في الآية حذفًا، والتقدير: وعلى الذين لا يطيقونه فدية .. وكلاهما ضعيفٌ، والثاني أضعفُ)[26].

فانظر كيف قوَّى الشيخ في الشرح الممتع فقهَ ابنِ عباس، وضعَّف هنا ما بنى عليه ابنُ عباس فقهَه، وما ذلك إلا لأن الشيخ لم تتحرَّر له قراءة ابن عباس رضي الله عنه.
وقد ذكر الشيخ أن الآية التي بعدها نسختها، وهذا إنما يستقيم على غير قراءة ابنِ عباس، أمَّا عليها فهي محكمة غير منسوخة، وهذا مصرَّحٌ به في رواية البخاري، فقد قال ابن عباس قبل تفسيره الآيةَ: (ليست بمنسوخة).
قال ابن حجر بعد أن ذكر الخلاف في دلالة الآية والقول بنسخها: (وأمَّا على قراءة ابنِ عبَّاس فلا نسخَ، لأنه يجعل الفدية على من تكلَّف الصوم وهو لا يقدر عليه، فيفطر ويكفِّر)[27].
وهذا القول المنقول عن ابن عباس أحدُ قولين حُكيا عنه، والآخر كالجمهور.
 
فهذا مثالٌ يشهد لأثر صناعة استشكال المادَّة، وكيف أنها مَعبَرةٌ لتحصيل جُمَلٍ من الفوائد ما كانت لتُنال لو أن الطالب قنع بظاهرٍ من القول .. وإذا نمَّى الباحث في حواسه البحثية صناعة الاستشكال وتعقَّبَ بها المعلوماتِ وساءَلها = تحصَّل له من تمرُّسِه بها وكثرة تفعيله لها مِن كَشفِ مخبَّآت المعارف ما لا يحصى، وهو ما يجعل كثيرًا من الباحثين يقف على فوائد في غير مظانِّها، فإذا ضمَّها إلى ما معه تهلّلَ وجهُ بحثه، وطَرِبَتْ عينُ قارئه، وكما يكون الاستشكال للموادِّ المحصَّلةِ عند آخرين، فعلى الباحث كذلك أن يستشكلَ نتائجَه التي حصَّلها ويُسائلَ مقرَّراتِه التي توصَّل إليها، وذلك ليُقوِّمَ معوجَّها ويُحكِمَ مُنآدَها، فلا يرد عليها اعتراضٌ إلا وقد أمكنه الانفصال عنه.

******


(6) استجلاب الأفق المعرفي:

وذلك أنَّ كثيرًا من المواد المعرفية لا تُفهَمُ حقائقُها ولا تنحلُّ إشكالاتُها حتى ينسلَّ الباحث من واقعه ليعيش في واقعها، فيقرأ الموادَّ حينئذٍ في سياقها وظرفها الحاوي لها.
وهذا الاستجلاب يكون على مستويين:
على مستوى المعلومة الفَرْدة، فقد لا يمكن فهمها حتى يعرف الباحث سياقها.
أو على مستوى حزمة معرفية كاملة، وهذا المستوى هو محلُّ التفاضل بين الباحثين، فلا يمكن لواحدِهم أن يقف على حقائقها حتى يطَّلِعَ على ظرفِها ويسير في مداراتِها.

صناعة الاستجلاب هذه تسوق لطالب العلم كثيرًا من المعارف، وتمكِّنه من فهمها وتحقيقها، وانظر مثلًا كيف تجد (الرسالة) للشافعي حين تقرؤها وأنت لا تعرف من الشافعي إلا اسمه، ثم انظر كيف تستحيل في عينك كتابًا آخرَ حين تكونُ على درايةٍ بالأفق المعرفي الذي كان يعيشه الشافعي وتقفُ على طبيعة القضايا المعرفية السابحة في فضائه .. هذه الصناعة البحثية تشرح لك لماذا كانت رسالة الشافعي من أعظم كتب أهل الإسلام.

وقريبٌ من ذلك كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية في نقد المشروع الكلامي/الفلسفي، فلا يكاد الطالب يدرك أغوار المعالجة التيميَّة ما لم يتمكَّن من استجلاب الأفق المعرفي الذي كان يعالجه، وكثيرًا ما يُلقِي ابن تيمية بمعالجات دقيقة في جوابات عارضة يعالج بها مشكلات كلاميَّة كبرى، لكنَّ تحرُّكَ الطالب في غير الأفق الذي يتحرَّك فيه الشيخ يصرفه عن فُتُوحِ تلك الجوابات.

وفي حقل الدراسات الفكرية لن يتمكَّن الباحث من فهم المناهج والمذاهب الفكرية حتى يستجلب آفاق أصحابها، فلا بدَّ - كما يقول المسيري - (أن يُدرَسَ الفكرُ في سياق الممارسات التي يقوم بها حاملو هذا الفكر، فالحركة الرومانتيكية لا يمكن فهمها حقَّ الفهم إلا في إطار الثورة الصناعية والثورة الفرنسية والتحولات الاقتصادية والسكانية الضخمة التي شهدتها أوربة في ذلك الوقت، والفكر الصهيوني لا يمكن فهمه إلا في إطار الرؤية العنصرية الاستعمارية التي هيمنت على المجتمعات الغربية في القرن التاسع عشر)[28].

ومن تطبيقات هذه الصناعة ما قام به الشيخ البحَّاثة إبراهيم السكران في كتابه (الماجَرَيات)، وذلك أنَّه تكلم فيه عن أثر استيلاء الأخبار والأحداث على وقت طالب العلم، وأخذ في تنظير ذلك بمباحثَ شائقةٍ ليس هذا محلَّ لعرضها، ثم أخلصَ غالبَ مادَّة الكتاب للحديث عن الماجريات السياسية، وانتخب خمسَ عيِّناتٍ لدراستها، اشترط فيها أن تكون جادَّةً، مستقلَّةً، لها موقف نقدي من إشكاليَّة التعميم السياسي.

والذي يعنيني هنا أن من ضمن النماذج التي درسها واستعرضها: د. فريد الأنصاري، واللافت للقارئ أن هذه العينة نالت الحظَّ الأوفر من صفحات الكتاب قياسًا بالعينات الأخرى، فبينما امتدَّ الحديث عن الأنصاري 87 صفحة كانت العينة التي تليها من جهة طول المادة متعلقةً بالبشير الإبراهيمي ولم يجاوز الحديث عنه 53 صفحة، وسبب ذلك أن نتاج د. فريد الأنصاري لا يمكن دَرسُه على وجهه حتى يتم استجلاب الأفق الزمني لواقع العمل الإسلامي الذي تحرَّك فيه، فاحتاج الكاتب أن يتحدث عن الحركة الإسلامية في المغرب في ما يقرب من 30 صفحة، وهذا القدر يفوق القدر الذي نالته عيِّناتٌ أخرى، كمالك بن نبي وأبي الحسن الندوي، وبهذا الاستجلاب انحلَّت عرى الإشكالات المنثورة في كتابات الأنصاري، ولذلك قال السكران حين حديثه عن تجربة الأنصاري في العمل الإسلامي، وفيه تقريرٌ وتنظيرٌ لهذه الصناعة البحثية:
(في نظري أنَّ هذه التجربة هي المفتاح الرئيس لفهم مغزى ومرامي رسائل د. فريد الفكرية والتزكوية، بل الذي يبدو لي أنَّ مَن لم تُتَح له فرصة الاطلاع على خطوب ومخاشنات هذه التجربة فسيتعسر عليه استيعاب وإدراك أغراض المعالجات الجزئية في تلك الرسائل، فإن عامَّة هذه الرسائل هي إجابات على إشكاليات عاشها الشيخ بعقله وقلبه في أجواء وعلائق التجربة الدعوية-الحركية، وخصوصًا مخاضات الانفصال ومتولَّداتها .. ومن لم يتصوَّر سياق الإشكال الذي تتحرَّك فيه الإجابات احتجبت عنه بواطن المعاني وحدود المرادات، بل ربَّما حمل الدلالات على مقتضى المخزون الذاتي من خبرات وإشكاليات القارئ نفسه، فظنَّ المراد هو المعنى القريب الذي ألِفه، وعزبت عنه الدلالة المقصودة، فالأفق الإشكالي لأي كتاب هو مجهر القراءة لمغزى الإجابات، وهذا أمرٌ عامٌّ في العلوم والمعارف) [29].

فمفتاح فهم النتاج المعرفي لـ د. فريد لأنصاري متوقِّفٌ على النظرِ في تجربته الحركيَّة، واستعراضِ تاريخ الحركة الإسلامية في المغرب وأطوارها وأحداثها ومواقف الفاعلين فيها، وبتخلُّف ذلك يغيب عن الناظر كثيرٌ من مقاصدِه وأبعادِ تقريراته.


*****
 

وبعدُ، فلكلِّ موضوعٍ مسالكُه، ولكِّل بحثٍ صناعاتُه، ولكلِّ باحثٍ مداخلُه الإبداعيَّة، وفَرْقُ ما بين باحثٍ وآخرَ جودةُ مداخلِه وصناعاتِه، وقدرتُها على إيصاله إلى مبتغاه، وإطلاعُها إيَّاهُ على مساحاتٍ قصيَّةٍ من الموادِّ المقوِّمة، وعليه فمداخل البحث وصناعاتُه متعدِّدَةٌ تعدُّدَ الموضوعات والباحثين، وتحتَ كلِّ مدخلٍ وصناعةٍ من فروع التقنيات ما لا ينحصر، وقد كان الغرضُ من هذه الورقة - كما بيَّنتُ في مطلعها - أن أُثبِتَ جملةً من الصناعات البحثيَّة لأدلَّ على ما هو من جنسها .. هذا، ولم أشأ أن أجرِّد القول في الصناعات دون أن أشفعها بأمثلةٍ كاشفةٍ لئلَّا تكون الصناعةُ البحثيَّةُ مجرَّدَ رموزٍ عائمَةٍ، ولذا حرَصتُ على وضع هذه الأمثلة وأغضيتُ عن بعض ما قد يلحقها، إذ كان الغرضُ منها التمرينَ لا التقريرَ، وعلى الله قصد السبيل.
 

-----------------------------------
[1] المستصفى (2: 331).
[2] إنباه الرواة للقفطي (4: 14).
[3] دلائل الإعجاز للجرجاني (260).
[4] في اللغة والأدب .. دراساتٌ وأبحاث (1: 288).     
[5] (4: 342-343) بتصرُّف.
[6] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2: 43).
[7] قلق المعرة لسعد البازعي (109).
[8] (21).
[9] تجديد المنهج في تقويم التراث (55).
[10] التفسير اللغوي (8).
[11] حوارات المسيري، تحرير سوزان حرفي (1: 253).
[12] أباطيل وأسمار (20).
[13] (30-31) بتصرُّف.
[14] (123).
[15] (1: 95).
[16] المصدر السابق.
[17] (١٦: ٥٠١).
[18] بغية الوعاة (١: ٣٥٢)
[19] (1: 411).
[20] (١: 94).
[21] الشرح الممتع (6: 324-325).
[22] حديث رقم: (4505).
[23] تفسير الطبري (3: 172-173).
[24] فتح الباري (8: 180).
[25] (3: 173).
[26] تفسير سورة البقرة (2: 321).
[27] فتح الباري (8: 180).
[28] حوارات المسيري، تحرير سوزان حرفي (1: 255).
[29] الماجَرَيات (238).




سلسلة طالب العلم (1) طالبُ العلم .. والقَفَزات
سلسلة طالب العلم (2) طالبُ العلم .. والتأمُّل
سلسلة طالب العلم (3) طالبُ العلم .. والحُبّ
سلسلة طالب العلم (4) طالبُ العلم .. والتصدُّر
سلسلة طالب العلم (5) طالبُ العلم .. والدَّمع
سلسلة طالب العلم (6) طالبُ العلم .. والمذاكرة
سلسلة طالب العلم (7) طالبُ العلم .. وسؤال الوسائل
سلسلة طالب العلم (8) طالبُ العلم .. والتخصص
سلسلة طالب العلم (9) طالبُ العلم .. والهموم
سلسلة طالب العلم (10) طالبُ العلم .. والصناعة البحثيَّة
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
مشاري الشثري
  • سلسلة طالب العلم
  • مقالات في التربية
  • مقالات متفرقة
  • مقالات منهجية
  • مقالات نقدية
  • الصفحة الرئيسية