اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/mazin/10.htm?print_it=1

المسار الفكري للاستشراق
تأليف
اصف حسين
ترجمة وتقديم

د.مازن بن صلاح مطبقاني
‏@mazinmotabagani

 
المسار الفكري للاستشراق
تأليف
اصف حسين
ترجمة وتقديم
مازن مطبقاني

مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
العدد السابع، ربيع الثاني 1413هـ

المسار الفكري للاستشراق
The Ideology of Orientalism


تقديم:
هذه ترجمة للبحث الأول من كتاب بعنوان :"الاستشراق، الإسلام والمختصون بالإسلامOrientalism, Islam and Islamists. Brattlebore, Vermont : "Amana, 1984. Pp5-27. صدر عن دار أمانا للنشر بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد أعده مجموعة من الباحثين المسلمين وغير المسلمين ممن اتفقت نظرتهم على أنه يجب إعادة النظر في الدراسات الاستشراقية وتقويمها تقويما يبين العيوب ولا ينسى الايجابيات والكتاب ينقسم إلى قسمين تناول الباحثون في القسم الأول الاستشراق بصفة عامة، ويتناول القسم الثاني عددا من المستشرقين بدراسة كتاباتهم وبيان مدى التزامهم بالموضوعية والأمانة العلمية.(علمت أنّه تُرجم إلى اللغة التركية، بينما لم يُترجم إلى العربية منه سوى هذا المقال ومقالات أخرى لا تزال مسوّدات في الأدراج)

والبحث الذي نجد ترجمته هنا هو من بحوث القسم الأول ولا أجد أفضل تلخيصا له مما كتبه محررو الكتاب عنه بأنه "يظهر لنا كيف عملت "أيدولوجية" الاستشراق على إضفاء صفة الشرعية على السياسات الاستعمارية التي ابتكرت للسيطرة على البلاد المحتلة، وفي هذا البحث يؤكد آصف حسين نظرة هذه البحوث الشاملة بأن الاستشراق في الحقيقة يخاطب الغرب، فإذا ما فشل في معرفة الشرق معرفة مناسبة كما هو في تاريخه وفي قواعده الثقافية والاجتماعية فإن ذلك ليس مهما،ذلك أن الغرب في النهاية لايهتم بالحقيقة ولا يعطيها القيمة التي تستحقها".

أما الباحث فهو أستاذ الدراسات الإسلامية في كلية ليستر المتوسطة في بريطانيا، وقد كتب البحث أساسا للجمهور الغربي، لذلك جاءت كثير من عباراته بأسلوب يتسم بالمرونة واللطف والابتعاد عن الخشونة وبالإضافة إلى ذلك فإن ثقافة الباحث الإسلامية رصينة بحيث لم تحتج الترجمة إلى كثير من التعليقات والهوامش إلا ما كان ضرورياً، وقد أشير إليها بالأرقام المستعملة في الكتابات العربية، بينما تركت حواشي المؤلف في نهاية البحث كما هي في الأصل باللغة الانجليزية وبالأرقام المستخدمة في اللغة الإنجليزية وأرجو أن يجد القارئ فائدة ومتعة فيما يقرأ، كما أرجو أن تكون الترجمة قد نجحت في نقل الموضوع بأمانة .
ولا يسعني هنا إلا أن أقدم الشكر الجزيل للأساتذة الأفاضل الذين قرؤوا هذه الترجمة وقدموا آراءهم واقتراحاتهم التي أفادت المترجم ولكني أتحمل المسؤولية كاملة وأخص من هؤلاء أستاذي الدكتور قاسم السامرائي وأخي الدكتور علي النملة والدكتور محجوب كردي.
والله الموفق.
 

المسار الفكري للاستشراق
The ideology of orientalism


الترجمة:

ظلت النصرانية بدون منافس في العالم حتى ظهر الإسلام، فقد اصبحت مكانتها ثابتة بعد اليهودية بصفتها دينا سماويا وذلك من حلال مؤسسة الكنيسة والكهنوت، وعندما ظهر الإسلام على الساحة في الشرق الأوسط وشعرت كل من اليهودية والنصرانية بالتهديد، ورفضتا الاعتراف له بالمكانة التي وصلتا إليها، ولكن رسالة الدين الجديد الحيوية انتشرت من شبه الجزيرة العربية حتى وصلت إلى الصين، وتركت عدة إمبراطوريات إسلامية آثارها في تاريخ العالم، وسرعان ما أدرك النصارى بأن الإسلام جاء ليبقى.

لماذا شعرت اليهودية والنصرانية بتهديد الإسلام لهما؟، يبدو أن ذلك لان الإسلام جاء ليتم الرسالات التي أتى بها العديد من الرسل السابقين بما فيهم موسى وعيسى (عليهما السلام)، وكان رأي الإسلام أن الوحي الذي نزل على عيسى لم يحافظ عليه كما جاء، بل حور في الكتاب المقدس، ولكن اليهودية والنصرانية لم يقبلا هذا التأكيد، فهاجما الإسلام، ولم يتركا خطة لم يجرباها في محاولة لتحطيم الثقة بالإسلام على أنه دين موحى به بما في ذلك الحروب الصليبية، إن عنف الهجوم النصراني ضد الإسلام لم يكشف فقط حساسية النصارى عندما أزيحوا من القاعدة العالية التي كانوا يستندون إليها، ولكنها أيضا شككت فيما إذا كانت النصرانية تمتلك الوحي الرباني، وقد كان البرهان على ضعف ثقتهم بأنفسهم كرههم الموجه للمسلمين الذين يعتقدون بالإله نفسه.

لقد عدت كتابات النصارى الأوائل الجدلية محمدا –صلى الله عليه وسلم- دجالا وعدت القرآن كتابا مزيفا، وعلى هذه الكتابات غذي الصليبيون، وكانت المواجهة المباشرة بين نصارى الغرب مع المسلمين في أرض المعركة في فلسطين.

وحتى فرسان الصليبيين المفعمون بالكره للإسلام أصبح شعورهم مختلفا عندما واجهوا قائدا مسلما مثل صلاح الدين (1137-1193م) (431-589هـ) الذي كان المدافع عن الإسلام في زمنه، لقد كان كرمه ولطفه نحو الأسرى النصارى بمن فيهم الفرسان الذين أسروا مضرب الأمثال. فعندما استعاد القدس سنة 1187م (583هـ) من النصارى منع قواته من ارتكاب المجازر ومن نهب النصارى، وهذا سبب صدمة للنصارى الذين كانوا يعتقدون أن صلاح الدين كان متوحشا، لقد انبهر الصليبيون وهم يرون قائدا مسلما يتحلى بالفضائل التي افترضوا أنها نصرانية.

وانطلقت سمعة صلاح الدين الفاضلة إلى الغرب مستولية على مخيلة الكتاب من دانتي Dante إلى سير والترسكوت Sir Walter Scot والمستشرقين أمثال هـ. آي. آر.جب H.A.R.Gibb وستانلي لين- بولStanley lane-Poole.

لقد أدى فتح المسلمين لأسبانيا وصقلية إلى تقارب الصلات بينهم وبين النصارى، وكانت عملية استعادة النصارى لهذه الأماكن مثيرة للإهتمام بالإسلام، كما وسعت هذه العلاقات مصادر المعرفة بالمسلمين التي استخدمها علماء اللاهوت النصارى في تشويه صورة الإسلام بشكل كبير. لقد ((صوروا الإسلام على أنه قوة كريهة ومؤذية وصور نبيه على أنه وثن أو إله قبلي وبالتالي مزيف وغير شرعي، أو أنه مساو للشيطان أوالمسيح الدجال)) من غير إغراق في الخيال لم يكونوا مهتمين بإدراك الحقيقة الموضوعية للإسلام ، وقد اعترف أحد هؤلاء المتعصبين وهو جيبرت دو نوجنت Guibert de nogentبصراحة بأنه لم يستخدم مصادر مدونة في كتاباته المتعصبة ضد الإسلام، ولكنه استخدم الشائعات وأضاف: " لابأس عليك أن تلصق كل صفا ت الشر بشيء يفوق سوؤه كل سؤء"
ومع ذلك لم ينته تهديد الإسلام للنصرانية واليهودية بخصوص مصداقية كتبهم المقدسة بموت صلاح الدين، وزيادة على ذلك فبالرغم من أن الحكم الأموي قد انتهى من الاندلس بحلول القرن الثاني عشر فإن صورة المسلم المحارب حاملا السيف في يمينه والقرآن في يساره مازالت تطارد الغرب حتى عندما فتح العثمانيون القسطنطينية سنة1453م (21/5/857هـ) ووضعوا أسس (الإمبراطورية) العثمانية التي امتدت في شرق أوروبا وقويت الصورة السلبية للإسلام مثيرة من جديد تعصب النصارى، وسرى الخوف منه ومن الإمبراطورية العثمانية في الغرب وافترض أنها استمرار لفوضى الحكم الإسلامي والاستبداد وظل التسليم بهذه الافتراضات قائما حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي (نهاية القرن الثالث عشر الهجري).

أثار اكتشاف فاسكو دي جاماVasco de Gama الطريق البحري إلى الهند في القرن الخامس عشر الميلادي (القرن العاشر الهجري) اهتمام البريطانيين والفرنسيين والبرتغاليين والهولنديين وكانت المنافسة بينهم على توسيع تجارتهم إلى هذه المناطق تقضي باحتلال هذه البلاد الجديدة، وبما أن الإمبراطوريتين الكبيرتين (المنغولية والعثمانية) كانتا تحت قيادة حكام مسلمين فقد اثار ذلك اهتماما جديدا بالإسلام، ولذلك أنشئت كراس للغة العربية في كمبردجCambridge (1632)وأكسفورد Ox-ford(1636م) وقد كتب وليام بدول Willam Bidwell(1561-1632) المعروف بأنه أب الدراسات العربية قائلاعن اللغة العربية أنها كانت حينذاك ((اللغة الوحيدة للدين واللغة الرئيسية للدبلوماسية من الجزر السعيدة إلى بحار الصين))، وقد اعتقدت سلطات الجامعة بأن اللغة العربية سوف تثبت فائدتها في ((تقديم خدمة جيدة للملك وللدولة في تجارتها مع الأمم الشرقية، وبمشيئة الله لتوسيع آفاق الكنيسة، والدعوة إلى الدين النصراني بين أولئك الذين يقبعون الآن في الظلمات)).

ووضعت دراسة اللغة العربية ولغات الدول الإسلامية الأخرى مثل الفارسية والتركية القواعد لدراسة آداب تلك الدول، وهذه الدراسات كان الدافع لها في المراحل الأولية تجاريا ودينيا اكثر منه لأسباب سياسية.

لقد وضع المنصِّرون القواعد لتطوير الاستشراق، وبلغ الاهتمام به قمته خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد كان المنصِّرون المهتمون بذلك من بلجيكا وفرنسا وبريطانيا وهولندا والولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت أسماء منصِّرين أمثال زويمرZwemmer وهـ.لامانس H.Lammens ود.بي.ماكدونالدD.B.Mc Don-ald وأم اي بالثيوس M.A.Palacious وس. دوفوكو C.De Faucoultوم.وات M.Walt و ال.كي.كراجL.k.Cragg وقد قام كل هؤلاء بدراسات أوجدت الشكوك حول الإسلام أو أنزلته إلى مكانة وضيعة في نظرهم.

اعتقد ماكدونالد بأن المجتمعات المسلمة سوف تعاني من انهيار الإسلام نتيجة انقضاض الحضارة الأوروبية عليه،"وهكذا حالما تنهار أسطورة محمد" و "تُرى شخصيته بمنظار الحقيقة" فعندئذ يجب أن "تزول المنظومة الإسلامية كلها"حيث إن على المدارس الكنسية والوعاظ النصارى أن "ينقذوا هؤلاء الناس من أجل النصرانية"
ويرى ماكدونالد أن أكثر الطرق فعالية لتنفيذ هذه الأهداف التنصيرية ليس بمهاجمة الديانة المحمدية مباشرة ولكن بالسماح للأفكار الجديدة أن تدمرها من القواعد".

أما الآخرون أمثال مونتجمري وات Montgomery Watt فقد اعتقد بأن "محمداً – صلى الله عليه وسلم- ربما حاول أن يشكل الإسلام على صورة الدين القديم"، والدين القديم هو اليهودية ، وبما أن القبلة الأولى كانت باتجاه بيت المقدس فقد كانت البداية رغبة من النبي أن يكون مقبولا لدى اليهود، ويفترض مونتجمري وات بأنه لو توصل اليهود إلى اتفاق مع محمد – صلى الله عليه وسلم- فإنه من الممكن أن يصبح الإسلام "فرقة من اليهودية"، وفي الحقيقة فقد كان للمستشرقين المنصرين هدف واحد وهو "رفض وتكذيب مكانة الرسول، وكذلك رفض القرآن على أنه كتاب منزل" وبعبارة اخرى فإنهم لم يدرسوا الإسلام ليفهموه ولكن ليكذبوه.

وفي الوقت الذي كانت الأطماع التنصِّيرية يزداد نموها في القرن السابع عشر ( الحادي عشر الهجري) نما إلى جوارها أيضا الأطماع التجارية ، فقد قام عدد من الدول الاوروبية من مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبرتغال وهولندا واسبانيا بتأسيس شركات تجارية للعمل في الدول الإسلامية وغير الإسلامية، إلا أن الدول الإسلامية كانت هي موضع الاهتمام الرئيس لتلك الشركات، ذلك أن الهند كلها كانت تحت الحكم المغولي بينما كان الشرق الأوسط محكوما من قبل العثمانيين، ولم يستغرق الأوروبيون وقتا طويلا في تطوير أطماعهم السياسية لأنّ ثروات هذه البلاد التي لم تستثمر بعد جعلت استغلالها واحتكارها يتقدم على احتلال هذه المناطق من أجل تأكيد استمرار تدفق الأرباح من المواد الجديدة، وزيادتها إلى أقصى حد.

ففي الوقت الذي بدأت فيه الأطماع السياسية والاقتصادية لدى الأوروبيين في الدول غير الغربية تمهد الطريق للوصول إلى أراض بعيدة، فإن الاهتمام في الثقافة والآداب وأديان تلك الدول كان قد أخذ في التطور، وكانت النتائج سريعة حيث ظهرت كتابات الرحالة والعلماء، واعتبرت هذه الكتابات الشرق مثيرا وغامضا، وقد قام علماء أمثال ابراهام – هايسيناثي انكوتيل-دوبرون Abraham-Hycianthe وسير وليام جونز Sir William Jones بترجمة نصوص الافستا Avesta حول الزرادشتية الفارسية وكذلك اليوبانشادز الهندوسية Upanishadsوأسسوا جمعية البنغال الآسيوية سنة 1784م، أما الاستشراق الذي يطلق عليه (الاستشراق العلمي) فمن المعتقد انه بدأ عندما أنشأ سلفستر دي ساسي Silvestor De Sacy مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس سنة 1795. وليس من المستغرب أن نابليون اصطحب معه عددا من العلماء خلال حملته على مصر والذين كتبوا ثلاثا وعشرين مجلدا من الدراسات حول مصر مبتدئين بهذا العمل الدراسات المصرية كمجال من العلم وذلك "لإعادة منطقة من وضعها المتوحش الحالي إلى عظمتها القديمة، وليوجهوا (لمصلحتهم) المشرق إلى الأخذ بأساليب الغرب الحديث، وليخضعوا القوة العسكرية فيه ويمنعوا تطورها من أجل توسيع مشروع المعرفة المجيد اللذي تحصلوا عليه أثناء سيطرتهم السياسية على الشرق وليعيدوا تشكيل الشرق ويعطوه شكلا وهوية وتعريفا مع إدراك تام لمكانة الشرق في الذاكرة وأهميته الاستراتيجية الإمبريالية ودورها الطبيعي بصفته تابعا لأوروبا، لقد أدى مثل هذا الاهتمام المبكر إلى ظهور عدد من الترجمات والقواميس وكتب الرحلات ...الخ وكلها مصممة لتشرح الشرق أو لتجعل دراسته أسهل من خلال معرفة لغاته وآدابه، ولكن وبحلول القرن التاسع عشر أفسحت هذه الدراسات العشوائية، والمتابعات المستقلة المجال لمناهج أقوى لمجاراة الوعي العلمي المتطور لهذه العصور، كما ان الاجماع بين المستشرقين أخذ يتبلور حول كيفية التصدي لهذه الدراسات الاستشراقية.

وبدأ الاستشراق يأخذ وضعا ينظر إليه بصفته فرعا من فروع المعرفة، كما يجب أن نتذكر أنه في البيئة التي ولد فيها هذا الفرع من المعرفة كان هناك حاجة متنامية له، وقد تولدت هذه الحاجة بسبب التوسع في الفتوحات وأطماع الاستعمار، ففي الوقت الذي كانت تنشأ فيه مستعمرات جديدة كان الاستعماريون يواجهون ثقافات جديدة وأديانا جديدة وأفكارا كانت غريبة بالنسبة لهم، وليتمكن المستعمرون من السيطرة على هذه الشعوب غير الغربية ازدادت الحاجة لزيادة المعرفة حول ثقافاتهم ودياناتهم، وقد تم تلبية هذه الحاجة بالاستشراق العلماني، وبذلك فتحت جبهة جديدة ضد الإسلام شارك فيها علماء نصارى ويهود، وبدأ الاستشراق يصبح "جزءا أساسيا في الثقافة الغربية"، إن الدراسات العلمية التي قدمها كل من سلفستر دي ساسي وارنست رينان وإدوارد وليام لين Edward William Lane جعلت الاستشراق فعالا ومنسجما مع المصالح والاهتمامات السياسية للحكام الإمبرياليين ولذلك نرى إدوارد سعيد يقدم لنا أنسب تعريف للاستشراق حيث يقول: " إن عمل الاستشراق هو أن يفهم وفي بعض الحالات أن يسيطر ويتحكم وحتى يحتوي مايظهر بوضوح عالما غريبا" .

لقد ساعد الاستشراق الامبريالية في جعل الاحتلال مشروعا حيث اشترك بعض المستشرقين بصورة مباشرة في مساعدة الإدارات الاستعمارية بتقديم تفسيرات لكيفية مجادلة تصورات المواطنين للإسلام، فقد عمل لويس ماسنيون Louis Massinyonمع وزارة الشؤون الخارجية والإدارة الاستعمارية في المغرب حيث أوضح لهم أن "منحنى التطور يميل أكثر وأكثر تجاه باريس، وأن أنظار الجماهير الغفيرة في شمال أفريقيا تتجه إليها أكثر من اتجاهها إلى المشرق".

وكانت الدراسات العربية والإسلامية بالنسبة للإنجليز والفرنسيين الذين استعمروا بلادا إسلامية أكبر عدة مرات من حجم بلادهم بمنزلة المرشد "لتهدئة الأراضي المحتلة كوسيلة لتحقيق أهدافهم الإستعمارية".

ويجب أن نذكر بأن الاستشراق لم يكن هو الاتجاه الوحيد الذي يحاول أن يدمر حضارات الأمم الشرقية، فهناك مجال آخر تعاون تعاونا شديدا مع الاستشراق لخدمة الأهداف الاستعمارية ألا وهو علم الإنسان Anthropology)) الذي غدا ابنا آخر للإمبريالية ذلك أن الدراسات الأنثروبولوجية ساعدت الحكام الاستعماريين وغيرهم مثل المنصِّرين في فهم عادات وأساليب حياة الشعوب، فعلم الانثربولوجي الاجتماعي "أصبح مهما لـ... الإدارة الاستعمارية في سياق حكمها القسري المباشر وفي سياق الاصلاحات الفوقية". "فلم يكن الاستعماريون قبل ذلك يعرفون ثقافات تلك الشعوب الكثيرة.فقد كانت هذه الثقافات يختلف بعضها عن بعض كما كانت مختلفة عن ثقافة حكامهم الجدد، وعلى أي حال فإن دراسة ثقافات الشعوب غير الغربية أصبح من اختصاص علماء الإنسان، وأصبحت هذه المعلومات مفيدة جدا في أيدي الاستعماريين، وكلما زاد فهم المستعمر لثقافة الشعب المحكوم كلما بدأ بفهم أكثر نقاط الضعف والقوة فيه الأمر الذي ساعدهم في زيادة التلاعب بهم، إن الدافع لدراسة الشعوب غير الغربية لم يكن من أجل المعرفة للمعرفة نفسها ولكن لمساعدة المستعمرين لاستغلال الأمم غير الغربية، وكان توفير الامكانات المادية سهلا نتيجة لقلة الدراسات أو لصعوبة المنطقة، ولذلك تم القيام بدراسات عديدة حول آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط تحت غطاء الأكاديمية وغيرها وعدوها دراسات موضوعية، ولكن كما لاحظ طلال أسد "إن مما هو جدير بالملاحظة أنه لم يوجد فعليا أحد من علماء الأنثربولوجيا الأوروبيين من تعاطف مع الثقافة التي أخضعها للدراسة" ولذلك فإن الموضوعية كانت أسطورة استخدمت لتبرير الدعم المالي لبحوث علم الإنسان.

لقد أسهم كل من الاستشراق وعلم الإنسان في خدمة الاستعمار ولكن بطرق مختلفة، وإن كان علم الإنسان قد نشأ متأخراً جدا عن الاستشراق وبعدما كان الاستعمار قد انتشر بصورة واسعة في العالم غير العربي، واحتاج الاستعماريون مناهج ثابتة لكيفية التوصل إلى إحداث تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي عند المستعمرين، ولقد قدم علماء الإنسان للدول الإمبريالية نموذجا للنظريات ذات العلاقة والتي عرفت ب((البنائية العملية)) وقد مارست هذه النظرية أقوى نفوذ ليس فقط بصورة اكاديمية من خلال كتابات علماء الانثربوبوجي وعلماء الاجتماع أمثال برونسلومالنوسكي Bronislaw Malinowisky وتالكوت بارسونز Talcott Parsons ولكنها قدمت مناهج نظرية للتغيير السياسي في المجتمعات غير الغربية، وترى نظرية (البنائية العملية) بأن كل مجتمع يحتوي على بناءات تم التوصل إليها عن طريق التاريخ والتقاليد لدى السكان الوطنيين (المستعمرة)، وافترضت هذه النظرية أن لهذه البناءات دورا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا عليها أداؤه، ومن أجل تغيير أي مجتمع فيجب أن تغير تركيبته أو هدمها واستبدالها بتركيبة أخرى جديدة أو بديلة، وبالتالي تتغير تركيبته آليا، استغل الاستعمار هذه الأفكار إلى أبعد مدى وبدأ في إحداث تغييرات سياسية واقتصادية في بنية المجتمعات المستعمرة، وذلك عن طريق الإكراه والاستيلاء والمفاوضة والإقناع والتعليم، وظهرت مقاومة الشعوب لهذه التغييرات بدرجات مختلفة ولكن تمت السيطرة عليها من خلال القوة أو الوسائل القانونية، واستخدمت مفاهيم ((الثقافة)) و((المعرفة)) لفائدة المستعمرين السياسية.

ولم تكن الدول الإمبريالية أحيانا مضطرة للدخول في صراع مع المجموعات المستعمرة ولكنها حققت هذا الأمر من خلال إثارة مجموعة ضد أخرى باستخدام الأسلوب الذي أصبح مشهورا الآن وهو (فرق تسد) وفي سياق هذه المجهودات كان لديهم متعاونون محليون، ففي بعض المجتمعات المستعمرة مثل شبه القارة كان من السهل إثارة مجتمعين ضد بعضهما البعض وهما الهندوس والمسلمون، وقد ثبت أن هذا الأمر صعب في الشرق الأوسط، حيث واجهت نظرة (البنائية العملية) عوائق قوية بسبب قوة الإسلام التوحيدية وثقافته السياسية.

إن مفهوم الأمة (مجتمع المؤمنين) يمثل أحد الأسس الحيوية للثقافة السياسية في الإسلام فالأمة المثالية هي التي لامكان فيها لحدود القومية والقبلية والعرقية وكل المسلمين جزء من هذه الأمة وإن من واجب أي مسلم أن يحرص على قوتها ووحدتها، ولكن في الواقع الحالي انحرف بعض الحكام المسلمين كثيرا عن الإسلام ولم يكونوا مثاليين في حكمهم لشعوبهم أو في علاقاتهم بالدول الإسلامية الأخرى كتلك التي ظهرت بين الأتراك العثمانيين والصفويين الإيرانيين، وهناك أسباب عديدة تخرج عن نطاق هذا البحث لكن يكفي القول بأن المستعمرين وجدوا من السهل استغلال مثل هذا الضعف من خلال تقديم مفاهيم غربية مثل العرقية والقومية، وبرز رجال أمثال تي إي لورنس T.E.Lawrence بصفتهم أدوات في إثارة العرب ضد الترك، وكان بإمكانهم كذلك العمل على المبدأ المعاكس وهو تقريب الشقة في الفروق السياسية بين العرب والأتراك، ولكن هذا ماكان ليخدم أهدافهم الاستعمارية في الشرق الأوسط، وأصبحت القومية قوة سياسية جديدة مبتكرة في الشرق الأوسط لفصل العرب عن الأتراك، ولتقسيم العرب على أنفسهم أيضا، وكانت المفارقة أنه عندما أصبح للعرب وعي سياسي عرى خداع الاستعمار واستغلاله كانت النتيجة أن القوى القومية تخلصت من العبودية الاستعمارية وجعلها تتكبد خسائر فادحة في الأرواح كما في صراع الجزائريين ضد الفرنسيين.

هناك أيضا مبدأ إسلامي آخر هو عدم فصل الدين عن السياسة، واختيار القيادة السياسية يوجه نحو الذين تجمع الامة على امتلاكهم درجات عليا في الالتزام بالإسلام فكل مسلم كان يعد قادرا على أن يحكم الأمة ويطبق مبادئ القرآن والشريعة في مجتمعه، ولكن الحكام المسلمين غالبا ماقصروا عن هذا المقياس حيث أصبح الحكم الأسري أصلا ثابتا في النظام السياسي في الدول الإسلامية، وكان هناك عدد قليل من أعضاء هذه السلالات (الأسر) من امتلك درجة الالتزام بالإسلام التي تتوقعها منهم شعوبهم.

وكان الاستعماريون سريعين لاستغلال هذه الفرصة حيث أدخلوا مبادئ علمانية تسعى إلى فصل دائرة الدين عن السياسة، وراق هذا الأسلوب الأسر الحاكمة، ذلك ان الإسلام لم يكن مقرا لحكمهم وهم لم يريدوا أن يكون الإسلام هو الذي يزكي أو يرفض سلوكهم السياسي أو الشخصي ، إن مبادئ المستعمرين العلمانية عكست قيما من ثقافتهم السياسية التي أخضعت للحكم الملكي البرلماني، وقد وجدت مثل هذه الأفكار العلمانية مناصرين جددا ليس فقط بين المفكرين العرب والأتراك والإيرانيين، ولكن أيضا بين جماعات قيادية سياسية أخرى، إن هذه الأفكار الجديدة بخصوص إصدار (دستور) وتطبيق المبادئ الغربية المتحررة لـ(الديمقراطية) والتي تعمل من خلال نواب منتخبين في (برلمانات) أعادت تشكيل البناء السياسي في الشرق الأوسط وغيرته بحدة، وهكذا أصبح الاستشراق أداة مهمة للسيطرة على الإسلام ، وكانت المهمة الأساس لمثل هذه السيطرة هي نزع (مخالب ) الإسلام التي من الممكن أن تعوق الاستغلال الاستعماري للأراضي الإسلامية،لقد أعطت هذه الأداة تفسيرا غريبا للإسلام وشوهت المعنى الحقيقي للاهتمامات الإسلامية مثل الجهاد والأمة والتوحيد...الخ، وفتحت أقسام للدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية ومنحت درجات دكتوراه في الدراسات الإسلامية حول المسلمين أنفسهم، ولتكون عالما بالإسلام لم يكن مطلوبا أن تلتزم به، ولكن أن تكون مؤهلا أكاديميا في النظرات الاستشراقية وفي الحقيقة، ففي الامتحانات الشفوية لطلاب الدراسات العليا في الدراسات الإسلامية فإن الطلاب كانوا يسألون عن النظريات الاستشراقية،"ولينجح الطلاب في الامتحان لم يكن عليهم أن يعرفوا هذه النظريات ولكن أن يقبلوها أساسا على أنها صحيحة"، وقد أوجد مثل هذا التدريب والتفسير إسلاما استشراقيا موازيا للإسلام الحقيقي.

وحصل المستعمرون على فوائد ضخمة من هذا الأسلوب (المتغرب) وسخروا من مفاهيم (الأمة)على انها أفكار بعيدة الاحتمال، أو أشاروا إلى الجهاد بأنه (الحرب المقدسة) التي انتهت مع انتهاء الحملات الصليبية، وليس على أنه صراع مستمر وكفاح شخصي، ومن الأمثلة على ذلك أن مستشرقين من امثال سنوك هورخرونيهSnouck Hurgronje وهو مستشرق آخر استخدمته حكومته لوضع إرشادات سياسية للنظام الاستعماري للحكومة الهولندية في أندونيسيا، ولقد فصل هورخرونيه أهداف الاستشراق تفصيلا جيدا في خدمة الاستعمار، وهو يرى أنه " كلما كانت العلاقات بين أوروبا والشرق المسلم أكثر قوة كلما زاد عدد الدول الإسلامية التي تصبح في قبضة أوروبا وازدادت أهمية معرفتنا نحن الأوروبيين بالحياة الفكرية والشريعة الإسلامية وخلفيات المفاهيم الإسلامية"، وقد صدر عدد من الدراسات من قبل المستشرقين ولم تكن دوافعهم سوى انعكاس لنظرة هورخرونيه.

إن الصورة الاستشراقية للعلاقات الممثلة بين الحكام المسلمين ورعاياهم في الأبعاد السياسية في الإسلام كانت متجذرة ليس فقط بسبب التجربة النصرانية التاريخية (التي تنظر له كدين عدواني)ولكن التقويم الأوروبي البرجوازي للإسلام ((التقدمي)) و((المتعصب)) والذي تتطلب السيطرة المباشرة عليه لأسباب تتعلق بالأمبراطورية كان هو الأكثر أهمية.

وقد حاول الأوربيون بصفتهم حكاما لعدد ضخم من السكان المسلمين أن يجعلوا حكمهم مشروعا مستخدمين مقولات قدمها المستشرقون بان الحكم الإسلامي (الحكم الاستعماري يعد إنسانيا مقابل الحكم الإسلامي) وبأن النظرية السياسية الإسلامية تعترفان بشرعية الحكم القائم (الفعلي) أيا كان وإظهار أن الحكم الاستعماري أفضل من الفساد وعدم الفعالية والفوضى للحكم الذي سبق الحكم الاستعماري). وكزعمهم أن السيطرة السياسية في البلاد الإسلامية مطابقة خارجيا للبيان الضروري للحياة الدينية والاجتماعية في الإسلام ولذا لم يحدث للإسلام تحطيم جذري من خلال السيطرة عليه حيث أن تقاليده السياسية المركزية ظلت متماسكة.

إن مثل هذه الاستنتاجات الاستشراقية من الاستشراق قوت أيديولوجية الاستعمار، ولكن هذه الدراسات احتوت على عيب خطير أدى إلى سوء فهم للإسلام، فقد جعلت تاريخ المسلمين هو التصور الحقيقي للإسلام وجعلت الحكومات الأسرية والوراثية هي السلوك السياسي، لقد تم الخلط بين الإسلام والثقافة الشعبية، وهذه ليست تعبيرا عن السلوك السياسي للإسلام، وفي الحقيقة فإن المسلمين يرتبطون بالتاريخ الإسلامي الذي مورس فقط في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- وقد قام صحابته الاربعة بمحاكاة آرائه وحكمه، (وهم الذين أصبحوا الخلفاء الأربعة للإمبراطورية الإسلامية فيما بعد) والتي اغتصبتها الاعتبارات الوراثية فيما بعد وأصبحت قوة الفرد وليس قوة الإسلام صاحبة الاعتبار الأول.

ولم يأخذ المستشرقون هذا التفريق الدقيق في نظرتهم بين التاريخ الإسلامي لفترة الخلفاء الراشدين وتاريخ المسلمين الذي يبدأ من صعود الأسرة الأموية للحكم سنة 661م وفهموا أن التاريخ الإسلامي هو سلسلة واحدة متصلة بينما فهم المسلمون على أن الخلافة الراشدة برهان على إمكانية تأسيس الدولة الإسلامية وفقا للمبادئ السياسية التي وضعت في هذه الفترة، إن مأساة كربلاء سنة 680م (10محرم61هـ) التي حاول فيها الحسين (رضي الله عنه) حفيد الرسول – صلى الله عليه وسلم- أن يتحدى الحكومة الإسلامية التي أسسها الحكام الأمويون كانت حادثة أخرى من التاريخ اهتم بها المسلمون اهتماما خاصا لدلالتها على أن مبدأ الجهاد المعمول به ضد الحاكم غير الملتزم بالإسلام والقيام بالثورة ضد الاستبداد أمر مشروع ، ومازال أثر هذه الحادثة برهانا حيث أنها كانت عاملا محركا قويا في الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.

لقد ابتدع المستشرقون تاريخاً إسلامياً وفقاً للمعايير الغربية التي تجاهلت التاريخ الإسلامي ومفهومه بالنسبة للمسلمين ، فمن أجل نشر وتشويه معنى التاريخ المقدس – كما يؤمن المسلمون- الذي أراد الله أن يجعله توضيحا للصراط المستقيم عمد المستشرقون إلى أن يجدوا فيه الخطأ والعيب، وكانت أهدافهم المشتركة في ذلك هي حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- والقرآن وحديث (سنة) الرسول – صلى الله عليه وسلم-.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كتب عدد من المستشرقين البارزين كتبا حول حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- ومن هذه الإسهامات الرئيسة كتابات ميور Muirحياة محمد (في أربعة مجلدات 1858م) وكتب شبرنجلرDas Leben und die Lehre des Muhammad : Sprenjler (في ثلاثة مجلدات 1861-1865) وكتب نولدكه Das Leben Mhammad : Noldeke سنة 1863م وكتب فلهاوزن Weihausen (محمد في المدينة)(1882) وكتب كرل Das Leben Mhammad:Krehl سنة 1884م، وكتب جريمه Grimme((محمد)) (في مجلدين 1892-1895) وكتب بول Buhlمحمد (1903) وكتب مرجليوث ((محمد وظهور الإسلام)) سنة 1905م، وكتب كايتاني Caetani (حوليات الإسلام) سنة1905م، وكتب توراندريه Tor Andrae(محمد الرجل ودينه) سنة1936م، وكتب بلاشير Blachere (معضلة محمد) سنة 1952م، وكتب مونتجمري وات Watt(محمد في مكة) سنة 1953م و(محمد في المدينة) سنة 1956م، وقد ركزت معظم هذه الكتابات على بعض الموضوعات المشتركة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر بعضها أنه جاء من اصل متواضع وعانى من صعوبات صرع ، وشك في الوحي، وذكرت انه تصرف كأنه نبي في مكة وسياسي في المدينة، وأنه عبد كصنم من قبل المسلمين، وأنه كانت له معرفة بالكتاب ((المقدس)) وأنه أراد أن يشكل الإسلام مقلدا الأديان الأخرى مثل اليهودية والنصرانية. إن هدف هذا كله هو اغتيال شخصية الرسول، فإذا ما أنجزوا ذلك استطاعوا أن ينفوا المصداقية عنه، إن مثل هذه التعميمات التي لاتقوم على الدليل كانت هي معتقد الغرب وقد استخدمها المنصرون في عملهم.

ليس من المدهش أن لا نجد من بين علماء الإنسان أي مستشرق متعاطف مع الإسلام، فقد نظر العلماء باحتقار للآراء الذاتية وتظاهروا بالموضوعية، ولكن بالرغم من هذا الخداع فإن تحيزهم العميق لم يعد خافيا، ويمكن اكتشافه بسهولة غالبا وذلك من خلال الأسئلة التي أثارها المستشرقون والمنهجية التي استخدموها في دراساتهم عن القرآن، حيث نلاحظ غالبا في دراساتهم للقرآن أن أهم مايشغل المستشرقين هو محاولة البرهنة على أن القرآن استعار أفكارا أو وصفه بأنه كان تزييفا لأفكار العرب قبل الإسلام وعاداتهم أو أنه تطور من اليهودية أوالنصرانية، وقد علق أحد الذين ترجموا معاني القرآن في القرن الثامن عشر (الثاني عشر الهجري) بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم- ((كان حقيقة هو المؤلف والمخترع للقرآن بلا جدال)) وقد تمسك بهذا الافتراض الذي لا دليل عليه عدد من المستشرقين إلا أنهم نسبوا إليه أسبابا أخرى، فقد عده بعضهم بأنه ((لم يكن سوى اختراع خالص وتلفيق )) وأنه كان (شعلة عبقريته) و (انعكاسا لطاقته).

وقد رأى بعض المستشرقين الآخرين من أمثال جي دبليو ستوبارد J.W.Stobard بأن النبي كان لديه بعض (الشعلة الشعرية والخيال) وقد أكد ستوبارد نظرات روبرت بل Robert Bell وكذلك ماكسيم رودنسون Maxim Rodenson الذي عد القرآن قصيدة تعبر عن لاشعور النبي، ولكن بعض المستشرقين لم يكونوا مقتنعين بمثل هذه الأسباب وافترضوا بأن القرآن كان ((نتيجة للتفكير الحالم)) والذي كان يعبر عنه بعقله اللاشعوري، ومن جهة أخرى فإن آخرين مثل مونتجمري وات كانوا أكثر هدوءا ودهاء، واعتبروا بأن محمدا – صلى الله عليه وسلم- ربما كان مخطئا "بأن مايبدو أنه يأتي للرجل من الخارج ربما كان في الواقع نابع من لاشعوره" وهكذا كان القرآن "نتاج الخيال المبدع".

ولكن ظل القرآن أحجية لكثير من المستشرقين الذين اعتقدوا بأن أي خيال مبدع مهما كان لا يمكن ان يضع مثل هذا العمل، بينما ظل كثير منهم مقتنعين بأنه كتب بمساعدة المصادر اليهودية والنصرانية، وهناك فكرة انتشرت بين المستشرقين بان النبي كان رجلا كثير الأسفار منذ شبابه عندما كان يذهب في رحلات مع عمه ، ويعتقدون أنه قابل في هذه الرحلات بعض الرهبان النصارى، واعتقد بعضهم أنه قابل قسسا ورهبانا في مكة، بينما يرى آخر بأنه قابل نصرانيا تحول إلى الإسلام، وجادلوا بأنه لابد قد أخذ اليهودية من معلم يهودي غير معروف، ذلك أن (القصص الطويلة والمتفرقة في القرآن للآباء المؤسسين والأنبياء تتفق في كثير من التفاصيل مع التلمود وأن يهودية أصلها أمر لايمكن الشك فيه)، وقد زعم بعضهم ان القرآن من وضع اليهود والنصارى (استخدموا خصيصا لهذا الغرض من أجل إرضاء رغبات الجمهور). وهناك مقولة مضحكة وهي الاعتقاد بأن النبي كانت تسيطر عليه بعض الشياطين (الأرواح) وأن القرآن قد ظهر عن طريقه. وان النقطة المهمة الجديرة بالملاحظة هي أن المستشرقين لم يكونوا على استعداد وبأي ثمن ان يعتقدوا بأن النبي كان مرسلا من الله، وأن القرآن وحي، وفي الوقت نفسه قبلوا بوجود إله وأن موسى وعيسى (عليهما السلام) قد أرسلا من قبله.

ولم تكن دراسات الحديث بأحسن حالا عند المستشرقين الذين اعتقدوا بوجود عيوب خطيرة في الحديث، وإدراكا من علماء المسلمين لهذه العيوب – في رأيهم- فقد قسموا الحديث إلى ثلاثة أصناف : صحيح وهو الأصيل، بعد أن طبقوا عليه شروطا للتثبت منه، والحسن وهو المقبول ، ولكنه أقل درجة في مصداقيته من الأول، والصنف الأخير هو الذي يعد ضعيفا وغير موثوق، وقد قسم النوع الأخير فيما بعد إلى أصناف وفقا لاتصال السند أو انقطاعه (سلسلة الرواة).

لقد حاول المستشرقون مع ذلك أن يبرهنوا على أن كتب الحديث عامة قد وضعت بصورة اعتباطية متأثرة في ذلك بالتاريخ وجمعت بطريقة لاعناية فيها، ومن الذين كتبوا دراسات في هذا المجال اجنازجولدزيهر Ignaz Gold Ziher، وجوزيف شاخت Joseph Schacht مختلقين عددا من الشكوك حول مصداقية الأحاديث.

وكما ذكرنا سابقا فإن موضوعية المستشرقين أمر خادع ذلك أنها بدأت بافتراض مسبق أن القرآن ليس منزلا من الله وأنه من عمل البشر، ولكن الطريقة العلمية يجب أن تعرض الدعوى، فمثلا: القرآن منزل من عند الله، عندئذ تحاول أن تثبت عكس ذلك، وفي حالات أخرى طبق القياس الذي ينظر إلى وضع النصرانية في الحضارة الغربية على الإسلام، فجادلوا بأنه إذا كان هناك إصلاح في النصرانية فيجب أن يكون هناك إصلاح في الإسلام، وإن لم يكن فلماذا؟، والإجابة التي قدمت على هذا بأنه إذا كان الإسلام غير قابل للتغيير مع الوقت فإنه بدائي،ويستخدم في وصف هذا الافتراض الخاطئ مرة أخرى تستخدم مثل هذه الافتراضات الزائفة في وصف الإسلام من خلال المصطلحات الغربية لما هو (تقدمي ورجعي) ماهي الحرب التقدمية ومن هو الأصولي. إن كل هذه الكلمات لها معان في التجربة التاريخية الغربية،وإذا ما طبقت على الحضارات غير الغربية، فإنها تفرض معان غير مناسبة للسياق أو تشوهه عمدا كما تفعل في السياق الإسلامي.

وقد افترض المستشرقون من خلال مثل هذه الدراسات دونية المسلمين وتفوق الغرب، وبالتالي عدت الحضارة الإسلامية جامدة بينما الحضارة الغربية حية، ولهذا المعنى فقد كان الاستعمار ضروريا لتحضير هؤلاء البشر وإصلاح مؤسساتهم، وفي الحقيقة وكما عبر عن ذلك ألبرت حوراني تعبيرا صحيحا "لقد كان هناك اتجاه للنظر إلى التاريخ الإسلامي باستخدام مصطلح (نهض) و(انحدر) وضع محمد بذرة نمت إلى أقصى طولها في الخلافة العباسية الاولى من ناحية القوة السياسية والمقاومة الثقافية، وبعد ذلك أخذ التفرق السياسي والركود الثقافي يقود إلى انحدار طويل لم يبدأ المسلمون بالنهضة منه حتى القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري)، متأثرين في ذلك بالحضارة الغربية والحماسة للروح القومية.

ومع بدء انحسار الاستعمار في الشرق الأوسط أخذ الاستشراق في السقوط عن منصته وذلك لأن استخدامه من قبل القوى الاستعمارية قد انخفض، ولكن تأثيره لم ينته كليا حيث أخذت القوة الأمريكية في الظهور بعد الحرب العالمية الثانية بصفتها القوة الجديدة في الشرق الأوسط، واستعادت المعرفة الاستشراقية أهميتها، وقد أوجد جيل جديد من العلماء لمواجهة هذه الحاجة وأصبحت العديد من الأقسام في الجامعات الأمريكية مراجع موثوقة لما أصبح يعرف بالدراسات الشرق أوسطية أو الإسلامية، كما ظهر خارج نطاق الجامعات العديد من المؤسسات الأمريكية (كارنيجي Carnegie) و( فوردFord ) و (روكفلر Rockofeller) وظهرت أيضا المجالس أمثال المجلس الأمريكي للدراسات العلمية) والمؤسسات (راندRand) الخ، وقد قامت هذه الجهات بتمويل البحوث ، وكانت الحكومة الأمريكية هي أكبر مهتم بهذه البحوث حيث إن وزارة الخارجية ووزارة الدفاع طلبتا هذه المعلومات من أجل وضع سياستهما، فقد أنشئ معهد الشرق الأوسط سنة 1947م (1366هـ) في واشنطن وأصبحت دوريته الفصلية مجلة الشرق الأوسط The Middle East Journal القناة الوحيدة لاتصال العلماء.

وفي عام 1951م (1370هـ) كون مجلس بحوث العلوم الاجتماعية لجنة الشرق الاوسط والأدنى والذي اندمج فيما بعد مع اللجنة المشتركة للمجلس الأمريكية للجمعيات العلمية وشجع البحث حول الشرق الأوسط، وبمراجعة انتاجه خلال العقدين الماضيين نجده يشير إلى أن أهدافه التي وضعت لخدمة المصالح القومية للولايات المتحدة لا تختلف عن مدرسة المستشرقين القديمة التي خدمت الاستعمار، ويكشف الفحص بأن هذه الدراسات اعتمدت في المراحل الأولى على المستشرقين الذين رأوا أنها فرصة جيدة للعمل للمصالح الاستعمارية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية وفي الوقت نفسه تطلبت هذه الدراسات توظيف علماء جدد تخيلوا لعلمهم دورا جديدا يتعلق بقوة الولايات المتحدة الأمريكية لإبقاء سيطرتها السياسية والاقتصادية في المنطقة.

وعندما ازدادت المصالح السياسية والاقتصادية أسست رابطة دراسات الشرق الأوسط القوية سنة 1966م (1386هـ) وقامت هذه بإنشاء شبكة من العلماء المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط، وقد ذكر بيان أهداف إنشائها سنة 1967م (1387هـ) بأن رابطة دراسات الشرق الأوسط قد أسست من أجل "تنمية المستوى العلمي والتدريب في هذه المنطقة،ولتوفر وسائل الاتصال بين العلماء من خلال الاجتماعات والنشرات ولرعاية التعاون بين الأشخاص والمنظمات المهتمة بالدراسات العلمية للشرق".

لم تبق الروابط فقط محصورة في الولايات المتحدة، بل مدت لتشمل جامعات خارج الولايات المتحدة، فكان الاتصال مع الجامعة الأمريكية في بيروت والجامعة الأمريكية في القاهرة، والمركز الأمريكي للبحوث في مصر والمعهد الأمريكي للبحوث في مصر والمعهد الأمريكي للبحوث في تركيا، والمعهد الأمريكي للدراسات الايرانية في إيران قبل تأسيس الجمهورية الايرانية.

وفي هذه التطورات لم يترك المستشرقون متخلفين ولكنهم استجابوا لبرامج الدراسات الإقليمية الجديد، فقد انضم مستشرقون مثل برنارد لويس إلى جامعة برنستون، بينما ذهب هـ.آي.آر جب H.A.R.Gibb إلى هارفارد، وسرعان ما طوّر جب Gibb الدراسات الإقليمية مشيرا إلى أهدافها الأربعة وهي: تقديم المعرفة لطلاب المرحلة الجامعية ، وتدريب طلاب الدراسات العليا وتزويدهم بفهم علمي للعوامل الثقافية المعقدة، وضرورة استخدام أسلوب متعدد الثقافات والتنسيق بين مختلف المجالات في منطقة معينة لإثارة الاهتمام في مجالات الدراسة هذه. وقد كان هذا ضروريا نظرا للعلاقات اللصيقة المتزايدة في العالم الحديث، والحاجة الملحة على أن يعيش الرجل الغربي مع أناس من مجتمعات وتقاليد غير غربية، وقد أصبح ضروريا أن تطلب مساعدة علماء الاجتماع في مهمة تفسير بناء ودوافع المجتمعات الآسيوية والافريقية. إن هناك قاعدة ثابتة بأن الاقتصاديات أمر جدي للغاية بحيث لاينبغي أن يترك للإقتصاديين وحدهم ويجب أن ندرك أنه مهما كانت السلبيات فالشرق مهم جدا لدرجة لايمكن معها تركه للمستشرقين)).

إن أناساً أمثال جب وجيله كان من الممكن أن يذووا ولكنهم كانوا بعيدي النظر وذلك بوضع الأسس للدراسات شرق الأوسطية المعاصرة، لقد كسب علماء الاجتماع وعلماء السياسة من عملهم وأن المفاهيم الخاطئة والإدراك الخاطئ واضح على دراساتهم للإسلام والشرق الأوسط. وبالرغم من الزعم بموضوعية هذه الدراسات فإنها مازالت تنطلق من وجهة النظر الغربية التي تشوه الحقيقة كما تظهر في سياقها بالإضافة إلى فشلها في استيعاب موقف المعنيين بالدراسة وكانت النتيجة أن مثل هذه الدارسات قد شملت الحقائق السياسية والاقتصادية لمن هم قيد الدراسة باستخدام الايدلوجية الغربية. وفي الحقيقة فإن "المستشرقين المحدثين الذين يكتبون عن الإسلام اليوم يطرحون العداوة الصريحة للعلماء المنصِّرين في القرن التاسع عشر الذين نظروا للإسلام على أنه دين وثني ولايستحق الاحترام. إن التسامح وفهم الثقافات المختلفة قد عني بها في الدراسات الإسلامية تمشيا مع الاحتواء الأمريكي وتجنبا للصراع الذي ميز النشاطات الأمريكية في أول اتصال لأمريكا بالشرق الأوسط. ولكن تحت هذا المظهر الخادع من الفهم فإن معظم المستشرقين ينظرون إلى الإسلام على أنه دين متخلف كما أن الشرق الأوسط منطقة متخلفة". إن أيديولوجية المستشرقين لم تتغير ولا تزال تقاوم وتعمل بالطريقة نفسها وتحت شعارات جديدة.

وقد ظهرت هذه العيوب في الدراسات التي كتبت حول إيران حيث لم يكن أحد يستطيع أن يكتشف إمكانية الثورة في الإسلام، وعندما برزت القوة الإسلامية سنة 1978م وأسست الجمهورية الإسلامية سنة 1979م أصاب حقل الدراسات الإسلامية صدمة عنيفة ولاسيما بالولايات المتحدة التي أخذتها المفاجأة فعانت من خسائر جسيمة سياسية واقتصادية، لقد أثارت الثورة كثيرا من إعادة التفكير فيما كان يطلق عليه ((الصحوة)) أو ((الأصولية)) الإسلامية، ولكن لاتكاد أي أرضية جديدة قد اخترقت على حساب طبيعة الإسلام الحقيقية، ومازال العلماء الغربيون يجتمعون ليفهموا النواحي المعقدة للإسلام وامكاناته السياسية ولكنهم يدركون بأن الإسلام قوة لابد أن يحسب لها حسابا إذ بإمكانه أن يعوق المصالح الإمبريالية الغربية في الدول الإسلامية.

 

د. مازن  مطبقاني
  • الكتب والبحوث
  • المقالات
  • مقالات حول الاستشراق
  • تقارير المؤتمرات
  • دراسات الغرب - الاستغراب
  • للتواصل مع الدكتور
  • الصفحة الرئيسية