صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







زغل الإخاء..! (6) .... مآزق المنازل

خالد عبداللطيف


قبسات وهمسات.. نفحات ولفحات.. في زمن زاد فيه "دبيب البغضاء"!
مدارها: شوائب تكدّر الصفاء، وتشوّه وجه الإخاء!
ومدادها: قطرات ندى للأخلاّء..
وعبرات من عيون الأوفياء!

قبسـات

قال الله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات...} (الأنعام:165). 
وقال جل وعلا: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات..} (المجادلة:11).وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلوا الناس منازلهم" (رواه أبوداود).
وذكره مسلم تعليقا  في أول صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم".
 
بين جهل وغفلة..!

 
خصلة طيبة مباركة، لمن أخذها بحقها وفقهها، لم تزل سببا عظيما من أسباب تأليف القلوب، ومظهرا جليا من مظاهر "الذكاء الاجتماعي" ومعاملة الناس بما يناسب أحوالهم وأقدارهم.
كيف لا ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم، المؤيد بوحي السماء، أمر بها، وكانت في سيرته العطرة مشاهد منها ومواقف تعلم الناس فصلا فريدا من فصول التعامل والتواصل الإنساني الفريد؟!
وفي ميدان "الإخاء"، الذي تروم هذه السطور إسهاما في إحيائه؛ متمثلا للهَدْي النبوي، صافيا نقيا من الدغل والزغل، والشوائب التي علقت به من غبار الهوى والغفلة، لاتزال العجائب تترى من طرفي النقيض في هذه الخصلة:
قومٍ فقهوا حقيقتها؛ فترى منهم في تمثّلها ما يسرّك ويذكّرك بها ويعينك عليها!
وآخرين جهلوا أو غفلوا؛ فيؤلمك ما تراه من جفاء وما يلقاه معاشروهم من العناء!
فأما الجهل فدواؤه العلم بما جاء عن خير الخلق في ذلك من خبر وسيرة، وأما الغفلة فدواؤها التذكير {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}!
 
منهاج النبوة

 
من أصرح ما يحث على هذه الخصلة ما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلوا الناس منازلهم" (رواه أبوداود).
ومع أن الحديث بهذا اللفظ قد اختلف فيه، فضعفه جمع من أهل العلم. وصححه آخرون، منهم: الحاكم، وابن الصلاح، لكن مسلما ذكره في أول صحيحه تعليقا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم"، كما صحت في معناه أحاديث كثيرة.
 
قال الإمام السخاوي" في "المقاصد الحسنة": "حديث (أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم) (ذكره) مسلم في مقدمة صحيحه بلا إسناد تعليقا..." إلى أن قال (السخاوي): "وبالجملة فحديث عائشة حسن".
وقال الإمام "النووي": "إن شرط مسلم الاكتفاء بالمعاصرة، وميمون يحتمل أن يكون قد لقي عائشة".
ومن الأحاديث الصحيحة التي صحت في المعنى نفسه: قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار بعد نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان قادما على حمار، فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم" (كما في صحيح البخاري). وعند مسلم وأبي داود: "أو إلى خيركم".
وقوله صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر -: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له".
وكذلك ما جاء من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إنزال الملوك منازلهم في  كتبه إليهم، كما في كتابه لهرقل: "من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم"، وغيره من الملوك.  قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة؛ لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يخله من إكرام؛ لمصلحة التألف. وفي غزوة الفتح وحين أشرف على دخول مكة أعلم الناس أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ولهذا ترك هذا النهج أثراً بالغاً في نفوس هؤلاء السادة فأسلم كثير منهم وحسن إسلامه وتبعهم من أقوامهم عدد كبير" اهـ.
وفي الباب نفسه (مراعاة منزلة الكافر لمصلحة التألف) أمر الله عز وجل لموسى وهاورن عليهما السلام بإلانة القول مع الجبار فرعون.
 قال القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره عند قوله تعالى: {فقولا له قولاً لينا} في خطابه لموسى وهاورن عليهما السلام: واختلف في معنى قوله {لينا} فقالت فرقة ـ منهم الكلبي وعكرمة ـ معناه: كنياه، وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي، فعلى هذا تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيهاً ذا شرف وطمع بإسلامه، وقد يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه؛ لأن الطمع ليس بحقيقة توجه عملاً، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم: "إذا اتاكم كريم قوم فأكرموه" ولم يقل: وإن طمعتم في إسلامه، ومن الإكرام دعاؤه بالكنية، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصفوان بن أمية: "انزل أبا وهب" اهـ.
ففي هذه الأخبار والقصص، وغيرها كثير في السنة والسيرة،  تأكيد الحث على هذه الخصلة "إنزال الناس منازلهم"، وأنها من هَدْي خير الخلق صلى الله عليه وسلم، حتى مع غير المسلمين، بل صناديد الكفر، فكيف بالمسلم؟! وكيف بالمتآخين الذين يتواصون بالحق ويتآمرون بالمعروف؟!
 
ميزان التفاضل

 
وفي إشارة لعموم الحث على إنزال الناس ما يليق بهم من المنازل، ومراعاة ما بين الناس من تفاضل، وأنه لا تختص به فئات بعينها من الناس، كما أنه تفاضل بميزان رباني، لا بهوى نفساني، قال الحافظ النووي في شرح مسلم عند ذكره للحديث – السابق الكلام عنه - عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "ومن فوائده: تفاضل الناس في الحقوق على حسب منازلهم ومراتبهم، وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها".وفي شرحه للحديث نفسه فصّل وأفاد العلامة  ابن جبرين رحمه الله، فقال:"ولا شك أن الحديث على عمومه، وأنه يدخل فيه منازل الناس العامة والخاصة؛ فمعلوم مثلا: أن الإنسان إذا رأى من له مكانة وهيئة فإنه يحترمه، وإذا رأى آخر دونه في المكانة والهيبة والهيئة فإنه يكون قدره أقل..".ثم قال: "وبكل حال الكلام إنما هو في منازل الناس التي يستحقونها عند الله تعالى، وعند عباد الله، ونعرف أن منازل الناس بالنسبة إلينا نقول: لا شك أن المقربين عند الله تعالى هم الذين يحبونه ويعبدونه، ويقيمون حقوقه وحدوده، ويؤدون العبادات التي أمروا بها، فهؤلاء لهم مكانتهم؛ نحبهم ونقربهم ونحترمهم، ونعترف بفضلهم وبديانتهم وبأعمالهم، فننزلهم منزلة رفيعة.كذلك أيضا الآخرون الذين لهم منزلة في العلم، إذا كانوا مثلا حملة العلم، وحفاظ الحديث ونحوهم أيضا نحبهم أيضا ونقربهم ونجالسهم ونؤانسهم، ونطمئن إليهم ونركن إليهم ونثق بهم، ونعرف لهم حقهم ومكانتهم ننزلهم أيضا بمنزلة يستحقونها.وكذلك أيضا المنازل الدنيوية؛ أيضا الناس قد يعرفون لأهلها مكانتهم، فإنك مثلا إذا رأيت اثنين كلاهما في العبادة سواء؛ كلاهما يصلي ويصوم ويذكر الله ويقرأ القرآن، ولكن أحدهما من أهل الرفعة، ومن أهل الثروة، ومن أهل المكانة، ومن أهل المال الذين فتح الله تعالى عليهم، والآخر ليس كذلك، بل هو من فقراء الناس وعامتهم، لا شك أنك تقوم لهذا الذي أنعم الله عليه، وتقول: هذا قد غلب نفسه وتواضع لربه، ولم يتكبر مع ما أعطاه الله من هذه الرتبة، وما فتح عليه من هذا المال، قد عصى هوى نفسه، وأطاع الله تعالى، وأجاب داعيه، وتواضع لله، وأنفق مما أعطاه الله، فيكون له مكانة عندك، فقد تقوم له وتسلم عليه وتجلسه في مقدمة مجلسك، وتحترمه وتميل إليه، بخلاف الآخر الذي هو فقير، ولكن عبادته متوسطة كعبادة هذا الغني، وذلك دليل على ما للناس من المنزلة" انتهى كلامه رحمه الله.
 
حكم ومقاصد

 
وهكذا تتضح معالم السبيل أمام المتآخين المتحابين في معاملة بعضهم بعضا، وفي معاملتهم للناس:
فالشأن ليس مرده إلى أهواء وآراء، بل فقه وحكمة ونظر سديد، وتأمل في المقاصد؛ فمن صلحت نيته وعمله وهو يتمثل هذا الهدي "إنزال الناس منازلهم" فهو على سبيل سنة، وصلاح ذات بين.
وكم من الإخوان تقاطعوا وتدابروا بسبب إهدار هذا الخلق الكريم، والهدي القويم؟!
فهذا فلان يتحاشى لقيا أخ له في الله؛ لما يتسبب له فيه من حرج أمام آخرين بمبالغته في الانبساط في المزاح معه، دون تمييز بين مجالسهم الخاصة ومجلس عام؛ فأهدر وقاره ومنزلته أمام الآخرين!
وهذا آخر نفر منه الناس؛ لأنه لا يفرق بين صغير وكبير أوعالم وعامي إذا جمعه بهم مجلس!
وكم مغتر بتواضع من فقيه أو نبيل؛ فلا يكاد يرعى له منزلة؛ بخلاف حاله مع ذي مال أو جاه!
والأعجب من هذا: أن يغضب الغافل عن هذه الخصلة "إنزال الناس منازلهم" إذا عوتب في ذلك ويتغير وجهه وقلبه ويظن الظنون!
وهكذا لا يزال كثيرون يقعون، ويوقعون غيرهم، في مآزق المنازل!
وأمثال هؤلاء إنما يؤتون من جهلهم أو غفلتهم عن أن مقتضى الحكمة وحسن الخلق: مراعاة كل حال وزمان ومكان بما يناسبه؛ ومعاملة الناس بما يحبون.
قال الشيخ السعدي في "بهجة قلوب الأبرار في شرح جوامع الأخبار" حول "الحكمة" في هذه الخصلة، عند شرحه حديث عائشة رضي الله عنها  "أنزلوا الناس منازلهم":
"يا له من حديث حكيم، فيه الحث لأمته على مراعاة الحكمة؛ فإن الحكمة وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها. والله تعالى حكيم في خلقه وتقديره، وحكيم في شرعه وأمره ونهيه، وقد أمر عباده بالحكمة ومراعاتها في كل شيء، وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاداته كلها تدور على الحكمة.فمنها: هذا الحديث الجامع، إذ أمر أن ننزل الناس منازلهم، وذلك في جميع المعاملات، وجميع المخاطبات، والتعلم والتعليم"اهـ.
ولله در الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما، الذي تعلم في مدرسة النبوة ففطن لهذه الخصلة مبكرا وهو صبي يافع وسط أكابر الصحابة، كما جاء عنه في الصحيحين وغيرهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أخبروني بشجرة تشبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها، تؤتى أكلها كل حين" قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة فقال له أبوه عمر رضي الله عنه: ما منعك أن تتكلم؟ قال: لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، قال عمر ـ رضى الله عنه: "لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا".
 
التنزيل بحسب المنزلة

 
وحول كيفية تنزيل كل شخص منزلته يضيف العلامة السعدي رحمه الله تعالى:
"الناس قسمان: قسم لهم حق خاص، كالوالدين والأولاد والأقارب، والجيران والأصحاب والعلماء، والمحسنين بحسب إحسانهم العام والخاص. فهذا القسم تنزيلهم منازلهم: القيام بحقوقهم المعروفة شرعاً وعرفاً، من البر والصلة والإحسان والتوقير والوفاء والمواساة، وجميع ما لهم من الحقوق، فهؤلاء يميزون عن غيرهم بهذه الحقوق الخاصة...".
إلى أن قال: "فالكبير له التوقير والاحترام، والصغير يعامله بالرحمة والرقة المناسب لحاله، والنظير يعامله بما يحب أن يعامله به".
ثم قال – بعد تفصيل -: "فهذه الأمور وما أشبهها داخلة في هذا الكلام الجامع الذي تواطأ عليه الشرع والعقل. وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". اهـ.
ولعل في عبارته: "والنظير يعامله بما يحب أن يعامله به" ملخص بليغ، وتذكير بأن الإخلال بذلك ينتقص من الإيمان؛ كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: "لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؟!
وقال صاحب عون المعبود في شرح حديث (أنزلوا الناس منازلهم): "أي يعاملون كل أحد بما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف، قال العزيزي: والمراد بالحديث: الحض على مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم وتفضيل بعضهم على بعض في المجالس وفي القيام وغير ذلك من الحقوق" اهـ.
فليتأمل المتحابون بجلال الله فيما قد يبدر من بعضهم من مجاوزة للحد في مزاح أو لهو، أو رأي أو شأن مما يدور في المجالس؛ فإن القلوب تتغير!
وليعوّد  الأخ  لسانه وإخوانه أطايب الكلم كما يطيب له أن يسمع من غيره، وليتجنب ما يوغر الصدر؛ فرب كلمة لا يحسب المحب لها بالا تنال من قلب خليله وتهز رسوخ كنزهما (الحب في الله) فيكون ثم خسارة أخرى!
أما الخسارة الأشد.. إذ إنها متعدية الأثر والضرر؛ فهي وقوع الزلل والخلل في هذا الباب أمام أعين الناس من قدوات لهم في العلم والدعوة والخُلُق!
نعم قد يكون ذلك من الندرة بمكان، لكن أثره قد يتطاير ويُتناقل، مع نسبته لمن يُقتدى به، فيبلغ أثره أبعد مما يتصوره من أخلّ بهذه الخصلة والوصية النبوية العظيمة "إنزال الناس منازلهم"، كما  أن من يحرص عليها وينصح ويدعو إليها؛ تعبدا لله جل وعلا، يحيي سنة كريمة متبعة يندرج تحتها من الفوائد والمصالح خير عظيم

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد عبداللطيف
  • إصلاح البيوت
  • نصرة الرسول
  • زغل الإخاء
  • استشارات
  • أعمال أخرى
  • الصفحة الرئيسية