صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







" فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ "

حسين بن سعيد الحسنية
@hos3030


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله أحق من عبد، وأولى من حمد، وأكرم من قصد، نحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، ونشكره على ما أولى به من نعم سائغة وأسدى، سبحانه الملك الجليل المنزه عن النظير والعديل، أوضح لعباده الطريق الحق وأرشدهم إلى خير سبيل.
أﻣﻮﻻﻱ إني ﻋﺒﺪ ﺿﻌﻴﻒ ﺃﺗﻴﺘﻚ ﺃﺭﻏﺐ ﺑﻤﺎ ﻟﺪﻳﻚ
ﺃﺗﻴﺘﻚ ﺃﺷﻜﻮ ﻣﺼﺎﺏ ﺍﻟﺬﻧﻮﺏ ﻭﻫﻞ ﻳﺸﺘﻜﻰ ﺍﻟﻀﺮ إﻻ إليك
ﻓﻤﻦّ ﺑﻌﻔﻮﻙ ﻳﺎ ﺳﻴّﺪﻱ ﻓﻠﻴﺲ ﺍﻋﺘﻤﺎﺩﻱ إﻻ ﻋﻠﻴﻚ
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة ندخرها إلى يوم المعاد، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، إمام التوابين، وسيّد المستغفرين، وعظيم الأوابين المطواعين، عليه من ربه أفضل صلاة وأزكى سلام إلى يوم الدين، وعلى اله وصحبه وسلم أجمعين، وبعد:
فاتقوا الله - أيها الناس – واعلموا أنّكم في سفر إليه، ولا بد للمسافر من زاد، وإن خير ما تميّز به العباد في هذه الدار ليوم القرار هو تقوى الله العزيز الغفار، قال تعالى: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) .
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجرِ
فكمْ من فتىَ أمسى وأصبحَ ضاحكًا وقدْ نُسِجَتْ أكفَانَهْ وَهوَ لا يدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبرِ
وكم من عروس زينوها لعرسها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
وكم من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علةٍ وكمْ من عليلٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
فمن عاش ألفا وألفين إنه لابدّ من يوم يحمل فيه إلى القبر
أيها الموحدون:
لقد كتب الله على كل شيء الفناء، وحكم بالموت على كل حي، قال تعالى: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، وقال تعالى: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) .

فتنبّه – يا عبد الله – من قادم الأيام، ففي أحدها يزورك من الله رسول ليقبض روحك وينقلك إلى عالم آخر عن عالم الدنيا، قد تسبقه أمارات تدل على قربه منك وقد يأتيك فجأة دون مسبّقات أو مقدمات، إنه ملك الموت الذي لابد أن تراه وتشعر بمجيئه ويهولك مقدمه وقربه منك،
يأتي ملك الموت لينقلنا من دار الفناء إلى دار البقاء ومن الحياة المؤقتة إلى الحياة الخالدة، ومن دنيا العمل إلى موقف الحساب، ومن ساعة الإمهال إلى ساعة السؤال، فيا ليت شعري!! متى ذلكم اليوم فنستعد له، ومتى تلك اللحظة فنتأهب لها، ويا ويح قلبي كيف نفر من الموت وهو لاقينا، والى أي درب نحيد عنه وهو حادينا: ( قلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .
الموت..هادم اللذات ومفرق الجماعات وميتّم البنين والبنات, المعجزة الإلهية التي لم يستطع ولن يستطع احد أن يردها: ( قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .
مرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه واشتد عليه المرض، فعرض أبناءه أن يأتوه بطبيب، فأبى..فلما نزل به الموت صرخ بأبناءه وقال: أين طبيبكم ليردها إن كان صادقاً؟! ( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ . وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ . وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ . فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ . تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) .
الموت قاطع كل لذة، ومهين كل جبار وظالم، ومحقر كل متعالي ومتكبر، وموعظة لأصحاب الألباب.
كم أبلى الموت خليلا بفراق خليله، وكم يتم طفلاً فأشغله ببكائه وعويله، إنه الموت الذي أوحش المنازل من أقمارها، ونقر الطيور من أوركارها، وعوضهم من لذة العيش بالتنغيص والتنكيد, قال مطرف بن الشخير:ـ إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعمياً لا موت فيه, وقال القرطبي رحمه الله:ـ الموت هو الخطب الأفضع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أمر وأبشع، وإنّه الحارث الأهذم للذات، والأقطع للراحات، والأجلب للكريهات، فإن أمرا يقطع أوصالك ويفرق أعضاءك ويهدم أركانك لهو الأمر العظيم والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم.
يا بن آدم:
إلى متى وأنت مغرور بدنياك، ومشغول بإتباع هواك، ومتعلق بحياة عمّ قريب ستغادرها، ثم تكون من أهل اللحود؟.

يا بن آدم:
أما ترى مسير الأيام في جسمك، وذهابها بعمرك، وإخراجها لك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك؟!.
يا بن آدم:
لو استشعرت أنك إلى قبرك تسير، والى أجلك ماض، ولو علمت ما سيلقاك في تلك الحفرة الضيقة، لبقيت مصروعاً مما ستجد، مذهولاً عن الأهل والأصحاب والولد.
يا بن آدم:
والله لو لم يكن في الموت إلا الإعدام، وانحلال الأجسام، ونسيانك الليالي والأيام، لكان والله لأهل اللذات مكدراً, ولأصحاب النعيم منغّصاً ومغيرا، ولأرباب العقول الراجحة عن الرغبة في هذه الدار زاجراً ومنفّرا، وللمنهمك في زخارف الدنيا منذراً ومزعجاً ومحذراً.
أَرَى الْمَوْتَ لا يُبْقِي حَزِينًا وَلا يَدَعُ لِعَادٍ مِلاكًا فِي الْبِلادِ وَمُرْتَقى
يَبِيّتُ أَهْلُ الْحِصْنِ وَالْحِصْنُ مُغْلَقٌ وَيَأْتِي الْجِبَالَ مِنْ شَمَارِيخِهَا العُلَى
أيها الموحدون:
لقد أيقظ الموت مضاجع الصالحين، وضيق عليهم دنيا العابثين، فعملوا بعد أن علموا، وعادوا بعد إن حادوا، وكانت أغلى أمانيهم أن لا يفتنوا في ساعة الاحتضار، وأن لا يكونوا ممن قال الله فيهم: ( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
قالت عائشة رضي الله عنها وهي ترى أباها الصديق رضي الله عنه يحتضر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس كذلك، ولكن قولي: ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) ,
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو يتذكر الموت: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي.
ولما احتضر أبو الدرداء جعل يقول:" ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ثم بكى فقالت امرأته: تبكي وقد صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ومالي لا أبكي ولا أدري علام أهجم من ذنوبي؟
وسُئل أبا هريرة رضي الله عنه وهو يحتضر ما يبكيك؟ فقال: بعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إلى الجنة أو إلى النار.
وكان يزيد الرقاش يبكي عند موته، فسألوه لم البكاء؟ فقال: أبكي على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النهار، ثم جعل يقول: من يصوم عنك؟ من يصلي عنك؟ ومن يقترب إلى الله عز وجل بعدك.
وقال الشافعي رحمه الله في موته حينما سألوه: كيف أنت؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً, ولكأس المنية شارباً، وعلى الله تعالى وارداً، ولا أدري نفسي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: مرض أحد العبّاد فدخلنا نعوده، فجعل يتنفس ويتأسف، فقلت له: على ماذا تتأسف؟ قال: على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت عنها ولم أذكر الله عز وجل فيها.
وقيل لأحدهم ما يبكيك؟ قال: أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ربهم ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم.
وقال أبو محمد العجلي: دخلت على رجل وهو في الموت فقال لي: لقد سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي.
فيا عباد الله:
احذروا من الموت وقربه، واعدوا له عدته، فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، يأتي بخير لا يكون معه شر أبداً, أو شر لا يكون معه خير أبدًا، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها؟ ومن أقرب إلى النار من عاملها؟ وأنتم طرداء الموت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من خلفكم.
أقول ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) ، وأصلي واسلم على سيد البرية وإمام البشرية محمد بن عبدالله عليه أفضل صلاة وسلام وتحية، وبعد:
اعلم – يا عبد الله – أن من الناس من بالغ في الحديث عن المستقبل، تجاوز في طول الأمل، وعلّق الناس بأيام قادمة سيعيشونها ويدركونها وقد نالوا ما يطلبون وحققوا ما إليه يصبون، حتى نسي أو تناسى الموت، وجعل الآخرين يجعلونه آخر اهتماماتهم – ولله المشتكى -.
وحبيبكم عليه الصلاة والسلام كان يحذر من الدنيا وشهواتها وشبهاتها، ويحذر من طول الأمل وإتباع الأماني وكان يقول: ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) .
فأجعل دنياك عامرة بالطاعات لتفوز عند الموت بالثبات وكن على استعداد دائم للموت وسكرته وللقبر وظلمته وللموقف وحسرته وللصراط وزلته لتكون من أهل جنته، جعلني الله وإياكم من أهلها، وأعاذني وإياكم من النار.
اللهم إنّا إلى الموت سائرون، والى الدار الآخرة ماضون، اللهم فهوّن علينا سكرات الموت، وثبتنا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم أجعل آخر كلامنا في هذه الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله مخلصة بها قلوبنا ومتيقنة بها أفئدتنا.
اللهم أغفر لأمواتنا وأموات المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلهم من الذنوب والخطايا بالماء والثلج والبرد يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واّذل الشرك والمشركين، واحمي حوزة الدين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم أصلح حال إخواننا أهل السنة والجماعة في كل مكان وحين.
اللهم أحفظ جنودنا على حدودنا وانصرهم على عدوك وعدوهم وعدونا، وأيدهم بتأييدك، وكن لهم معيناً وظهيراً يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين،،.


حسين بن سعيد الحسنية
h_alhasaneih@
16/06/1437هـ


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
حسين الحسنية
  • مقالات
  • كتب
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية