صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سلسلة الدفاع عن الحقيقة (2)

تصحيح النقد الخاطئ للخطاب الشرعي تجاه القانون

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

خالد بن عبدالله الغليقة

 
يقول الأستاذ القاسم جواباً على سؤال (1) : " كيف يمكن أن يساهم الإسلاميون المتشددون في تعطيل الشريعة؟ " : "...قضية التشريع على سبيل المثال، لا يمكن أن تقول للناس: القوانين حرام وتترك الناس في فوضى في تعاملاتهم ، وإذا تقدمت بوضع أنظمة محترماً أصول الشريعة أسهمت في تعميق الشريعة ، لا يمكن أن تكون الشريعة هي ترك الناس فوضى ، كيف نحرم تعليم القانون ؟ مثلاً: الذي هو..لم يُفتح قسم للقانون في جامعة الإمام على سبيل المثال إلا منذ 10 سنوات أو 15 سنة ، ولم يُفتح بهذا الاسم، باسم آخر اسمه "السياسة الشرعية" ، لكن تُدرس فيه القوانين الوضعية كما هي في فرنسا وغير فرنسا ، لماذا لم نطرح هذه القضية بوضوح ونعالج هذه القضايا ، ونفرق بين القانون المحرم والقانون المشروع ؟ لماذا نسمي القانون إذا صدر من الدولة نظاماً ، ونطيعه ونأمر بطاعته، وفي الوقت نفسه تصدر فتاوى بمنع استيراد كتب القانون ، كما صدرت في الستينات مثلاً أو السبعينات ؟ أو فتاوى بتحريم الدراسة في القانون ، أو فتاوى حتى الآن بمنع تدريس القانون في بعض الجامعات " .

هذا الكلام كالفقرة الأولى السابقة  والتي كانت عن (البنوك) فيه خطأ تاريخي ومنطق معكوس ويتبين ذلك من عدة أمور:

 

أولاً: الخطأ التاريخي:

قول الأستاذ القاسم : " لا يمكن أن نقول للناس : القوانين حرام ونترك الناس في فوضى من تعاملاتهم " ، في هذا الكلام نسبة التحريم لعلماء البلاد السعودية للقوانين مطلقاً وبشكل عام , من دون تفصيل بين القوانين , ومن دون مراعاة الزمن والحالة التي صدرت فيها تلك الفتاوى ، فبالنسبة للأمر الأول , وهو أن العلماء حرموا القوانين مطلقاً بشكل عام , وحرموها لذاتها لا لما تضمنته من مخالفات شرعية ؛ فهذا فيه خطأ على حقيقة التاريخ يتبين ذلك بما يلي :
1. أن العلماء لم يحرموا القوانين مطلقاً لذاتها ؛ بل حرموها لما تضمنته من مخالفات شرعية , ودليل ذلك أنهم إذا علموا وعرفوا بعد الدراسة والتمحيص أن ذاك القانون ليس فيه مخالفة شرعية قبلوه . من أدلة ذلك ما ذكره الشيخ صالح الحصين عنهم في قضية النظام القضائي حيث قال :  " نظام القضاء في المملكة هو نفسه يرجع في مصدره التاريخي إلى الفقه الغربي وقد اقتبس من بعض التقنينات العربية المقتبسة بدورها من التقنينات الأوروبية . وقبل صدور هذا النظام عرض على هيئة كبار العلماء للمناقشة ، وكان عرضه على الهيئة مسبوقاً في أذهان عدد كبير من الأعضاء بجريدة طويلة دوّنها أحد العلماء من خارج المجلس تنتقد النظام في الجملة , وتناقشه مادةً مادة حاكمةً على كثير من مواده بأنها مخالفة للشريعة أو غير موافقة لها . وقد درست الهيئة النظام وتداولت الرأي حوله مادةً مادة، وانتهت إلى الموافقة عليه دون تغيير عدا مادة واحدة جرى تعديلها صياغة وبقي مضمونها من دون تعديل " (2) .
بل إن قبولهم للأنظمة التي على شكل مواد، سابقٌ لهذه الحادثة التي ذكرها الشيخ , وهو قبولهم للتنظيم الأساسي للقضاء بالمملكة والذي صدر في سنة 1346هـ، يقول الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ :  " لقد جاء المرسوم الملكي الصادر في 4 صفر 1346هـ بخمسة فصول في أربع وعشرين مادة فقط، تضمنت ما يلي (3) :
 الفصل الأول : تشكيل المحاكم، ووظائفها .
الفصل الثاني : هيئة المراقبة العامة، واختصاصاتها .
الفصل الثالث : أحكام خاصة بالإسراع بالبت في القضايا ، وهي ما يعرف الآن بأصول وأحكام المرافعات .
الفصل الرابع : خاص بكتاب العدل .
الفصل الخامس : خاص بدوائر بيت المال .
مما يبين أن العلماء تبنوا هذا النظام المقنـَّن، بل أشار بعض الباحثين المختصين إلى أن جملة هذه النظم أنشئت تحت إشراف المشايخ والعلماء، فقد قال د.سعود الدريب في ترجمته للشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ : " ...لقد أدرك الملك عبد العزيز أن نجاح هذه الحركة  ـ حركة الإصلاح القضائي ـ يتوقف على اختيار الرجل القيادي الكفء لها ، والمعروف والمقبول في الوسط الاجتماعي في المملكة ، فاختار لها الرجل المعروف بعلمه وعدالته وتجاربه الناجحة [يعني الشيخ عبد الله بن حسن ، وذلك في عام 1346هـ]...وبعيد هذا الاختيار أصدر أول مرسوم في تاريخ القضاء في 4 صفر 1346هـ "  ، وهو النظام الذي ذكرتُه آنفاً ، ثم علّق د.الدريب على هذه المسيرة بقوله : " ... ومثل تركيز مسئوليات القضاء الشرعي سنة 1372هـ، ثم لسنة 1375هـ ، وأنظمة كتاب العدل لسنة 1346هـ ، وجملة هذه النظم من اقتراح وإعداد رئاسة القضاة بإشراف وتوجيه الرئيس الشيخ عبد الله بن حسن "  (4) .
وتدل إشارة الدكتور سعود الدريب إلى (جملة هذه النظم والقضايا) على أن نشوء هذه الأنظمة والتراتيب ـ قانون القضاء ـ كانت موجودة سابقاً. والمعروف تاريخياً أن جملة هذه الأنظمة كانت موجودة في النظام العثماني في الحجاز، والذي أخذ بدوره من النظام الأوروبي.
ومرةً أخرى هنا، يقبل العلماء النظام (القانون) ، ما دام لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية . ومما يوضح هذه القضية أكثر أن العلماء لما قبلوا هذا النظام ثم بعد ذلك تبين لهم أنه يشتمل على بعض المخالفات الشرعية كالمتضمنة في (نظام المرافعات) ، سعوا إلى إلغائها لدى ولي العهد ، كما في نص الأمر الصادر من حضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد المعظم الأمير سعود بن عبد العزيز، برقم 109 في 24-1-1372هـ بالموافقة على هذه التعليمات وتنفيذها (أي النظام القضائي) ، وهذا نصه:    " ...وبعد ، فتسهيلاً لأعمال القضاء والمحاكم الشرعية في البلاد ، فقد أعدنا النظر في النظم السابقة المعمول بها في رئاسة القضاء وفي المحاكم والإدارات الشرعية ، فرأينا ضرورة إلغاء نظام المرافعات السابق ، رغبة منا في تنفيذ الأحكام الشرعية حسبما يأمر به الشرع ، بدون [تغيير] (5) أو تأخير أو تبديل ، وإبداله بتعليمات إدارية من شأنها تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية..." (6) .
 
2. من أقوال العلماء في السعودية والذي يتضح منه التفصيل في حال القوانين وأن ذات القانون ليس عليه مآخذ ؛ إنما الملاحظة على مضمونه . يقول الشيخ محمد ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :  " أما موضوع القوانين، فالقوانين يجب قبول الحق الذي فيها ؛ لأن قبول الحق واجب على كل إنسان ، حتى لو جاء بها أكفر الناس ، فقد قال الله عز وجل : )وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها(  ، فقال الله تعالى : )إن الله لا يأمر بالفحشاء ( [الأعراف:28]. وسكت عن قولهم : (وجدنا عليها آباءنا) ؛ لأنها حق ، فإذا كان تعالى قَبِِِِـِل كلمة الحق من المشركين فهذا دليل على أن كلمة الحق تقبل من كل واحد، وكذلك في قصة الشيطان لما قال لأبي هريرة : " إنك إذا قرأت آية الكرسي لمْ يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك الشيطان حتى تصبح " قبل ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (7) ، وكذلك اليهودي الذي قال : " إنا نجد في التوراة أن الله جعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ـ وذكر الحديث ـ فضحك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بدت أنيابه أو نواجذه ؛ تصديقاً لقوله ، وقرأ:  ) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضتُه يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ( [الزمر: 67]  (8).
فالحق الذي في القوانين ـ وإن كان من وضع البشر ـ مقبول ، لا لأنه قول فلان وفلان أو وضع فلان وفلان ، ولكنه لأنه حق .
وأما ما فيه من خطأ ، فهذا يمكن تعديله باجتماع أهل الحل [والعقد](9) والعلماء والوجهاء ، ودراسة القوانين ، فيُرفض ما خالف الحق ، ويُقبل ما يوافق الحق)(10).
2. يقول الأستاذ القاسم : " كيف نحرم تعليم القانون ؟  مثلاً : لم يفتح قسم للقانون في جامعة الإمام على سبيل المثال إلا منذ عشر سنوات أو خمسة عشر سنة ، ولم يفتح بهذا الاسم باسم آخر اسمه " السياسة الشرعية " لكن تدرس فيه القوانين ، كما هي في فرنسا وغير فرنسا ، لماذا لا نطرح هذه القضية بوضوح ونعالج هذه القضايا . ونفرق بين القانون المحرم والقانون المشروع ؟ "
هذه الفقرة فيها عدة أمور نتوقف عندها :
 1-  قضية (أن العلماء حرموا تعليم القانون) ، هنا أيضاً ؛ القاسم يعمم الحكم فيخطئ في حكمه على تاريخ العلماء مع تعليم القانون ولا يفصِّل ، ولا أدري سبب   ذلك ؟ وهل هو عدم فهمه للفتوى في هذه القضية مع وضوحها جداً؟ أم أنه اعتمد على مغالطات آخرين ، استُلت من أدبيات الحرب الإعلامية والمغرضة على الدولة السعودية وحكامها وعلمائها ومنهجها منذ نشأت من مدعي الحضارة والتحضر والتقدمية ؟ زعموا (وبئس مطية الرجل زعموا) كما في الحديث . وقد لخص الشيخ الأديب علي الطنطاوي ـ  رحمه الله ـ  هذا الانبهار وحال المنبهرين والذي كنا نتوقع أنهم اندثروا وتقلص انبهارهم  بعدما تكشفت الأمور واتضحت الحقائق وانجلى الغبار والذي بيّن أن التقدميين لا يمتطون فرساً كما أوهموا العامة بل يمتطون أتاناً. يقول الشيخ علي الطنطاوي : " كثيراً ما كنت أناقش أناساً من المجددين فأذكر لهم كلمة خالدة لأحد عظماء الشرق فيقلبون شفاههم ويجعدون جباههم ويعرضون عنها ازدراءً لها !  "فأذكر لهم الكلمة" مثلها وفي معناها العام "الإفرنجي" فيسمعون ويخضعون ويهزون رؤوسهم إكباراً لها وإعجاباً بها ! وأنقل القاعدة الشرعية عن فقيه من فقهائنا فيأبونها ، فإن نقلت هذه القاعدة عن فقيه إفرنجي قبلوها ! ، ويحقرون العادة من عاداتنا ، فإن علموا أن شعباً من شعوب أوروبا الراقية أو أمريكا قد اعتادها " عظّموها ! " كأن الخير لا يكون خيراً لذاته إلا "بالماركة الإفرنجية" ، والشر لا يكون شراً لذاته بل بالطابع الشرقي عليه " .
نرجع إلى قضيتنا فنقول : إن العلماء لم يحرموا تعلم القانون أو تعليمه أو تدريسه أو دراسته , بل المحرم في فتاواهم  والممنوع هو تفضيلها على الشريعة أو الحكم بها , وإليك بيان ذلك من فتاواهم:
" من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ أحمد بن ناصر بن غنيم زاده الله من العلم والإيمان وجعله مباركاً أينما كان , آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد : فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 3/5/1397هـ وصلكم الله بهداه , ولم يقدر الله اطلاعي عليه إلا منذ خمسة أيام أو ستة ، وقد فهمت ما تضمنه السؤال عن حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها , هل يكفر بذلك أو يفسق ؟ وهل تصح الصلاة خلفه ؟
والجواب: لا ريب أن الله أوجب على عباده الحكم بشريعته والتحاكم إليها ، وحذر من التحاكم إلى غيرها، وأخبر أنه من صفة المنافقين كما أخبر أن كل حكم سوى حكمه سبحانه فهو حكم الجاهلية ، وبيّن عز وجل أنه لا أحسن من حكمه ، وأقسم عز وجل أن العباد لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من حكمه ، بل يسلموا له تسليما ً، كما أخبر سبحانه في سورة المائدة أن الحكم بغير ما أُنزل كفر وظلم وفسق ، كل هذه الأمور التي ذكرنا قد أوضح الله أدلتها في كتابه الكريم ، أما الدارسون للقوانين والقائمون بتدريسها فهم أقسام :
(القسم الأول) : من درسها أو تولى تدريسها ليعرف حقيقتها , أو ليعرف فضل أحكام الشريعة عليها ، أو ليستفيد منها فيما لا يخالف الشرع المطهر ، أو ليفيد غيره في ذلك فهذا لا حرج عليه فيما يظهر لي من الشرع ، بل قد يكون مأجوراً ومشكوراً إذا أراد بيان عيوبها , وإظهار فضل أحكام الشريعة عليها ، والصلاة خلف هذا القسم لا شك في صحتها ، وأصحاب هذا القسم حكمهم حكم من درس أحكام الربا وأنواع الخمر وأنواع القمار ونحوها كالعقائد الفاسدة ، أو تولى تدريسها ليعرفها ويعرف حكم الله فيها ويفيد غيره ، مع إيمانه بتحريمها كإيمان القسم السابق بتحريم الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشرع الله عز وجل ،  وليس حكمه حكم من تعلم السحر أو علمه غيره ؛ لأن السحر محرم لذاته لما فيه من الشرك وعبادة الجن من دون الله فالذي يتعلمه أو يعلمه غيره لا يتوصل إليه إلا بذلك ؛ أي بالشرك بخلاف من يتعلم القوانين ويعلمها غيره لا للحكم بها ولا باعتقاد حلها ؛ ولكن لغرض مباح أو شرعي كما تقدم .
( القسم الثاني ) : من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها أو ليعين غيره على ذلك , مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله ، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك , فأصحاب هذا القسم ـ لا شك ـ  فساق , وفيهم كفر وظلم وفسق , لكنه كفر أصغر وظلم أصغر وفسق أصغر لا يخرجون به من دائرة الإسلام ، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم ، وذكر معناه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب (الصلاة) ، وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله رسالة جيدة في هذه المسألة مطبوعة في المجلد الثالث من مجموعة ( الرسائل الأولى ) .
ولا شك أن أصحاب هذا القسم على خطر عظيم ويخشى عليهم من الوقوع في الردة ، أما صحة الصلاة خلفهم وأمثالهم من الفساق ،  ففيها خلاف مشهور، والأظهر من الأدلة الشرعية صحتها خلف جميع الفساق الذين لم يصل فسقهم إلى حد الكفر الأكبر ، وهو قول جم غفير من أهل العلم واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
والمعلمون للنظم الوضعية والمتعلمون لها يشبهون من يتعلمون أنواع الربا وأنواع الخمر والقمار أو يعلمونها غيرهم لشهوة في أنفسهم أو لطمع في المال مع أنهم لا يستحلون ذلك ، بل يعلمون أن المعاملات الربوية كلها حرام ، كما يعلمون أن شرب المسكر حرام والمقامرة حرام ، ولكن لضعف إيمانهم وغلبة الهوى أو الطمع في المال ، لم يمنعهم اعتقادهم التحريم من مباشرة هذه المنكرات وهم عند أهل السنة لا يكفرون بتعاطيهم ما ذكر ما داموا لا يستحلون ذلك , كما سبق بيان ذلك .
( القسم الثالث ) : من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها مستحلاً للحكم بها سواء اعتقد أن الشريعة أفضل أم لم يعتقد ذلك , فهذا القسم كافر بإجماع المسلمين كفرًا أكبر ؛ لأنه باستحلاله الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله يكون مستحلاً لما علم من الدين بل بالضرورة أنه محرم , فيكون في حكم من استحل الزنا والخمر ونحوهما ، ولأنه بهذا الاستحلال يكون قد كذب الله ورسوله وعاند الكتاب والسنة ، وقد أجمع علماء الإسلام على كفر من استحل ما حرمه الله أو حرم ما أحله الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة ، ومن تأمل كلام العلماء في جميع المذاهب الأربعة في باب حكم المرتد اتضح له ما ذكرنا .
ولا شك أن الطلبة الذين يدرسون بعض القوانين الوضعية أو المدخل إليها في معهد القضاء أو في معهد الإدارة لا يقصدون بذلك أن يحكموا بما خالف شرع الله منها ، وإنما أرادوا أو أريد منهم أن يعرفوها ويقارنوا بينها وبين أحكام الشريعة الإسلامية ؛ ليعرفوا بذلك فضل أحكام الشريعة على أحكام القوانين الوضعية ، وقد يستفيدون من هذه الدراسة فوائد أخرى تعينهم على المزيد من التفقه في الشريعة والاطمئنان إلى عدالتها .
ولو فرضنا أنه قد يوجد من بينهم من يقصد بتعلمها الحكم بها بدلاً من الشريعة الإسلامية ويستبيح ذلك ، لم يجز أن يحكم على الباقين بحكمه؟ لأن الله سبحانه يقول : ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (  ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يجني جان إلا على نفسه ".
وبما ذكرنا يتضح لفضيلتكم أن القدح في إمامة الطلبة المذكورين والحكم بعدم صحة الصلاة خلفهم أمر لا تقره الشريعة ، ولا يقره أهل العلم ، وليس له أصل يرجع إليه ، وأرجو أن يكون ما ذكرته مزيلاً لما وقع في نفس فضيلتكم من الشك في أمر الطلبة المذكورين في القسم الأول ، أو تفسيقهم أو تكفيرهم ، أما القسم الثاني فإنه لا شك في فسقهم ، وأما القسم الثالث فإنه لا شك في كفر أهله وعدم صحة الصلاة   خلفهم .
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه ، وأن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن مضلات الفتن إنه سميع قريب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " (11) .

 2. يقول الأستاذ القاسم: " لم يفتح قسم للقانون في جامعة الإمام مثلاً وعلى سبيل المثال إلا منذ عشر سنوات أو خمس عشرة سنة" .
 التاريخ يبيّن خطأ هذا التاريخ فإذا كان الشيخ عبد العزيز ابن باز أصدر فتواه السابقة والتي يبارك فيها أقسام القانون التي في جامعة الإمام في معهد القضاء ومعهد الإدارة في 3/5/1397 فهذا يدل على أن القاسم بعيد عن مسيرة دراسة القانون في السعودية وموقف علمائها منه ، وغير مدرك نشأة وتاريخ هذه الأقسام التي تدرس القانون مع أنه تخرج من الجامعة نفسها التي أُنشئ فيها ذاك القسم (*).

3. قول الأستاذ القاسم : " قضية التشريع على سبيل المثال لا يمكن أن تقول للناس : القوانين حرام وتترك الناس في فوضى في تعاملاتهم ، وإذا تقدمت بوضع هذه الأنظمة محترماً أصول الشريعة لا يمكن أن تكون الشريعة هي ترك الناس فوضى " .
هل بالفعل كان الناس في فوضى من تعاملاتهم ؟ فالذي يظهر لي أن هذا فيه تضخيم كبير للحالة التي كان عليها الناس ، بل كان الناس على تعاملات مأخوذة من الشرع ، وعرف وعادة لا تخالفان الشرع.
     ولا أظن القاسم يخالف بأن هذين الأمرين استوعبا تعاملات الناس وتصرفاتهم في بداية تكوين الدولة السعودية الحديثة , وهذه الحالة من تكريس الاعتماد على هذين الأمرين المصدرين لها ظرفها الاجتماعي والتاريخي فليس هناك فوضى أو ما يسمّى في عرف القانونيين " الفراغ الفقهي " الكبير والواضح . ومرةً ثانيةً لا أظن القاسم يشك بأن هذين المصدرين كانا مضامين معترفًا بهما شرعاً , وقانوناً أيضاً ؛ فهما بمثابة النظاميْن أو القانونيْن ينظمان تعاملات الناس .
فالشيخ صالح الحصين ـ الذي جمع بين العلم الشرعي والمعرفة القانونية ـ في بحثه في القانون الإداري صنف مصادر القانون إلى : 1 – العرف .      2 – الدين . فتحت المصدر الأول ، ألا وهو (العرف) يقول: " توجد بعض العادات الاجتماعية التي يتعارف أفراد المجتمع على احترامها، وقد تصل هذه العادات إلى درجة من السيطرة والاستقرار والثبات في ضمير المجتمع إلى درجة أن تفرض السلطة العليا في المجتمع احترامها على الكافة بوسائل القوة التنفيذية ، وحينئذ يصبح العرف أو العادة مصدراً من مصادر القواعد القانونية وتصبح هذه القواعد التي أنشأها العرف وثبتها واجبة الطاعة على الكافة تحكم شؤونها ويلزمها الانصياع لها .
وقد نصت بعض التشريعات على وجوب تطبيق القواعد العرفية إذا لم يوجد نص تشريعي خاص بالحالة موضوع التطبيق ؛ ومن بين هذه التشريعات تشريعات البلاد العربية ( مصر ـ العراق ـ سوريا ـ ليبيا ) , حيث تنص قوانين هذه البلاد المدنية في المادة الأولى منها على وجوب تحكيم القواعد العرفية عند عدم النص على قواعد خاصة بالحالات موضوع للتطبيق.
وللقواعد العرفية مجال كبير في النظام السعودي ، حيث قضت الظروف التاريخية والاجتماعية لعدم الوصول بالتشريع أو وضع القوانين إلى درجة تماثل حالة التشريع في البلاد الأخرى والقواعد العرفية في النظام السعودي تكسب مجالها الواسع باعتراف الشريعة الإسلامية بها كقواعد منظمة للسلوك الاجتماعي وكلنا يعرف القاعدة الشرعية التي تقول: " إن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ".
إن العرف قد أدى دوراً أكبر كمصدر للقواعد القانونية وقديماً كان هو المصدر الأعظم لهذه القواعد ، ولكن المدنية بتقدمها وتقدم حركة التشريع أو التنظيم قد ساعدت على تحديد مجال العرف كمصدر للقواعد القانونية , وحلت محلها مصادر أكبر أهمية " .
 وتحت عنوان (الدين) ، يقول الشيخ الحصين : " وفي بعض البلاد يسود الشعور الديني ضمائر أفراد المجتمع ، وقد يكون الدين كالدين الإسلامي يعنى بتنظيم السلوك الاجتماعي تنظيماً تفصيلياً ، وتختلط أحياناً السلطة المدنية بالسلطة الزمنية , فتصبح القواعد التي ينشئها الدين , وينظم الدين بها علاقات المجتمع قواعد لا تجد احترامها في الشعور الذاتي لأفراد المجتمع فحسب , بل تجد احترامها بواسطة السلطة العليا المنظمة في المجتمع والتي تفرض بالقوة المادية طاعة تلك القواعد على كافة أفراد المجتمع . والقانون أو النظام السعودي من بين القوانين والأنظمة القليلة في المجتمع المتدين التي يمثل فيها الدين أعظم الأهمية كمصدر من مصادر القانون , بل إن المفروض , إن لم تكن القواعد القانونية السائدة في المجتمع السعودي مستمدة من الدين مباشرة ، أن تكون على الأقل غير معارضة لقواعده وروحه. بل إن بعض هذه القواعد قد تدخل (التشريع) فصاغها في قوانين مكتوبة , ومن أمثال هذه القواعد قانون أو نظام الزكاة " (12) .
فعلى هذا نقول للأستاذ القاسم: إذا تبين أن العرف من أكثر مصادر القانون والنظم كما في تشريعات بعض البلاد العربية ، فهذا يدل على أن تعاملات الناس في السعودية لم تكن فوضى ، بل كانت تسير وفق قانون اسمه (العرف) ، وكما ذكر الشيخ صالح الحصين فإن اعتماد هذا المصدر في الحالة أو النظام السعودي أكبر وأكثر من غيرها من الحالات والنظم الأخرى، فضلاً عن كون هذا المصدر قد اكتسب رسوخاً بسبب اعتراف الشريعة الإسلامية به مصدراً للتنظيم كما في القاعدة الشرعية : (إن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) ؛ ولهذا أصدر الملك عبد العزيز - رحمه الله – أمره باعتماد هذا الأمر وإمضائه كما في النص التالي: " صدرت الإرادة السنية رقم (5)/9/2 في 13/7/1353هـ ، وما لحقها برقم (5)/9/4 في 26/7/1353هـ الأحكام التي تتعلق بالمساقاة وإجارة النخيل والمسائل الإرثية والأوقاف يحكم فيها على مذهب أهل البلد التي فيها الدعوى ، سواء كانوا أحنافاً أو شوافع أو غيرهم) ، وعلق الدكتور سعود الدريب ـ وهو المختص في هذا المجال ـ  في تأكيد هذا الأمر حيث قال : " وهذا موافقة للقاعدة الشرعية أن العادة محكمة ، وأن المعروف عرفاً كالمشروط  شرطاً " (13) .
أما من الجانب الديني ومما يدل على أن الناس لم يكونوا في فوضى في تعاملاتهم من جهة التشريع , وأن لهم نظاماً يحكم بينهم ويسيرون عليه في تعاملاتهم ويتحاكمون إليه , وأن لديهم قانوناً يلتزمون به في التقاضي والقضاء بينهم . يقول الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ رحمه الله في استعراض مسيرة حركة الإصلاح القضائي:  " وأما الجانب الفقهي: فيتمثل بالقرار الصادر من هيئة المراقبة القضائية ، برقم (3) وتاريخ (7/1/1347هـ) المقترن بالتصديق العالي بتاريخ (24/3/1347هـ) بالصيغة الآتية:
أ‌-  أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم، منطبقاً على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ نظراً لسهولة مراجعة كتبه، والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
ب‌-    إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور، ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم: يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذُكر.
ويكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، على الكتب الآتية:
أ‌-      شرح المنتهى.
ب- شرح الإقناع.
فما اتفقا عليه أو انفرد به أحدهما، فهو المتبع. وما اختلفا فيه، فالعمل بما في المنتهى. فإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران ، وإذا لم يجد القاضي نصَّ القضية في الشروح المذكورة ، طلب نصَّها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها وقضى بالراجح (14) .
 
ثانياً: المنطق المعكوس:
المنطق المعكوس في كلام الأستاذ القاسم هو قوله :  " قضية التشريع على سبيل المثال لا يمكن أن تقول للناس: القوانين حرام وتترك الناس في فوضى في تعاملاتهم، وإذا تقدمت بوضع هذه الأنظمة محترماً أصول الشريعة لا يمكن أن تكون الشريعة هي ترك الناس فوضى " .
يفهم من هذا الكلام الدعوة إلى جلب القوانين لكن بشرط حذف ما يخالف الشريعة فيها وتطعيمها بالفقه الإسلامي، وهو الذي يفهم من قوله : " احترام أصول الشريعة " ، وما أعرفه أن هذه الطريقة كانت مرحلة من المراحل التي مرت بالبلدان الإسلامية ، وهو مرحلة الاستعمار والوصاية ، أو في زمن الزحف القوي لإلغاء الشريعة , وإحلال القوانين الأوربية , فكان هناك من يريد أن يقوم بعملية (فرملة) لهذا الزحف القوي واحتواء الموقف، عن طريق القبول بالقوانين الغربية، والرضوخ للمرجعيـة الأوربيـة لكن بشرط احترام أصول الشريعـة الإسـلاميـة وثوابتها ، لكن هنـاك من اعتذر لهؤلاء بأنهم يعيشون مرحلة الزحف القوي ، وزمن إزاحة الشريعة بالكلية ، فمن أولئك المعتذرين كان الدكتور عبد الرزاق السنهوري وتلميذه الدكتور توفيق الشاوي ، إذ قال الأخير عن الأول في كتابه ( سيادة الشريعة الإسلامية في مصر ) : "...فرغم أنه كان في ميدان التنفيذ العملي من الذين اتبعوا أسلوب التدرج والاعتدال ومراعاة مقتضيات الظروف التي تحيط بالعالم الإسلامي. فإنه عندما يكتب أو يؤلف كان يدافع عن سيادة مبادئ الشريعة ووجوب الالتزام بها التزاماً كاملاً شاملاً في جميع بلاد المسلمين " ، وفي موضع آخر يقول: " وكل الذين يدعون لتطبيق الشريعة تطبيقاً كاملاً فورياً لا يقولون أكثر مما قاله السنهوري في مجال الفقه والدراسة. أما في مجال العمل والتنفيذ فإن السنهوري كان يعمل ما يستطيع عمله في الظروف القائمة، ولذلك اضطر إلى العمل التدريجي وسار في خطة الاعتدال، دون أن يتنكر لمبدأ وجوب الالتزام بالشريعة التزاماً كاملاً عندما يكون ممكناً، إنه يقر بوجود قوى خارجية تعترض على التطبيق الفوري للشريعة، ولم ينكر ذلك أو يتستر عليه، كما يفعل أدعياء الاعتدال والتدرج في الوقت الحاضر، الذين يتصدون لإخفاء واقع التدخل الأجنبي وينكرون وجود ضغوط خارجية وينسبون لأنفسهم ما يدعيه الاستعمار من تجريح للشريعة ونقد لأحكامها لكي يهدئوا من غضبة الشعوب على التدخل الأجنبي، وهم بذلك إنما يتصدون لحماية ذلك التدخل بإخفائه عن أعين الشعوب " (15).
ويقول الشاوي في معرض حديثه عن موقف السنهوري من القوانين المدنية التي كتبها للدول العربية مثل مصر والعراق والكويت وغيرها : " كان يعتبرها تشريعـات مرحليـة مؤقتة يجـب تجاوزها إلى التطبيـق الكامـل للشريعـة  الإسلامية "(16).
ويؤكد مسألة الضغوط الخارجية للحيلولة دون تطبيق الشريعة تعليق الشاوي على كلام للدكتور جمال الدين محمود (نائب رئيس محكمة النقض) ـ في مقال له بالأهرام ـ عن الحقبة التي كتب فيها د.عبد الرزاق السنهوري القانون المدني لمصر في عام 1937م ، قال جمال الدين:  " وكان مستشار محكمة النقض ولفيف من أساتذة الأزهر قد طالبوا بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية في إعداد القانون لاتصالها بشعور الأمة ودقتها الفنية ، ثم إنها ـ على حد قولهم ـ أقرب الشرائع إلى "القانون الفرنسي" الذي استوردت منه نصوص القانون المدني المختلط والأهلي على السواء " (17) ، ويعقب الشاوي على ما سبق قائلاً: " هذه العبارة تدل على أن هؤلاء المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية كانوا في منتهى الحذر خشية أن يثيروا القوى الأجنبية على مصر بحجة أنها ابتعدت عن التشريع "العصري"، فأكدوا لها أن شريعتنا هي أقرب الشرائع إلى القانون الفرنسي"  (18).
وممن يفهم منه الاعتذار لعبد الرزاق السنهوري ، الشيخ صالح الحصين حفظه الله، إذ رد في رسالة على سؤال حول حقيقة توجهات السنهوري ، وهل كان يريد نقل القوانين الغربية إلى العالم الإسلامي ؟ فأجاب: "...من الصعب الإخبار عن القصود والنوايا. ما أعرفه عن الدكتور عبد الرزاق السنهوري      - غفر الله له - من محاضراته وكتبه وحلقات البحث التي كان يعقدها ويحضرها بضعة أشخاص كنت أحدهم أنه بعد دراسته للفقه الإسلامي دراسة واسعة وإدراكه ـ كما كان يقول دائماً ـ أن الفقه الإسلامي منظوراً إليه صناعةً بشريةً ، سبق ما انتهى إليه علم القانون المعاصر في عدة نظريات فقهية ، على سبيل المثال نظريتا تحول العقد وانتقاص العقد اللتان توصل إليهما الفقه الجرماني حديثاً ، وأنه لا يزال سابقاً في بعض النظريات المتصلة بالعقد ، عندما كتب التقنين المدني المصري أفاد كثيراً من الفقه الإسلامي، وفي كتابته للتقنين المدني العراقي أفاد أكثر ، وعندما طلبت منه دولة عربية بعد ذلك كتابة قانون مدني، أشار عليها باعتماد مجلة الأحكام (العثمانية) ؛ إذ كان يرى أن يكون لدول الجامعة العربية تقنين مدني واحد يكون مرتكزاً على الفقه الإسلامي ، ولكنه يرى أن يسبق ذلك دراسات وبحوث كافية لتحقيق هذه الغاية " (19) .
       ويذكر طارق البشري عن سيرة السنهوري: " كان الرجل منذ أوائل الثلاثينيات ـ مع دعوته للاستقلال القانوني والفقهي عن الغرب، حسبما سلفت الإشارة إليه من كتابته في عام 1934م ـ يشير إلى ما ينطوي عليه فقه الشريعة من إمكانات كبيرة ومن مرونة وقابلية للتطور. وإن هذا المورد هو أحد عناصر مشروعه للقانون المستقل. وقد ذكر هذا المعنى بعد ذلك في مجلة القضاء العراقية في آذار/مارس عام 1936م. ومما قاله : " ففي هذه الشريعة ، عناصر لو تولتها يد الصياغة فأحسنت صياغتها ، لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي والشمول ، وفي مسايرة التطور ، عن أخطر النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث "  ويتابع البشري في موضع آخر: " وخرج من هذه المرحلة يقول عن الفقه الإسلامي: إنه " لا تقل عراقته في ذلك عن عراقة القانون الروماني، وهو لا يقل عنه في دقة منطقه وفي متانة الصياغة وفي القابلية للتطور. وهو مثله صالح لأن يكون قانوناً عالمياً، بل كان بالفعل قانوناً عالمياً...هذه هي عقيدتي في الفقه الإسلامي، تكونت لا من العاطفة والشعور فحسب، بل تضافر في تكوينها الشعور والعقل، ومكن لها شيء من الدرس، وأكثر ما كان درساً للفقه الإسلامي عند وضع القانون المدني العراقي...فأتاح لي اطلاعي على نصوص الفقه الإسلامي ـ سواء كانت مقننة في "المجلة" ومرشد الحيران، أو كانت معروضة عرضاً فقهياً في أمهات الكتب، وفي مختلف المذاهب ـ أن ألحظ مكانة هذا الفقه وحظه من الأصالة والابتداع وما يكمن فيه من حيوية وقابلية للتطور..." (20) .
ويؤيد البشري في ذلك ما نقله الدكتور محمد عمارة في كتابه ( الإسلام والتحديات المعاصرة ) من قول للسنهوري يحذر فيه من " التمويه " في أسلمة القوانين ؛ إذ يأخذ قوم نصوص القوانين ، ثم يحاولون تخريجها على أحكام الفقه الإسلامي مدعين أن الأسلمة هي في عدم التعارض ، بينما الأسلمة تعني الاستقلال الفقهي والقانوني في الفلسفة والمنطق التشريعي وفي الصياغة وأسلوب التقنين .. فالشريعة الإسلامية وفقه معاملاتها منظومة قانونية مستقلة وليست مجرد كائن "هجين" , وفي هذا التحذير قال الإمام الفقيه في الشريعة والقانون الحديث : " إننا إذا اعتبرنا الغاية من تطوير الفقه الإسلامي هي محاكاة القوانين الغربية لا نكون قد صنعنا شيئاً , ويكون الأولى لنا أن نقتبس مباشرة من القوانين الغربية . أقول ذلك لأنني لاحظت أن بعض المشتغلين بهذه المسألة يقتصرون على إيراد نصوص من القوانين ثم يحاولون أن يخرجوا هذه النصوص على أحكام الفقه الإسلامي دون أن يراعوا في ذلك أصول الصناعة في هذا الفقه ثم ينتهون من هذا البحث السطحي إلى أن نصوص القوانين الغربية هي الشريعة الإسلامية ذاتها مثل هذا العمل لا يحمل طابع البحث العلمي الصحيح وليس من ورائه كسب يذكر لا للفقه الإسلامي ولا للقوانين الغربية ، وهو عمل سهل ولكن نفعه ضئيل محدود وبحسبي أن أقرر : أن نظرية الفقه الإسلامي لا تقل في الدقة والتدرج المنطقي وحسن الصيغة وقوة الصنعة عن نظرية القوانين  الغربية ؛ فالهدف يجب أن يكون قانون واحد يشتق رأساً من الشريعة الإسلامية " .(21)
 
ويقول البشري في موضع آخر: (وفي عام (1934م)، كتب السنهوري يدعو لتمصير القانون. قال: "علينا أولاً أن نمصر الفقه ، فنجعله فقهاً مصرياً خالصاً ، نرى فيه طابع قوميتنا ، ونحس أثر عقليتنا , ففقهنا حتى اليوم لا يزال هو أيضاً ، يحتله الأجنبي. والاحتلال هنا فرنسي ، وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا بأقل عنتاً من أي احتلال آخر. ولا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي المرشد ، لا يكاد يتزحزح عن أفقه أو ينحرف عن مسراه ، فهو ظله اللاصق وتابعه الأمين...". وذكر أن أهم الوسائل لذلك، العناية بالشريعة الإسلامية، "شريعة الشرق ووحي إلهامه وعصارة أذهان مفكريه، نبتت في صحرائه وترعرعت في سهوله ووديانه...لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها، لكان لنا من هذا التراث الجليل ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وقضائنا وفي تشريعنا..." (22) .
ويذكر الباقوري في مذكراته لمّا بث بعض المستغربين مزاعم حول القضاء الشرعي بأنه غريب ووافد على مصر، وألغيت حينها المحاكم الشرعية ، دعا هذا الأمر الشيخ محمود شلتوت، والدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى إعمال الفكر مع كبار الأزهريين لإنشاء معهد للفقه الإسلامي يتناول التشريعات التي تساير روح العصر، ولا تناقض أحكام الشريعة (23)(*).
ويستأنس أيضاً في تأييد ما سبق من حقيقة توجهات السنهوري ما ذكره جميل الحجيلان حول لقائه بالسنهوري في قصة تستحق السرد بكاملها، يقول الحجيلان: (في امتحان السنة النهائية لكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، كان نصيبي أن أؤدي الامتحان الشفوي في القانون المدني أمام الدكتور عبد الرزاق السنهوري، والسيد سليمان حافظ رئيس مجلس الدولة آنذاك ، كان ذلك في شهر مايو 1950م ، ما أزال أذكر صوته الجهوري وقسمات وجهه الخشنة المطلة من رأسه الكبير ، وأنا وزملائي الثلاثة الآخرون ماثلون أمامهم , مسكونون بخوف شديد ، استوقفه اسمي "الحجيلان" فسألني دون مقدمات : هل أنت سعودي ؟ قلت: نعم. قال، بكل جارحة صارمة جادة في وجهه : " لو كنتُ ابن سعود لقطعت رأسك.!". سألته ، وقد أغرقتني المفاجأة في مزيد من الارتباك: لماذا يُقطع رأسي يا سيدي ؟ قال : ما هذا العبث الذي أتيت فيه ! أمضيت أربعة أعوام تدرس القوانين الوضعية لتعود لبلد يحكم بالشريعة الإسلامية..وبذلك تكون عبئاً على وطنك..!
لا أذكر بماذا تمتم به الطالب ابن العشرين ، فقد تجاوز الموقف قدراتي على المواجهة والاستيعاب. وجه إلي سؤالاً أجبت عليه باقتدار. ودار بأسئلته على الآخرين. استعصى سؤاله على زميلة كانت معنا. قال: هذا لك أتجيبين عليه أم أحوّله للسعودي؟ فقالت ـ والذاكرة لا تنسى أمراً كهذا ـ: اسأله فلن يستطيع الإجابة عليه. وكان أن أجبت عليه أيضاً باقتدار فقال لي العالم الكبير: برضه لو كنت ابن سعود لقطعت رأسك. قلت: لماذا يا معالي الباشا أنت مصر على قطع رأسي؟ فأجاب بضحكة مجلجلة: لأنك طالب نجيب " (24) .
وليس القصد من هذه النقولات الاعتذار للسنهوري أو تبيين منهجه في صناعة القوانين أو قصده فيها ، لكن القصد ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن نعرف أن رجلاً بهذه القوة في مجالي الفقه والقانون ؛ نراه يحاول أن يوضح عذره في وضع القوانين الأوربية ومزجها بالفقه الإسلامي ، ونراه يحاول أن يجعل المرجعية للشريعة الإسلامية ويحاول أن تكون الدساتير العربية مستقلة عن الدساتير الغربية الوضعية ، منبعثة من الثقافة العربية ، الشرقية ، الإسلامية ، وجميع هذه المحاولات تصب في محاولة قطع الطريق على الزحف القانوني الأوربي القائم على تنحية الشريعة بالكامل , وقطع الطريق على ما يسمى أسلمة القوانين الغربية وإقصاء القضاء والنظام الإسلاميين.
الأمر الثاني : ثناؤه على الفقه الإسلامي وعلى سبق فقهاء الإسلام لكثير من النظريات الفقهية.
الأمر الثالث : أن المستفاد من هذه النقولات أن السنهوري يصر ويتمنى تطبيق الشريعة بالكامل، لكن ـ بعد عدة خطوات ـ كما في إفادته من الفقه الإسلامي في القانون المدني المصري، ثم إفادته الأكثر في وضع القانون المدني العراقي. فمن خلال هذه الأمور نستطيع ـ على منهج المعتذرين ـ أن نقول إن السنهوري كان يحاول في زمن زحف القانون الأوربي القوي الشرس استيعابها ، ثم في مرحلة أخرى الزحف عليها ـ في مرحلة التدرج ـ بالفقه الإسلامي ونظريات فقهاء الإسلام ، لكن بعد استخراجها ووضعها في قوالب قانونية , كما في اهتمامه بإنشاء معهد للفقه الإسلامي ، ومجلة ومؤلفات تعنى بذلك.
فإذا فهمنا مشروع السنهوري في محاولته للزحف على القانونيين بالفقه الإسلامي جاز لنا أن نقول : إن المملكة العربية السعودية قد حققت أمنيته وغايته في تطبيق الشريعة الإسلامية ، وإن القوانين الوضعية لو أدخلت عليها لكانت عبئاً عليها كما قال للحجيلان ، فإذا فهمنا ذلك وعرفناه ؛ نستطيع أن نقول للأستاذ عبد العزيز القاسم : إن دعواك (وضع أنظمة محترماً أصول الشريعة)"منطق معكوس". فلو كنت في محل الحجيلان فماذا سيكون رد السنهوري عليك ؟! وإذا كان الحجيلان درس القوانين فقط ، فما بال من يدعو إلى استيرادها وتطبيقها ؟!
ومما يبين صحة نظرة  السنهوري لمنهج الحكومة السعودية ، وأنهم عند حسن ظنه تجاه القوانين الوضعية، ومما يوضح بعد نظره بأن الفقه الإسلامي أفضل ثمرة ، وأوفر من الناحية الإيجابية في السعودية: النقول التالية : الأول هو قول الملك فيصل رحمه الله: " إذا أردنا لأمتنا وشعوبنا الخير ، فإننا لسنا في حاجة لأن نستورد لأي بلد أو وطن أو أمة أية آراء أو أية عقائد ، أو أية قوانين من الخارج . بل العكس فإن تلك الأمم نفسها تستفيد من شريعتنا وقواعدنا.." (25) .
وكذلك قول كارل بروكلمان (المستشرق الألماني)، وكان يتحدث عن الملك عبد العزيز: " وطدت إدارته الأمن الذي لم تعرفه الجزيرة العربية من قرون ، وأزال ما كان يسمى حق القبيلة في حماية المجرم , والحيلولة دون إنزال العقاب به. وطبّق " القانون الجزائي " حسب تعاليم القرآن ، تطبيقاً كاملاً . وعلى الرغم من أن في تلك العقوبات ما قد يعتبر قاسياً (*) بالنسبة إلى مقاييسنا ، فقد جاءت النتائج باهرة ، هي انعدام الجرائم الخطيرة في شبه الجزيرة العربية انعداماً يكاد يكون تاماً " (26) .
كذلك قول الدكتور معروف الدواليبي : "  أنني أعلن أنه قد مضى علي في هذه البلاد سبع سنوات ولم أسمع ولم أشاهد قطع يد للسرقة ؛ وذلك لندرته . وهكذا لم يبق من هذه العقوبة إلا قساوة الحكم التي جعلت الناس جميعًا في أمن واستقرار, وحفظت على الراغب في السرقة سلامة يده , إذ منعته قساوة حكم العقوبة نفسها من الوقوع في الجريمة . وهكذا فإن هذه البلاد عندما كانت في ظل قانون العقوبات الفرنسي في عهد الدولة العثمانية ما كان يستطيع الحجاج السير في أمان على مالهم وأرواحهم ما بين المدينتين المقدستين : المدينة المنورة ومكة المكرمة , إلا في ظل حراسة قوية من الجيش , ولكن عندما انتقل الحكم في هذه البلاد إلى الدولة السعودية وأعلنت فيها شريعة القرآن اختفت الجريمة فورًا , وأصبح المسافر من الظهران على الخليج إلى جدة على البحر الأحمر , فضلاً عن السير فيما بين المدينتين المقدستين , يستطيع متابعة سفره وحده في سياراته الخاصة , وأن يخترق الصحراء ويجتاز أكثر من ألف وخمسمئة كيلو مترًا دون أن يخشى على نفسه أو على ماله ولو بلغ ماله ملايين الدولارات , ولو كان أجنبيًا عن البلاد " (27) .

تنبيه وتوضيح:
حتى لا يكون هناك تعارض ولا لبس بين دراسة العلماء في السعودية  وإقرارهم (مجلس هيئة كبار العلماء) نظاماً عربياً ـ غربياً كما في نظام القضاء ، كما حكى ذلك عنهم الشيخ صالح الحصين في بداية المقال ، وبين مشروع السنهوري وغيره من جلب القوانين الوضعية وإدخال بعض التعديلات عليها من الفقه الإسلامي ، نقول: الإجابة عن ذلك هو أن ممارسة العلماء ودراستهم للنظام القادم من الغرب وفي النهاية إقراره ، كانت منطلقة من سيـادة الشرع وعلى قاعـدة شريعـة الله ، وعلى خلفية ومرجعية إسلامية بخلاف الحالة الثانية ، فهي باعتراف القائمين عليها كانت منطلقة من سيادة القانون الوضعي ، وعلى قاعدة شريعة البشر ، وعلى خلفية ديانة مختلفة ومرجعية أوربية غربية ؛ فالقاعدة والمرجعية والمنطَلَق لها جميعاً  الأثر الكبير في الاستقلالية في وضع الأنظمة وفي التقاضي.
 يقول الشيخ صالح الحصين في المادة التي كتبها لمعهد الإدارة (القانون الإداري) : " والقانون أو النظام السعودي من بين القوانين والأنظمة القليلة في المجتمع المتدين التي يمثل فيها الدين أعظم الأهمية كمصدر من مصادر القانون ، بل إن المفروض إنْ لم تكن القواعد القانونية السائدة في المجتمع السعودي مستمدة من الدين مباشرة ، أن تكون على الأقل غير معارضة لقواعده وروحه " (28) .
ويقول أيضاً ، تعزيزاً لهذه الاستقلالية وعدم تقويم الأشياء تبعاً للثقافة الغربية ، في كلامه على التعزير بالجلد والتعزير بالسجن ، والفرق بينهما : " فإن ميل النظام القضائي لدينا إلى العدول عن التعزير بالجلد إلى التعزير بالسجن لا أجد له سبباً إلا غلبة الزخم الثقافي الغربي ، ولا ينبغي أن يؤسس تقويم الأشياء على التراث الثقافي لشعب ما (CULTURE) ، وإنما يؤسس على العقل والمنطق والتجارب العملية " (29) .
ومما يوضح الاستقلالية في النظر الفقهي وفي وضع الأنظمة وعدم النقل من القوانين الغربية ـ من دون حاجة لها أو لعدم موافقتها للشريعة ـ؛ وجود أنظمة احتيج إليها مؤخراً في المملكة العربية السعودية ؛  فقد أصدرت هيئة كبار العلماء نظام (الشرط الجزائي) بعد الحاجة لهذا الشرط ، فقامت الهيئة بدراسته وإقراره ، فجاء مشابهاً لما في القوانين الغربية.
يقول الشيخ صالح الحصين : " ظلت المحاكم تستعصي على قبول فكرة الشرط الجزائي في عقود المقاولات والتوريد ، مع شيوع هذا الشرط في التطبيق العملي ؛ الأمر الذي ينبئ عن وجود حاجة حقيقية لتضمين العقود هذا الشرط ،  وقد بحثت هيئة كبار العلماء الشرط الجزائي بحثاً متعمقاً ، واطلعت على دراسات مستفيضة حوله ، وتبين لها أن الحكم بعدم شرعية هذا الشرط في العقود ، ربما لا يتفق ـ في ضوء الظروف المتغيرة ـ مع روح العدل ، ولا يستجيب للمصلحة العامة ، فصدر قرارها متبنياً حكماً مشابهاً لحكم القاعدة القانونية المعروفة في التقنينات المدنية العربية (المصرية والسورية والليبية) في الموضوع " (30) . فواضح من هذا النص أن الهيئة لم تنقل القانون من دون دراسة مستفيضة، بل واضح اجتهادها في إصدار ذلك النظام .
ويقول الأستاذ طارق البشري : " عندما عدلت تشريعاتنا من الأخذ عن الشريعة الإسلامية إلى الأخذ عن القوانين الغربية الأوربية ، فرنسية أو إنجليزية أو غيرها ، لم يكن قصد النفوذ الغربي من ذلك ـ في ظني ـ استبدال أحكام محددة في القانون المدني أو التجاري بأخرى ، فقد كان ذلك ممكناً في إطار حاكمية الشريعة الإسلامية بما تسع من تعدد وتنوع في الاجتهادات والمذاهب والآراء ، ولم يظهر أن مسعى من ذلك جرت محاولته قبل إدخال القوانين الأجنبية، ولا أن هذه القوانين الغربية أدخلت بعد اليأس من محاولات تجديد الشريعة الإسلامية ؛ لم يظهر أي من ذلك ، إنما كان القصد في ظني هو العدول عن الإطار المرجعي الشرعي إلى إطار مرجعي آخذ عن الغرب وقوانينه ، بما يقضي على استقلالنا التشريعي ويكرس التبعية للغرب في نظمنا التشريعية واجتهادات قضاتنا ومفتينا وشراح القوانين عندنا . وهذا ما حدث ، فقد صرنا بعد أن كنا نقول : قال الله وقال الرسول ، صرنا نقول : قال قانون نابليون ، وقال القانون الروماني من قبله ، وبدل أن نستدل بمالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل ، صرنا نستدل بـ" بلاتيول " " دوجي " " اسمان " " كابيتان "..إلخ ، وبدل أن نلجأ لفتاوى الهندية ومبسوط السرخسي ، صرنا نلجأ " لداللوز " وأحكام النقض الفرنسية " (31) .
ومما يوضح الفرق بين الحالين إعجاب السنهوري بالنظام في المملكة بجانب حرصه ورغبته في استقلال القانون المصري عن التبعية للغرب، فهذا يدل على أنه يرى أن هناك فرقاً شاسعاً بين الحالين والمنطلقين والمرجعيتين والقاعدتين.
القضية الأخرى التي يحسن التنبيه عليها حتى لا يحصل تعارض ولبس في قضية التدريس لمادة القانون والتي باركها الشيخ عبد العزيز ابن باز ـ رحمه  الله ـ وقام بعض العلماء بالتدريس لمادة الفقه في هذه الأقسام كالشيخ عبد الله الركبان ، فقد درس الفقه في قسم القانون في معهد الإدارة، وكالشيخ صالح الحصين فقد وضع مادة (القانون الإداري) في القسم نفسه . فهذه المباركة وهذا الرضا وتلك الممارسة منهم، لا شك أنها مشروطة بشرط مهم وأساس ورئيس ، هو أن يدرس القانون من خلال النظرة الشرعية إليه ، وهو أنه قانون وضعي بشري خاضع للخطأ وغير معصوم عن الزلل وغياب المصلحة ، ويدرس لمعرفة فضل شريعة الله المعصومة ، والتي لا يعتريها الباطل ولا النقص , ولا يتطرق إليها الخطأ , أو تتهم بأنها غير صالحة، كما قال الشيخ ابن باز رحمه الله في فتواه : "..ولا شك أن الطلبة الذين يدرسون بعض القوانين الوضعية أو المدخل إليها في معهد القضاء أو في معهد الإدارة لا يقصدون بذلك أن يحكموا بما خالف شرع الله منها، وإنما أرادوا أو أُريد منهم أن يعرفوها ويقارنوا بينها وبين أحكام الشريعة ليعرفوا بذلك فضل أحكام الشريعة على أحكام القوانين الوضعية، وقد يستفيدون من هذه الدراسة فوائد أخرى تعينهم على المزيد من التفقه في الشريعة والاطمئنان إلى عدالتها " (32).
ومن الفروق بين الحالتين ـ حالة تدريس القانون في المملكة العربية السعودية والتي باركها الشيخ عبد العزيز ابن باز وبين حالة التدريس في كليات الحقوق أو أقسام القانون والتي أسسها السنهوري وكره العمل بها في السعودية ـ أن تدريس القانون في السعودية كان يتم بوصاية مسبقة وغلبة من الشريعة ، بخلاف الحالة الأخرى ، فالوصاية فيها والغلبة لما نُص عليه في القانون الوضعي. ومما اتفق عليه علماء الاجتماع أن المغلوب يتبع الغالب عادة ، ويتشبه ويقتدي به (*).
ومن الفروق كذلك ، في الحالة السعودية يدرس القانون والعين فيها فاحصة، وبنظرة ناقدة تبين عوار المنهج الوضعي وأفضلية الشريعة وعصمتها، وفي الحالة الثانية تدرس القوانين الوضعية بقطيعة معرفية مع الشريعة الإسلامية، وبحيادية متجردة عن أولوية الشريعة وأفضليتها وعصمتها.
ومن الفروقات كذلك أن الحالة الأولى في السعودية يُدرس فيها القانون الوضعي مع دراسة عميقة للفقه الإسلامي ومكثفة للأحكام الشريعة ، بخلاف الحالة الثانية التي يُدرس فيها من الفقه الإسلامي النزر اليسير ، وقليلٌ من أحكام الشريعة .
       وأخيراً يتبين لنا حجم الخطأ في حق كبار علمائنا في السعودية ، فإنهم لم يتركوا الناس في فوضى عند تحريمهم للقوانين، بل وضعوا الأنظمة على شكل مواد، وانتقوا من القوانين الوضعية بوصاية وسيادة ومرجعية مطلقة من الشريعة على تلك القوانين، من خلال أقوالهم وأفعالهم.
       ولم يحرموا دراسة القانون، كما تبين مما سبق ، بل شجعوا على دراستها لعقد المقارنة مع الشريعة الإسلامية، مع تأكيد أسبقية الشريعة الربانية وعلوها وشرفها وأنه لا يمكن تجاوزها ، وكانت الفتوى سابقة للفترة التي رأى الأستاذ القاسم أن القانون قد سُمح بتدريسه في حينها.
       وكذلك لم يكن الناس في فوضى في تعاملاتهم كما ذهب إليه الأستاذ القاسم، إذ منذ عهد الملك عبد العزيز رحمه الله (أي منذ تأسيس الدولة) والناس يقرؤون في الصحف الأوامر الملكية باعتماد بعض الأنظمة التي تسهل تنظيم المعاملات بينهم وفق الشريعة الإسلامية .
       وفي الوقت الذي تطبق فيه الشريعة الإسلامية في السعودية ، نرى من الأستاذ القاسم مطالبات بالرجوع إلى مراحل أولية مرت بها البلدان العربية الأخرى عند كتابتها للقانون ، علماً أن كاتبها (د.عبد الرزاق السنهوري) كان يرغب ـ وفق بعض تصريحاته وشهادة بعض من حوله ـ أن ينتهي القانون المدني في الدول العربية إلى ما وصلت إليه المملكة العربية السعودية
 
 تصحيح النقد الخاطئ للخطاب الشرعي تجاه البنوك
 

------------------------------
(1)  في برنامج " إضاءات " جوابًا على سؤال للمذيع تركي الدخيل .
(2)  منتدى الفيصل ، مجلة الفيصل ، عدد 246، ص 26.
(3)  عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، لمحات حول القضاء في المملكة العربية السعودية .. ط2 عالم الفوائد ، 1421هـ ، ص 110- 111.
(4)  د. سعود بن سعد الدريب، مقال بعنوان (عبد الله بن حسن آل الشيخ)، مجلة الدارة، العددان 3 و4 (عدد تذكاري بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية) ، 5 شوال 1419هـ ، س24، ص 11- 12.
(5) وردت  خطاً في النص المنقول منه (تغير) .
(6)  د. محمد عبد الجواد محمد، التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية 1397هـ، . مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي : 1977م ، ص 144.
(7)  رواه البخاري (3275) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8)  أخرجه البخاري (4811)، ومسلم (2786) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(9)  كتبت خطأً بدون الواو .
(10)  فتاوى العلماء الأكابر، جمع عبد المالك الرمضاني مكتبة الفرقان : ط2 ، عجمان : 1422هـ،  ص 174- 175.
 (11)  من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز ( 2 / 325 – 331 ) باختصار، من موقع صيد الفوائد ، صفحة الشيخ سليمان الخراشي.
(*) بالعودة إلى الوراء لنرى تاريخ تدريس القوانين في المملكة، نجد أن قسم القانون في جامعة الملك سعود قد أنشئ في عام 1399-1400هـ (صحيفة الحياة، الأربعاء 17ربيع الآخر 1426هـ، العدد 15394، ص3)، ومن قبل تم إنشاء معهد الإدارة العامة في = =1380هـ، وقد وقفتُ على مواد دراسية في القانون طبعت لأجل تدريسها في المعهد،  وأقدمها كان في عام 1382هـ (انظر كتاب معهد الإدارة العامة..نشأة وتطور ،  1422-2001م، ص24، 150). 
(12)  صالح الحصين، القانون الإداري، ص4 ـ 5.
(13)  د . سعود بن سعد آل دريب . التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية في ضوء الشريعة الإسلامية ونظام السلطة القضائية ــ رسالة لنيل درجة الدكتوراة في السياسة الشرعية  من المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، 1419هـ ، سلسلة مشروع  وزارة التعليم العالي لنشر ألف رسالة علمية (15)، ص 293.
(14)  عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، لمحات حول القضاء في المملكة العربية السعودية، 1421هـ، ص 107- 108.
(15)  توفيق الشاوي ، سيادة الشريعة الإسلامية في مصر، ط1 ـ القاهرة , الزهراء للإعلام العربي، 1407-1987م ـ. ص 128.
(16)  المرجع السابق ،  ص129.
(17)  جريدة الأهرام 15/8/1985م .
(18)  المرجع السابق ، ص35.
(19)  رسالة شخصية محفوظة ، أرسلت بتاريخ 16/5/1426هـ.
(20)  طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي ,  ط1، القاهرة, دار الشروق , 1417هـ ـ 1996م، ص24.
(21)  محمد عمارة . الإسلام و التحديات المعاصرة . القاهرة ، دار نهضة مصر, ص 211 .
 (22)  المرجع السابق، ص20 .
(23)  حسن الباقوري ، مذكرات، ص143.
(*) أنقل هذه النقول مع التحفظ تجاه تلك الدعاوى ، لكن القصد من هذا النقل هو بيان محاولات الخروج من الورطة في مواجهة المد الأوربي لإزاحة الشريعة الإسلامية من الوجود.
(24)  جميل الحجيلان، مقال بعنوان " لو كنتُ ابن سعود لقطعتُ رأسك..! " ، صحيفة الشرق الأوسط ، 2/10/2004م.
(25)  أحمد حسن دحلان، دراسة في السياسة الداخلية للمملكة العربية السعودية , ط2، جدة: دار الشروق , 1405-1984م , ص ........
(*) وجهة نظر شخصية للمستشرق ، لا تعبر عن وجهة نظر الكاتب.
(26) ساعد العرابي الحارثي، الملك عبد العزيز..رؤية عالمية , ط1، دار القمم للإعلام , 1415هـ/ 1994م ،  ص219.
(27)  ندوة علمية حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام , ص 28 .
(28) صالح الحصين ، مادة (القانون الإداري) ، ص5.
(29)  صالح الحصين ، منتدى الفيصل مع معالي الشيخ صالح الحصين ، مجلة الفيصل ، عدد246، ذو الحجة1417- أبريل / مايو 1997م،  ص31.
(30)  المرجع السابق، ص26.
(31)  طارق البشري ، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ص123.
(32)  من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز ( 2 / 325 – 331 ) باختصار، مرجع سابق.
(*) ومما يؤكد ذلك شهادة جميل الحجيلان، بأن العمل بالقانون الوضعي يكرس التبعية للغرب، قوله: " كان الوطن في حاجة للمدرس والمهندس والطبيب. لم يكن في حاجة لقانونيين في دولة أقامت وجودها على الإسلام، نظام حكم وحياة، وأنا أعود لبلادي بفكر قانوني استجمعت أصوله من تشريع غربي، وبيئة غربية لا يجمعنا بها جامع من عقيدة أو موروث لأصبح بذلك عبئاً على وطني، كما كان ينذر به ويخشاه العالم الكبير..! [يقصد السنهوري] )، انظر مقال جميل الحجيلان (عندما قال لي الدكتور السنهوري: لو كنتُ ابن سعود لقطعتُ رأسك..!) ، جريدة الشرق الأوسط , 2/10/2004م .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد الغليقة
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية