صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







نفح الريح بفوائد قصة الذبيح

د. مهران ماهر عثمان

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فيقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام :
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} الصافات[99-110].
لقد اشتملت هذه القصة وآياتها على عبر يجدر بكل مسلم أن يقف عندها، وقبل أن أقذف بنفسي بين دروسها وما يستفاد منها لابد من تذكير بأحداثها ..

أحداث قصة الذبيح :

قال ابن كثير رحمه الله :"ذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه، سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا، فبشره الله تعالى بغلام حليم، وهو إسماعيل عليه السلام; لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل، أنه أول ولد وبكره.
وقوله: {فلما بلغ معه السعي} : أي شب وصار يسعى في مصالحه، رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا، وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعا: «رؤيا الأنبياء وحي»، قاله عبيد بن عمير أيضا، وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر، وقد طعن في السن، بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع.
فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته.
ثم عرض ذلك على ولده؛ ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا:{قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى }؟
فبادر الغلام الحليم فقال: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}، قال الله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين}، قيل: أسلما، أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك، و{تله للجبين}، أي : ألقاه على وجهه. قيل : أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك.
قال السدي وغيره: أمر السكين على حلقه فلم تقطع شيئا، ويقال: جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم.
فعند ذلك نودي من الله عز وجل: {أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤي} ، أي : قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذلت ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان، ولهذا قال تعالى: {إن هذا لهو البلاء المبين }، أي الاختبار الظاهر البين.
وقوله: {وفديناه بذبح عظيم}، أي : وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه، والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن رآه مربوطا بسمرة في ثبير، وقيل : رعى في الجنة أربعين خريفا... وفى القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم والاختبار الباهر، وأنه فدي بذبح عظيم، وقد ورد في الحديث أنه كان كبشا" [بتصرف من قصص الأنبياء لابن كثير رحمه الله ص 210] .
وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى أنّ الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق عليهما السلام، وهذا هو القول الراجح في المسألة، ويرجح هذا القول دليلان من كتاب الله تعالى كما أفاد الشنقيطي رحمه الله في أضوائه :
الأول : في سورة الصافات بعد قصة الذبيح، قال تعالى :{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} [الصافات: 112].
ووجه الدلالة : كيف تكون البشارة بإسحاق عليه السلام بعد قصة ذبحه؟ لا يمكن أن تكون البشارة الأولى { فبشرناه بغلام حليم} هي بشارة {وبشرناه بإسحاق} ، هذا تكرار لا فائدة، وحمل كلام الله تعالى ورسوله على التأسيس أولى من حمله على التأكيد؛ لأن فيه زيادة معنى .
الثاني : قول الله تعالى :{وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [ هود : 71] لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه وهو صغير ، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب؟ وأين البلاء المبين إذاً؟؟

آيات القصة : تأملاتٌ وفوائد.

قوله تعالى : {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}
وفي هذا إحسان الظن بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» [البخاري ومسلم].
وفيه بذل الأسباب، وهذا من تمام التوكل على الله.
وفيه أنّ من ضيق عليه في أرض فإنه يهاجر منها، فإبراهيم عليه السلام هاجر إلى الأرض المباركة، إلى الشام، وذلك بعدما حاولوا حرقه وأعذر منهم، كما قال الله عنه :{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّ} [مريم 48] .
قوله تعالى : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}
أي : رب أعطني ولداً من الصلحين، وفي الآية دعاء الأنبياء لله سبحانه وحده دونما سواه، وهذا كثير في القرآن، ويستفيد منه المسلم فائدتين:
الأولى : أن يقتدي بهم فيكثر من دعاء الله تعالى، فالدعاء من أعظم العبادات، ولا شيء أكرم منه .
الثاني : أن يعلم أنّهم بشر فلا يدعى أحد منهم .
وفي الآية أنّ طلب الذرية لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، ولهذا طلبها إبراهيم عليه السلام من ربه تعالى.
وفيها الاهتمام بصلاح الذرية؛ لأنه قيّد طلب الذرية بكونها صالحة، والولد الصالح هو الذي ينتفع به، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم :«إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» [مسلم].
والصالح من قام بحق الله وحق عباده.
قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}
هذه البشارة فيها :
أ/ أنه ذكر، والذكر يشتد تعلق الوالدين به.
ب/ وقوله {بغلام} إشارة إلى حياته حتى يبلغ .
ج/ ووصفه بالحلم "يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر، والعفو عمن جنى" [تفسير السعدي، ص 706] .
قوله تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}
أي أدرك أن يسعى معه وبلغ سناً يكون في الغالب أحب إلى والديه قد ذهبت مشقته وأقبلت منفعته [تفسير السعدي 706].
وقوله تعالى : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } عبّر بالمضارع، والرؤيا قد انتهت، فلم لم يقل : إني رأيت؟ قال بعض أهل العلم : كأنّ إبراهيم عليه السلام يشاهد الرؤيا وقت كلامه مع ابنه، فهو يستحضر ذلك وهو يخاطبه، وهذا أهون في التزام الأمر.
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وحتى يكون التسليم لأمر الله منهما، والأجر لهما، ولم يستشر ليرد بكلامه كلام ربه! ولذا قال تعالى :{ فلما أسلم} فكان التسليم والانقياد منهما.
وفيها أنّ الاستشارة من دأب المرسلين، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :{وشاورهم في الأمر} ، ف{ماذا ترى} منهج إبراهيمي محمدي نبوي، و{ما أريكم إلا ما أرى} منهج استبدادي فرعوني.
وفيها الرحمة بالأبناء {يا بني}، والإحسان إلى الآباء {يا أبت} .
وفيها أنّ رؤيا الأنبياء حق ووحي من الله تعالى كما صح عن ابن عباس وغيره، ولهذا قال إسماعيل لأبيه عليهما السلام :{افعل ما تؤمر}. قال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن:" ورؤيا الأنبياء وحي حسبما بيناه في كتب الأصول وشرح الحديث؛ لأن الأنبياء ليس للشيطان عليهم في التخييل سبيل، ولا للاختلاط عليهم دليل، وإنما قلوبهم صافية، وأفكارهم صقيلة، فما ألقي إليهم ونفث به الملك في رُوعهم، وضرب المثل له عليهم فهو حق، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : وما كنت أظن أنه ينزل في قرآن يتلى، ولكن رجوت أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها".
وقوله :{ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}
فيه أمران :
الأول: أن كل شيء بمشيئة الله، ولا يقع إلا ما أراد الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن .
الثاني: أنّ هذه الكلمة سبب للتوفيق، فبها يتبرأ الإنسان من حوله وقوته، ويجعل الأمر لله وحده، ومن هنا كانت بركتها، ولذلك قال تعالى :{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف 23-24].
وقوله الذبيح :{ افعل ما تؤمر} وإنما أُمر أبوه بأمر واحد، وهو الذبح، وهذا يدل على كما انقياده لأمر الله، فالمعنى: افعل كل ما أمرت به، ولو أمرت بشيء غير الذبح فافعل، لو أُمرتَ بذبحي، وكسر عظامي، وتعليقي، وسلخي.. فافعل ! فما أعظم استسلامه لأمر الله !!
قوله تعالى : {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
وفي الآيات :
أنّ إسماعيل عليه السلام فعل ما وعد به من الصبر، ولذا قال تعالى عنه :{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّ} [مريم: 54].
وأنّ الحكمة من التكاليف هي الابتلاء والامتثال، قال الشنقيطي في الأضواء (6/472) :" اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمه التكليف، هل هي للامتثال فقط أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء؟ لأنه بين في هذه الآية الكريمة أن حكمه تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل؛ لأنه لم يرد ذبحه كوناً وقدراً، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا، كما صرح بذلك في قوله تعالى : {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فتبين بهذا أنَّ التحقيق أن حكمه التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء".
وفيها التخلص من الصوارف عن طاعة الله، فمعنى {وتله للجبين} أكبه على قفاه؛ لئلا يراه، فيرق قلبه ويُصرف عن طاعة مولاه، وهجرته من قبل من الأدلة على ذلك .
وفيها جواز نسخ الحكم قبل التمكن من الفعل.
وفيها أن الأنبياء أشد الناس بلاء، قال عليه الصلاة والسلام :«أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» [أحمد والترمذي وابن ماجة].
وفيها الفرج بعد الشدة، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجً}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرً}.
وفيها أنّ في التزام الطاعة أثراً كبيراً في الإنجاء من المهالك.
أسأل الله أن ينفعنا بكتابه، اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. مهران ماهر
  • الخطب المنبرية
  • المقالات
  • البحوث
  • الردود
  • برامج إذاعية
  • المواعظ والدروس
  • الصفحة الرئيسية