اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/khojah/43.htm?print_it=1

المجروح !!

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
- ألم فوق الطاقة.
{ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به..}.
من أكبر الآلام المعذبة للنفس، المتعبة للروح: أن تسمع بطفل، يعيش ويكبر من غير أبوين، ولا إخوة،     ولا أسرة، ولا قرابة. وحيدا، غريبا، متوحشا، ليس له صلة بهذا العالم. لا يدري كيف جاء، ومن أين ؟.
يسمع بالعائلة والأسرة، فيذهب بخياله بعيدا، لعله يدرك ما يحدث فيها من حنان، ومحبة، ودفء، واهتمام، ورعاية !!.. لكنه يرجع بخيال عاجز عن الإدراك..!!.
فهو يوما لم يذق طعم الأسرة، وكيف يذوقه، وهو الغريب عنها بالكلية ؟!!، فكأنها في بلد، وهو في آخر .. وكأنها في زمن، وهو في زمن آخر .. وكأنها من الغيب، وهو في عالم الشهادة !!.
وإذا ما أراد أن يتصور العلاقة بين الطفل وأمه، والطفل وأبيه، فذاك أمر فوق التصور، وفوق الطاقة؛ فإنه لم يحسّ لحظة حنان الأم، و لم يلمس ساعة عطف الأب..!!.
إذا سئل عن أبيه، وعن لقبه، وعائلته: سكت حائرا، مهموما، باكيا؛ إذ لم يعثر على إجابة ؟!!..
فنفسه عاجزة عن الجواب.. هو الذي يسأل نفسه: من أنت، ومن أبوك ؟!!.
وإذ لم يجد أباه، بقي متسائلا مستنكرا: هل لا بد لكل طفل من أب ؟!.
- ينشأ محروما من أعز الناس، وأهم الضرورات، وأبسط الأماني وأقلها..!!.
- ينشأ وإنسانيته مجروحة جرحا لا يلتئم أبدا ..!!.
- ينشأ ولا أحد إلى جانبه. لا أحد تماما ؟!.. ينشأ وحيدا.. وحيدا.. غريبا.. غريبا..!!.
- ينشأ كسير النفس، مهيض الجناح؛ فعزّ الإنسان وكرامته من: والديه، وإخوته، وقرابته. ولا شيء لديه من هذه المعزّات!!.
هل يستطيع أحد أن يحتمل هذا ؟.
فكيف بطفل ينشأ هكذا ؟!!.. إلى أي حال سيكون، وإلى أي شيء يؤول ؟!.

إنه لألم يحرك في الإنسان كل شيء:
- يحرك فيه: الحرقة، والحزن، والكآبة، والضجر.
- يحرك فيه: الغضب، والاستنكار.
- يحرك فيه: الرغبة في البكاء.
- يحرك فيه: الرغبة في الصياح.
أليس المتألم يصيح ؟، لعل في الصياح تخفيفا لعبئ يفوق الطاقة، وتنفيسا عن نفس عجزت عن التحمل.
إليكم القصة :


*        *        *

- خبر  جريح ؟!!.


في جريدة عكاظ: السبت 15/04/1427هـ ) 13/ مايو/2006 العدد : 1791               
ثمرة خطيئة جديدة تنضم الى قائمة الـ 6419 "لقيط الكرتون"
يثير همّة المستشفى ويُجمّد حركة «الهلال»
خالد جفشر (الدمام)تصوير: سامي الغامدي.


"19داراً إيوائية في المملكة، تستقبل بانتظام الأطفال مجهولي الآباء، وقد بلغ عدد المستفيدين من خدمات هذه الدور، من العام 1400 حتى 1422هـ نحو: (6419)[1]  طفلاً، منهم: (2376) من الإناث، و (4043) من الذكور.. فيما بلغت الأسر الحاضنة للأطفال مجهولي الآباء نحو 5159 أسرة، حسب آخر الإحصائيات الصادرة من الشؤون الاجتماعية.
زاد عدد الأطفال مجهولي الهوية أمس الأول واحدا،ً بعد أن انضم لقيط في الشرقية إلى القائمة.. وبات على الأسر الحاضنة أن تختار تبني الرضيع من عدمه!.

رضيع في كرتونة. 
لقيط لم يتعد الأسبوع الرابع والثلاثين من عمره.. تركته أمه قريباً من سور المستشفى واختفت وسط الزحام..! تعالت صرخات الرضيع وسط كرتون ورقي، اختارته الأم القاسية مهداً لصغيرها..
يبدو أنها شعرت بشيء من القلق على طفلها، وحرصت على حمايته بكرتون.. يحميه من لفح الشمس.. وخشونة التراب وحرارته على سور مستشفى الولادة والأطفال.
الزوّار في ذلك النهار، كانوا أمام ضيف بريء علت صرخاته.. وجعاً.. وألماً.. وربما غضباً من محيطه..        
أب متعجل لا يضبط غريزته، وأم مات ضميرها فباعت صغيرها في لحظات نشوة طائشة ومجنونة، ومجتمع قاس لن يرحمه في كبره!.        
مع صرخات الرضيع توافد الزوّار والفضوليون إلى موقعه، وهناك وقفوا متسمرين حائرين..؟!!.
صغير يبكي ذاته.. يبكي أمه.. وأباه، وأمام المشهد المؤثر أطلق كثير ممن شهدوا الموقف العنان لدموعهم..
كل المؤشرات تدل على أنه لقيط جار عليه أبواه.. ؟!!.
إنه ثمرة غير شرعية، لعلاقة غير شرعية نبتت بين اثنين..!!!.    
مرارة شهود الواقعة زادت وتضاعفت، عندما ترددت فرقة من الهلال الأحمر في إسعاف ونقل اللقيط..، وقف «المتفرجون» حيرى، فجهات الاختصاص الموكولة لها الإسعاف والإنقاذ عادوا أدراجهم.. زاد بكاء الطفل أكثر من ذي قبل، ربما يبكي حاله". إلى آخر ما جاء في الخبر..
 

*        *        *

 
- المجروحون  يرون قصتهم.


في جريدة الوطن السعودية، الإثنين 13صفر 1427هـ،13مارس2006، العدد (1991) جاء ما يلي:
(يقرون بوضعهم ويضيقون بالإهانات ويحلمون بالهجرة
لقطاء يكسرون حاجز الخوف والخجل ويكشفون عن مكابدتهم اليومية)
جدة: عاصم الغامدي


قرر عدد من اللقطاء، أو مجهولي النسب، أو الأيتام - كما هو التوصيف الرسمي لهم - كسر حاجز الخجل، والتحدث إلى " الوطن " بكل صراحة عن واقعهم وأحوالهم ومكابداتهم اليومية، ولم يعبأوا كثيراً بنشر صورهم أو إعلان أسمائهم الحقيقية، ولم يتكتموا على شيء بدافع الخوف من الفضيحة، معتبرين كل هذا أقل ضرراً من حال الضياع التي يشعرون بها ويعيشونها فيما يعتبرون أنفسهم سائرين في نفق مظلم طويل، ويتمنون فقط أن يعثروا في نهاية النفق على بصيص نور أو بصيص أمل - كما يقولون!
وعلى الرغم من سوء معاملة المجتمع لهؤلاء، ونظرته الازدرائية لهم، وعلى الرغم من تلقيهم الكثير من الإهانات اليومية حيث تطاردهم اللعنات، وترشقهم الألفاظ النابية، ويمقتهم الناس، محملين هؤلاء الذين لا ذنب لهم جريرة لم يقترفوها، فهم ضحايا، وليسوا مجرمين من دون أدنى مراعاة لأحاسيسهم ومشاعرهم كبشر، تطالهم الآلام، وتجرح أعماقهم نظرات الاتهام والنبذ والتحقير.    
أمام واقع مؤلم - كهذا - أبدى حسان وشريف ومشهور وعاطف وسواهم استعدادهم الكامل للحديث، وبث شكواهم على صفحات " الوطن " بغية التنفيس أولاً، وإيصال صوتهم إلى الجهات المعنية ثانياً، وتوضيح الصورة لهذا المجتمع الذي ينبذهم كما لو أنهم هم الذين قاموا بارتكاب الآثام.
في هذا اللقاء تحدثوا عن مسيرة حياتهم منذ أيام الطفولة وما صادفوه من إحباطات، ومالازمهم من معاناة، وأحزان كثيرة وفرحٍ قليل.      
قال حسام: اكتشفت يتمي في العاشرة تحديداً، كنت في الصف الثالث الابتدائي عندما أخبرتني المربية بذلك إن كلمة " يتيم " - في نظري - كلمة مطاطة كونها تشمل من فقد الأبوين كليهما، أو من فقد أحدهما فقط، كما أن " اللقيط " لا يعرف أبويه، استقبلت الأمر برضا تام، خصوصاً وأنني وجدت من يعتني بي، فالإنسان ابن بيئته - كما يقولون - ولم أسأل عن التفاصيل، كيف وأين وجدت أو ماذا كان معي، بل حاولت أن أتغلب على أي شعور بروح الدعابة، وبالنظر إلى المستقبل المشرق بعينين صافيتين - كما قيل لي وقتها. وأول مشكلة واجهتني - يتابع حسام سرد مأساته - كانت عقب التحاقي بالمدرسة، وهي إحساسي بأنني وحيد في هذا العالم، وحيد وكأنني مقطوع من شجرة، وكنت ألوذ بالصمت القاتل عندما أرى جميع أقراني يتحدثون عن أمهاتهم وآبائهم وأشقائهم، وكنت فقط أتخيل ما يحدث في إطار العائلة من محبة ودفء وحدب واهتمام ورعاية وسواها من العواطف الرائعة وكانت تغيب عن ذهني الأفكار عن طبيعة العلاقة الأسرية بين الأب والأم والأبناء داخل المنزل وخارجه.  ويكمل حسام حديثه قائلا: ما ساعدني على تقبل وضعي ذلك التعاطف الكبير من زملائي في المدرسة، ومن آبائهم أيضاً، وعشت حياتي كما هي متخذاً من المصطفى عليه الصلاة والسلام قدوة لي، بوصفه نشأ يتيماً، وداخلني شعور رائع بأن كل هؤلاء الزملاء أصبحوا أسرتي، ومازلت على اتصال بالمربية التي تولت أمر تربيتي ورعايتي والتي أدعوها أمي، وكذلك مازلت على اتصال بسائر الزملاء في "الميتم"!.   
وعاد حسام بذاكرته إلى البدايات الأولى، قائلا: فتحت عيني على هذه الدنيا فيما كنت في دار الحضانة بالرياض، ومنها إلى دار التربية وبعدها انتقلت إلى دار التربية الاجتماعية بالمدينة المنورة، حيث مكثت بها حتى الصف الثالث المتوسط، ثم تم إرسالي إلى المؤسسة بجدة، وهنا بدأت معاناتي الحقيقية، وسببها معاملة الإدارة لنا، وأقمت فيها برغم المعاناة مدة تصل إلى الثلاث سنوات، توجهت بعدها إلى المعهد المهني، وقبل تخرجي بأسبوعين تم طي قيدي من المؤسسة بسبب تغيبي، وذلك لأنني كنت أشارك في معسكر رياضي لنادي الاتحاد، دون أن أثبت لهم ما يؤكد ذلك.   
ونفى حسام ما يشاع عن هؤلاء الأيتام من أنهم ساخطون على المجتمع، موضحاً أنهم إذا ما تعرضوا للقسوة سيكونون ساخطين، وكشف عن أحلامه، قائلا: إنه يحلم بالهجرة إلى الغرب، وتحديداً فرنسا، لكونه يتوق إلى تعلم اللغة الفرنسية والعمل بالترجمة، فهو - كما يقول - لا يحمل أي مؤهل علمي أو أي شهادة دراسية تساعده في الحصول على عمل شريف يستطيع من خلاله أن يعيش حياة سوية. وحين سألته: ولماذا الهجرة إلى الغرب؟!.         
أجاب: هناك، أي في الغرب، يعيش الكثيرون من دون أن يعرفوا آباءهم حياة طبيعية، ولا ينظر إليهم المجتمع تلك النظرة القاسية التي نشعر بها تجلدنا كما تفعل السياط!! فالناس في مجتمعنا يتعاملون معنا كما لو أننا نحمل الطاعون، ولسنا بشراً كسائر البشر، جريرتنا الوحيدة أننا وجدنا أنفسنا هكذا، فليس ذنبنا أن أتينا من المجهول وإنما هو ذنب من اقترف بحقنا هذه الجريمة!.      
زميله عبدالقادر تحدث عن تجربته التي وصفها بأنها أكثر قسوةً ساهمت في حرمانه من التعلم، فهو لم يستطع إنهاء دراسته – كما هي حال حسام.         
قال عبد القادر: فتحت عيني على الدنيا في مدينة الرس "بمنطقة القصيم"، وأذكر أن جميع المربيات في تلك الحضانة التي احتضنتني كن من الآسيويات، وعندما بلغت السابعة تمت إحالتي إلى دار التربية في القصيم نفسها، وعندما وصلت إلى الصف الثالث الابتدائي تم إلحاقي بقسم البنين ببريدة، وعندما وصلت إلى الصف الخامس تم نقلي إلى دار التربية بحائل، وفي الصف الأول المتوسط كنا 14 يتيماً، وتم تقسيمنا إلى مجموعتين، إحداهما أرسلت إلى الرياض، والأخرى إلى جدة.    
وحين سألته متى عرفت حقيقة كونك يتيماً، أجاب عبد القادر: كان ذلك في العاشرة من عمري - تقريباً، وقبلاً، كانت كلمة "يتيم" تمر على مسامعي دون أن تعني لي شيئاً، وكانت معرفتي بأني يتيم سبب شقائي وضياعي وتعاستي بقية عمري، إذ أخبرني أحدهم بأني دون أب أو أم أو اسم حقيقي أو لقب عائلي، وأفهمني أن كلمة "يتيم" يقصد بها الاستهزاء، والشتيمة، والإهانة والإساءة وعلى الرغم من أن كافة زملائي كانوا يعيشون وضعي نفسه، إلا أنني بعد هذه المعرفة القاتلة بحقيقة وضعي فقدت اهتمامي بالتحصيل الدراسي، وبكل شيء. ويتابع عبد القادر بحرقة قائلا:       
بعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية، كنت قد تجاوزت السن القانونية، فتمت إحالتي إلى فرع المؤسسة في جدة، وتم إلحاقي بإحدى المدارس المتوسطة، لكنني لم أستطع إكمال دراستي، فتم تحويلي إلى المعهد المهني " قسم التجارة " الذي لم يكن يتوافق وميولي، فلم أكمل الدراسة فيه، ويرجع عبد القادر كل هذه الإخفاقات في الدراسة كما يعيد كل مشاكله في هذه الحياة إلى كونه يفتقد للرعاية الأسرية والبيئة المستقرة، وكما نفى زميله حسام، نفى عبد القادر بدوره مسألة الحقد على المجتمع، مطالباً بمنحه فرصة حقيقية لبناء نفسه ومستقبله وحياته التي يراها صارت أقرب إلى الشظايا، أما شريف، فوصف هو الآخر تجربته مع اليتم بأنها قاسية، وأنها لا تختلف عن تجارب " زملائه " في المؤسسة، قائلا: بدأت حياتي في دار الحضانة بجدة، وفيها تعرضت للضرب القاسي من إحدى المربيات، وعندما بلغت السابعة، تم نقلي إلى دار التربية بالمدينة المنورة، وفيها كنت أشعر بأن المدير أبي، وأن المشرفين إخوتي، وعندما وصلت إلى المرحلة المتوسطة، ثم نقلي إلى مؤسسة التربية النموذجية بمكة المكرمة، وللأسف هذه المؤسسة اسم بغير مسمى، فهي لا تعي شيئاً في أساليب التربية، كما أنها لا تحمل من "النموذجية" شيئاً أبداً، ويتابع شريف حديثه قائلا: بكل صراحة أقول، إنني في هذه المؤسسة لم أجد أي تربية، ولم أحظ بأي رعاية، إذ لم يكن يسمح لنا بالخروج من الدار مطلقاً، وكان هذا القرار الصارم، وغير الإنساني، سبباً في ضياعي!! نعم لقد بدأت رحلة الضياع، فيما كان عمري "14 سنة" حيث قمت بالهروب مع الزملاء الأقدم، وفي هروبي هذا تعرفت على عالم المخدرات، وظللت أندفع من هروب إلى آخر مهما اختلفت مستويات ومضامين هذا الهروب لأنأى بعيداً عن "حقيقتي" المرة!!.  
ويضيف: كنت أخفي عن أبناء الحي الذي تقع فيه المؤسسة "حقيقتي" خشية السخرية مني، ومخافة أن يتم دفعي إلى طريق الانحراف، واستغلال ظروفي استغلالاً بشعاً!!. لم أمكث في مكة المكرمة سوى سنة واحدة، تغيرت فيها كل القيم والمبادئ الحميدة التي كانت تسكنني، وذلك نتيجة الهرب، ولجوئي للشارع وأصدقاء السوء في الحي، بعد هذه التحولات العميقة، أصبح وضعي داخل المؤسسة لا يطاق، خصوصاً وأنني تعرضت للضرب وسوء المعاملة، لدرجة أنني أصبحت ألجأ إلى العمائر المهجورة لقضاء الليل، وتحديداً عندما تم طردي من السكن في الدار عقاباً على هربي من سكن المؤسسة     .                 
ويضغط شريف على الكلمات وهو ينطق هذه العبارة المليئة بالذكريات المؤلمة، قائلا: "لن أنسى أبدا حياة التشرد التي كان لها دور كبير في مأساتي".      
في الصف السادس الابتدائي، اكتشف شريف حقيقة كونه يتيماً وقال: عبر طرح العديد من الأسئلة علي من قبل زملائي في المدرسة، وهي أسئلة تتقصى حقيقة وضعي، وتبحث في أصلي وفصلي، وتتناول أبي، وهي الأسئلة التي لم أستطع أن أعثر لها على إجابة، الأمر الذي دفعني أن أطرح الأسئلة نفسها على المسؤولين في دار الأيتام، لكني لم أجد لديهم إجابة شافية، وحينما أصررت على معرفة الحقيقة، قيل لي إن أبي وأمي قضيا معاً في حادث سير، وعندما كبرت، وشببت عن الطوق قليلاً، استوعبت الحقيقة وتوقفت عن طرح الأسئلة، ولم أعد أبحث عن أبي أو من يكون؟!        .
روى شاب آخر اسمه عبد العزيز قصة حياة مترفة، عاشها ما يقارب 18 عاماً، واصفاً قصته هذه بأنها تختلف عن قصص الآخرين، وقال: كان بمقدوري أن أحيا حياة رائعة، وكان بوسع تلك الحياة لو استمرت أن تجعلني بعيداً جداً عن هذه المرارات، وأضاف عبد العزيز: " كفلني في بداية حياتي أحد رجال الأعمال الأثرياء ثراء ضخماً، فأتاح لي أن أتلقى تعليمي في الابتدائية والمتوسطة في أرقى مدارس جدة، وبعد أن رحل عن هذه الدنيا، كفلتني ابنته 10 سنوات أو يزيد، لكن، ومنذ فترة غير قصيرة، تم طردي من السكن الذي خصصته تلك السيدة الكريمة لي ولعدد من زملائي الأيتام وذلك لسوء سلوكي، فعدت للعيش في مؤسسة التربية، بعد أن خسرت تلك الرعاية المثالية التي حظيت بها، وها أنا الآن أشعر بندم شديد وحسرةٍ كبيرة على تلك الحياة الهانئة الرائعة التي عشتها، والتي تبددت معها كل أحلامي الجميلة، أما حقيقة وضعه، فقد اكتشفها عبد العزيز عندما كان في الثالث المتوسط، وحين لاحظت تلك السيدة الكريمة التي كانت تتولى رعايته ما طرأ على نفسيته من آثار سيئة قامت بعرضه على طبيب نفسي، وظل يراجع هذا الطيب حتى تم طرده وإعادته إلى سكن المؤسسة.
وقال عبد العزيز: صرت أكثر ميلاً للعزلة، وصرت عدوانياً، وانقطعت عن الدراسة بحجة تغيير مجرى حياتي التي اعتبرتها تعيسة وتكوين أسرتي الخاصة !! ولكن كل هذا كان مجرد وهم كبير.        
وأضاف بأسى: كلمة يتيم في المجتمع تعني "اللقيط" ولا أنسى موقفاً حين تقدمت مع زملاء لي بشكوى لرجال الأمن ضد أشخاص تشاجروا معنا فسألنا المحقق عن مقر السكن ليكتبه في المحضر وحين ذكرنا دار الأيتام قال: تقصدون سكن اللقطاء، بخلاف شماتة الكثيرين من لفظ الإخوة الذي نستعمله فيما بيننا لاختلاف ألوان بشراتنا. الأمر الذي يجعلنا نتجنب المجتمع ولا نعترف بأننا من سكان الدار وندعي الانتساب لإحدى القبائل، كما أن سوء المعاملة حول الكثيرين منا إلى قنابل موقوته.      
وبرر عدوانية الأيتام ولجوئهم إلى العنف لغياب من ينصفهم في المجتمع وافتقادهم إلى الرعاية الأسرية والحنان معتبراً أن الموظف يؤدي عمله ليحصل على مرتب في نهاية الشهر ولا يمكن أن يقوم بدور الأب.
والمعاملة لا تتم بشكل مقنع بل تغلب عليها القسوة مما يؤدي بهم إلى ردة الفعل السلبية، ورأى أن كفالة الأسر لهم تزيد من شعورهم بالغربة فعندما يصل أحدهم إلى سن البلوغ تحتجب عنه نساء الأسرة التي تكفله فيشعر كأنه فقد أسرته مرتين.     
وعلق زميل لهم على ما ذكروه قائلا: القسوة التي نتعرض لها في التربية تجعل الكثير منا عرضة للجوء للمخدرات التي تجعلنا نهجس بالانتقام ممن أساء لنا.     
وطالب الأيتام بتأهيل وتعيين مشرفين من نفس أبناء الدار؛ لأنهم سيكونون أقدر على تفهم أوضاع المقيمين فيها، وأشاروا إلى تجربة ناجحة، تم تطبيقها في دار الأيتام بالمدينة المنورة، خاصة وأن اليتيم يكون عرضة للاستغلال الجنسي، والنفسي، لتلبية احتياجاته المادية من مالٍ وملابس، والنفسية من حب ورعاية وحنان، وباعتبار المراقب صاحب أهم دور في مراكز الرعاية، فإنه يتعين أن يكون من الأيتام.

- مقتطفات واعترافات جريحة.
1-  لم يعبأوا كثيراً بنشر صورهم أو إعلان أسمائهم الحقيقية، ولم يتكتموا على شيء بدافع الخوف من الفضيحة، معتبرين كل هذا أقل ضرراً من حال الضياع التي يشعرون بها ويعيشونها.
2-  تلقيهم الكثير من الإهانات اليومية، حيث تطاردهم اللعنات، وترشقهم الألفاظ النابية، ويمقتهم الناس، محملين هؤلاء الذين لا ذنب لهم، جريرة لم يقترفوها.
3-   قال: اكتشفت يتمي في العاشرة تحديداً، كنت في الصف الثالث الابتدائي، عندما أخبرتني المربية.
4-  كنت ألوذ بالصمت القاتل، عندما أرى جميع أقراني يتحدثون عن أمهاتهم وآبائهم وأشقائهم، وكنت فقط أتخيل ما يحدث في إطار العائلة، من: محبة، ودفء، واهتمام، ورعاية، وسواها من العواطف.
5-  يحلم بالهجرة إلى الغرب، وتحديداً فرنسا، يقول: هناك، يعيش الكثيرون من دون أن يعرفوا آباءهم حياة طبيعية، ولا ينظر إليهم المجتمع تلك النظرة القاسية التي نشعر بها، تجلدنا كما تفعل السياط!! فالناس في مجتمعنا يتعاملون معنا كما لو أننا نحمل الطاعون .. جريرتنا الوحيدة أننا وجدنا أنفسنا هكذا!.
6-  معرفتي بأني يتيم سبب شقائي وضياعي وتعاستي بقية عمري، إذ أخبرني أحدهم بأني دون أب أو أم أو اسم حقيقي أو لقب عائلي .. بعد هذه المعرفة القاتلة بحقيقة وضعي، فقدت اهتمامي بالتحصيل الدراسي.
7-   كنت أخفي عن أبناء الحي الذي تقع فيه المؤسسة "حقيقتي"، خشية السخرية مني، ومخافة أن يتم دفعي إلى طريق الانحراف، واستغلال ظروفي استغلالاً بشعاً!!.
8-   أصبحت ألجأ إلى العمائر المهجورة لقضاء الليل، وتحديداً عندما تم طردي من السكن في الدار، عقاباً على هربي من سكن المؤسسة.
9-   لن أنسى أبدا حياة التشرد التي كان لها دور كبير في مأساتي.
10- طرح العديد من الأسئلة علي من قبل زملائي في المدرسة، وهي أسئلة تتقصى حقيقة وضعي، وتبحث في أصلي وفصلي، وتتناول أبي، وهي الأسئلة التي لم أستطع أن أعثر لها على إجابة.
11-  صرت أكثر ميلاً للعزلة، وصرت عدوانياً، وانقطعت عن الدراسة بحجة تغيير مجرى حياتي التي اعتبرتها تعيسة وتكوين أسرتي الخاصة !! ولكن كل هذا كان مجرد وهم كبير.
12- 
كلمة يتيم في المجتمع تعني "اللقيط"، ولا أنسى موقفاً، حين تقدمت مع زملاء لي، بشكوى لرجال الأمن، ضد أشخاص تشاجروا معنا، فسألنا المحقق عن مقر السكن؛ ليكتبه في المحضر، وحين ذكرنا دار الأيتام، قال: تقصدون سكن اللقطاء.
13-  شماتة الكثيرين من لفظ "الإخوة" الذي نستعمله فيما بيننا؛ لاختلاف ألوان بشراتنا. الأمر الذي يجعلنا نتجنب المجتمع؛ ولا نعترف بأننا من سكان الدار؛ وندعي الانتساب لإحدى القبائل.
14- سوء المعاملة حول الكثيرين منا إلى قنابل موقوته.
15- وبرر عدوانية الأيتام، ولجوئهم إلى العنف؛ لغياب من ينصفهم في المجتمع، وافتقادهم إلى الرعاية الأسرية والحنان، معتبراً أن الموظف يؤدي عمله؛ ليحصل على مرتب في نهاية الشهر، ولا يمكن أن يقوم بدور الأب، والمعاملة لا تتم بشكل مقنع، بل تغلب عليها القسوة، مما يؤدي بهم إلى ردة الفعل السلبية.
16- كفالة الأسر لهم تزيد من شعورهم بالغربة، فعندما يصل أحدهم إلى سن البلوغ، تحتجب عنه نساء الأسرة التي تكفله، فيشعر كأنه فقد أسرته مرتين.
17- القسوة التي نتعرض لها في التربية تجعل الكثير منا عرضة للجوء للمخدرات، التي تجعلنا نهجس بالانتقام ممن أساء لنا.     


*        *        *


-  مساحة  الجرح.
من كلام هؤلاء المكسورين ندرك أبعاد وآثار هذا الجرح:
- فمن طفولة محرومة من: الأبوين، والإخوة، والأقرباء. محرومة من الأسرة والبيت..
-  إلى ألم نفسي، وجرح عميق يكبر مع العمر واكتشاف الحقيقة.
- ومن عجز عن تصور ماهية وكيفية العلاقة الأسرية، ودفء الأمومة، وعاطفة الأبوة..
- إلى إحباط وتحطيم نفسي، ورغبة عن: الجد، والاجتهاد، والتحصيل.
- ومن نظرة سيئة من المجتمع، وإهانة وشتم يجرح الجرح نفسه، فيزيد في ألمه..
- إلى خوف من استغلال الآخرين لهم، لضعفهم وانعدام السند والعضد.
- ومن انعدام الحاضن والراعي، واللجوء إلى البيوت المهجورة، والانحراف الخلقي..
- إلى الميل إلى العدوانية، والانتقام.
- ومن الغربة، والوحشة، والوحدة القاتلة..
- إلى الرغبة في الهجرة إلى دول أوربية، غير مسلمة، لا تعير للأسرة قيمة، ولا تشترط لتقدير الإنسان واحترامه: ولادته من طريق شرعي؛ لعله يسترد شيئا من كرامة مفقودة، ويداوي نفسا مجروحة. مع ما قد يتعرض له من الفتنة في الدين؛ بالكفر بعد الإيمان..!!.
هي جروح، وليست واحدة: جرح في النفس، وجرح في العزة والكرامة، وفي العلاقة بالمجتمع.
فمن المتسبب في هذا القدر الكبير من الجروح المتشابكة، المتداخلة، الدائمة، التي إن حل بعضها، فبعضها الآخر لن يحل أبدا ؟.
إنها من قبيل النار إذا أحرقت شيئا، فكل شيء له علاج إلا الموت، والحرق .. ؟.
 

*        *        *

 
- كيف حصل  هذا الجرح؟!.
ما ورد مؤلم، ومؤسف، ومحزن؛ فإنسانيتهم مظلومة، منتهكة، مجروحة جرحا لا يزول.. نعم لا يزول، وكيف له أن يزول ؟!!. وإن أول ما يقوله القائل هنا:
- من الذي جنى عليهم، فجرحهم هذا الجرح البليغ ؟، وهل يمكن القَوَد منه ؟.
الذي جرحهم: نصل حادّ؛ نافذ، قاطع، يهتك، هو: العلاقة الجنسية المحرمة (= الزنا).!!.
والقصة تبدأ من النفس، التي جعل فيها غريزة الشهوة للجنس، والتلذذ به، وبها مال الذكر إلى الأنثى، والأنثى إلى الذكر . ولم يكن هذا الميل – في أصله – معيبا؛ إذ به تتحقق: المودة، والرحمة، والسكن، والتناسل. إنما العيب إذا اتخذ للتعبير عنه وسيلة غير مشروعة، هو: الزنا. دون الوسيلة المشروعة: الزواج.
وفي هذه القصص الجريحة: اتخذت وسيلة غير مشروعة..؟!.
ليس شيء يحدث فجأة، بل بمقدمات، فقد كان لهذا الميل غير المشروع مقدمات، أغرت به، هي كذلك غير مشروعة، من : نظرة – فتقارب – فكلام – فغزل – فلين – فميل وتعلق – فموعد – فلقاء – فعلاقة آثمة أنتجت: طفلا مجروحا..!!. من قبل اثنين، هما رجل وامرأة، التقيا على سخط الرب تعالى، وافترقا عليه، وتحملا جروح وآلام هذا الوليد الضعيف؛ الذي يفترض أنه ولد لهما، لو كان من طريق مشروع.
كلاهما اشتركا في هذه المقدمات عن قصد ودراية بالعواقب، وكان لكل منهما في هذه الجناية نصيب.
ولم يكونا وحدهما صاحبا هذه الجناية، بل كانا الممثلان المنفذان لخيوطها الأخيرة، المتصلان بها مباشرة:
- ومن ورائهما الذي نسج، وخطط، وأحب هذا المشهد، وتمناه وسعى إلى إيقاع الجنسين فيه.
- من ورائهما الذي ساعد، وخدم، وأعان، وفتح الباب، دون أن يدرك أنه يعين على جريمة.

فتلك الجناية ومقدماتها من فعل هذين، أما الخطوات الأولى فهي من فعل غيرهما؛ إذ لم تكن المقدمات والجناية إلا ثمرة وأثرا عن خطوات يسرتها، وأغرت بها، وفتحت الطريق إليها، هي:
1-  قنوات فضائية: تعرض النساء كاسيات عاريات، يلبسن ما يبدي ويجسم، متغنجات، مائلات مميلات، يمثلن أدوار الزوجات والعشيقات، في: الأفلام، والفيديو كليب، وأكاديمي ستار.. وغيرها من برامج الانحلال. يحصل فيها ما يكون بين زوجين، إلا النكاح الصريح، الذي تكفلت به القنوات الإباحية..
2-    مجلات وصحف تفعل الفعل نفسه الذي تفعله القنوات، بالصورة والكلمات.
3-   قصص وروايات تحسن، وتشجع، وتصف العلاقات المحرمة وصفا، يميل بالنفوس إليها.
هذه الأسباب خطيرة؛ لأنها تدعو بالتصريح، وبالإشارة والتلميح إلى إقامة مثل هذه العلاقة المحرمة.

وهذا أمر لا يخفى على أحد، يعرف حال هذه الوسائل، ومع ذلك فهي لم تكن لتكون فعالة، ذات أثر، لولا جملة من الأسباب الأخرى، التي فتحت الباب لحصول هذا الإثم. وهي:
1-  خروج المرأة من بيتها، في زينة ظاهرة، وفتنة بادية، في عباءة كأنها الفستان، في الجمال وبيان المفاتن.
فإن خروجها على هذا الحال: حرك في النفوس – التي أفسدتها وسائل الإغراء الآنفة – نوازع الجنس والشهوة والميل غير المشروع، فصارت تسعى لتحصيل المتعة، من خلال هذه المتزينة، الفاتنة، المفتنة، المفتتنة. وكم حصل من وراء هذا جناية وجرح..!!.
2-  اختلاط المرأة بالأجانب، بداعي التعليم، وبداعي العمل.
فإن هذا الاختلاط قرب المرأة، فصارت هذه الفاتنة، التي هي فتنة الرجل، كما جاء في الوصف النبوي، في مرمى المتمني الراغب في الإثم. وهو يرى، ويسمع، ويقرأ كل يوم ما يدعو ويرغب في علاقة آثمة.
فإذا صارت المرأة قريبة إليه، فما عساه يفعل ؟!!.
3-  غياب الرقيب، وهو ولي أمر المرأة، وتضييعه الأمانة، بغفلته عن حالها..!!.
فالمرأة مطبوعة على حسن النية، والغفلة عن مواضع الشر، والعاطفة تتحكم بها، يعرف هذا من له أدنى المعرفة، وينكره من أطبقت عليه الغفلة، أو استحكمت نفسه على المكر والخديعة..!!.
فإذا لم يقم وليها بصونها ورعايتها، وإلا فقد ضيعها..؟!!.
وأسّ هذه الأسباب ورأسها: اختلاط المرأة بالرجال الأجانب؛ فإن الأمور التي تغري وتزين العلاقة المحرمة (= الزنا) موجودة في كل زمان ومكان، لكن أثرها يبقى محدودا إذا التزم شرط الإسلام في المرأة في العلاقة بين الجنسين، وهو: الفصل بينهما، ومنع الاتصال.
دل على هذا الشرط: أمر المرأة بالحجاب. والحجاب في المصطلح اللغوي والشرعي: الحاجز المانع من النظر.
فإذا ما سقط هذا الشرط، فحينئذ تبدأ الأسباب كلها بالعمل والتأثير، وهذا أمر طبيعي..
فإن الغرائز مهما استثيرت؛ فأنى لها أن تتجه إلى المحرم من العلاقات الجنسية، ولا سبيل إلى المرأة أصلا؛ لبعدها وانفصالها عن الرجال، إلا عن طريق الزواج ؟.

أما إذا كان السبيل إليها  قريبا؛ وذلك:
-  إذا صارت تلج وتخرج من بيتها، كما يخرج الرجل، في زينة ظاهرة، بفتنة بادية.
- أو صارت تختلط بالرجال بداعي العمل، والعلم.
-  وولي أمرها غافل، تارك للمسؤولية، لا يرعاها، ولا يصونها من الأشرار.
فإن الغرائز المستثارة ستجد مكانا لإشباعها، ومنه ينتج هذا: المجروح المعذب، والمتألم، والخائف، والحاقد، والمنتهك، والكسير المجروح. المسمى باللقيط..!!.


*        *        *


- أطراف  الجناية ، المتسببون  لها.
وأطراف هذه الجناية والمصيبة، المتسببون لها على نوعين: قاصد، عامد.. وغافل، أو جاهل، أو مشتبه عليه.
فالأول: نوع تسبب في الجناية بعلم، وقصد، ودراية، ورضى بحصول العلاقات المحرمة.
وهؤلاء يحتملون من إثم معاناة هذا المجروح: طفلة، أو طفل. ما يحتملون، وهم:
- الزانية والزاني.
- الداعي للعلاقات المحرمة، والمروج لها.
-  الذي أذن بالاختلاط، ومنع منه، وحماه، حبا في الفاحشة.


*        *        *


1-   الزانية، والزانية. وهما يحتملان الوزر الأكبر؛ لأن بفعلهما المباشر، وهو فعل الفاحشة، كان هذا المولود.
إن ذنب الزنا في المرتبة يأتي بعد الشرك والقتل، فقد جاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود:
-  : قلت (يا رسول الله!، أي الذنب أعظم؟. قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك. قلت: ثم أي؟. قال: أن تقتل ولدك، من أجل أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟. قال: أن تزاني حليلة جارك)[2].
وعقوبة الزانية والزاني مقدرة، قال تعالى:
- { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابها طائفة من المؤمنين}.
الزاني والزانية يجلدان مائة جلدة، ويغربان عاما، إن كانا بكرين. أما إن كانا محصنين، فالرجم بالحجارة جزاؤهما؛ فلا عذر لهما في الحرام، وقد بسط الله لهما في الحلال.
والآثار التي تحذر من الزنا، تخبر أنه ذنب يزيل الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام:
-  (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، وكان عليه كالظلة)[3].
وفي الصحيح أن رسول الله رأى الزواني والزناة قال:
-   (فانطلقنا إلى نقب مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، يتوقد تحته نارا، فإذا اقترب ارتفعوا، حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة)[4].
فهو ذنب: ليس أكبر منه إلا الشرك، وقتل الولد.. وهو يزيل الإيمان.. ويترتب عليه جلد وتغريب، أو رجم حتى الموت.. وعقوبته في الآخرة أن يحبس الزانية والزاني في تنور من نار.
وهذا الذنب قبيح عند العقلاء، حتى عند بعض البهائم، ففي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون قال:
-  ( رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة، قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم).[5] قال ابن تيمية: "ومثل ذلك قد شاهده الناس في زماننا، في غير القرود، حتى في الطيور"
[6]

2-  الداعي، والمروج للعلاقات المحرمة، بأية طريقة كانت، سواء: عبر الفضائيات، أو المجلات، أو الصحف، أو القصص والروايات. الذي يزين، ويحسّن هذا الإثم، سواء: بكلامه، أو بفعله، أو قلمه، أو بماله. الذين يحبون ذلك، ولا يتأثمون منه، بل يقصدونه، ويسعون في نشره.
وهذه فئة إلى النفاق أقرب، فقد أخبر تعالى عن المنافقين، أنهم يحبون شيوع الفاحشة في المؤمنين، قال تعالى:
- {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.

3-  الذي أذن بالاختلاط، وحماه، ومنع منه، راضيا بكل ما يحدث فيه من إثم، عالما به، غير متأثم له، سواء كان مسؤولا في عمل، أو تعليم، أو غير ذلك، أو كان ولي أمر المرأة:
-  فأما الذي أذن بالاختلاط وحماه، عن رضى بكل ما يحدث فيه من الإثم، وعلم بما ينتج عنه من علاقات محرمة، فهذا يدخل في حكم الفئة الآنفة، وما جاء فيها من وعيد؛ فإنه من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
- وأما الولي الذي أذن لمحارمه بالاختلاط بالأجانب، مع علمه بما قد يحدث لهن، ورضاه بذلك، فهذا في مصطلح الشارع يسمى: ديوثا. وعقوبته: أنه لا يدخل الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخُبث)[7].
فهؤلاء يحتملون الإثم، وهم مشاركون في معاناة هذا الإنسان المجروح؛ لأنه من خلال الوصف السابق، هم يعلمون بأن نتيجة التقارب، والاختلاط بين الجنسين، وخروج المرأة في زينة ظاهرة، هو: العلاقة المحرمة.
وهم يعلمون أن ما يصنعونه من المقدمات، والمغريات الجنسية نتيجتها: العلاقات المحرمة. فهم راضون بذلك، ويحبونه، وإلا لما وقعوا في أمور، لا يجهل أحد أنها تدعو إلى الإثم والفجور، مصرين عليها. وبعضهم يعلن ذلك، ويستهجن ما يسمى بالعفة، وحفظ الأعراض.؟!!.


*        *        *


والثاني: نوع تسبب في الجناية بغفلة، أو جهل، أو اشتباه؛ أي لم يدرك أن قوله، أو فعله، أو قلمه يسهم في هذه المشكلة، ويتسبب فيها، وهم:
- ولي أمر فتاة سمح باختلاط بالأجانب، ظنا منه أنه لا يضرها.
- مسؤول سمح بالاختلاط، ظنا منه أنه لا يفضي إلى علاقات محرمة.
- متفقه اشتبه عليه الأمر، فزعم أن الشريعة تبيح الاختلاط.


*        *        *


1-  الولي الذي أذن لمحارمه بالاختلاط بالرجال، بداعي التعليم، أو العمل.
هناك من أولياء الأمور من يظن أن التربية الصحيحة، والتوعية كافية لتجنب هذه المشكلات، وعليه فلا مانع لديه من الإذن لمحارمه في: عمل مختلط، أو السفر بدون محرم، أو الخروج من البيت دون ملاحظة.
فهذا مشكلته: النظر إلى قضية العلاقة بين الجنسين من زاوية دون أخرى. نعم التربية والتوعية مهمة، بتنمية جانب الخوف والخشية من الله تعالى، والتعريف بخطر العلاقات المحرمة من جهة: الضرر بالأسرة، والحياة الزوجية المقبلة، وما قد ينتج عنها من أمراض.. إلخ.
لكن ليس هذا هو الأمر الوحيد الكافي لتجنب هذه المشكلة، هناك أمر مهم، دل على أهميته: عناية الشارع به. وهو: اجتناب الفتنة، والبعد عنها. فمن تعرض للفتنة تعرضت له، ومن تجنبها سلم منها.
وإن الفتنة هنا هي: الغرائز المشتعلة بين الجنسين. التي لا يمكن لأحد أن ينكرها، إلا إذا أراد أن يعبث بالحقيقة، وعقول من يقبلون العبث بعقولهم..!!.
أو أراد أن يكذب النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول:
( ما تركت بعدي فتنة  أضر على الرجال من النساء).
[8]
وإذا أراد هذا الولي أن يعرف قدر هذه الفتنة، فعنده شاهد من نفسه، فليختبرها:
- كيف هي عند امرأة أجنبية، أعجبه جمالها، ودلّها ودلالها ؟.
فإن كانت نفسه ماتت لكبر سنّ، أو مرض، أو همّ، فليتذكر:
كيف كانت لما كان شابا، نشطا، خاليا من الأوهام، والأمراض ؟.
هذا الشاهد يعطيه فتوى بخطأ ما أقدم عليه، اتكالا على التربية، والتوعية وحدها؛ فالعقل والدين يقول:
- اجتنبوا الاختلاط. فإنه يفضي إلى المحرمات من العلاقات؛ لأن النفس تجوع إلى الجنس الآخر كل حين.

2-  المسؤول الذي سمح بالاختلاط، في المكان الذي هو مسؤول عنه: مؤسسة، أو شركة، أو جامعة 
فهناك من هذا الصنف من يظن: أنه لا بأس بهذا الاختلاط. وأنه ينفع العمل، ولا يضره، ما دام قائما على الحشمة، والحجاب؛ يقصد تغطية الرأس.. مادام الوعي موجود، وهو في هذا:
- مأخوذ بقوانين الحضارة الغربية، يظنها مفروضة لازمة للتطور.
- مأخوذ بفكرة المساواة بين الجنسين، وأنه لا فرق بينهما.
فهذا يقال له ما قيل لولي أمر المرأة آنفا: أن عنده شاهد من نفسه، فليختبرها عند فتاة أعجبه دلّها.
ويضاف إليه: أن التجربة كفيلة بالبرهان؛ فالمجتمعات الغربية بدأت بالاختلاط، في كل المجالات، ثم تبعتها مجتمعات عربية وإسلامية، فماذا جنت من هذا الاختلاط ؟.
- جنت وحصدت العلاقات المحرمة، وما ينتج عنها من اللقطاء، وما يتبعها من المآسي.
- جنت ظلم المرأة، وامتهانها، وسلبها كرامتها، وتحميلها ما لا تطيق، فعليها العمل في البيت والوظيفة.
- جنت الأمراض النفسية، والعصبية، حتى كثرت العيادات النفسية، وكثرت مراجعة النساء لها خصوصا.
ويكفي لبيان خطر الاختلاط ونتائجه السيئة: أن دولا من هذه بدأت تفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات، وهذا موجود في أمريكا، وبعض دول أوربا.
 
3-  المتفقه الذي زعم أن الشريعة تبيح الاختلاط، ولا تحرمه.
فهذا يقال له: انظر وتأمل في الشاهدين الآنفين: الشاهد الذي من النفس، والشاهد الذي من التجربة.
فإنه كاف في نقض ما زعمته، ومع ذلك فإن لديك شبهة، تظنها دليلا معتمدا في دعواك:
-  أن النساء كن يخرجن للأسواق، للبيع والشراء.
-  وإلى المساجد للعبادة.
-  وفي الجهاد، للعون والمساعدة، وتمريض الجرحى.
-   وكن يختلطن في الطواف بالرجال.
فهذه أدلة يحتج بها هؤلاء، لكنها ليست محل النزاع، ولم يمنع منها أحد، والذي حرموا الاختلاط لم يقصدوا هذا النوع، إنما قصدوا:
- الاختلاط الذي يزول به الحجاب، والحاجز بين الجنسين: حتى تغدو العلاقة بينهما كالعلاقة بين الجنس الواحد. فتكون المرأة زميلة وصديقة للرجل، وكذا الرجل زميل وصديق للمرأة.. وكل اتصال بينهما ليس له حاجة شرعية.
فالمقصود بالمنع من الاختلاط: أن يكون للمرأة عالمها الخاص، وللرجل عالمه الخاص، فلا يتحد العالمان إلا بطرق مشروعة: محارم، زواج. ليس الالتقاء والاجتماع العابر، لسبب صحيح، يقبل به الشرع.
فإذا طبق هذا التعريف على ما ذكر من الأدلة المحتج بها: لم ينطبق. فلذا قلنا: إنها في غير محل النزاع.

ثم ليتأمل هذا المبيح للاختلاط في النصوص التالية:
- نصوص تأمر بغض البصر.
- نصوص تصف المرأة بأنها فتنة الرجال.
- نصوص تجعل صفوف النساء آخر المسجد، وتخبر أن شرها أولها؛ كونها أقرب للرجال، وخيرها آخرها؛ كونها أبعد عن الرجال.
- نصوص تجعل للنساء بابا خاصا في المسجد.
- نصوص تنهى عن مخالطة النساء الرجال في الطرقات، وتأمر النساء بالمشي في الحافات.
- نصوص تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص للنساء يوما للتعليم.
- نصوص تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم ما جمع الرجال والنساء في مجلس علم، أو شورى.
- نصوص تأمر المرأة بالقرار في البيت، وأن صلاتها فيه خير من صلاتها في مسجده.
-  نصوص تأمر المرأة بالحجاب، وعدم اللين في الكلام مع الرجال.
كيف لكل هذه الأحكام أن تطبق مع الاختلاط، مع كون المرأة والرجل الأجنبي في غرفة واحدة، ومكان واحد يلتقيان دوما، كل يوم بداعي العمل، أو العلم ؟.
إنه الحق واضح، كالشمس في رابعة النهار، لا يزيغ عنه إلا هالك، وإن الشارع لا يأمر بالشيء ونقيضه..
وإذا كانت هذه النصوص مع كثرتها لا تفيد منع الاختلاط، فأي فائدة إذن في سوقها، وكثرتها ؟!.


*        *        *


- بين الفريقين  ؟.
فأما المفسدون، الذين يعلمون بثمرة عملهم، ويحبون ذلك، وهم:
- قلة من أولياء الأمور.
-  وقلة من الذين يسمحون بالاختلاط في الأمكنة التي هم مسئولون عنها.
-  وأولئك الذين يستغلون وسائل الإعلام لترويج الفساد.
فهؤلاء يحبون الفاحشة، ويعرفون أنهم متسببون في مآسي هؤلاء المساكين من الأطفال؛ لذا فهم ساكتون، وإن تكلموا فتعرف اللحن في كلامهم.

أما الذين تسببوا في الجناية بغير قصد، الذين لا يرضون بالإثم، وهم:
- بعض أولياء الأمور.
- وبعض الذين يسمحون بالاختلاط في الأمكنة، التي هم مسئولون عنها.
- والذين يفتون بجواز الاختلاط، من المشتغلين بالشريعة.
فإنهم قالوا: لسنا جزءا من المشكلة، ونحن لا نرضى بهذه العلاقات الآثمة. وإذ سمحنا بالجمع بين الجنسين فنحن نقصد تهيئة علاقات طبيعية بين الجنسين، ليس فيها شبق ناتج عن فصل متعسف، مبناها على الثقة المتبادلة والاحترام. فالمشكلة ليست في الاختلاط إذن، إنما في قلة الوعي، والتربية، وفي آلات الإعلام.

وقبل الجواب يقال: قد تبين أن السبب ذاته يرتكبه فريقان، يكون أحدهما: آثما. والآخر: مغفورا له. فأولياء الأمور الذين أذنوا لمحارمهم بالاختلاط بالأجانب، وأولئك الذين يأذنون بالاختلاط فيما يقع تحت مسؤولياتهم:
-  فيهم من هو آثم؛ كونه يعلم بما يترتب عليه من الآثام، ولا يبالي.
-  وفيهم من هو مغفور له إن شاء الله تعالى، غافل غير مدرك، اشتبه عليه، لو أدرك الحقيقة لما أذن.
ثم يقال لهذين الصنفين، اللذين عندهما كثير من حسن الظن، وقليل من الإدراك والوعي:
قد أقررتم بأن آلات الإعلام لها دور في هذه المشكلة. وأنتم لا تملكون منعها، أفلا منعتم ما تقدرون منعه، فامتنعتم من انتهاك جدار الحجاب، فتركتموه كما هو ؟.
فما حاجتكم إلى دفع المرأة إلى الاختلاط، وقد علمتم أن آلات الإعلام تفعل فعلها إذا حصل الاختلاط ؟.
ثم من أين لكم أن التربية والتوعية وحدها تكفي في تجنب هذه المشكلة ؟.
هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: ربى أصحابه فأحسن تربيتهم. وربى أهله بيته فأحسن تربيتهم. 
- فهل رأيتموه جمع بعد ذلك بين: أصحابه، وأزواجه، وبناته، ونساء الصحابة في مجلس واحد: للشورى، أو للعلم، أو للعمل، أو للتحضير للغزو، أو في السفر، أو في الحضر ؟.
- هل رأيتموه يدعو إلى الجمع بين الجنسين ولو في نص واحد، بدعوى المساواة، وإعطاء المرأة حقوقها ؟
- هل رأيتموه يأمر المرأة أن تخرج من بيتها، لتشارك الرجل الأجنبي في بناء المجتمع المسلم ؟.
- أم رأيتموه يأمر بقرارها في البيت، حتى جعل صلاتها في بيتها خير من صلاتها معه في مسجده ؟.
-  أم رأيتموه ينهى النساء عن التقارب مع الرجال حتى في الطرقات، ترسيخا لمبدأ الفصل ؟.
- أم رأيتموه يجعل للنساء مكانا في مؤخرة المسجد، وبابا خاصا، ترسيخا لمبدأ الفصل لا الجمع ؟.
-  أم رأيتموه يخصص لهن يوما للتعليم ؟، أفلا جمعهن مع الرجال في الحلق كل يوم ؟.
ألم تقفوا على هذه النصوص، وأنتم تحتجون بالثقة، أفكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يثق في بناته، ونسائه، وقريباته، ونساء الصحابة ؟!.
كلا، وحاشا، بل عين الدين والحكمة: أن تمنع أسباب المنكر والفاحشة، مع التحصين منه بالتربية.
-  فالتحصين نافع إذا تورط الرجل والمرأة في اختلاط لم يرغبا فيه، ولم يسعيا من أجله.
-  والمنع نافع في قطع الفتنة والبلية من أصلها.
وليس العاقل من تعرض أو عرض غيره للمهالك، بدعوى الثقة والخبرة.
كمن خرج في سفر، فبدل أن يحث السير، اشتغل بالبحث عن جحور الحيات والعقارب، بدعوى أنه خبير بها، فاشتغل بها، فقد ضيع وقته، فيما لو أنفقه في السير، لكان أسرع وصولا، وربما لدغته حية، فعطلته عن سفره، وربما قتلته.. فهل ما فعله فيه شيء من العقل أو الحكمة ؟!.
نعم هناك فئات نياتها حسنة، ومقاصدها طيبة، لكن أعمالها فتنة عمياء، وجزء خطير من المشكلة، فكم من مريد للخير لم يبلغه..؟!!.


*        *        *


- المانع من الجناية .
قد أصابنا ما أصابنا من الألم، في سماع هذه القصص، والأحوال المؤلمة لهؤلاء الفتية، وفيهم الفتيات كذلك، وما من أحد عاقل إلا يود لو منع حصول هذا من أصله، وإن أهم وسيلة لمنعه هو:
1-  منع الأسباب المغرية بالعلاقات المحرمة، المنتشرة في: القنوات، المجلات، الصحف، الروايات، والقصص. والتي تغري إليها هذا الإثم، مثل: تكشف النساء، وميلهن، وما يمارس فيها من مقدمات النكاح علنا.
2-  منع الاختلاط بين الجنسين، تحت أية دعوى كانت. فلا شيء مفيد ينتج عن الاختلاط، إنما ينتج عنه: طفلة أو طفل مجروح، وخراب البيوت، وفساد الأخلاق، وعلى قصير الفهم: أن ينظر في تجربة الدول المتقدمة.
3-   منع المرأة من الخروج متزينة، في فتنة بادية، فليس كل عباءة اليوم تستر، بل فيها ما يغري ويزين.
4-   قيام ولي أمر المرأة بواجبه مع محارمه، فلا يسافرن إلا بمحرم، وعليه أن يقوم بحاجتهن، وأن يخرج معهن.
فإذا تحققت هذه الأربعة، فانظروا: هل توجد مشكلة كهذه المشكلة بعدها ؟.
كلا، لن توجد، وإن وجدت فبصورة محدودة جدا، فما هذه المشكلة إلا من تلك الأسباب.

وإذا أردنا ترتيب الأسباب، من حيث الأهمية:
-  فأهم وسيلة لمنع العلاقات المحرمة: منع الاختلاط.
فكل ما سبق من مسببات للمحرم لن يكون له أثر مباشر كالاختلاط. المصيبة كلها في الاختلاط. ؟!!.. فإن التقارب، والتعارف، والصداقة، والكون معا، في مكان واحد: مكتب واحد، وفصل واحد، ومختبر، وعيادة، ومناوبة، ورحلات المشتركة.. ونحو هذا.
ليس شيء مثل هذا في الخطر؛ إذ به تستيقظ الغرائز، وتستجيب لداعي الهوى، فالرجل والمرأة إذا اجتمعا اشتعلت الغريزة، وتجاوبت النفس، وفي هذه الأحوال: تنسى المواعظ، وتختفي الأخلاق، ويرتفع الإيمان، وتذوب القيم، وتتلاشى التربية، وتتحلل الثقة بالنفس.. فكم من أديب سقط، وكم من عفيفة واثقة سقطت، وما زال الحكماء يرددون، ويحذرون من اختلاط وتقارب كهذا.
وليحذر من كل غرّ مخدوع، أو ماكر مخادع يريد أن يقنع: أن لا شيء من ذلك يكون. فكما قال القائل:
وليس يصح في الأذهان شيء    ***     إذا احتاج النهار إلى دليل
- تأتى بعدها في الأهمية: قرار المرأة في بيتها.
فإذا خرجت فلحاجة وضرورة، من غير زينة؛ فإن المرأة إذا قللت من خروجها، فلم تخرج إلا لضرورة، تاركة الزينة، كان تقديرها أعظم من الفتنة بها؛ لزوال الفتنة، وحلول أسباب التقدير والتعظيم.
-  بعدها في الأهمية: قيام ولي الأمر بواجبه، في صون وليته.
فهو مسؤول، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة المؤمنة موصوفة بالغفلة، في قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات..}.؛ لأنها لا تدرك الشر الذي يراد بها، فإذا لم يقم الولي بواجبه ضيعها.
-  آخر الوسائل أهمية في هذا المعنى: منع وسائل الإعلام من المشاهد الآثمة.
من خروج المرأة كاشفة ستر الله عليها، إلى المناظر والأفعال المحرمة.
ومع أن وسائل الإعلام خطيرة جدا، إلا أن تأثير لن يكون فعالا، ما دام أن المرأة لا تختلط بالرجال، ولا تخرج في زينة، والولي قائم برعايته. فإن الناس مهما رأوا في هذه الوسائل، فإن المتمني لن يستطيع فعل محرم، وهو لا يجد الوسيلة إلى ذلك، وإذا ما رأى امرأة تسير، فكانت محجبة بلا زينة، ولا فتنة، فإنه لن ينساق وراء شهواته، لشعوره أن هذه مصونة، ولا تصلح إلا للزواج، لا لشيء آخر.
وهكذا فإن تأثير هذه الوسائل حينئذ سيكون في الرغبة في الزواج السريع، لا غير ذلك.
أما إذا كانت المرأة هي الأخرى تتبدى بين الرجال، تصادقهم، وتزاملهم، مع كل تلك الوسائل المثيرة للغريزة: فهل يريد متذاكي أن يقنع الناس: أنه لا ضير من ذلك، وأن التربية كفيلة بمنع كل ما يخشى ؟!.


*        *        *


-  اعتراض.
قال قائل، اشتبه عليه ما لا يشتبه: هل تريد القول: أن كل اختلاط، ففيه علاقة محرمة ؟.
فالجواب: ليس كل اختلاط فيه علاقة محرمة. فالمعادلة ليست كذلك، بل كما يلي:
-  كل اختلاط، فبيئة ملائمة مهيئة، لعلاقة محرمة، قد ينتج عنها: وليد مجروح أبد الحياة.
فكونه بيئة يفيد أنه: ليس من اللازم حدوث علاقة. بل مظنّة قوية، وداع قريب غير بعيد، كما يقال:
-  هذه الأرض وباء. ولا يلزم من ذلك مرض كل من فيه، لكن الكل معرض للمرض.
- الحرب مظنة الموت. وليس كل من ذهب فهو مقتول، لكن الكل معرض للقتل.
فكون الظن قويا: فإن من المعقول والحكمة إعمال هذا الظن، باجتناب ما يؤدي إلى الهلكة.
والناس يعرفون هذا، ويطبقونه في كل شيء، فإذا ما جاءوا إلى الاختلاط نسوا، وما تذكروا إلا الأغلوطات، وضيعوا كل القواعد والأصول..!!.


*        *        *


قال القائل: ألا ترى أنك تبالغ في خطر الاختلاط، فقد صوّرته وكأنه كارثة محققة ؟.
فالجواب: ليست مبالغة، بل حقيقة. المبالغة هي التي لم تسند بأدلة، أما والأدلة كلها وتنطق بالخطر، فلا.
فهذا العالم يشتكي من الفجور وانتشار الزنا، بشكل لم يعرف، وإذا نظرنا إلى السبب الذي تغير فيما يتعلق بهذه المشكلة خصوصا: وجدناه خروج المرأة واختلاطها بالرجال. بصورة لم تكن معهودة من قبل.
فبان أن العلة هو: الاختلاط.
حتى البلاد الإسلامية تئن من هذا المصاب؛ ليعلم أن بلية الاختلاط وأثره: لا يحمي منه الانتماء إلى الإسلام.


*        *        *


- حكمة العقوبة.
لقد كان من عقوبة الزانية والزاني، إذا كان محصنين: رجمهما بالحجارة حتى الموت.
ويمكن أن تلتمس الحكمة من هذه العقوبة، الشديدة البالغة: أن هذين بفعلهما، هدما بيتيهما، وأسرتيهما، فكانا في المثال، كمن هدم بنيان بيته، فشرد منه أهله وساكنيه، فاستحق بذلك أن يرجم بحجارته، فيُشّرد
 بها كما شرد أهلها، فيذوق الألم، كما أذاقه.
والمحصن هو: الذي تزوج، وأنشأ أسرة.
- فعلم وأدرك عظم حاجة الطفل إلى الأسرة، وأن يكون ذا أبوين.
-  وفهم واستوعب الآلام والوحشة، التي يعانيها المحروم من الأسرة والأبوين.
-  وعرف أن العلاقة الجنسية هي سبيل نتاج الأطفال.
فإذا جنح بعد هذا العلم والإدراك، والفهم والاستيعاب، والمعرفة: فاقترف جناية محرمة. فهو كمن يتعمد إيذاء وجرح إنسان في قلبه، وروحه، وعقله، هو ذلك الطفل الوليد، جرحا لا يلتئم، أبد الحياة.
فهل عرفنا لم استحق الرجم، ومثله تلك المحصنة الزانية ؟.
وإن كانا بكرين: فالجلد مائة، والتغريب عاما.
وفي هذا التغريب شعور بالوحشة، والوحدة، والكآبة، والبعد عن الإلف، والقرابة؛ لعله يتذكر حال مولود يجيء من هذا الطريق، فيعيش في: وحدة، وكآبة موحشة، وبعد، وغربة، وانفصال عن القريب.
ليتذكر كل من تمنى أو أراد فعل فاحشة: أن من الآثار الموحشة لفعله: الإساءة إلى طفل وإنسان، يعيش أبد حياته كسير النفس، مليء الحزن، يدعو باللعنة والانتقام ممن تسبب في حاله.
ليتذكر هذا كل فتى وفتاة، وكل رجل وامرأة..
وليتذكره كل من أسهم ولو بشكل غير مباشر في هذا الجرح.


*        *        *


أيها المستهين بالأعراض، الهاتك لستر الغافلات: هل شعرت بألم هذا الطفل أو الطفلة ؟.
أيتها المستهينة بالعفة، المتلاعبة بنفسها: هل شعرت بألم هذا الطفل أو الطفلة ؟.
هل شعرتما بالجرح الذي في نفس هذا المجروح المسكين البريء، الذي سيكبر، ويكبر الجرح معه ؟.
هل علمتما من كان الذي جرحه، فحطّمه، فجعله كسير النفس، معذبا، يتلوى ألما ؟.
- أنتما ..!!.
 

*        *        *


----------------------------------------
[1]- هذا الرقم مؤشر على عمق المشكلة، وحاجتها إلى الرصد، والدراسة، والعلاج. فهذه الآلاف ما مصيرها ؟!.
[2]- رواه البخاري في المحاربين، باب: إثم الزناة.
[3]- رواه أبو داود وتمامه: (فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)، انظر: السلسلة الصحيحة للألباني 509.
[4]- رواه البخاري في الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين.
[5]- كتاب مناقب الأنصار باب القسامة في الجاهلية، الفتح 7/156.
[6]- الفتاوى 11/545.
[7]- رواه أحمد، صحيح الجامع 3052.
[8] - رواه البخاري في النكاح، باب: ما يتقى من شؤم المرأة وقوله: { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم..}.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية