صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الكسوف : العظة ، أو المتعة ؟

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه

 
الظاهرة هي: الحدث المتكرر بشكل يلفت النظر.
والكسوف بهذا المقياس: ظاهرة منذ السنوات العشر الماضية، والمقبلة كذلك (= بحسب الإحصاءات الفلكية). فلا يمر عام إلا وفيه خسوف للقمر وكسوف للشمس، على الأقل لمرة واحدة.
هذه الظاهرة تسايرها ظاهرة أخرى: تعمل على إثبات العبرة والعظة بهذا الحدث. يمثلها: المشتغلون بعلوم الشريعة، والدعوة، والإصلاح.
تقابل هذه الظاهرة: ظاهرة ثالثة: تعمل على جعل الحدث نقطة استمتاع؛ لتبطل العظة والعبرة به. تمثلها: التيارات الليبرالية، والعلمانية.
فالناس أمام مثلث ينظرون وينتظرون: ظاهرة الكسوف.. والذين يعظون بها.. والذين يُمتِّعون الناس بها.
فأين الحقيقة؟. فالظاهرة حقيقة؛ فأي القولين في تفسيرها هو الحقيقة ؟.


* * *


الذين يعظون بهذا الحدث، وهذه الظاهرة: أكدوا على العلاقة بينها وبين الذنوب. وقالوا: هي علاقة ثابتة، يقينية، قطعية. ليست بظنية. دلت عليها:
- أولا: نصوص محكمة في ثبوتها، وفي دلالتها، من القرآن والسنة.
- ثانيا: قياس واستنباط شرعي صحيح.
- ثالثا: وقائع ثابتة.
- رابعا: دليل عقلي.
فكلها أشارت إلى أن هذه التغيرات سببها: فسوق بني آدم.

- أولا: النص الشرعي.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد، يجر إزاره، فصف الناس وراءه، ثم قام يصلي... وانجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده.. فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة،.
ثم قال: لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعِدْته، حتى لقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، حين رأيتموني تأخرت..
يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله، أن يزني عبده، أو تزني أمته.
يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا..
وقال: وأريت النار، فلم أنظر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء.
قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن ، يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط) رواه البخاري. بتصرف

في هذا النص أوجه متعددة، ثبت بها العظة والعبرة في الكسوف:
- فأولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى خسوف الشمس: خرج يجر إزاره؛ وهي حالة الفزِع. فلو كانت الحادثة للمتعة لا للعبرة، فلم هذا الفزع ؟. ما عهد الفزع إلا في أمر عظيم، والعظيم هنا: علامة خوّف الله بها عباد، هي: الكسوف.
- وثانيا: صلاته عليه الصلاة والسلام. فلا يدعي أحد أنها صلاة شكر، على نعمة تمتّع بها، بل صلاة مستغفر يرجو الرحمة، ورفع العقوبة، يدل على هذا: ما جاء في خطبته من التحذير.
- وثالثا: قوله: (يخوف الله بهما عباده). فهل التخويف للمتعة أيضا، أم من الذنوب ؟.
- ورابعا: أمره الناس إذا رأوا مثل هذا: أن يفزعوا للصلاة، وفي روايات أخر: للصدقة، والتكبير، والذكر، والاستغفار.. فقد أمرهم بالفزع، والفزع يكون لأمر عظيم. وبالطاعة أمرهم، فمن فائدتها: أنها تدفع العقوبة المترتبة على الذنب، كما قال تعالى: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
- وخامسا: رؤيته جهنم، يحطم بعضها بعضا، فما كان ليراها للمتعة، بل للتحذير والعظة.
- وسادسا: ذكره لأنواع من الذنوب في هذا المقام: كالزنا، وكفران العشير. فهذا لا يتناسب إلا مع كون الحدث عبرة وعظة؛ فلو كان الحادث عرضا، ليس له علاقة بالذنوب، فلم ينوه بذكرها ؟.
 

* * *


- ثانيا: قياس واستنباط شرعي.
لله تعالى سنن كونية وشرعية. الكونية لها أسباب وآثار؛ فالشمس، القمر، والأرض، والنجوم، والسماء أسباب، لها آثارها:
- فالشمس سبب لحصول الليل والنهار، وهذا أثره.
- والقمر سبب لابتداء الشهر ونهايته، وهذا أثره.
- والأرض سبب القرار، والسعي، والرزق، وهذا أثره.
- والنجوم سبب الاهتداء، وهذا أثره.
- والسماء سبب في المطر، وهذا أثره.
والآثار ليست منحصرة فيما ذكر. وقد جعل الله تعالى سنته الشرعية؛ وهي المنزلة على عباده بالوحي: مربوطة بهذه الآثار، التي كانت عن تلك الأسباب الكونية.
- فالصلاة موقوتة بطلوع الشمس، واستوائها، وغروبها؛ أي بأجزاء الليل والنهار، قال تعالى:
- {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر..}.
- والحج، والعدّة موقوتة بطلوع الهلال وغيابه؛ أي بالشهر، قال تعالى:
- {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}.
- {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}.
- والصيام عبادة موقوتة بالقمر والشمس؛ أي بالشهر وبالليل والنهار، قال تعالى:
- {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.
- {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}.
- والقبلة للبعيد تعرف بالنجوم، قال تعالى:
- {وعلامات وبالنجم هم يهتدون}.
فهذه السنة الكونية قد ارتبطت بها السنة الشرعية، وكان الصلة والوصلة التي بينهما هو: المسلم؛ الذي استعمل الآثار الناجمة عن السنن الكونية ليقيم الشعائر، وبدونها لم يكن ليقدر على ذلك.
والمقصود: أن الأصل في هذه السنن: أن تسير وفق نظام ثابت، لا يتغير. فالليل والنهار، والشهر، والاتجاهات، واستقرار الأرض، ونزول الماء من السماء، وخروج الرزق من الأرض: كلها تسير بانتظام في أصل الأمر. ليتحقق به عيش الناس، وإقامة المؤمنين عباداتهم.
غير أن بعضها قد يختل في بعض الأحيان، كالأرض قد يضطرب بعض أجزائها بفعل: بركان، أو زلزال، أو انهيار. والسماء قد تمسك ماءها عن أجزاء من الأرض. وبما أن هذه الأحوال عارضة، ليست أصلية؛ فإن العلماء يشتغلون بتفسيرها، والبحث عن عللها ؟.
وأكثرهم يفسرها بنظر جغرافي، أو فلكي بحت، دون أن ينفذ إلى أعمق من ذلك، رافضا فكرة السبب الخارج عن إطار الحدث، الذي ذكر في الأخبار الإلهية..؟!!.
أما المسلم فإنه ينظر في الحدث من كافة جوانبه: جغرافيا، وفلكيا، ويرجع إلى الخبر الإلهي، ليجد أخبارا قطعية، تحدد له الأسباب، كما في قوله تعالى:
- {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}.
- {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
- {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}.
- وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن ابتليتم بهن، ونزلن بكم، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سُلط عليهم عدو من غيرهم، فيأخذ بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم). [رواه البيهقي، والطبراني في الكبير، حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص321، وانظر: الترغيب والترهيب 1/543]
في هذه الأخبار تنصيص صريح: أن سبب هذا الاختلال، من قلة المطر، والرزق، وظهور الفساد في البر، والبحر، والأنفس: اختلال التزام الناس بشريعة الله تعالى. وهو: ما اكتسبته أيدي الناس،؛ من عدم إيمانهم، وعدم تقواهم، وتكذيبهم، ومنع زكاة أموالهم، ونقض العهد، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى. فقد ذكر هذه الذنوب، وجعلها المانع من سير شيء من النظام الكوني وفق أصوله المطردة.
والمعنى: أن الالتزام الشرعي يوجب الأثر الكوني الحسن. وعدم الالتزام يوجب الأثر الكوني السيء.
لكن ما علاقة هذا بالكسوف، وقد علم أن الكسوف ليس اختلالا، ينتج به عقوبة مباشرة كالزلازل؟.
يقال: الاختلال على نوعين:
- نوع يحدث عنه عقوبة مباشرة، كالزلازل، وليس منه الكسوف.
- ونوع هو آية على عقوبة قد تأتي، وربما رفعت بسبب توبة واستغفار، والكسوف من هذا.

فالعظة بالكسوف والخسوف يكون في أمرين:
- الأول: أنه علامة وآية على عقوبة؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخوف الله بهما عباده).
- الثاني: أنه في نفسه اختلال؛ فهو ظاهرة غير معتادة، بدليل: أنه يحدث من غير نظام مطّرد. فيحدث في شهر دون شهر، وفي سنة دون أخرى، بل في عقد دون عقود. ليس كالنهار والليل. وهذا يوجب التأمل في سبب هذه الظاهرة غير المعتادة ؟.
فالأصل عدم الكسوف، وهو طارئ. فإذا طرأ فللسائلين أن يسألوا عن السبب ؟.
هنا يجيب الشارع بوضوح: أنه الذنب. فالمسالم للشرع الإلهي، بفعل الطاعة وترك المعصية: تسالمه السنة الكونية. ومن لم يسالم، فلا يأمن من محاربة الكونية له، فإنما هي خلق لله تعالى، تحت أمره.

* * *

- ثالثا: وقائع ثابتة.
إن عمل الناس بشريعة الله تعالى ليس سببا في اتساق نظام الكون، وسلامته من الاختلال فحسب، بل هو سبب كذلك في كف شر كل ذي شر، إن استكملوا العمل بها؛ حيث إن الشرور عقوبات، فإذا انتفت أسباب العقوبات (= الذنوب)، ولا تنتفي إلا بالعمل الكامل بالشريعة: انتفت الشرور. وإليكم الأدلة:
أولا: في الصحيح أن عيسى إذا نزل في آخر الزمان، لم يقبل من الناس إلا الإسلام، فلا يبقى في الأرض إلا مسلم، وحين ينتشر الإسلام في الأرض يزول الشر.
فماذا يكون حينذاك ؟.
يخبر عليه الصلاة والسلام عن هذا العهد الخالي من الشر، بخلوه من الكفر، الذي هو أصل الشر، فيقول:
- (فيقال للأض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك،. فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك الله في الرِسل، حتى إن اللحقة من الإبل لتكفي الفآم من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم الفخذ من الناس) (مسلم كتاب الفتن باب ذكر الدجال). وفي أثر آخر: ( وتقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم). [مسند أحمد 2/406]
ثانيا: جاء في كتب التاريخ: أن البهائم كانت في عهد عمر بن عبد العزيز كانت ترعى في مرعى واحد، لا يعدي الذئب على الغنم، ولا الأسد على البقر، ففي ليلة عدى ذئب على غنم، فقال الراعي: " إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا هلك"، فنظروا فإذا هو مات في تلك الليلة. [البداية والنهاية (9/203)].
ثالثا: كان سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ عرض له أسد، فقال: " يا أبا الحارث، إنا سفينة مولى رسول الله"، فهز الأسد ذنبه، وسار معه يحرسه حتى أوصله المعسكر ثم انصرف. [سير أعلام النبلاء 3/173]
رابعا: أنكر أحد الصالحين على أحد الخلفاء وأمره بالمعروف، فأمر به فألقي بين يدي الأسد، فكان الأسد يشمه ويحجم عنه، فلما رفع سئل فقال: " لم يكن علي بأس، قد كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه: هل هو طاهر أم نجس؟". [البداية والنهاية 11/185]
فهؤلاء لما تنقوا وتطهروا، وسالموا شرع الله تعالى، واستكملوا العمل به، ولانوا لأمر ربهم: لانت لهم هذه السباع، وأحبتهم الكائنات من حولهم، فلم يجدوا منها أذى ولا شرا .

* * *

إذاً هذا الكون بحوادثه، من: نزول الأمطار الطيبة، وطلوع الشمس من المشرق، وطلوع القمر من مطلعه، وسير الهواء بانتظام، وثبات الأرض، وإخراجها بركاتها، وغير ذلك: بقاؤه على هذا النحو الجميل المنتظم المرتب، مرهون بصلاح بني آدم.
فإن صلحوا: تنعموا بها، وبنظامها، وسنتها التي جعلها الله عليها.

أما إذا فسدوا، وحاربوا ربهم، وتعالوا واستكبروا، فإن سنة الكون تختلف وتتغير وتضطرب، فإذا اضطربت سنة الكون كان في ذلك شقاء بني آدم وعذابهم، في صورة:
- زلازل تُشقق وتُصّدع، وبراكين تحرق وتذيب، وأمطار تغرق، وأعاصير تجتاح وتهلك.
- وضيق في الرزق، والعيش، وشدة المؤونة، وجور السلطان.
- وكذا خسوف وكسوف: علامات وإشارات مخوفة، منذرة بشر قد يأتي.
وإذا كثر الشر في الأرض، حتى لا يبقى من يقول: الله ، الله. أذن الله لهذه الدنيا بالزوال، ومن مظاهر وعلامات الساعة الكبرى، المؤذنة بالقيامة: اختلال نظام الكون كله. فتطلع الشمس من مغربها، من ناحية ما كانت تغرب منها، ثم يخسف القمر، وتكور الشمس..!!.
- فالأرض محفوظة بالصالحين ، فلو خلت منهم، فليس بينها وبين اختلاف سنة الكون: حجاب.
 

* * *

- دليل عقلي.
وإذا كانت النصوص الشرعية تثبت، فإن الدلائل العقلية لا تنفي، فإثبات أنها عبرة ثابت حتى بالعقل:
فإن العقل يقول: إذا جرى الشيء على سنته الطبيعية المعتادة (=المطردة)، فهذا دليل: على أن كل شيء فيه منسجم ومتلائم. ويسمى هذا: أصلا؛ كطلوع الشمس وغروبها كل يوم، وبدء القمر هلالا أول الشهر، ثم اكتماله في نصفه، ثم عوده آخر الشهر. فإذا اختلفت سنته المعتادة، فتوقف، أو خالف طريقته، فهذا دليل على أن شيئا ما فيه قد تغيّر. ويسمى هذا: خلاف الأصل.
ويقال هنا: الأصل في الشمس والقمر، الذي هو سنته الذي يجري عليها: آلكسوف أم عدمه ؟.
والجواب: أن سنة الشمس والقمر هو عدم الخسوف والكسوف. بدليل: أن ذلك يحدث بصورة غير منتظمة، ولا مطردة، كما يحدث الليل والنهار، أو الشهور، أو الفصول الأربعة.
ومما يدل على هذا: أن ما كان أصلا فغير ملفت، إنما الملفت ما كان خلاف الأصل. ولو كان هذا الحدث أصلا، لما وجدته ملفتا للنظر، والرصد، والتسجيل.
فإذا ثبت أن هذا الحدث خلاف الأصل، فشيء ما هو الذي أخرجه عن سنته. هكذا يقول العقل، ثم يقف، ليكمل الوحي الدور ليقول: إن الذي أخرجه عن سنته هو: ذنوب العباد.
 

* * *

- الذين يُمتّعون بالحدث.
الذين يُمتّعون الناس بهذا الحدث، يفسرونه بأنه: ظاهرة، فلكية، طبيعية. تحدث بسبب مرور الأرض ما بين القمر والشمس ( = في حالة خسوف القمر)، ومرور القمر ما بين الشمس والأرض (= في حالة كسوف الشمس). لا علاقة لها بأحوال بني آدم، ولا بذنوبهم، بل هو جريان طبيعي.
ومما يدل على انتفاء العلاقة:
1- أنها تحدث في كافة الأرض، فتقع على المسلمين وغير المسلمين. ولو كانت عقوبة على الذنوب، فلم لم يستثن المسلمون ؟.
2- أن آلات الرصد قد رصدت كسوفات مقبلة إلى عقود: فهل لنا أن ندعي على أجيال لاحقة قد لا ندركها، ولن نعيش في زمانها: أنها مذنبة، وهذه العقوبات قد رصدت لها منذ الآن ؟.
ولأجل قناعتهم بانتفاء العلاقة بين هذه الظاهرة والذنوب: فإنهم جعلوا الحدث متعة، تستحق المتابعة، والملاحظة، والرصد، والترقب، وجمع الناس لها؛ ليفرحوا، ويستمتعوا، ويسجلوه كواقعة جميلة.
 

* * *

وهنا يقال: قولهم ظاهرة طبيعة يحتمل أمرين: مفسرة، ومعتادة.
فأما أنها مفسرة، فهذا صحيح، لكن أين المانع من الموعظة بها، كونها مفسرة ؟.
ألم يعظ الله تعالى عباده بأحداث كونية مفسرة، كالليل والنهار؟، فقال تعالى:
- {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}.
فاختلاف الليل والنهار آية على ذهاب الأعمار، وفناء الدنيا: أليس في هذا موعظة، بشيء مفسر ؟.
وللعلم: فإن كل حوادث الكون مفسرة. علمه من علم، وجهله من جهل.
وأما أنها معتادة، فهذا غير صحيح؛ فالمعتاد (=المطرد) يجري في نظام واحد، يدركه الجميع، بغير حاجة إلى تعلم، كجريان الليل والنهار، والشهور، والفصول، فإنها مدركة من جميع الناس، عالمهم وعاميهم.
وغير المعتاد فذلك الذي يجري على نظام غير مطرد؛ لذا لا يدرك إلا بالحساب، ولا يدركه إلا المختصون.
والكسوف والخسوف لا يجري على نظام مطرد؛ لذا فعموم الناس لا يعرفون أوقاته، إنما يعرفه المختصون، فثبت بذلك أنه غير معتاد (=خارق للعادة).
وفي كل حال: فإن الله تعالى يعظ عباده بالحدث المعتاد (=المطّرد)، كما في الليل والنهار. وبالحدث غير المعتاد (=الخارق للعادة)، كما في معجزات الأنبياء.
فلو فرضنا أنه حدث معتاد، فليس في ذلك ما يمنع من الموعظة به.
وللعلم: فإن المعتاد (=المطرد)، وغير المعتاد (=الخارق للعادة) كليهما له تفسير وتعليل. علمه من علمه، وجهله من جهله. فما خلق الله شيئا إلا بسبب وعلة.
 

* * *

وعن قولهم: أنه لو كان موعظة فلم عمّ المسلمين ؟.
فيقال: هذا مبني على أن المسلمين لا تشملهم المواعظ والعقوبات الإلهية. وهذا خطأ في التصور؛ فإن سبب الموعظة والعقوبة هو: الذنب. وهذا لا يسلم منه المسلمون، غاية ما في الأمر: أن الكافرين جمعوا من بين ذنوبهم الكفر، أما المسلمين فليس في ذنوبهم هذا الذنب الأكبر، لكن لديهم ذنوب أخر. والمواعظ والعقوبات الإلهية ليست قاصرة على ذنب الكفر، بل حتى ما دون ذلك. فقد قال تعالى عن هزيمة الصحابة رضوان الله عليهم في أحد، لما وقعوا فيه من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم:
- {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم }.
وعن قولهم: أن من المحال رصد العقوبات قبل وقوع الذنوب ؟.
فيقال: هذا جهل بالغ بالأخبار الإلهية، التي تخبر أن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخسمين ألف سنة. وفيها كل ما يكون من حسنات وسيئات، وثواب وعقاب.
نعم العباد لا يرصدون، ولا يتألون على الله تعالى، لكن الله تعالى له أن يخبر بما شاء، ومما أخبر به عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم: أن الكسوف علامة على عقوبة، تدفع بالبر والطاعة.
فإذا علمنا عن خسوفات قادمة، حتى إلى قرن قادم، فذلك يعني أن أولئك الذين يحل بهم هذا الحدث سيقعون في العصيان والمخالفة، المستوجبة للنذارة.
وهذا مثل إخباره صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة، وفيها مخالفات وعصيان، وعقوبات على ذلك.
فهذا الاعتراض قد كان يصح، لو أن الناس هم الذين فكروا، وادعوا. أما والخبر في هذا إلهي فلا مجال للاعتراض..!!.

- العظة في الكسوف.
إن الله تعالى يعظ عباده، إذا استحقوا العقوبة: بعذاب أدنى. فإن لم يتعظوا أخذهم بالعذاب الأكبر، والفرق بينهما: أن الأدنى تليه فرصة للتصحيح، والرجوع. أما الأكبر فلا فرصة بعده .!!. قال تعالى:
- {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون}.
- {وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون}.
- {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}.
والكسوف علامة على عذاب أدنى، فإذا لم تحصل الموعظة فالكبرى إذن، قال تعالى:
- {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون}.
وفي الكسوف والخسوف عظات، من أهمها:
أولا: أنها علامة وتذكير بالقيامة، فقد أخبر تعالى عن القيامة، فمن أمورها: خسف القمر، وتكوير الشمس. وتكويرها يكون بذهاب نورها، وهذا ما يكون في الكسوف، قال تعالى:
- {فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر }.
- {إذا الشمس كورت }.
فعندما يحدث الخسوف والكسوف، فهذا علامة من علامات يوم القيامة، فالعظة والعبرة بهذا واجب، فعندما تتقدم علامة وآية من آيات القيامة، ليراها الناس قبل القيامة، فما معنى ذلك ؟.

هل يشك أحد أنها: تذكير، وتخويف ؟.
ثانيا: أنها تذكير بنعمة الله تعالى الدائمة على العباد بالشمس والقمر، فلا يخفى على أحد: أن مصالح الناس لا تحسن ولا تتحقق إلا بوجود هذين القمرين.
فلو فرض ذهاب نور الشمس، فكم من الأحياء يموت ؟، وكم من المتع والنعم تزول ؟.
ولو فرض ذهاب نور القمر، فاسألوا العالمين بأحوال البر، والبحر، والطب، ماذا يحصل من مفسدات ؟.
والكسوف ما هو إلا ذهاب نور الشمس، والخسوف ذهاب نور القمر.. ففي هذا تذكير للناس وعظة: كيف هم إذا استمر بهم الحال هكذا، من غير ضياء ؟.
وقد امتن الله تعالى بهاتين النعمتين على عباده كثيرا، فقال تعالى:
- {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}.
 

* * *


هناك من لا يحب العظات، وإذا وجد الناس متدبرين بها: اشتغل بصرفهم. فيقصد إلى طمس العظة:
- فيطرح فكرة الاستمتاع بالحدث، بدلا عن التخويف والتحذير به..!!.
- والإغراق في تفسيره الفلكي والجغرافي، بدلا عن تعليله بالذنب.!!.
وصدق ربنا إذ قال:
- {فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون}.
وليس غريبا أن يفعلوا ذلك، فإنهم أسّ المشكلة.. ومن فعالهم الآثمة، بنشرهم الفواحش، والفجور، والظلم في كل مكان، وحمايتها، وحرب الفضيلة والعدل: تحدث العقوبات الإلهية، والعلامات المنذرة. وهم كما أفسدوا على الناس دينهم ودنياهم، يبتغون إفساد العظات عليهم..؟!!.
 

* * *


وبعد: فإن الشمس والقمر لا ينكسفان على العاصين، المخالفين للسنة الشرعية فحسب، إنما تعمّ الجميع: الطائعين والعاصين. والفزع للجميع، وهكذا بلاء المعصية وشؤمها لا تصيب الذين ظلموا خاصة، بل تعمّ:
- {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}.
ثم بعده ينجي الله تعالى المصلحين، دون الفاسقين فيهلكون، والصالحون غير المصلحين يهلكون معهم، يبعثون على نياتهم، كما في الأثر، يقول تعالى:
- {فلما نسوا ما ذكروا أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}.
أما إذا اجتهد المصلحون، وصابروا، وأفلحوا في الإصلاح، فإنهم نعمة على أنفسهم وعلى غيرهم:
- {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.
 

* * *
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية