صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







التشغيب العلمي

مشاري بن سعد الشثري
@m_alshathri

 
بسم الله الرحمن الرحيم


تحدث غير واحد من العلماء عن مقاصد التأليف، وتلاقت أطاريحهم في قصرها على الاختراع، والجمع، والتكميل، والإبانة، والاختصار، والترتيب، والتصويب، فهل فاتهم شيء من مقاصد الكَتَبة؟
إن هذا الحصر لمقاصد المؤلفين ليس تنزيلا، وبالتالي سأخطو خطوة بهذا الموضوع لأجدد فيه، وأضيف له قسمًا ستضم جنباته الكثير من المؤلفات والبحوث التي حارت زمنا حيال ما ذكره المتقدمون من مقاصد، ولم تجد في واحد منها ما يليق أن يكون غطاء لرأسها ووكاء لسقائها.

*****
 
قبل البدء


لكلِّ علمٍ موضوعُه، ولكلِّ منهجٍ مقوماتُه، ولكلِّ فكرةٍ سياقُها الذي يمنحها شرعية الوجود، وقد عُنِي أصحاب العلوم، وبُناة المناهج، وأرباب الفِكَر، ببيان جملةٍ من المقررات التي تجعل من منشآتهم منهلا يستحق الورود، من تحديدٍ للمصادر، وبيانٍ لموضوع البحث وعوارضه، وسدلٍ للقضايا الناظمة له وَفق قواعدَ معيارية تضبط سلامتها وإيصالها لمطلوب الناظر.

وأنت إذا قلَّبت النظر في التراث الإسلامي وجدت "بواعثَ الإحكام" هذه شاخصةً لكل مطالع:

- ففي جانب (المصادر) ترى أنها شغلت حيزا كبيرا من مدونات العلماء المسلمين، إيجابًا: بذكر مرجعيَّة المنهج المتَّبعِ وإقامة الدلائل عليه، على نحو ما تجده في كتب أصول الفقه من حجاجٍ لمصدرية الكتاب والسنة وما تفرَّع عنهما، وسلبًا: بدفع الاعتراضات الموجهة على هذه المرجعية.

- وفي جانب (الموضوع) ترى تمايز العلوم الإسلامية بناء على تحدُّد موضوعاتها واختلاف عوارضها، وليس الأمر مجردَ تشقيق اعتباطي، فموضوع علم أصول الفقه: الأدلة (تحديدا لها، وبيانا لشروط إعمالها، وشرحًا لدلالاتها)، وموضوع علم الحديث: النصُّ النبوي (بحثًا في أحوال النَّقَلة، وبيانًا لعلل الإسناد والمتن)، وهلمَّ جرًّا.

وفي جانب (القضايا الناظمة) تجد كلَّ فرعٍ معلقًا بحبال أصوله، وكلَّ حكم مبنيًا على ما يمهِّد سلامته، وَفق معاييرَ محكمةٍ وضعها أهل كل علم، تُحاكم إليها الآراء، وتُنقَد على ساحتها الحجج، ولك أن تطالع مدونات أيِّ علم من العلوم الإسلامية "مقاصدَها ووسائلَها" لتبصر إحكام المسائل، وترتُّب الحجج، وكثافة المادة النقدية.


*****
 
نمذجة


ليس من شكٍّ في أهمية الدور الذي تمثله العملية النقدية في إذكاء العلوم تحقيقًا وتحريرًا، ولو استعرضنا ما أثمرته هذه العملية من قفزات نوعية في تاريخ العلوم وتمرحلها ونضجها لعلمنا جلالةَ الموقع الذي تحتلُّه .. إنه النقد المولَّد من منظومة معرفية وأسسٍ متماسكة، وليس نقدًا لقيطًا لا يفيء إلى بيت يكنُّه.

ولنستعرض لإبراز معلَمَةٍ نقديةٍ عاليةٍ نموذجًا مبكِّرًا استحوذ على أدوات البناء والنقد، وأعملَها باحترافٍ منقطع النظير حتى كان اسمه علامة فارقةً في تاريخ علوم أهل الإسلام، بل شخص بأبصار أهل الثقافات الأخرى إلى التراث الذي خلَّفه، وجعل من كتاباته رقمًا صعبًا في دراساتنا ودراساتهم .. ذلكم هو الإمام الشافعي، ولست بصدد بيان أبعاد مشروعه، وإنما أجتزئ منه بما يمهِّد للفقرة القادمة التي تشكِّل صلب المقالة.

من الممكن إيجاز مشروع الشافعي في عناصرَ تحوم حول قضية "المرجعية"، وهي:

1.   تسمية المرجعية وضبطها:
وتمثِّل (الرسالة) التي بعث بها إلى عبدالرحمن بن مهدي حجر الزاوية في بناء صياغة المرجعية.

2.   تفعيل المرجعية وتجسيد مخرجاتها:

وذلك في ذلك البناء الضخم: (الأم)، فقد استعرض فيه أبواب الفقه وأعمل فيها ما اصطفاه من قواعدَ هداه إليها استقراؤه لمصادر الشريعة.

3.   تحصين المرجعية:

من خلال المقررات التي سعى من خلالها في صيانة المرجعية من جهتين: سوءِ التوظيف - تسلُّل الدخيل . وذلك ظاهر في رسالته، وكذا في كتبه الأخرى كـ: (جماع العلم)، (إبطال الاستحسان).
 
فهذه المعالم في مشروع الشافعي تمثل التكامل المعرفي "المشروط" في سلامةِ النقد وبراءتِه من أن يكون مجردَ عبث وتشغيب، وليس بشرط أن يكون الناقد ذا نتاج في الخارج يشهد على استحواذه هذه المعالم وما شاكلها، فالشأن أن تكون مستصحبة - ولو في الذهن - في العملية النقدية بشكل يجعل من أحرف النقد منقوطةً بالتحقيق.


*****
 
ماذا يُقصَد بالتشغيب العلمي؟


"التشغيب" تفعيلٌ من "الشغب"، وهذه المفردة كثيرة التداول على ألسنة الأخباريين حين حديثهم عن الفتن وتهييج الناس وعبث العسكر، وليست ذات حضورٍ في المعجم العلمي، لِمَا أن للعلم - ما دام علما - منهجًا يدفع بطبيعته أي شغب، وحرمةً تحجز العابثين من ورود حماه، ولكن غُيِّب المنهج بدثار (المنهج ! .. زعموا)، وانتُهِكت حرمة العلم بسيف (العلم! .. زعموا).

وسأعرض في هذه الكتابة بعض الشواهد التي تطلع الناظر على حجم الشغب الواقع في الخطاب الفكري المعاصر:

1.   الاستلقاء البحثي:
وذلك حين ترى كاتبا يتناول قضية من القضايا الشائكة التي تحتاج إلى ذراع بحثية مكينة وطول صبر وتأنٍّ في التأمل والتحليل، ولكنك ترى بحثا مخدَّرًا متقارب الأجفان، وأبشع من ذلك حين ترى كاتبه يشرح لك استلقاءه بنحو قوله: (أنا مؤمن ... أن متابعة التفاصيل الصغيرة، مثل حشد مزيد من الشواهد، وتتبع بعض الآثار، والتفتيش عن بعض المراجع وسوى ذلك، - أحيانا تحتاج لتوثيق حديث غريب أو التفتيش عن مصدر أثر إلى أسبوع! - ستستهلك وقتا طويلا لست مضطرا لإنفاقه، خاصة في ظل التزامي بعملين "صباحي ومسائي" يستهلكان نصف يومي) انتهى بعلامات ترقيمه، وحقَّ له أن يتعجب من إنفاق أسبوع لتوثيق أثر، فليس الأثر مطية صالحة لتقرير ما يصبو إليه، حتى ولو كان الموضوع فارقا بين فسطاطين، كالبحث في الديمقراطية .. حُقَّ له ذلك، لاسيما وأنه ملتزم بدوامين!

2.   الدعاوي المرسلة:

حاول أن تقلِّب النظر في كتاب من كتب المفكرين العرب، واحمل معك أوراقا وأقلاما، وقيِّد كل ما تراه عريًّا عن البرهنة، وأنا ضامن لك أن ما أدنيته من الأوراق والأقلام لن يفي بمعشار ما تجد، لا من جهة تثبيت المعلومة وتوثيقها، ولا من جهة توظيفها لمدلوله، فهو يجري في مضمارٍ كان قد رسم حدوده من قبل، ويسعى بعد ذلك في نسج المعطيات العلمية (واللا علمية) لتتواءم مع المضمار الذي حدَّه.

من ذلك أن ضغط المفاهيم الغربية التي طالت طائفة من المفكرين (الإسلاميين) ألجأتهم إلى هدر الحدود الفاصلة بين الرجل والمرأة، فأتى أحدهم ووقف شاخص البصر مع قول الحق تعالى في آية الدين: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) .. كيف السبيل إلى تغييب نور هذا التنزيل؟

بحث في وعائه عن دعوى، فقال ما نصه: (إن الخطاب القرآني كان موجها لأقوام كان عندهم تقدير ضئيل - إن وجد - للنساء والذين لم يسمحوا بمشاركتهم في شؤون كانت تعتبر من شؤون الرجل، ولذا أرجع الحكم إلى أن المرأة لم تكن وقت نزول الآية الكريمة ذات مشاركة فعالة في الحياة العامة، لاسيما ما يتعلق بالقضايا المالية والتجارية مما جعلها تجهل هذا الميدان).

دعنا نفكك هذه الدعوى قليلا:

أ‌. حجم الدعوى: إنها تستوعب حقبة تاريخية طويلة تحتاج إلى استقصاء للنظر حتى نصل إلى حقيقة المساحة التي كانت تشغلها المرأة في الحقل التجاري، فهل كانت بالفعل كافةَ اليد – أو مكفوفتَها – عن هذا الحقل؟
إن التاريخ يطالعنا بنماذجَ لنساء كنَّ ذوات باع في العملية التجارية، وخذ خديجة رضي الله عنها مثالا على ذلك، وأمرها وقصتها مع نبينا عليه الصلاة والسلام في ذلك ذائعة الصيت، وقد كان ذلك قبل البعثة، فما ظنك بوقت تنزل آية الدين الواقعة في سورة البقرة التي نزلت أواخر العهد المدني؟

ب‌. حقيقة الدعوى: إن الأمر الذي تناولته الآية ليس متعلقا بمتاهات البورصة وتقلب العملات، ولا بتلك المعاملات التي يداخلها الغرر والغبن الخفي، ولا بمدى حذق العاقد بأجناس المبيعات وتفاوت ما بينها، إن الأمر الذي تناولته الآية: شهادةٌ على دين مكتوب، وفقط. فأي قضايا مالية وتجارية كانت تجهلها المرأة على حد قول صاحبنا؟
ذات الباحث في سياق آخر يروم تغييب شريعة الله في حق المرتد من خلال ردِّ القول بقتله وإرجاعه إلى الإرث اليهودي، فصرف ما يقرب من عشرين ورقة يذكر فيها أن هناك اختراقا ما للتراث الإسلامي تسبب في ضخِّ بعض المفردات اليهودية في مدونة أهل الإسلام، وفي ختم بحثه أشار في لمحة خاطفة إلى أن من تلك الأحكام المتسلِّلة قتلَ المرتد.
لماذا حكم المرتد خصوصا؟  لا ندري.
وما دلائل ذلك؟ لا ندري.
ومتى كان بدء هذا التحريف؟ لا ندري.
تجاوز الباحث ذلك كله، ولا حاجة في الواقع إلى إقامة برهان شيء من ذلك، فالأمر مجرد شغب علمي. 

3.   التطفيف الأصولي:

أضحى من المألوف أن يكون للعالم قدر من التردد في حكم بعض المسائل نظرا لتزاحم المرجحات في ذهنه، فربما رأيته آخذا بقول سبق له نقضه وترجيح خلافه في زمن مضى، وربما كان ذلك في محيط زمني ضيق، لكن أن يكون ذلك في كتاب واحد وبين موضعين لا تفصل بينهما سوى 75 صفحة، دون بيانٍ لرجعة، ولا اعتراض على أيٍّ من الموضعين، فالأمر ليس متعلقا بتعادلٍ ولا ترجيح.
تجد ذلك عند أحد الكتاب حين تحدث عن آيات الحكم بغير ما أنزل الله في سورة المائدة، ولما ذكر أن الآيات نزلت أصالة في حق اليهود بين أن القول المحقق عند أهل الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ولكنه في سياق حديثه عن ولاية المرأة اعترضه حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فما كان منه إلا أن قال: (صحيحٌ أن أغلب الأصوليين قالوا: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولكن هذا غير مجمع عليه)!
وقريب من هذا التطفيف من يَجِدُّ في حسر تمدد النصوص عن استيعاب نوازل العصر، ويريد  قصرها على حال زمنية لا تشمل محيط معيشته وزمنه، فإذا أتى لحد السرقة قال بأن القطع شريعة صالحة للصدر الأول - مع أن النص مطلق لم يقيد بزمن معين - ولكنه مع هذه الشهوة التاريخية التحقيبية تجده في قضية أتى الإسلام بمرحلة أحكامها كالجهاد، وانتقل بها في نصوص ظاهرة الدلالة من الكف للمدافعة فالبداءة بالقتال = تجده كابحًا جماح شهوته، صارفَ النظر عن جميع آيات الجهاد إلا: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)، لينسخ بها جميع المراحل، ويجعلها محكمة مهيمنة على جميع الأزمنة والأمكنة.
وهكذا تجد الفقه التشغيبي قابعًا في تيهٍ منهجيٍ، يبني ركام فروعه في أرضٍ جرداء، ثم يصطفي من الأصول ما عسى أن يكون جابرًا لذاك الركام المهشَّم.

4.   العَوَر الاستدلالي:

وهذا الشاهد في غاية الطرافة، فليس التنافر فيه كما في الشاهد السابق بين متباعدين، بل بين متقاربين، بل متلاصقين .. كتب أحد المتخصصين في الفقه السياسي عن حكم الشورى، ورجح إلزاميتها، واستدل لذلك بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا).
في موطن آخر تحدث عن حد الرجم، وصوَّب نحوه سهامه، وقال: (أغلب أحاديث الرجم لا تخلو من مغمز وعلة في السند أو المتن أو كليهما، وبعض هذه الأحاديث تشتمل على أمور منكرة في الإسلام ... فهذه إشكالات كافية لوقف حد الرجم، درءا للحد بالشبهة، وصيانة لدم المسلم من الهدر بحجة غير قطعية).

أين الطرافة هنا؟
حين ترى ما استدل به لإلزامية الشورى تجده قطعةً من خطبةٍ لعمر رضي الله عنه مخرجةٍ في صحيح البخاري، وفي ذات الخطبة قرر عمر رضي الله عنه تقريرا جازما بشرعية حد الرجم، بل صرح بخشيته أن يطول العهد بالناس، ويتركوا هذا الحد لعدم ذكره في كتاب الله!
قال رضي الله عنه: (إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ).
فانظر إلى أي حدٍّ يبلغ إلف التشغيب بصاحبه.

5.   اختزال البراهين:

العلم ليس عبارة عن جزر متباعدة، بل هو وشائجُ مترابطةٌ آخذٌ بعضها بزمام بعض، وبإدراك هذه الحقيقة ينبل العالم وتتسع بسطته في العلم، وربما قصر العالم غالب اهتمامه على علمٍ ووزع فضلَ همته على سائر العلوم لإدراك المجزئ منها، غير أن المشغبين افترعوا قسمة ثالثة، فلا هم بسطوا نفوذهم على العلم جملة، ولا على علم معين، بل أشعلوا فتيل مشروعهم كله بدليلٍ أضفوا عليه مسحة الإحكام والظهور والهيمنة، وجعلوا من هذا الدليل بابًا شريفًا من العلم لا يعدو الإسلام أن يكون أحدَ فصوله، فكل دليل يخالف (ما فهموه) من دليلهم = ضعيفٌ، أو منسوخٌ، أو ليس بدليل أصلا.
تجد الواحد منهم في مسائل الجهاد وأهل الذمة والحدود لا يحفظ إلا قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، وفي مسائل السياسة الشرعية بتفصيلاتها وتعقيداتها لا يبصر إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وفي مسائل الأسماء والصفات لم يحط علمه بغير فهمٍ قاصرٍ لتفسير ابن عباس لآية: (يوم يكشف عن ساق)، وجعل منه بوابة للتأويل قاضيًا بذلك على ما تواتر في الوحيين من حسم مادته، يُجهِض مئات المسائل في سبيل تحويط فهمه لدليله الفَرْد، وهكذا تجد له في كل باب من العلم دليلا يرى فيه متمسكا لقوله، ولو من طرف خفي، وقد نبه على هذا العبث ووسمه بالشغب في لفتة مبكرة نسيج وحده ابن حزم رحمه الله فقال:
(ولا تأخذ بعض الكلام دون بعض فتفسد المعاني، وأحذرك من شَغْب قومٍ في هذا المكان، إذا ناظروا ضبطوا على آية واحدة أو حديث واحد، وهذا سقوطٌ شديد وجهلٌ مفرط، إذ ليس ما ضبطوا عليه أولى بأن يُتَّخذَ مقدمةً يُرجَع إلى إنتاجها من آيات أخر وأحاديث أخر،  وهذا تحكم وسفسطة، فاحذره أيضًا جدًّا)[1].
وقد أحسن الشوكاني رحمه الله حين قام بتوصيفٍ دقيقٍ لأهل البدع، وجعل هذا الجنس من التشغيب من صلب طريقتهم فقال:
(قبَّح الله أهل البدع، وقلَّل عددَهم وأراح منهم، فإنهم أضرُّ على الشريعة من كل شيء، قد شغلوا أنفسهم بمسائل معروفة، هي رأس مذهبهم وأساسه، وتركوا ما عدا ذلك، وعابوه وعادَوا أهله)[2].


*****
 
المنتهى


(التشغيب) هو المقصد الفائت من مقاصد الكَتَبة، وهذه بعض شواهده، سردتها ليُعلم أن مواقع الكتابة في الأوساط الفكرية ليست بالضرورة ناشئة عن منطلقات علمية معتبرة، بل كثير منها مصابٌ بضمور الأهلية المعرفية للكاتب وترهُّل أدواته البحثية، وثمة شواهد ومعالم أخرى لهذا المقصد الفائت تستحق الرصد والتدوين، والسعيُ في إبرازها وبيانُ عوارها واجبٌ على أهل التخصص، مكافحةً للشغب وحفظًا لحرمة العلم، (فأما الزبد فيذهب جفاء .. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
     
 

----------------------------
[1] رسائله (4: 271)
[2] منتهى الأرب: 75

[مجلة البيان – عدد جمادى الأولى]

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
مشاري الشثري
  • سلسلة طالب العلم
  • مقالات في التربية
  • مقالات متفرقة
  • مقالات منهجية
  • مقالات نقدية
  • الصفحة الرئيسية