صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







تقريب كتاب
[ القواعد النورانية الفقهية ]
لشيخ الإسلام ابن تيمية
(عرض لأبرز معلوماته وتحليل لأفكاره]

 

خبَّاب بن مروان الحمد
@khabbabalhamad


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه، والصلاة والسلام على نبيّه ومصطفاه محمد بن عبد الله، وسلام الله وصلواته على آل بيته الطيبين الطاهرين، ورضوان الله على صحابته الكرام الذين نصروا دينه بالحجّة والبيان والسيف والسنان؛ جمعنا الله وإياهم بصحبة حبيبنا الهادي محمد، وجعلنا ممن يسير على ما ساروا عليه، ويعمروا الكون بالإيمان، ويُقيموا حضارة الإسلام، وعمران العباد والبلاد بمدينة الشرع الحكيم.
فمن الكتب المفيدة التي نفع الله بها عامّة منتسبي المذاهب الفقهية، وعموم المتفقهة، كتاب القواعد النورانية الفقهية، وقبل الخوض في الكتاب؛ يحسن بيان معلومات عامة عن الكتاب:
- اسمه: القواعد النورانية الفقهية، هكذا نسبه إليه الزركلي صاحب كتاب الأعلام : (144/ 1) ونسبه له علي الندوي في كتابه القواعد الفقهية [ص216]، وقد عدد ممن ترجم لابن تيمية هذا الكتاب ضمن مؤلفاته كابن عبد الهادي وابن رشيق والكتبي.
- مؤلفه: الإمام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية [المولود 667 ه – المتوفى 728ه].
- محققه: محيسن المحيسن.
- عدد صفحاته: 541 صفحة.
- دار النشر: مكتبة التوبة / السعودية.
- سنة النشر:1423هـ / 2002م
- نسخته: مُقابلة على سبع نسخ خطيّة.
يُعد هذا الكتاب من غُرر كتب القواعد الفقهية التي ألّفها عالم مجتهد مطلق كما وصفه بذلك جمع من العلماء؛ وإن كانت أصوله العلمية مبنيّة على مذهب الحنابلة كما يُنبّه على ذلك دوماً بقوله : (وقال أصحابنا) - يقصد الحنابلة - .
هذا الكتاب عدد فصوله : ثلاثون فصلاً، وقد استغرقت فصول العبادات ثلث الكتاب، وفصول العقود والمعاملات والأحوال الشخصية ثلثا الكتاب.
وقد استفاض الإمام ابن تيمية على عادته وأسهب وأطنب في قضايا كليّة، وقواعد مرعيّة، يذكرها ثم يُفصّل القول فيها، ويُسهب ثم يرجع للموضوع الذي انطلق منه قائلاً: (الغرض هو التنبيه على القواعد).
[جُملة من القواعد التي ذكرها الإمام ابن تيمية في كتابه]
قمتُ بجرد الكتاب قراءة ونظراً، وأعدتُ مطالعته مرتين؛ للوقوف على أبرز ما يُمكن التقاطه من قواعدَ فقهيّة، فهو في العادة يذكرها بشكل غير مباشر، أثناء عرضه لبعض المسائل الفقهية، تحت أصول كلية يُحاول نقاشها، وحينما يذكر القاعدة يزيدها بياناً وتوضيحاً عقب ذكره لها، وهو في جميع الأحوال لم يجعل كتابه مُبوّباً على كافّة التبويبات الفقهية ليكون كتاباً شاملاً في القواعد الفقهية أو يتناول الأبواب الفقهية ككل، بل تناول ما دعت الحاجة لتناوله، من مسائل كليّة، اختارها من أبرز أبواب الكتب الفقهية كالطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج والعقود المعاملاتية والنكاحية والأيمان والنذر.

وأثناء عرضه للمسائل الفقهيّة يعرض القاعدة الفقهية أو ينطلق منها ويُبرز أهمّ ما تتناوله من مسائل فرعية جزئية فقهية، ومن ذلك قوله:

1. (العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليه أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب).
2. ( قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة ما لا يكون واجباً ولا مستحباً راتباً).
3. (الشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبداً).
4. (الشريعة جاءت في العادات بالآداب الحسنة، فحرّمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لابد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها).
5. (كل تبرع جمعه إلى البيع والإجارة مثل الهبة والعرية والمحاباة في المساقاة والمزارعة والمبايعة فهي مثل القرض)
6. (إذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات؛ فكذلك العقود).
7. (الإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي).
8. (إذا تعذر جمع الواجبين قُدّم أرجحهما وسقط الآخر بالوجه الشرعي).
9. (إن المشكوك في وجوبه لا يجب فعله ولا يستحب تركه بل يستحب فعله احتياطاً).
10. (العلم برضا المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا).
11. (الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعياناً ومثال ذلك: إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراء الأرض للإزراع وكذا استئجار الظئر للرضاع).
12. (كل ما كان حراماً بدون الشرط فالشرط لا يُبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق وأما ما كان مباحاً بدون الشرط فالشرط يوجبه كالزيادة في المهر والثمن والرهن وتأخير الاستيفاء).
13. (الأصل في العقود رضا المتعاقدين وموجبها: ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد).
14. (إذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة وأكل المال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض وإن لم يجز غيره بعوض).
15. (إذا تعذر جمع الواجبين : قدم راجحهما، وسقط الآخر بالعجز الشرعي).
16. (كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى (لا واجباً ولا مستحباً).
17. (الحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر)
18. (العبرة بالفطر التي لم يُعارضها ما يغيره)
19. (مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحياناً في القيمة من المصلحة الراجحة وفي العين من المشقة المنتفية شرعاً).
20. (الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم).
21. (أنواع التطوعات دائما أوسع من انواع المفروضات؛ توسيعا من الله على عباده في طرق التطوع).
22. (تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع و أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه و تعالى و ذلك لأن الأمر و النهي هما شرع الله و العبادة لابد أن تكون مأمورا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه عبادة و ما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه بأنه محظور).

كما تجدر الإشارة إلى أنّه تارة يذكر ما يتعلق بأصول الإمام أحمد من قواعد ومنطلقات منهجية، كقوله:

1. (أما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين فإنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يرد أحدهما بالآخر).
2. (الإمام أحمد أصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين فإنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يرد أحدهما بالآخر).
3. (إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ لك عن سعيد بن المسيب الذي كان يُقال أنه أفقه الناس في البيوع.. ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه، لمن استقرأ ذلك في أجوبته، ولهذا كان أحمد موافقاً له في الأغلب فإنهما يحرمان الربا ويشددان حق التشديد ويمنعان الاحتيال إليه بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية له وإن لم تكن حيلة).
4. (ليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط في العقود من الإمام أحمد).

وقد يذكر فوائد أصولية وقواعد ثبوتية في ذلك، ومتعلقات مما تمس إليه حاجة الباحث في قضايا أصول الفقه، أو من قواعد منهجيّة ومنطلقات دلاليّة لفهم النصوص، ومن ذلك قوله:

1. (الترك الراتب سنة ، كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما تركه لعد مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال الموانع : ما دلت الشريعة على فعله حينئذٍ كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه، أو وجود مانع، فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأنه بدعة وضلالة).
2. (الأصل في العادات العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراراً وحلالاً)).
3. (لم تحرم أصول الشريعة الاحتياط، ولم توجب بمجرد الشك).
4. (ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، زيادة تحريم، ليس نسخاً للقرآن).
5. (القياس بإلغاء الفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين).
6. (ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يُعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيراً من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه).
7. (كل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده وإما أن يحتال).
8. (المرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به).
9. (إن أحسن ما تستدل به على معنى كلام الله ورسوله، آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده).
10. (من المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها و إنما هي من جنس اللعب).
11. (الاعتبار في الكلام : بمعنى الكلام لا بلفظه).
12. ( الحكم مع الحاجة يخالف الحكم مع عدم الحاجة).
13. (لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون فإن كان هناك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين فى قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} وفي قوله: {فعصى فرعون الرسول} أو إلى النوع المخصوص نهيه عن بيع الثمر فانه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب و غيره).
14. (فاذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة، وصحتها أصلان الأدلة الشرعية العامة و الأدلة العقلية التي هي الاستصحاب و انتفاء المحرم فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل و أعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة هل و رد من الأدلة الشرعية ما يقتضى التحريم أم لا أما إذا كان المدرك الاستصحاب و نفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون و علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد ان يعتقد و يفتى بموجب هذا الاستصحاب و النفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك فان جميع ما أوجبه الله و رسوله وحرمه الله و رسوله مغير لهذا الاستصحاب فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل لذلك و أما إذا كان المدرك هو النصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقي وهذا أيضا لا خلاف فيه
وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي و احمد و غيرهما و ذكروا عن احمد فيه روايتين و أكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه و نحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة و أقوال الصحابة و التابعين و غيرهم و هذا هو الصحيح الذى اختاره أبو الخطاب و غيره فان الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه و هذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل و لا العلة من أصحابنا و غيرهم أو جعل المعارض المانع من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر لكن القرينة مانعة لدلالته كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل و العلة من أصحابنا و غيرهم و ان كان الخلاف فى ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي أو إطلاق لفظي أو اصطلاح جدلي لا يرجع إلى أمر علمي أو فقهي).

[تنبيهات وإشارات لها ارتباط بالقواعد وإن لم تكن منها]

قد يُنبّه شيخ الإسلام ابن تيمية على قضايا نفسيّة مُتعلّقة بالنظر الفقهي، فيقول: (وبعض الناس قد يحمله اللدد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيراً عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب).
وينبه على فوائد لغويّة متعلّقة بالجوانب الفقهية والعُرفيّة كقوله: (فإن تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعاً دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعاً والأصل: بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها؛ فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة: كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعاً فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة، فإن تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعاً دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعاً والأصل: بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها؛ فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة: كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعاً فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة).
وقد يذكر جونب تأمُّليّة ذات تعلق تعقُّلي/ فكري، فقد خلص إلى فكرة مفادها أن تحريم الربا في القرآن أشد من تحريم الميسر، وأن المظلوم في الربا متعين بخلاف الميسر فالمظلوم فيه غير معين ولا هو محتاج إلى العقد، ثم ذكر أن الله حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق كما يحرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل.
ويذكر قواعد تعين الناظر في أقوال العلماء ومآخذهم أثناء نقاشه في المسائل المطروحة فقهياً، ومن ذلك قوله : (أنّ العالم من الصحابة والتابعين كثيراً ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين فيجيب في بعض أفراده بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب في وقت آخر).
وله قواعد فقهية متعلقة بالعبادات القلبية مثل قوله : (إذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل فالقلب لا يقتات بالنقر في الصلاة ، بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب).
وابن تيمية فقيه مائل للقول بالتيسير ورفع الحرج وعدم التضييق على الناس وخاصّة في مسائل المعاملات وما يحتاجه الناس، ويذكر على تيسيره أدلّة توضح معناها ومبناها، فليس تيسيره تساهلاً، ولا رفعه للحرج تميُّعاً، بل عليه دليل وتعليل وتفصيل يقول به دائماً على وجه التأصيل ومن ذلك قوله: (معلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض أو أكل مال بالباطل، لأن الغرر فيها يسير والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية) ويقول: (من اتقى الله و أخذ ما أحل له و أدى ما و جب عليه فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا فإنه سبحانه لم يجعل علينا فى الدين من حرج و إنما بعث نبينا صلى الله عليه و سلم بالحنيفية السمحة) ولهذا يربط التيسير من خلال اتبّاع الآثار فيقول: (فمتابعة الآثار فيها الاعتدال والائتلاف والتوسط الذي هو أفضل الأمور).

[خلاصة تحليليّة في الفكر الفقهي التيمي من خلال كتابه: (القواعد النورانية)]

يُمكن الإشارة إلى أنّ فقه الإمام ابن تيمية فيه أصالة تامة ودراسة واعية للواقع والوقائع وإدراك ما يُفيد المجتمع من خلال فقه التوقع الذي يفيده في مستقبل حياتهم.
وعلى أنّ الإمام ابن تيمية قد جوبه وهوجم من بعض الفقهاء الكبار الأجلاء، في بعض مسائل الفقه التي اختارها وخالف فيها المشهور من المذاهب الأربعة، إلاّ أنّه اختار أقوالاً عليها الدليل النصي والعقلي وقال بها فئة من العلماء ممن سبقوه، ولم تُشتهر، أو كانت أقوالاً مهجورة، فعرضها بقوّة واحتجّ لها أكثر مما احتجّ لها أصحابها، مثل مسألة الطلاق ثلاثاً يجعلها واحدة، فقد اختار هذا القول وسُجن من أجله، واختار أنّ الحلف بالطلاق ليس طلاقاً بل فيه كفّارة يمين، وغيرها من الأقوال التي رخّص فيها للأمّة، حين اعترتهم الكثير من الوهن والضعف والفساد، وعلم ما تؤديه هذه الأقوال من تضييق وتحريج وإشقاق عليهم، فكان رائداً من رُوّاد النظر الفقهي الذي تحتاجه الأمّة في عصره والعصور التي تليه، ومما يُمكن إبرازه في فقه هذا العالِم الكبير من نقاط نستجليها من كتابه القواعد الفقهية :
1) ميل الإمام ابن تيمية لمدرسة فقهاء الحديث.
2) انتصاره لمدرسة الإمام أحمد بن حنبل، وذكر ما يُوافقها خاصّة من آراء الإمام مالك.
3) تركيزه على ضرورة الوسطية في اختيار الأقوال الفقهية.
4) تركيزه على قضايا رفع الحرج، والتيسير، ودفع المشقة.
5) تحذيره من التعصب للمسائل الخلافيّة الفقهية، وبيان أهميّة ما يُخفّف منها من فعل ما يختاره بعض العلماء أحياناً إن كان له أصل شرعي وأنّ سبيل لتأليف القلوب وجمع الكلمة.
6) دمج النّظر الفقهي، بالفكر العقلي، والخروج بنتائج تنمُّ عن عمق فكري.
7) ذكر أقوال العلماء والموازنة بينها، واحترامها، والاعتذار لمن خالفه، مع ذكر رأيه والانتصار له، وحفظ مقامات الأئمة.
8) ظهور الشخصيّة الفقهية الفذّة لدى الإمام ابن تيمية، وخروجه عن طوق التعصب أو التحيّز أو الغلو، ومعالجته لأقوال العلماء بشتّى الأنواع التأثيريّة لإقناع القارئ.
9) إعماله لقاعدة المصالح والمفاسد في النظر الفقهي.
10) اعتباره لبيئة النص وسياقه الظرفي مكاناً وزماناً، وبيانه لطريقة تغيُّر الحكم عند الحاجة، وبهذا لا يجعل النص لمجرد التبرُّك بل جدولاً يشقّ به غمار الأماكن التي يحتاجها فيؤثر بها نظراً لمرونة النص وحيويته وربطه بعلّته.
11) تركيزه على قضيّة خطر تحريم الحلال؛ إمّا بسبب الجهل، أو القياس مع الفارق، أو عدم فهم الواقع، وبيان ما ينتج عنه من إشقاق على الناس، ودفعهم إلى الضرر، وتضييق أمور معاشهم، وإلجاء كثير من المتفقهة لحيل باطلة.

[ مُختصر تلخيصيّ مُنتخب من القواعد النورانية الفقهية]

فيما يلي ذكر لأبرز الأفكار التي ذكرها الإمام ابن تيمة، مع أبرز الموازنات الخلافيات التي ضمنها كتابه القواعد الفقهية النورانية، ويُمكن أن تكون هذه المقتطفات أهم ما تحدث به الإمام ابن تيمية في قواعده، إذ إنّها تُساعد من يريد التعرف على فكره القواعدي الفقهي، وتُقرّب القواعد النورانية لمن يريد أخذ نبذة عنها بشكل مختصر وموجز، بغير إخلال – قدر إمكاني – خاصة أنّ من عادات الإمام ابن تيمية في شتّى كتبه الاستطراد والإطناب والإسهاب؛ وقد يخرج عمّا كان قد تحدث عنه لمناسبة فرعيّة ويذكر بعدها الكثير من متعلقاتها حتى يذكر أصولها الكبرى؛ ثمّ يعاود الرجوع مرّة أخرى لكلامه السابق؛ ولهذا يحتاج المرء ليعود مرّة أخرى لما توقف عنده الإمام ابن تيمية ويربطه بما يُحاول استكماله مما توقف عنده ثم تفرّع عنه.
ومن باب التيسير على القارئ والتوثيق للمعلومة؛ سأذكر كلام الإمام مع رقم الصفحة؛ ليكون عوناً على الرجوع إليها مباشرة:
في مستهلّ كتابه أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية وسطية فقهاء أهل الحديث العراقيين والحجازيين في الأشربة والأطعمة. [ص54].
وذكر أنّ الحجازيين من أهل المدينة يُحرّمون من الأشربة كل مسكر بخلاف الأطعمة، فلا يغلب عليهم التحريم فيها فيبيحون الطيور وإن كانت ذات مخالب.[ص45]
وأنّ العراقيين ليست الخمر عندهم إلا من العنب، ولا يحرمون القليل من المسكر إلا أن يكون خمراً أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب ولكنهم في الأطعمة في غاية التحريم حتى أنهم حرموا الضب. [ص55]
وأهل الحديث أخذوا بقول أهل المدينة في الأشربة [ص55+ 56]
وذكر أن فقهاء الحديث أخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. [ص57]
وأن فقهاء الحديث نقصوا على ما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة وزادوا على أهل المدينة في الأشربة لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة. [ص60]
وبيّن أن أهل المدينة لهم سلف من الصحابة والتابعين في استحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر. [ص60]
وأن المفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة، ولهذا سميت الخمر أم الخبائث. [ص60]
والإمام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله مما يزيل ضرر بعض المباحات مثل لحوم الإبل بأنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع، لكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت من الجن [ص63] فأمر الإمام أحمد بالوضوء من الأمر العارض من الشيطان [ص64]
وذكر ابن تيمية أنّ من توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمن لأكلها من غير وضوء كالأعراب من الحقد وقسوة القلب، لأن السنة جاءت بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها فكذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحية والتطهر منها، حتى قال : ( إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه) وقال: (إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل.[ص: 68]
فكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) وقد روى عنه أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال (إنه مكان حضرنا في الشيطان) فعلل عليه الصلاة والسلام الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة وبهذا يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث.
وذكر أن أحمد كان يعجب ممن يدع حديث لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها وعدم المُعارض لها، ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه، وأن أسانيدها ليست كأحاديث الإبل ، ولذلك أعرض عنها الشيخان وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء منه لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى حجة من الوضوء من مس الذكر.[ ص73].
وذكر ابن تيمية أنه أظهر في القياس منه فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ولهذا كل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجساً. [ص73 ]
كما ذكر أصلاً آخر توسط فيه أهل فقهاء الحديث فقد بيّن أنّ الكوفيين عرف تخيفهم في العفو عن النجاسة فيعفون عن المُغلّظة قدر الدرهم البغلي، وعن المخففة عن ربع المحل، خلافاً للشافعي الذي لا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء وونيم الذباب. [ص 76]
ومالك متوسط في نوع النجاسة وقدرها وكذا الإمام أحمد؛ فإنه متوسط في النجاسات فلا ينجس الأرواث والأبوال ويعفو عن اليسير من النجاسات ، التي يشق الاحتراز عنها، وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة ولم يختلف قوله كما اختلف أصحاب مالك.
وذكر أصلاً آخر في إزالة النجاسة فمذهب أبي حنيفة تزال بكل من المائعات والجامدات، والشافعي لا يرى إزالتها إلا بالماء حتى ما يصيب أسفل الخف والحذاء، لا يجزئ فيه إلا الغسل بالماء وحتى نجاسة الأرض، ومذهب أحمد متوسط فكل ما جاءت به السنة قال به. [ص 78]
وقد علّق ابن تيمية على ذلك بقوله : يجب التوسط في النجاسات فإن التشديد في النجاسات جنساً وقدراً هو دين اليهود والتساهل هو دين النصارى والإسلام دين الوسط. [ص 80]
ثم ذكر أصلاً آخر في اختلاط الحلال بالحرام كاختلاط المائع الطاهر بالنجس، فالكوفيين يتشددون لأنهم ألحقوا الماء بسائر المائعات والنجاسة إذا وقعت في مائع لم يمكن استعماله إلا باستعمال الخبيث فيحرم الجميع مع أن تنجيس المائع غير الماء الآثار فيه قليلة. [ص80]
وبإزائهم مالك وغيره فإنهم في المشهور لا ينجسون الماء إلا بالتغير، ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره مبالغة في طهورية الماء. [ص 82]
مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات، ولأحمد قول كمذهبهم لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعي.
ثمّ بينّ أنّ أهل فقهاء الحديث من إعمالهم الأحاديث في طهارة الأحداث التي هي الوضوء والغسل أن مذهبهم فيها اشتمل فيهما من السنن على ما لا يوجد لغيرهم، وذكر من ذلك مثالاً مثل المسح على الخفين وغيرهما من اللباس والحوائل [ص82].
لهذا قال أنّه : حين يتأمل ذلك الشخص يعلم فضل فقهاء الحديث على غيرهم مع أن القياس يقتضي ذلك اقتضاء ظاهراً وإنما توقف عنه من توقف من الفقهاء لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر وجبنوا عن القياس ورعاً. [ص 83 ]
ثم عقد فصلاً للحديث عن الصلاة وذكر أن فقهاء الحديث استعملوا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم [ص89].
وذكر أن أحمد له أصل مستمر في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها يستحسن كل ما ثبت عن النبي من غير كرامة لشيء منه مع علمه بذلك واختياره للتعصب أو تسويته بُين كما يجوز القراءة بكل قراءة ثابتة وإن كان قد اختار بعض القراءة مثل أنواع الأذان والإقامة وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن مسعود وأبي موسى وابن عباس، أنواع الاستفتاح والاستعاذة المأثورة إن اختار بعضها. [ص89]
وذكر ابن تيمية عدة مواطن من ذلك: كمواضع رفع اليدين في الصلاة، ومحل وضعهما بعد الرفع، وصفات التحميد المشروع بعد التسميع، وصفات الصلاة على النبي وإن اختار بعضها، وأنواع صلاة الخوف حيث يجوز كل ما فعله النبي من غير كراهة، وأنواع التكبيرات للعيدين يجوز كل مأثور وإن استحب بعضه، ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتحميد وإن اختار التربيع. [ص100،ص101]، وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه [ص101]
ثمّ ركز على قضية خطر التعصب المذهبي في الاختيار الفقهي بعدما وضَّح أن أبا حنيفة يكره الترجيع في الأذان، والشافعي يكره الترجيع في الأذان، وكذا يكره شفع الإقامة، ومنهم من يكره إفراد الإقامة كالمالكية... فقال ابن تيمية عقب ذلك: آل الأمر بالاتباع إلى نوع جاهلية فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية الجاهلية مع أنّ الجميع قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ص101]
وأعقب ذلك بمسألة البسملة في الصلاة واضطراب الناس فيها نفياً وإثباتاً في كونها آية من القرآن وفي قراءتها، وصنف من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامهما نوع جهل وظلم، مع أن الخطب فيها يسير. [ص102]
وذكر أنّ التعصب لهذه المسائل ونحوها من شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه، إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة.[ص102]
وأشار بعد ذلك أن أكثر فقهاء الحديث وأهل الرأي توسطوا فقالوا عن البسملة أن كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة بل تكون آية مفردة أنزلت أول كل سورة [ص103]
وذكر أن جماهير فقهاء أهل الحديث وفقهاء أهل الرأي يقرؤونها سراً لكن ذكر مزية أن أحمد يستعمل ما روي عن الصحابة في هذا الباب فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة حتى أنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها. [ص 105]
وذكر أن للرجل أن يقصد إلى تأليف هذه القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب. [ص106].
وذكر فائدة نفيسة فقال: والاعتدال في كل شيء استعمال الآثار على وجهها. [ص107]
وقد ذكر أنّ الإمام أحمد أصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين فإنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يرد أحدهما بالآخر. [ص 117 ]
وأوضح أن نفس الواجبات للصلاة تسقط بالعذر فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها فقد هدى لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأساً كما قد يبتلى به بعضهم، وبين الإسراف في ذلك الجانب، حتى يُفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه هو الوسط بين الأمرين، وعلى هذا الأصل تُبنى مسائل الهجرة والعذر التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل إلا ما تسع القدرة. [ص119]
وبيَّن أنّ الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة التي دل عليها قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وأنه إذا تعذر جميع الواجبين قدم راجحهما وسقط الآخر بالعجز الشرعي. [ص125 ]
كما ذكر القنوت وأن الناس فيه طرفان ووسط منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده، وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره، فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما، وإن كانوا يختارون القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس؛ لأن سماع الدعاء مناسب لقول العبد : (سمع الله لمن حمده). [ص131].
وفي مسألة القنوت ذكر أن فقهاء الحديث كأحمد توسطوا فقالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم، وأنّه ترك القنوت بعد ذلك لزوال ذلك السبب.
قال ابن تيمية: وليس الترك نسخاً فإن الناسخ لابد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً لحاجة ثم تركه لزوالها لم يكن ذلك نسخاً بل لو تركه تركاً مطلقاً لكان يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل، فهذا القول أوسط الأقوال أن القنوت مشروع غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة [ص138].
ثمّ ذكر أصلاً في الواجبات والمستحبات وأن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجباً ولا مستحباً كما سقط بالسفر والمرض والخوف مثير من الواجبات والمستحبات وكذلك أيضاً قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة ما لا يكون واجباً ولا مستحباً راتباً. [ص139]
فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتباً أو تجعل الراتب لا يتغير بحال، ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه انحلالاً كثيراً. [ص139 ].
ثم ذكر القراءة خلف الإمام وأنّ الناس فيها طرفان ووسط منهم من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم للتحريم سواء ذلك في صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم كأصحاب أبي حنيفة ، ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولي الشافعي وقول طائفة معه، ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة، وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولي الشافعي ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاة الجهر وللبعيد الذي لا يسمع الإمام، وأما القريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه، إقامة للاستماع مقام التلاوة وهذا قول الجمهور كمالك وأحمد وغيرهم من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث. [ص140 ]
وتحدث ابن تيمية أن الصلوات في الأحوال العارضة كالصلاة المكتوبة في الخوف والمرض والسفر ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات في الكسوف ونحوه أو الصلاة لاستجلاب النعماء كصلاة الاستسقاء ومثل الصلاة على الجنازة... ففقهاء الحديث كأحمد وغيره، متبعون لعامة الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في هذا الباب؛ فيُجوّزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويختارون قصر الصلاة في السفر، اتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.[ ص 143]
ويُجوّزون جميع الأنواع الثابتة في صلاة الكشوف ، ويجوزون في الاستسقاء الخروج إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء والدعاء والخروج والدعاء بلا صلاة .[ ص145]
وأما الجنازة فاختيارهم أنه يُكبر عليه أربعاً لأن الرسول والصحابة كانوا يفعلونه غالباً ويجوز عن أحمد التخميس في التكبير وكذا التسبيع لوروده في الأثر.[ ص147].
ثمّ ذكر الإمام ابن تيمية أصلاً ثانياً في الزكاة.
فذكر أنّ فقهاء الحديث متبعون فيها لسنة النبي وخلفائه آخذين بأوسط الأقوال وأحسنها في السائمة [ص150]
وذكر عدّة أقوال توسط فيها أحمد وفقهاء الحديث منها أن أحمد لم يُوجب الزكاة في الخضروات لما في الترك من عمل الصحابة وخلفائه ولكن يوجبها في الحبوب والثمار التي تُدخر [ص153].
وقد وضّح أن فقهاء الحديث يجمعون بين العشر والخراج لأن العشر حق الزرع والخراج حق الأرض. [ص 154]
وبيّن أنه لا يجزئ إخراج القيمة في الزكاة إلا عند الحاجة ، مثل من يجب عليه شاة في الإبل وليست عنده خلافاً لمن قال أنه مجزئ في كل حال كقول أبي حنيفة، وقول من قال لا يجزئ بحال كقول الشافعي. [ص159].
ثم قال عقب ذلك: وهذا القول أعدل الأقوال كما ذكرنا مثله في الصلاة فإن الأدلة الموجبة للعين نصاً وقياساً كسائر أدلة الوجوب، ومعلوم أن مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحياناً ما في القيمة من المصلحة الراجحة وفي العين من المشقة المنتفية شرعاً. [ص159 – 160]
ثمّ تحدث عن الأصل الثالث فالصيام .
وذكر اختلاف الفقهاء في تبييت النية للصيام، فمنهم من أوجبه في كل صوم فرض أو نفل بنية قبل الزوال ، وهو قول أبي حنيفة، ومنهم من قال لا يجزئ الصوم إلا مبيتاً من الليل فرضاً أو نفلاً، والقول الثالث لا يجزئ التبييت بنية إلا للفرض، كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر؛ لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم والنية لا تنعطف على الماضي وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إني إذن صائم)كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعاً من الله على عباده طرق التطوع .[ص162]
ثمّ عقد فصلاً في الحج وأنّ فقهاء الحديث كأحمد وغيره أخذوا بسنته صلى الله عليه وسلم في ذلك كله وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يُخالف بعض ذلك بتأويل تخفى عليه فيه السنة. [ص177] وبيّن خطأ بعض أصحاب الشافعي ممن قالوا أن من سعى بين الصفا والمروة بأن يصلي ركعتين بعد السعي على المروة قياساً على الصلاة بعد الطواف ولهذا أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف، ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح [ص 189]
وقال : إن السنة مضت بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه طافوا وصلوا كما ذكر الله الطواف والصلاة، ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي، فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات وبالموقف بعرفات أو جعل الفجر أربعاً قياساً على الظهر.[ ص189]
ثمّ ذكّر أنّ الترك الراتب سنة ، كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما تركه لعد مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال الموانع : ما دلت الشريعة على فعله حينئذٍ كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه، أو وجود مانع، فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأنه بدعة وضلالة، ويتمنع القياس في مثله، وإن جاز القياس في النوع الأول ، وهو مثل قياس صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذان وإقامة كما فعله بعض المروانية في العيدين، وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت الله في الاستلام والتقبيل من الأقيسة التي تشبه قياس الذين قالوا: (إنما البيع مثل الربا) [ص189+190+191]

ثم ذكر فصلاً في العقود من المعاملات المالية والنكاحية، وقال أنّ فيه" قواعد جامعة عظيمة المنفعة [ص 195] فإن ذلك فيها أيسر منه في العبادات وبيّن أن الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء البيع أو الإجارة أو الهبة أو النكاح والوقف والعتق وغير ذلك، وهو ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل، كالبيع، والوقف، ويكون تارة : رواية مخرجة كالهبة والإجارة.
والأصل في العقود التراضي المذكور في قوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) وقوله تعالى : (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً) والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها : تحتمل وجوهاً كثيرة ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر الدعاء في العبادات [ص196 – 197]
والقول الثاني:
أنها تصح بالأفعال فمما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات المحقرات وكالوقف في مثل من بنى مسجداً وأذن للناس الصلاة فيه، أو سبّل أرضاً لله ، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد ، ووجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف.
والقول الثالث:
العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل وكل ما عده الناس بيعاً أو إجارة فهو بيع أو إجارة فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصّيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستقر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم.
وإن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد، ولهذا يصحح في مذهبه بيع المعاطاة مطلقاً.
ولهذا فكل ما عده الناس هبة فهو هبة ، والإجارة كذلك والطلاق كذلك ولا يقتصر على القول [ص200]...فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر ، وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليه أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب. [ص 208]
وذكر الإمام ابن تيمية أنّه يكتفى بالتراضي في البيع في قوله تعالى : (إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ) وبطيب النفس في التبرع في قوله تعالى (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً) فتلك الآية في جنس المعاوضات ، وهذه الآية في جنس التبرعات... ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة من الأقوال والأفعال. [ص209].
ثمّ نبّه الإمام على قضيّة نفسية يقع بها بعض المتفقهة حيث قال : وبعض الناس قد يحمله اللدد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيراً عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب. [ص210].
ويكمل كلامه بقوله : فإن تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعاً دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعاً والأصل: بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها؛ فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة: كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعاً فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة. [ص211]
ثم ذكر أن الأصل في العادات العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراراً وحلالاً) [ص212].
كما نبّه على قاعدة أن الشريعة جاءت في العادات بالآداب الحسنة، فحرّمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لابد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها. [ص213]
ويزيد في بيانه انتصاراً فيقول: وأما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين. [ص214]
ثمّ قسّم أنواع التصرفات إلى جنسين: عقود وقبوض كما جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (رحم الله عبداً كان سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فالمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء ثم التقابض وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات، والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد. [ص217].
يواصل الإمام حديثه فيقول: فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات فكذلك العقود [ص218 ]
وقد بيَّن عدة أحوال تبين أن الإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي، يُمكن اعتبارها قاعدة بذاتها.... ثم ذكر قاعدة في المعاقد كلها حلالها وحرامها وأن الأصل في ذلك أن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل، وهو يعم كل ما يؤكل في الباطل من المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق، وأن أكل الأموال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما القرآن وهما: الربا وهو ضد الصدقة، والميسر ومن الميسر الغرر وهو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وهو ما يفضي إلى مفسدة وهي العداوة والبغضاء مع ما فيه من أكل أموال الناس بالباطل وهو نوع من الظلم. [ص222 و223].
وذكر الإمام ابن تيمية أن من أنواع الغرر ما نهى الله عنه من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين، وبيع السنين، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وبيع الملامسة والمنابذة.
وخلص إلى فكرة مفادها أن تحريم الربا في القرآن أشد من تحريم الميسر، وأن المظلوم في الربا متعين بخلاف الميسر فالمظلوم فيه غير معين ولا هو محتاج إلى العقد [ص224]
ثم ذكر أن الله حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق كما يحرم قليل الخمر؛ لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل. [ص226]
ثم ذكر أنواع الغرر وأنه ثلاثة:
1. المعدوم كحبل الحبلة والسنين.
2. المعجوز عن تسليمه كالعبد الآبق.
3. المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه وقدره ، كقوله : بعتك عبداً أو بعتك ما في بيتي. [ص228]
وقد أوضح أن مفسدة الغرر أقل من مفسدة الربا، فلذلك رضي فيما تدعو له الحاجة فتحريمه أشد ضرراً من ضرر كونه غرراً، وذكر له أمثلة مثل بيع العقار وإن لم يُعلم دواخل الحيطان والأساس [ص229] فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمناً وتبعاً ما لا يجوز من غيره. [ص 230]
وحين قرّر هذه القضية الفقهية قال ابن تيمية: إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ لك عن سعيد بن المسيب الذي كان يُقال أنه أفقه الناس في البيوع، ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه، لمن استقرأ ذلك في أجوبته، ولهذا كان أحمد موافقاً له في الأغلب فإنهما يحرمان الربا ويشددان حق التشديد ويمنعان الاحتيال إليه بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية له وإن لم تكن حيلة. [ص231]
وإن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها.
ثم قرّر شيئاً تأسيسياً في فقه الحِيَلِ فقال: وجماع الحيل نوعان:
إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود.
أو يضموا إلى العقد عقداً ليس بمقصود.
وحين قارن الإمام ابن تيمية أقوال الإمام الشافعي في مسائل البيوعات مع أقوال غيره من الأئمة خاصّة مالك وأحمد، خلص ليقول عن الشافعي أنّ له أقوالاً يتعذر على الناس أو يتعسر عليهم المعاملة في العين والدين فقد اشترطه فيما في الذمة كدين السلم من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره.... ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول، وقاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير المشهور وفدية الخلع والكتابة وصلح أهل الهدنة وجزية أهل الذمة ما اشترطه في البيع عيناً وديناً، ولم يُجوز في ذلك جسناً وقدراً وصفة، إلا ما يجوز مثله في البيع وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر. [ص240]
ثم ذكر أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقثاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيه كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات. [ص251]
ثم نبه ابن تيمية إلى أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل كما قد يروى عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أصحابه على أصوله [ص251+252]
وذكر قاعدة أن العالم من الصحابة والتابعين كثيراً ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين فيجيب في بعض أفراده بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب في وقت آخر[ص252] وعاد مرّة أخرى لذكر بيان ما قد قرّر جوازه فقال: هذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد وبعض أصول غيرهما هو أصح الأٌقوال وعليه تدل غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به... وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غرراً فإنه لابد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه [ص 258].
وقد نبّه إلى أنّ تجوزيهم لذلك يكون كثيرٌ منه عن طريق الحِيَل، فقال: ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين:
1. إما ذنوب جوزوا عليها لضيق في أمورهم ولم يستطيعوا دفعه إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، وكما قال تعالى : (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم)
2. وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل.[ص259 ]
وكعادة الإمام ابن تيمية يستطرد ثمّ يرجع لأصول قوله الذي انطلق منه فقال: وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة وأكل المال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض وإن لم يجز غيره بعوض. [ص263 ].
ثمّ قال : ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض أو أكل مال بالباطل، لأن الغرر فيها يسير والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية... ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقائها بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك. [ص 264]
ويزيد ترجيحه تأصيلاً وتعليلاً فيقول: وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر؛ لأنه لا يكمل جملة واحدة، وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرب مرب على ضرر الغرر، فتبين أن رسول الله قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته. [ص267]
ثم ذكر ابن تيمية لفتة أصولية ماتعة في سياق ذكره لهذه المسألة فقال: ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يُعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيراً من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه. [ ص267]
ثمّ عرّج على مسألة وصفها بقوله : "عمّت بها البلوى " حيث أطنب في تفصيلها وتأصيلها وبيان تجويزه لها مع ذكر الأدلة والتعليلات والأقيسة العقلية والأعرف الاجتماعية وهي مسألة أن الأرض تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع وربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزردعها أو يسكنها مع ذلك [ص 273 ].
فإذا كان فيها غراس وأرض فقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
فقولٌ: أنه لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور عن مذهب أحمد عند أكثر أصحابه.
وقول ثانٍ: أنه يجوز إذا كان الشجر قليلاً وكان البياض الثلثين أو أكثر وهذا قول لمالك.
والقول الثالث: يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر ودخول الشجر في الإجارة مطلقاً وهذا قول ابن عقيل وإليه مال حرب الكرماني.
قال ابن تيمية: وهذا القول كالإجماع من السلف وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه.[ص278]
قال ابن تيمية: وحجة ابن عقيل أن إجارة الأرض جائزة والحاجة إليها داعية ولا يُمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر وقد لا يساقي عليها. [ص280]، وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك ولأن المانعين من هذا هم: بين محتال على جوازه، أو مرتكب لما يظن أنه حرام. [ص282]
وذكر حديث: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك" [ص283] وقال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين سلف وبيع فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله....وكل تبرع جمعه إلى البيع والإجارة مثل الهبة والعرية والمحاباة في المساقاة والمزارعة والمبايعة فهي مثل القرض. [ص 284] يُواصل الإمام فيقول : فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع؛ لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعاً مطلقاً فيصير جزءاً من العوض....ثم ذكرَ أن من منع من ذلك فقد يفعله احتيالاً وللحاجة ويعتقدون أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس [ص285] وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر والأضرار ما لا يعلمه إلا الله....وإذا أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال التي لا تأتي به شريعة قط فضلاً عن شريعة الله . [ص285]
وخلص لقاعدة مفادها أنّ : فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعاً وأن تحريم مثل هذا مما لا يمكن للأمة التزامه [ص 286].
وقد أفاض في ذكره لحجة القول الثالث الذي اختاره ابن عقيل، وذكر الأدلة عليه شرعاً وعقلاً من عدة أوجه كذلك.
ومما ذكره من فوائد يحسن الإشارة إليها قوله: (فكل ما ثبتت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه وما لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام)
وقوله : (انظر في عموم كلام الله ورسوله لفظاً ومعنى حتى تعطيه حقه وأحسن ما استدل على معناه: آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده؛ فإن ضبط ذلك يُوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى : (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)) [ص 312]
ثم ذكر أنّ التصرفات العدلية في الأرض جنسان:
• معاوضات كالبيع والإجارة
• ومشاركات كشركة الأملاك وشركة العقد. [ص329]
وهنالك تصرفات فضلية كالقرض والعارية والهبة والوصية.
قال ابن تيمية: وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعاً أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة وليست من جنس المعاوضة المحضة.
والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة لأنه أكل مال بالباطل، وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر؛ لأنه إن لم ينبت الزرع فإن رب المال لم يأخذ منفعة الآخر إذا هو لم يستوفها ، ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصودة، بل ذهبت منفعة بدنه كما ذهبت منفعة أرض هذا ، ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئاً بخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر فإن أحد المتعاوضين يأخذ شيئاً والآخر يبقى تحت الخطر، فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما، وهذا المعنى منتفٍ في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة، التي ليس فيها ظلم ألبتة، لا في غرر ولا في غير غرر.
وذكر حديث رافع بن خديج قال : "كنا أكثر أهل الأنصار حقلاً فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه لهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا"....وقال: فالنهي يكون على جهة محددة فيهلك منها شيء ويسلم شيء وهذا النوع حرام با ريب عند الفقهاء قاطبة وحرّموا نظيره في المضاربة فلوا اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز. [ ص339]
وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات؛ لأن الأصل في المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين؛ فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً على عباده،[ص339] ولهذا السبب بيّن رافع أحد نوعي الكراء الجائز وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه ولم يتعرض للشركة لأنها جنس آخر.
ثم قال ابن تيمية: يبقى أن يُقال فقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها) فقد أَمَرَ إذا لم يفعل واحداً من الزرع والمنيحة، أن يمسكها، وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة.[ص345]
فيقال: الأمر بهذا أمر ندب واستحباب لا أمر إيجاب أو كان أمر إيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن لحوم الخمر قال: (اهريقوا ما فيها واكسروها) وقال صلى الله عليه وسلم في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة : (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوها فيها وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء) وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفظم عنها انفطاماً جيداً إلا بترك ما يُقاربها من المباح، كما أنها أحياناً لا تترك المعصية إلا بتدريج لا بتركها جملة، فهذا يقع تارة، وهذا يقع تارة، ولهذا يوجد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم ولمن وثق بإيمانه وصبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل.[ص345+346]
لهذا يخلص الإمام ابن تيمية ليقول قاعدة بأنه: فمن كان محتاجاً إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر ، وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين....وقد توجب الشريعة عند الحاجة كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفّت ليطعموا الجياع لأن إطعامهم واجب. [ص349 ]
فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض أصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عيناً كما نهاهم عن الادخار فإن من نهي عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك بطالا، وقد ينهى النبي صلى الله عليه وسلم بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة كما نهاهم في بعض المغازي عن الانتفاع بالقدور التي طبخت فيها لحوم الحمر.[ص350]
وفي مجال آخر ذكر أن أحمد لا يرى اختلاف العقود باختلاف العبارات كما يراها طائفة من أصحابه حيث يجوزون بيع ما في الذمة بيعاً حالاً بلفظ البيع ويمنعونه بلفظ السلم لأنه يصير سلماً حالاً، فنصوص أحمد وأصوله تأبى هذا، فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا تحمل على الألفاظ كما شهد به أجوبته في الأيمان والنذور والوصايا وإن كان هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية مرجوحة عنه. [ص 356]
وحين بيّن ابن تيمية أن قوماً من العلماء أدخلوا في الغرر المنهي عنه أنواع من الإجارات والمشاركات كالمساقاة والمزارعة وحرموها بناء على أنها نوع من الإجارة؛ بيّن خطأ مسلكهم وقال: وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع اليُسر في هذه الأبواب فإنك تجد كثيراً ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهي فرضي الله عن أحمد حيث يقول: (ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل والقياس) وقال أيضاً: (أكثر ما يُخطئ الناس من جهة التأويل والقياس) [ص 364] قال ابن تيمية: ثم هذا التمسك يُفضي إلى ما لا يُمكن اتباعه ألبتة ومن هذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره، وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك.
ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية القاعدة الثالثة في العقود والشروط ما يحل منها وما يصح وما يفسد . [ص 365].
وقال الذي يُمكن ضبطه فيها قولان:
القول الأول:
أن يُقال الأصل في العقود والشروط الحظر إلا ما ورد الشرع بإجازته إلا ما ورد الشرع بإجازته، فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا.
وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصحاب مالك وأحمد فإن أحمد قد يعلل أحياناً بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه.
أما أهل الظاهر فلم يصححوا إلا عقداً ولا شرطاً إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع.
كما ذكر بعض أصول أبي حنيفة في العقود ومنها أنه يصحح في العقود شروطاً يُخالف مقتضاها في المطلق. [ص 366] وأنّه – يقصد أبو حنيفة - إنما يُصحح الشروط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يُمكن فسخه، ولم يصحح في النكاح شرطاً أصلاً لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ، والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقضى العقد فهو باطل؛ لكنه يُستثني مواضع للدليل الخاص.
قال ابن تيمية : وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث....فيقولون كل شرط يُنافي مقتضى العقد فهو باطل إلا إذا كان فيه مصلحة للعاقد.. [ص368]
فنصوص أحمد تقتضي جواز الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي.
وذكر أن عمدتهم قصة بريرة المشهورة ، ولهم من هذا الحديث حجتان:
إحداهما: قوله (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتابه الله بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع، ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا: إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو الإجماع والمدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله.
والحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء أن العلة فيه كونه مخالفاً لمقتضى العقد لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فإذا أراد تغييرها فيعتبرها تغيير لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات.
ثم قال الإمام ابن تيمية: وهذه نكتة القاعدة وهي أن العقود مشروعة على وجه فاشتراط ما يُخالف مقتضاها تغيير للمشروع، ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطاً يُخالف مقتضاها. [ص371] واستدلوا بقوله (اليوم أكملت لكم دينكم) وقوله (ومن يتعد حدود الله) قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله وزيادة في الدين، وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلّت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا: ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية....أو قالوا: هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي في كتاب الله واحتجوا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه. [ص372] وبيَّن ابن تيمية أن ها الحديث : لا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يُعرف وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه [ص373] وقد ذكر ابن تيمية أن اشتراط جابر ظهر بعيره لما باعه على الرسول دليل على معارضة حديث بيع وشرط له. [ص375]
قال ابن تيمية: وأجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه عن غيرهم أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتباً أو صانعاً أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح.
القول الثاني:
الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصاً أو قياساً.[ص373]
قال ابن تيمية: وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحاً للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعاً من الصحة ولا يُعارض ذلك بكونه شرطاً يُخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لم يجده عن غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه من قياس.
وذكر ابن تيمية عدة نماذج من ذلك ومنها :
تجويزه استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق.[ص375]
ويُجَوِّز للواقف إذا أوقف شيئاً أن يستثني منفعته وغلّته جميعها لنفسه مدة حياته.[ص376]
ويُجوّز أحمد في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح؛ لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج).[ص377] قال ابن تيمية : ومن قال بهذا الحديث قال إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح، ولهذا يجوز أن تشترط عليه ألا يتزوج عليها، ويجوز فسخ النكاح بالعيب كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه ألا يتزوج عليها. [ص377+ 378]
ثم خلص بقوله: وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه جوز أيضاً استثناء بعض التصرفات. [ص373].
وذكر أن الشرط المحذور الذي يُنافي مقصود العقد هو اشتراطه الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده.
وعدّد الأدلة على صحة الشروط ومنها آية إيجاب الوفاء بالعقود والعهود: (أوفوا بالعهود) وحديث: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، وقال عقِبَها: فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري على الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله؛ فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يُحرّم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة.[ص 403]
ثمّ قاس مسألتنا بمسألة أخرى بالزكاة فقال: فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة الأصل فيه الحل، وإن غير حكم العين فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك، وسبب ذلك أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح. [ص 404]
ثم ذكر ابن تيمية أن معنى حديث: (كتاب الله أحق وشرط الله أوثق) أي من اشترط أمراً ليس في حكم الله ولا في كتابه بواسطة وبغير واسطة؛ فهو باطل ، لأنه لابد أن يكون المشروط مما يُباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط. [ص 413].
ثم ذكر أن العقود والشروط التي لم يبحها الشرع قد يلزم بها أحكام ، حتى وإن كانت باطلة، وذكر ابن تيمية أن الله حرم عقد الظهار وسماه ( منكراً من القول وزوراً) ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة، ومن لم يعد جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد، وكذلك النذر فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. [ص 414].
وتحدث الإمام أن العقد المحرم قد يكون سبباً لإيجاب أو تحريم، ولا يكون سبباً لإباحة ، لأن المنهي عنه معصية، والأصل في المعاصي أنها لا تكون سبباً لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سبباً للإملاء ولفتح أبواب الدنيا لكن ذاك قدر ليس بشرع، بل قد يكون سبباً لعقوبة الله ، والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم. [ص415].
وخلص الإمام ابن تيمية لقوله: الصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف أن ما يُوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف كما دل عليه الكتاب في مثل قوله (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) [ص 431]
ونبّه أنّ القياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن اشتراط زيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع؛ فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة عليها والنقص من ذلك على ما ذكرت؛ فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك؛ فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد أو يقف العين على البائع أو غيره أو يقضي بالعين ديناً عليه لمعين أو غير معين أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود، ومثله التبرع المفروض والتطوع. [ ص434 +435]
وذكر أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعاً كما يثبت ذلك حساً، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعاً [ص 437]وبعد عدّة أوراق قال : فإذا كان الملك يتنوع أنواعاً وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضاً إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه، والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغموراً بالمصلحة لم يحظره أبداً [ص441].
ثم عقد فصلاً وتحته قاعدة رابعة وهي: أن الشروط المتقدمة على العقد بمنزلة المقارنة له في ظاهر مذهب فقهاء الحديث كأحمد وغيره، ومذهب أهل المدينة ومالك وغيره. [ص 442] قال ابن تيمية: فإذا اتفقا على شيء وعقد العقد بعد ذلك فهو مصروف إلى المعروف بينهما مما اتفقا عليه، كما ينصرف الدرهم والدينار في العقود إلى المعروف بينهما وكما أن جميع العقود إنما تنصرف إلى ما يتعارفه المتعاقدان.[ ص443]
ثم ذكر فصلاً جديداً ذكر فيه قاعدة في الأيمان والنذور: وذكر تحتها ثلاثة مقدمات أعقبها بعدة قواعد:
المقدمة الأولى [ص344]:أن اليمين تشتمل على جملتين:
- جملة مقسم بها.
- وجملة مقسم عليها.
وأنّ مسائل الأيمان:
- إما في حكم المحلوف به.
- وإما في حكم المحلوف عليه.
المقدمة الثانية [ص448]: أن هذه الأيمان يحلف بها بصيغتين:
- تارة بصيغة القسم كقوله والله لا أفعل كذا.
- وتارة بصيغة الجزاء مقله إن فعلت كذا فأنا يهودي أو بريء من الإسلام.
وإذا تبينت صِيغ اليمين:
فالمقدم في صيغة القسم مؤخر في صيغة الجزاء.
والمؤخر في صيغة الجزاء مقدم في صيغة القسم.
والشرط المنفي في صيغة الجزاء مثبت في صيغة القسم
فإنه إذا قال: الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، فقد حلف بالطلاق أن لا يفعل، فالطلاق مقدم والفعل مؤخر.
ولو حلف بصيغة الجزاء لقال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق فكان تقدم الفعل مثبتاً وتأخر الطلاق منفياً.
كما أنّه في القسم قدم الحكم وأخّر الفعل.
ثم قال: وبهذه القاعدة تنحل مسائل كثيرة في من مسائل الأيمان.
المقدمة الثالثة [ص451]:أن صيغة التعليق التي تُسمّى صيغة الشرط وصيغة المجازاة تنقسم إلى ستة أنواع؛ لأن الحالف له حالات يقصدها:
- إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط، كقول الرجل لامرأته إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، وإنما التزم الجزاء على سبيل العوض كالبائع الذي إنما مقصوده أخذ الثمن والتزام أداء المباع على سبيل العوض، فهذا شبيه بالمعاوضة في البيع والإجارة.
- أو أن يكون مقصوده وجود الجزاء فقط مثل أن يقول لامرأته إذا ظهرت فأنت طالق، ونحو ذلك من التوقيت وهو توقيت محض، لكنه أخرّه إلى الوقت المعين بمنزلة تأجيل الدين ولغرض في التأخير.
- أن يكون مقصود الحالف وجود الشرط والجزاء فمثل الذي قد آذته المرأة حتى أحب طلاقها واسترجاع الفدية منها فيقول إن أبريتني من صداقك فأنت طالق وهو يريد كلاً منهما.
- أن يكون مقصوده عدم الشرط لكنه إذا وُجد لم يكره الجزاء، كقوله لامرأته إن ضربت أمي فأنت طالق فهذا فيه معنى اليمين ومعنى التوقيت .
- أن يكون مقصوده عدم الجزاء وتعلقه بالشرط لئلا يوجد وليس له غرض في عدم الشرط فهذا قليل كم يقول إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا.
- أن يكون مقصودهما عدم الشرط والجزاء وإنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما فهو مثل نذر اللجاج والغضب، ومثل الحلف بالطلاق.
ثم قال ابن تيمية: إذا تبينت هذه الأنواع الداخلة في قسم التعليق فقد علمت أن بعضها معناه معنى اليمين بصيغة القسم، وبعضها ليس معناه بمعنى اليمين بصيغة القسم...ومتى كان الشرط المقصود حضّاً على فعل أو منعاً منه أو تصديقاً لخبر أو تكذيباً : كان الشرط مقصوده العدم، هو وجزاؤه، كنذر الجاج والغضب والحلف بالطلاق على وجه اللجاج والغضب. [ ص455]
ثم ذكر عدّة قواعد بعد هذه المُقدّمات الثلاثة:
القاعدة الأولى [ص455]:
أن الله بيّن حكم الحالف بالقرآن والسنة. وأن اليمين تقتضي وجوب الوفاء بها ، وانه في بداية الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة، ولهذا قالت عائشة : كان أبو بكر لا يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين) لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به، لكنّ الله رفعه عن الأمّة بالكفارة التي جعلها بدلاً من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار التي نبه عليها بقوله (ويضع عنهم إصرهم).
ثم تحدث عن نذكر اللجاج والغضب [ص460 ] مثل أن يقول إن فعلت كذا فعلي الحج، ويريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل، وقد ذكر ابن تيمية أن مذهب أكثر أهل العلم أنه يجيزه كفارة يمين وهو قول فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وهي رواية متأخرة عن أبي حنيفة ، وذكر الأدلة على ذلك ثم قال: [ص468] فإن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده : الحض على فعل أو المنع منه، وهذا معنى اليمين، فإن الحالف يقصد الحض على فعل أو المنع، ثم إذ علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة، فلأن تجزيه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك أيمانه بالله، حيث لم يف بعهده وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم، ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في التوحيد ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى[ص468+469]
وعقب ذلك قال: موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق والنذر نوع من اليمين وكل نذر فهو يمين. [ص 469]
ثم عقد فصلاً آخر[ص470] تحدث فيه عن الحلف بالطلاق وأنه لم يبلغه عن الصحابة في الحلف بالطلاق كلام وإنما الذي بلغه فيها عن التابعين ومن بعدهم، والذي بلغه عن الصحابة الحلف بالعتاق[ص470] وذكر اختلاف التابعين ومن بعدهم في اليمين بالطلاق والعتاق، فمنهم من فرّق بينه وبين اليمين بالنذر، وقالوا إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ولا تجزيه الكفارة بخلاف اليمين بالنذر، وهو قول الشافعي وأحمد في الصريح المنصوص عنه.
ثم ذكر [ص481] أن أبا ثور قال في العتق المعلَّق على وجه اليمين أنه يجزيه كفارة يمين، كنذر اللجاج والغضب لحديث ليلى بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين وزينت ربيبة رسول الله بكفارة يمين في قولها: (إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي محرر) قال ابن تيمية: وهذه القصة هي مما اعتمده الفقهاء المستدلون في مسألة نذر اللجاج والغضب لكن توقف أحمد وأبو عبيد عن العتق فيها لأنّه انفرد سليمان التيمي بهذه الرواية، ولمعارضته بما رواه ابن عمر وابن عباس لأن العتق يقع من غير تكفير...قال ابن تيمية: وما وجدت أحداً من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد. [ص474] وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر، فتوقف عنه ، مع أن القياس عنده مساواته للعتق لكن خاف أن يكون مخالفاً للإجماع. [ ص481] قال ابن تيمية: والصواب أن الخلاف في الجميع في الطلاق وغيره... ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين؛ لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين، من باب التنبيه على الحلف بالطلاق. [ص481]
قال ابن تيمية [ص 481] فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة، لما خرج مخرج اليمين أجرأت فيه الكفارة فاحلف بالطلاق الذي ليس بقربة، إما أن تجزئ فيه الكفارة ولا يجب فيه شيء، على قول من يقول: نذر غير الطاعة لا شيء فيه ويكون قوله (إن فعلت كذا فأنت طالق) بمنزلة قوله: (فعلى أن أطلقك) كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم، قوله : " فعبيدي أحرار، بمنزلة قوله : (فعلى أن أعتقهم)...على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق وذاك – والله أعلم – لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم، وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم.
وقد ذكر [ص 486] أنّهم فرقوا بين النذر المقصود شرطه، وبين النذر المقصود عدم شرطه، الذي خرج مخرج اليمين فكذلك يفرق بين:
الطلاق المقصود وصفه كالخلع حيث المقصود فيه العوض.
والطلاق المحلوف به، الذي يقصد عدمه وعدم شرطه، فإنه إنما يُقاس بما في الكتاب والسنة ما أشبهه.
ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها كما فرق بينهما في النذر سواء.
ثم ذكر أنّ ما يدل على هذا القول الكتاب، والسنة، والأثر والاعتبار.
أما الكتاب فقوله سبحانه: (يا أيها النبي لم تُحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك) قال ابن تيمية [ص486] وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لها تحلّة...فإذا فرض يمين واحدة ليس لها تحلة لكان مخالفاً للآية...وفي [ص487] ذكر أن اليمين معقودة فوجب منع المكلف من الفعل، فشرع التحلة لهذا العقد مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين، بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب.
وذكر [ص487 ] أنه إن طلّق امرأته ففي الطلاق أيضاً من ضرر الدنيا والدين ما لا خفاء به، أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة، [ص488] وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه على الطلاق، وقد قرن الله فراق الوطن بقتل النفس.. ثم قال: [ص493] معلوم أن اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية، لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريماً شرطياً لا شرعياً فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل، فيدخل في عموم قوله ( لم تحرم ما أحل الله لك)، وحينئذٍ فقوله : (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) لابد أن يعم كل يمين حرمت الحلال، لأن هذا حكم ذلك الفعل .
ثم قال [ص496] الحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات الله فإنه إذا قال : إن فعلت كذا فعلي الحج، فقد حلف بإيجاب الحج عليه، إيجاب الحج حكم من أحكام الله وهو من صفاته.... والتحريم من صفات الله، كما أن الإيجاب من صفات الله، وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله: (ولا تتخذوا آيات الله هزواً) فجعل حدوده في النكاح والطلاق والخلع من آياته، لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم، فقد عقد اليمين لله، كما يعقد النذر لله.
وقال : لو اعتبر الشارع ما في لفظ القسم من انعقاده بالأيمان وارتباطه به دون قصد الحلف؛ لكان موجبه أنه إذا حنث بغير إيمانه بزوال حقيقته، كما في قوله : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) كما أنه إذا حلف على ذلك يميناً فاجرة كانت من الكبائر وإذا اشترى بها مالاً مغصوباً فلا خلاق له في الآخرة. [ص 499].
فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث) فقد حمّل العام ما لا يحتمله. [ص:512]
ثم قال: الحالف إذا قال : إن لم أفعل كذا فعلي الحج، أو الطلاق، ليس قصده التزام حج ولا طلاق، ولا تكلم بما يوجبه ابتداء، وإنما قصده: الحض على ذلك الفعل، أو منع نفسه منه، كما أن قصد المكره: دفع المكروه عنه، ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع: إن فعلت كذا، فهذا لي لازم، أو هذا علي حرام، لدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم، علق ذلك به، فقصده منعهما جميعاً لا ثبوت أحدهما، ولا ثبوت سببه، وإذا لم يكن قاصداً للحكم ولا لسببه وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم. [ص 518]
يواصل الإمام حديثه فيقول: [ص518+519] وأيضاً فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة، لم يبلغني أنه كان يحلف بها على عهد قدماء الصحابة، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج بن يوسف، وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال والطلاق والعتاق. ولم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحالف بالطلاق وإنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق كما تقدم.
ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشاراً عظيماً، ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق وقع بها لا محالة صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو بيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل[ص519]
ثم تحدث ابن تيمية أنه نشأ عن ذلك خمسة أنواع من المفاسد والحيل أخذت عن الكوفيين وغيرهم.
1. الحيلة الأولى: في المحلوف عليه فيتأول لهم خلاف ما قصدوه وخلاف ما يدل عليه الكلام في عرف الناس.[ص520]
2. الحيلة الثانية: إذا تعذّر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه، بأن يأمروه بمخالعة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة وهذه الحيلة أحدث من التي قبلها، ثم ثال: وهذا الخلع الذي هو خلع الأيمان : هو شبيه بنكاح المحلل سواء، فإن ذلك عقد عقداً لم يقصده، وإنما قصد إزالته، وهذا فسخ فسخاً لم يقصده وإنما قصد إزالته، وهذه حيلة مُحدثة باردة قد صنّف أبو عبد الله بن بطة جزءاً في إبطالها، وذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع. [ص520+521]
3. الحيلة الثالثة: إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه احتالوا في المحلوف به، فيبطلوه بالبحث عن شروطه، فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله اشتمل على أمير يكون به فاسداً ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع، ومذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدى روايتيه أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه، والفسوق غالب على كثير من الناس.[ص522]
4. الحيل الرابعة: السريجية في إفساد المحلوف به أيضاً لكن لوجود مانع لا لفوات شرط فإن أبا العباس بن سريج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذا قال لامرأته إذا وقع عليك طلاقي أو إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً أنه لا يقع بعد ذلك عليها طلاق أبداً؛ لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق وإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز فيفضي وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع، وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك بل رأوه من الزلات، وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحّة هذا الكلام فقالوا: إذا وقع المُنّجز وقع المُطلّق، وهذا الكلام ليس بصحيح، فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة. [ص523+524].
5. الحيلة الخامسة: إذا وقع الطلاق ولم يكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولاً ولا فعلاً ولا في المحلوف به إبطالاً ولا منعاً احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلّت عليه السنة وإجماع الصحابة مع دلالة القرآن وشواهد الأصول على تحريمه وفساده [ص525].
قال ابن تيمية: في هذه الأمور من الحيل الخمس من المكر والخداع والاستهزاء بآيات الله واللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الإسلام، ويوجب طعن الكفار فيه كما رأيته في بعض كتب النصارى وغيرهم. [ص 527].
ثم تحدث عن تفريعات الكوفيين وغيرهم من فروع الأيمان شيئاً كثيراً مبناه على هذا الأصل، فقال: وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء ونحوهم، كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي يقول: مثالها مثال رجل بنى داراً حسنة على حجارة مغصوبة، فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره انهدم بناؤه؛ فإن الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة.[ص527].
ثم ذكر عن أعيان الصحابة كابن عمر وأخته حفصة وزينب ربيبة رسول الله الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق والطلاق ما هو أولى منه، وأن طاووس لم يكن يرى اليمين بالطلاق موقعة له، فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيً لهذه المفاسد وحاله في الشريعة هذه الحال، كان هذا دليلاً على أن ما أفضى إلى هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق لمن يزرعها ويستثمرها وبيع الخضر ونحوها. [ ص 528]
قال ابن تيمية: فإن قيل فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه الضرائر الثلاث، فلا ينبغي له أن يحلف، قيل: ليس في شريعتنا ذنب إذ فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم، فإن الله لم يحمل علينا إصراً كما حمله على الذين من قبلنا، فهب أن هذا قد اتى كبيرة من الكبائر، في حلفه بالطلاق ثم تاب من تلك الكبيرة فكيف يُناسب أصول شريعتنا أن يبقى أثر ذلك الذنب عليه لا يجد له مخرجاً. [ص533].
قال ابن تيمية: قد جعل الله الطلاق ثلاثا؛ فإذا كان يتكلم بالطلاق باختياره وله ذلك ثلاث مرات كان وقوع الضرر مثل هذا نادراً بخلاف الأول، فإن مقصوده لم يكن الطلاق وإنما كان أن يفعل المحلوف عليه أو لا يفعله ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلى فعله أو تركه، فيلزمه الطلاق بغير اختيار ، لا له ولا لسببه. [ص 534]
وقال: الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة، لا تثقيلها بالإيجاب، أو التحريم فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقاً، استمروا على ذلك في أول الإسلام، حتى ظاهر أوس بن الصامت من امرأته. [ص534 +535+536] وقال أن الشخص إذا قال إن فعلت كذا فمالي صدقة ، فالمعلق بالصفة وجود الصدقة لا وجوبها، كما أن المعلق في قوله فعبدي حر أو فامرأتي طالق وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما. [ص535]
ثم قال : هب أن المعلّق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج، أليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب وذاك الوجود عند عدم وجود الشرط؟ [ص537 +538] فإذا كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب بل يجزئه كفارة يمين كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود بل يجزئه كفارة يمين، كما لو قال: هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا، فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط، ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق بل يلزمه كفارة يمين ولا يلزمه شيء، ولو قال ابتداء هو يهودي أو نصراني للزمه الكفر بمنزلة قوله ابتداء عبدي حر وامرأتي طالق.
ثم عقد فصلاً ختامياً [ص540] عن موجب نذر اللجاج والغضب على المشهور عندنا – يقصد الحنابلة – أحد شيئين : إما التكفير وإما فعلق المعلق.
قال فيه: لا ريب أن موجب اللفظ في مثل قوله : إن فعلت كذا فعلي صلاة ركعتين، أو صدقة ألف...هو الوجوب عند الفعل، فهو مُخيّر بين هذا الوجوب وبين وجوب الكفارة.
فإذا لم يستلزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة ، فاللازم له أحد الوجوبين: كل منهما ثابت بتقدير عدم الآخر، كما في الواجب المخير، وكذلك إذا قال إذا فعلت كذا فعليّ تطليق هذه المرأة، أو عتق هذا العبد، فإن ذلك يوجب استحقاق تطليق المرأة ، وعتق العبد.
ولو نجّز ذلك فقال عليّ عتق هذا العبد، فهل يخرج عن ملكه بذلك؟ أو يستحق الإخراج؟
فيه خلاف:
وهو يشبه قوله : هذا وقف.
وأما إذا قال : هذا العبد حر، وهذه المرأة طالق، فهو إسقاط بمنزلة قوله (برئت ذمة فلان من كذا) ..فإن إسقاط حق الدم والمال والعرض من باب إسقاط حق الملك، بملك البضع وملك اليمين.
فإذا قال إن فعلت فعليّ الطلاق أو فامرأتي طالق وقلنا إن موجبه أحد الأمرين فإنه يكون مُخيّراً بين وقوع ذلك وبين وجوب الكفارة.
كما لو قال: فهذا المال صدقة .
ونظير ذلك ما لو قال إذا طلعت الشمس فعبيدي أحرار ونسائي طوالق.
وقلنا التخيير إليه، فإنه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الأمرين من الوقوع أو وجوب التكفير.
فهذه المواضع التي تكون فيها الفرقة أحد اللازمين: إما فرقة معينة أو نوع الفرقة لا يحتاج إلى إنشاء طلاق لكن لا يتعيّن الطلاق إلا بما يوجب تعيينه ، ثم إذا اختار الطلاق فهل يقع من حين الاختيار أو من حين الحنث؟
يخرج على نظير ذلك: فلو قال في جنس مسائل اللجاج والغضب : اخترت التكفير أو اخترت فعل المنذور، فهل يتعين بالقول؟ أو لا يتعين إلا بالفعل؟ وإن كان التخيير بين الوجوبين تعيّن بالقول، كما في التخيير بين النساء وبين الطلاق والعتق.
وإذا كان بين الفعلين: لم يتعيّن إلا بالفعل كالتخيير بين خصال الكفارة.
وإن كان بين الفعل والحكم كما في قوله (إن فعلت كذا فعبدي حر، أو امرأتي طالق) تعيّن الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل.

هذا ملخص مختصر لأهم ما يُمكن ذكره مما بيّنه الإمام ابن تيمية في كتابه القواعد النورانية الفقهية، والله أسأل أن ينفع به، ويجعله خالصاً لوجهه.


المقال منشور في مركز نماء للبحوث والدراسات
http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?ID=40802
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خباب الحمد
  • مقالات شرعية
  • حواراتي معهم
  • حواراتهم معي
  • وللنساء نصيب
  • تحليلات سياسية
  • مواجهات ثقافية
  • تحقيقات صحافية
  • البناء الفكري والدعوي
  • رصد الاستراتيجية الغربية
  • رمضانيات
  • استشارات
  • كتب
  • صوتيات
  • قراءة في كتاب
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية