اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/khojah/113.htm?print_it=1

السعيدي يدخل التاريخ

د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه


بسم الله الرحمن الرحيم


كتب الأستاذ الجليل الأديب الأريب: إبراهيم السكران. مشيدا بكلمة للأصولي الفقيه الشاعر المجيد: الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي. قائلا:

"عبـارة لن ينساها التاريخ"

وأزيد عليه بما ليس فيه جديد: أن السعيدي ذاته سيدخل التاريخ.
ليس لأجل الكلمة، فهي على ما فيها من تعبير يفيض بالمشاعر المؤلمة، والوصف الدقيق الكاشف للمآلات: لها مثيلات مرت – وتمر – مرور الكرام؛ لم يلتفت إليها أحد؛ حيث لم تجد من يحييها، ربما لفقدها عنصر الإخلاص، أو أمر آخر، غير أنه من قدر الله تعالى أن سخر لكلمة الدكتور السعيدي من يرعاها؛ من له سطوة الكلمة، والبيان البليغ، فأحياها، فأحيا بها قلوبا جمة، فتكلم فيها من تكلم، من كل فئة وحزب.
ولم أخطط ليأتي دوري في الكلام، ولم يطلب إلي أحد، لكن عزيمة انعقدت، ولا يجمع العزائم أو يحلها إلا ربها، فجئت مفسرا لكلام من أظن أني أفهم مراده، وأعلم بمقصده في هذه الكلمة على الأقل؛ إذ إني من أقرب الناس إليه، أو هكذا أتوهم ويخيل إلي.

يقول الشيخ د.محمد السعيدي:

(قد تصبح المرأة في السعودية كاشيرة، وقد تصبح سائقة تاكسي، وقد تصبح عاملة نظافة، وقد نراها ممثلة إغراء، وعارضة أزياء، وراقصة باليه، ونادلة في مقاهي ليلية.. كل ذلك قد يكون, لكن الذي لن يكون أن تذكر الأجيال القادمة أن كل ذلك مر علينا دون أن نؤدي واجبنا من المعذرة لأمتنا تجاهه)
[د.السعيدي، مجموعة قاسم، رقم 2233].

هي كلمة لم تصدر إلا بعد ترسّم الحكم وثبوته بالتحريم، في الاختلاط المنظم، المقصود لذاته، الذي يتعمده القائمون عليه، كالتعليم والوظائف المختلطة، وليس العفوي منه؛ الذي يأتي عرضا، ليس بقصد، كالطواف، وفي الأسواق وغيرها.
وعمل الكاشيرة من الاختلاط المنظم، الذي حرمه العلماء، في فتاوى عديدة عبر التاريخ، حتى كان آخرها، فتوى اللجنة الدائمة، ولم يعرف عن عالم أفتى بجوازه، إلا ما كان من نفر في هذا العصر، ابتدعوا بدعة محدثة لم تعرف، وهو تجويز الاختلاط المنظم.

هذا المستوى من الأساس الشرعي المبيّن حكم الاختلاط، بنيت عليه مستويات أخرى في هذه الكلمة، هي:

الأول: الواقعي. وصف حال المرأة في الأعمال المختلطة لاحقا.
الثاني: الدعوي. بيان المعذرة بالقيام بالواجب الإلهي أمام الأمة.
الثالث: التاريخي. تذكر الأجيال؛ أن الاختلاط لم يمر من دون معارضة.
فأما المستوى الشرعي، فإنه طوي في بقية المستويات، ولم يذكر تصريحا، لكن ملمحه ظاهر واضح في كلمتي: الواجب، والمعذرة. ولم يذكر لأنه محسوم سلفا كما تقدم.
ولم يكن يدور في خلد الدكتور السعيدي، أن أحدا يفوته هذا المعنى في المستوى..!!.
فمن كتب معتبرا: أن السعيدي حرم عمل الكاشيرة، من باب سد الذريعة..
ومن كتب مستدركا عليه: أنه وقف عند حد المنع والتحريم، لم يوجد بديلا..
ومن كتب يستقوي بالتاريخ على المعترضين..
كل هؤلاء فاتهم هذا المستوى، فلم يدركوه إما علما، أو فهما..

كلا، ليس تحريم الاختلاط من باب سد الذرائع، بل لأنه محرم، والمحرمات نوعان:

لذاتها، ولغيرها.
فالتي لذاتها، ما كان منصوصا عليها، بنص يفيد أنها ممقوتة لله رب العالمين.
والتي لغيرها، فما كان بنص عام، وقد يكون خاصا، لكن يفهم من سياقها أن المنع لكونها تفضي إلى المحرم لذاته، كالصلاة وقت طلوع الشمس، والذبح في مكان يذبح فيه لغير الله.
وتحريم الاختلاط من النوع المحرم لغيره..
والنصوص المحرمة نصا، نصوص عملية: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على فصل النساء عن الرجال في المساجد، وحلق العلم، وفي السفر، والطرقات وغير ذلك.
مع إمكانه ذلك، لكن لم يعهد عنه إذن به، ولا أصحابه من بعده؛ لذا لم نسمع يوما بتعليم مختلط منظم، ولا بأعمال مختلطة، كامرأة تبيع في دكان أحد الصحابة.
فهذه نصوص عملية، أما القولية فإنها دالة على المنع من الاختلاط تحقيقا؛ لتعذر الامتثال لها مع الاختلاط.
فإن الاختلاط يفضي إلى امتناع غض البصر، المأمور به في الآية: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}.. وفي الحديث: (لك الأولى، وليست لك الآخرة). فطالب الاختلاط المنظم، هو طالب معه لإطلاق البصر؛ لاستحالة غض البصر في هذه الحالة.
كما يفضي إلى الفتنة بالنساء، وقد نهي عنه نهيا محققا: (واتقوا النساء). فكيف للمختلط بانتظام أن يتقي فتنة النساء ؟.
إن تجويز الاختلاط، مع الأمر باتقاء الفتنة: تكليف بما لا يطاق، والشريعة منزهة عنه.
كما إن تجويز الاختلاط، مع الأمر بغض البصر: هو كذلك تكليف بما لا يطاق.

والأدلة كثيرة، يراجع فيه كتابنا: "
كيف بُنِيَ تحريم الاختلاط ؟." وهو منشور في النت

فالمنع لم يكن لأنه ذريعة إذن؛ بل لتحريمه لغيره، والفرق: أن الذريعة ليس فيها نص بأنواعه: القولية، العملية، التقريرية. خاص ولا عام، بل موكول لاجتهاد المجتهدين، فإن تحققت ذريعة إلى محرم، فهي محرم، وإلا فلا.
فمدار الحكم على: التحقق في الذرائع، وليس مجرد الظن، حتى يصح الإلزام.
مثال الذريعة: خروج المرأة من بيتها. ذريعة للعدوان عليها أم لا ؟.
فإن تحقق أنها ذريعة، لسريان الفوضى، وعدم الضابط. فهو ذريعة، وإلا فلا.
فالخروج ليس فيه نص يمنع منه لا خاص ولا عام، إلا تقدير المصالح والمفاسد.
فأرى أن كثيرا خلط في مسألة الاختلاط، حين عدّه من الذرائع، وليس كذلك لما تقدم.
فعمل المرأة كاشيرة محرم لغيره، وليس ذريعة إلى محرم، بل يمكن القول إن الذريعة إذا صارت محققة، ربما كانت من المحرمات لغيرها، بهذا الشرط، وليس لمجرد أنها ذريعة.
أما قضية البديل، فقد صكت آذاننا بمثل هذا، وكم تكلم السعيدي وغيره بالبديل الصحيح الكثير المتعدد، لكن في الآذان وقر، ولسان حالهم: بيننا وبينك حجاب.
ثم مع ذلك، إذا كان الأمر محرما لذاته أو لغيره، فلا يقول فيه فقيه أو فاهم حتى:
أوجد البديل حتى لا يقبل الناس على المحرم.
فما لي أنا وهذا البديل، وهل الناس صبيان وسفهاء، حتى أتكلف لهم بديلا مفصلا تفصيلا لا تخطئه العين، ولا تضل عنه الفهوم، خشية أن يمشوا إلى الحرام ؟.
وهل على الفقيه السكوت وعدم النطق، إلا بعد أن يوجد بديلا بتفاصيله الدقيقة ؟.
من قال ذلك، ومن أمر به ؟!!!.. لا الله ولا رسوله ؟!.
على الفقيه والعالم، أن يبين حكم المسألة، ثم على الناس أن يبحثوا هم عن بديل حلال، لأن بأيديهم ذلك، خصوصا أنه دنياهم، وهم أحرص عليها من هذا الفقيه؛ الذي أفنى عمره في التفقه، حتى قصر إدراكه عن مصالحه الدنيوية، دع عنك مصالحهم.
فإن اجتهد في البحث عن بديل مفصل، فهذا منه تبرع، وليس عليه إلا أن يبين الحكم وطرق الحلال بالإجمال، وكل على نفسه بصيرة، ولا يسأل عند الله تعالى عن غير ذلك، كما نطقت بذلك الآيات.
ومع ذلك، ففي عمل الكاشيرة، البديل موجود، وهي أعمال كثيرة غير مختلطة، تبرع ببيانه كثير، منهم الدكتور السعيدي، لكن ما تصنع بمن قصر إداركا، فصار يظن: أن لا بديل عن اختلاط منظم ؟!.
حتى لو كان هذا توجها دوليا وعالميا ضاغطا على الدول الضعيفة، فليس من الدين ولا العقل: رفع راية التسليم أمامه، بل والتبرع بفتوى يرسّمه شرعا، وأن يعلن على الملأ:
أن الله تعالى يبارك هذا العمل، ولا يحرمه، وأن القول بتحريمه كان مجازفة.
أو كلما قرر الغرب قرارا، أو ألف كتابا، أو أنشأ عملا (= سينما، فيديو كليب، اختلاط، ديسكو، راب، أزياء، أكاديمي ستار، أولمبياد ..إلخ) توجب علينا نحن أن نبحث في أسلمتها، وتشريعها ؟. ألهذا الحد صرنا تبعا في كل شيء، فلم يعد لنا وجه، سوى التعلق بذيل الغرب، في كل شيء نبني مشاريعنا الدعوية على أسس غربية علمانية ؟.
ما ضرنا مثل هؤلاء النفر، الذين لا همّ، إلا أسلمة كل عمل غربي، من: الثقافة والفن والإعلام، إلى الاقتصاد والرياضة، حتى فلسفة النفس والمجتمع والدين.
ألم يقفوا ليسألوا أنفسهم: هل يمكن أن يكون ديننا خاويا من كل هذا، حتى نضطر إلى استنساخ تجربة غربية عارية من الدين، فنبني عليها، ونجري تحسينات لنضمن أسلمتها ؟.
على كل حال، لهم ما تولى.. لكنهم لن يتقدموا، سيكونون دوما عالة على تلك المنابع.
أما المستقوي بالتاريخ، فإنه يعارض به الدين، من حيث يشعر أولا يشعر، فإذا ثبت تحريم الاختلاط، فليس لأحد أن يعارضه بقوة أو صيرورة التاريخ، كما يقولون؛ فالدين مقدم.
وقد كان من طريقة الشيوعيين: أنهم قسموا مراحل تطور البشرية إلى الشيوعية، بحسب صيرورة التاريخ هذه، وزعموا: أن التطور حتمي، وأن التراجع عنه رجعية وظلامية، والعجلة في تقدم، تطحن من يقف في طريقها.
فما أشبه هذا بهذا ؟!!..
تقول: هذا حكم الله تعالى.
يقول: لا تقفوا بوجه التاريخ.
ولو حدث ما تنبأ به، لقال: ألم أقل لكم ؟.
هذا وغيره لا يدري، أن ما يحصل ويقع لا يعني ضرورة صلاحه وصحته، ولا قبوله.
وأن أحكام الله تعالى، لا تخضع في تقريرها للتاريخ، بل لأمر الله وحده لا شريك له.
فأما الواقع وضروراته، فلها تأثير مقيد، بحسب حال الضرورة يتغير الحكم، بما يرفع المفسدة، ويحقق المصلحة، لكن من غير تبديل لحكم الله تعالى، فلذا يقال: حكم مؤقت، أو مقيد بزمانه. وليس تبديلا؛ لأن التبديل تحريف.
ومن يقول: لا تقفوا بوجه التاريخ.
هو لا يقرر بأن ظرف الوقت يحتم التخلي أو التخفف من الحكم المستقر، حتى يزول الظرف، بل يسعى في تبديل الحكم؛ لأجله تراه لا يسلم بالتحريم أصلا، بل يجادل فيه بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.
ولو كان منطلقه شرعيا، يجيز عمل الكاشيرة من نظرة شرعية، يراه بحسب رأيه: عملا جائزا، لا يمنع منه دليل. ثم يصب بحثه في الأدلة الشرعية لا يخرج عنها: أدركنا أن هذا مورده ومصدره الدليل، هو ما يسوقه ويحمله، وهذا يمكن البحث معه.
لكن الذي يترك هذا، أو لا يجيده أصلا، ثم يذكرك: أن الاختلاط حتمية تاريخية، لامحيص عنها. فتلك سمة من يقدس التاريخ، أكثر من تقديسه الدين.
إن كثيرا ممن تكلم ناقدا، مارس قفزا على المستوى الشرعي، وكأنه ظن أن طيه مبرر لطيه، وكلمة الدكتور السعيدي إنما تألف من مقدمة ونتيجة:
فالمقدمة هي المستوى الشرعي، وهذه طويت.
والنتيجة هي: المستوى الدعوي، والتاريخي.
فالقيام بالمهمة المنوطة في معارضة الاختلاط، مع حصول الإعذار من الله تعالى، ثم عند الأجيال. كل ذلك إنما بني على أساس من تحريم الاختلاط المنظم.
فمن اعترض على فحوى المعارضة أو الاعذار، دون أن يتطرق إلى المستوى الشرعي، فقد رام وقصد إبطال النتيجة، قبل أن يتكلم في مقدمتها، وهذا في المنطق باطل.

 

د.لطف الله خوجة
  • محمد صلى الله عليه وسلم
  • المرأة
  • التصوف
  • الرقاق
  • الآخر
  • معالجة
  • وصية
  • قطرة من الروح
  • الصفحة الرئيسية