صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مسائل في الدعاء القرآني (10)
دعوات الرسل عليهم السلام

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


الدعوات التي دعا بها الرسل عليهم السلام في القرآن كثيرة جدا، ومن فوائد حكايتها وإخبارنا بها: إظهار عبودية الرسل لله تعالى بالدعاء الذي هو العبادة للتأسي بهم، والدعاء بهذه الأدعية النافعة العظيمة التي أنطق الله تعالى بها أفضل خلقه عليهم السلام، وما كان الله تعالى ليختار لهم إلا أكمل أنواع العبودية، وأفضل الدعاء [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ] [الأنعام: 90].

ويتعلق بهذه المسألة قبل خوض تفصيلاتها مسألتان أصوليتان:

أولاهما: تعلق دعاء الرسل بمسألة: شرع من قبلنا هل يكون شرعا لنا؟
ثانيهما: دخول النسخ في الدعاء.

أما المسألة الأولى:
فلا أرى دخول الدعاء المطلق أصلا في هذه المسألة حتى تبحث؛ وذلك لأن الأدعية المطلقة ليست توقيفية، بل هي منوطة بحاجة الإنسان، ويجوز أن يحدث منها وفيها ما يشاء، وأن يزيد على المأثور، وأن ينقص منه ما لم يتعد في دعائه.
وإذا جاز إحداث أدعية مطلقة توافق حاجة الداعي فلأن يدعو بدعاء الرسل من باب أولى؛ لأن دعاءهم عليهم السلام خير مما يخترعه العبد لنفسه.

وأما المسألة الثانية:
فالظاهر أنه يرد النسخ في الدعاء، كما كان مباحا في أول الإسلام الاستغفار للوالدين والقرابة المشركين، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمه أبي طالب الذي مات على الشرك:«أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة: 113][ رواه البخاري: 1360، ومسلم: 24].
قال الزركشي رحمه الله تعالى: هل يرد النسخ في الدعاء؟ روى الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية» قاله عليه السلام وهم كفار قريش، ثم أسلموا بعد ذلك. قال صاحب "مسند الفردوس": وهذا منسوخ بقوله: «اللهم أيما رجل سببته أو شتمته فاجعل ذلك قربة إليك» متفق عليه. [البحر المحيط: 5/ 250-251].
وعليه فكل دعاء دعا به نبي من الأنبياء فالأصل مشروعية الدعاء به، ما لم يكن منسوخا كدعوة الخليل في الاستغفار لأبيه المشرك، أو يكن ثمة مانع من الدعاء به لسبب آخر.

ويمكن تقسيم دعاء الرسل عليهم السلام إلى أقسام:

القسم الأول: دعوات عامة تصلح للنبي ولغيره، وهي أكثر ما ورد في القرآن من دعوات الأنبياء عليهم السلام، ومنها: دعاء آدم وحواء عليهما السلام [رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ] {الأعراف:23} ودعاء نوح عليه السلام [ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرِينَ] {هود:47} ودعاء الخليل عليه السلام [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ][إبراهيم: 35] ودعاء الكليم عليه السلام [ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] {الأعراف:151}.
وأحيانا يكون لهذا النوع من الأدعية تأييد في شرعنا إما بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام به، وإما ببيان فضله والحث عليه.
فمن الأول: عَنْ رَجُلٍ، مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:"اللهُمَّ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[رواه أحمد: 18056] وهي مثل دعوة الخليل عليه السلام حين قال [وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ] [الشعراء: 87].
ومن الثاني: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ "[رواه الترمذي: 3505، وصححه الحاكم والألباني].

القسم الثاني:
أن تكون الدعوة خاصة بالنبي الذي دعا بها، فدعاء غيره بها يعد من التعدي في الدعاء، ومن أمثلته دعاء الخليل عليه السلام أن يريه الله تعالى كيف يحيي الموتى فأراه؛ فإن هذا من المعجزات الخاصة التي ليست لكل أحد حتى يسألها العبد، ويدّعي أنه يتأسى بالخليل، وكل ما كان من المعجزات فهو مثله كمائدة عيسى عليه السلام.
ومنه أيضا دعوة موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى ولم يُجَبْ إلى ذلك؛ لأن الله تعالى لا يُرى في الدنيا، فكيف يدعو بها أحد بعد موسى عليه السلام وهو لم يجب لها؟!

القسم الثالث:
أن تتضمن دعوة النبي كلا القسمين السابقين، فيكون فيها ما هو عام، ويكون فيها ما هو خاص بالنبي، وحينئذ فللداعي أن يدعو بما يكون عاما للنبي وغيره، ويترك ما هو خاص به.
ومن أمثلته: دعوة سليمان عليه السلام [قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ][ص: 35]. فالدعاء بالمغفرة عام لكل أحد، والدعاء بهبة ملك لا ينبغي لأحد خاصة به عليه السلام، وقد استجاب الله تعالى له فسخر له الريح والجن وألان له الحديد...الخ.
ودليل اختصاصه بها حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» [رواه البخاري: 461، ومسلم: 541].

القسم الرابع:
أن يكون دعاء النبي صالحا لمن أصيب بمثل حاجته، فلا يصلح أن يكون عاما، لكن يدعو به من كانت حاجته كحاجة النبي.
ومنه دعوة يوسف عليه السلام [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ] {يوسف:33}. وكذلك قوله [رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] {يوسف:101}.
ومنه أيضا دعوة زكريا عليه السلام: [رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ] {الأنبياء:89} وهذا لمن لا ذرية له كما دعا به زكريا، وجائز أن يدعو به من له ذرية باعتبار استدامة الذرية، وعدم فقدهم بموت أو عقوق؛ لأن دعوته هذه أعم من دعوته الأخرى [رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ] {آل عمران:38}.

ومنه أيضا دعوة نوح عليه السلام لما ركب السفينة، وقد أمره الله تعالى بهذه الدعوة [فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ] {المؤمنون:28-29}.
وتسمى الآية الثانية آية النزول، ذكر الحنابلة أن الجنب يقرؤها حال النزول، وكأنهم يرون مشروعية ذلك، ولا أدري هل هو كل نزول أم ماذا؛ لأنهم أوردوها فيما يقرأ الجنب فذكروا آية الركوب وآية النزول. [ينظر: المغني: 1/106، وكشاف القناع:1/148].

وجاء فيها حديث عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:"مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ مَا جَلَسَ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَرْفُثْ " [رواه الدولابي في الكنى: 785] وفي رواية" مَنْ تَوَضَّأَ فِي أَهْلِهِ، ثُمَّ غَدَا إِلَى مَسْجِدِهِ أَوْ رَاحَ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ أَوْ يُعَلِّمَ، كُتِبَتْ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ...حَتَّى إِذَا تَوَسَّطَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْزِلْنِي مَنْزِلًا مُبَارَكًا، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ عِتْقِ رَقَبَةٍ» [رواه تمام في فوائده: 1680، وهو حديث منكر في سنده جَمِيع بن ثوب، وهو منكر الحديث كما ذكر البخاري وأبو حاتم والنسائي].
والظاهر أن لا يشرع قول ذلك حال النزول؛ لأنه دعاء مؤقت بحال معينة فاحتاج إلى دليل، وليس دعاء مطلقا كسائر أدعية الرسل عليهم السلام.

القسم الخامس:
أن يكون فيه دعاء عام، وفيه ما لا يصلح إلا لمن كانت له نفس حاجة النبي، فيدعو بما كان عاما ويتجاوز ما لا يصلح له.
ومنه دعوة الخليل عليه السلام [رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] {الشعراء:83-89}. فاستغفار الخليل عليه السلام لأبيه منسوخ بالنهي عن الاستغفار للمشركين، ويبقى الاستغفار للأب المسلم، لكن المشكلة هنا وصف الأب بالضال، فصار في بعض دعاء الخليل ما لا يصلح لكل داع.

فالآيات الثلاث الأولى يدعو بها كل مؤمن، وكذلك الدعوة الأخيرة في الآية الخامسة وما بعدها، لكن ما جاء في الآية الرابعة فلا يخلو أمر الداعي بهذه الدعوات من حالات:

الأولى: أن يكون والد الداعي مؤمنا صالحا، وحينئذ لا تصلح هذه الدعوة له، وله أن يتجاوزها إلى ما بعدها، ولا حرج عليه في قفز آية؛ لأنه داع وليس قارئا للقرآن.
الثانية: أن يكون والد الداعي كافرا مات على الكفر، ولا تصلح له هذه الدعوة؛ للنهي عن الاستغفار للمشركين.
الثالثة: أن يكون والد الداعي مسلما مسرفا على نفسه بالعصيان، أو مبتدعا مغال في بدعته، سواء كان حيا أم ميتا، فالظاهر أنه يدعو له بها؛ لأن الإسراف في المعاصي وركوب البدع من الضلال.
الرابعة: أن يكون والد الداعي كافرا حيا، فالظاهر جواز الدعاء له بها؛ لإمكانية هدايته، ومن مغفرة الله تعالى له، ورحمته به أن يهديه للإيمان. والهدي النبوي الدعاء له بالهداية كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ» [رواه البخاري: 6397، ومسلم: 2524]. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ» [رواه مسلم: 2491].

والآية المانعة من الاستغفار للمشركين فيها قيد مهم وهو [من بعد ما تبين لهم] وهذا لا يكون إلا بالموت على الشرك كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ وَلَهُ ابْنٌ مُسْلِم، فَلَمْ يَتْبَعْهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَيَدْفِنَهُ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ» [رواه ابن أبي شيبة: 11847].
ومن هذا النوع أيضا دعوة موسى عليه السلام [قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي] {طه:25-32}.

فالدعاء بشرح الصدر وتيسير الأمر صالح لكل أحد، لكن الدعاء بحل عقدة اللسان يكون بمن في لسانه عقدة دون غيره، وقد قيل: إن في لسان موسى عقدة أو لثغة بسبب أخذه للجمرة لما كان طفلا فكوت لسانه وهذه القصة من الإسرائيليات، وقيل: بل إن موسى عليه السلام فيه غضب وحدة دل عليها إلقاؤه الألواح من الغضب وفيها كلام الله تعالى، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، وأنه إذا غضب احتبس لسانه عن الكلام على عادة الغضبان.
فمن كان في مثل حال الكليم عليه السلام دعا ب (واحلل عقدة من لساني) ويحتمل جواز ذلك مطلقا على قصد استدامة الفصاحة وزيادتها.
وأما الدعاء بوزير من أهله يشرك في أمره فهذا خاص بموسى عليه السلام؛ لأنه بهذه الدعوة شفع لأخيه هارون عليه السلام أن يكون نبيا معه، وهي أعظم شفاعة في التاريخ البشري وأنفعها، فلا يدعو بها غيره.
فكان في دعوة موسى عليه السلام أنواع ثلاثة: عام لكل أحد، وخاص بمن هو في مثل حال موسى، وخاص بموسى دون غيره.

القسم السادس:
أن تكون دعوة النبي قد مضت واستجيبت، وهذا على نوعين:
الأول: دعوة تصلح استدامتها، فيدعى بها، ومن هذا النوع: دعوة الخليل عليه السلام [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ] {البقرة:126} فهذه دعوة قد مضت واستجيب لها، لكن المؤمن لا يمنع من الدعاء بها لصلاحيتها لكل زمن؛ وللتأسي بالخليل عليه السلام، وقد أمرنا بذلك، ولاستدامة الأمن والرزق في البيت الحرام.
الثاني: دعوة لا تصلح استدامتها، فلا يدعى بها، ومن هذا النوع دعوة الخليل أيضا: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] [البقرة: 129]. فقد استجيب للخليل، وبعث محمد عليهما السلام، وما توفي إلا وقد علم أمته كتابهم ودينهم وزكاهم.

القسم السابع:
أن يكون في دعاء النبي قيد خاص به أو يحتمل خصوصيته به، ومن ذلك دعوة الخليل عليه السلام [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ] {إبراهيم:40}
فالخليل دعا ربه سبحانه أن يجعله مقيم الصلاة، ثم عطف ذريته على نفسه في الدعوة، لكنه استخدم (من) فقال (ومن ذريتي) ولم يقل: اجعلني مقيم الصلاة وذريتي، فما نوع (من) هنا، وهل لها أثر في تلك الدعوة؟!
اختلف المفسرون في نوع (من) على قولين:
القول الأول: أنها تبعيضية، أي اجعل من ذريتي من يقيم الصلاة، وليس كلهم؛ وذلك لأن الله تعالى قد أعلم الخليل أن من أمته من يكونون كفارا ولن يصلوا، فكان الدعاء لهم بالصلاة وهذه عاقبتهم تعديا في الدعاء.
قال الزجاج: أي: واجعل مِنْ ذُرِّيَّتِي من يقيم الصلاة.[معاني القرآن: 3/165] وقال بمثل قول الزجاج: ابن أبي زمنين: 2/373، والواحدي في الوجيز: 585، والسمعاني: 3/121، والبغوي: 4/358، والقرطبي: 9/375.
قال الزمخشري: وبعض ذرّيتى، عطفا على المنصوب في اجعلني، وإنما بعَّض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار، وذلك قوله [لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ][2/ 561].
ونص على أنها للتبعيض: الرازي: 19/107، والبيضاوي: 3/202، والنسفي: 2/177، والخازن: 3/42، وأبي حيان: 6/450، وأبي السعود: 5/54.
القول الثاني: أن (من) في (ومن ذريتي) ليست تبعيضية، وهو ما رجحه ابن عاشور، فقال: (ومن ذريتي) صفة لموصوف محذوف معطوف على ياء المتكلم. والتقدير: واجعل مقيمين للصلاة من ذريتي. و (من) ابتدائية وليست للتبعيض؛ لأن إبراهيم عليه السلام لا يسأل الله إلا أكمل ما يحبه لنفسه ولذريته. ويجوز أن تكون من للتبعيض بناء على أن الله أعلمه بأن يكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة وفريق لا يقيمونها، أي: لا يؤمنون. وهذا وجه ضعيف؛ لأنه يقتضي أن يكون الدعاء تحصيلا لحاصل، وهو بعيد، وكيف وقد قال: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) ولم يقل: ومن بني. [التحرير والتنوير 13/ 244].
وذكر الشيخ ابن عثيمين احتمال أنها بيانية واحتمال أنها تبعيضية.[تفسير الفاتحة والبقرة: 2/42].
وثمرة الخلاف في المسألة: أن (من) إن كانت للتبعيض كما هو قول جمهور المفسرين فإن الداعي يحذفها حال الدعاء فيقول: رب اجعلني مقيم الصلاة وذريتي؛ وذلك لأنه لا علم له بأن من ذريته من سيكونون كفارا أو لا يقيمون الصلاة، كما علم ذلك إبراهيم عليه السلام بتعليم الله تعالى له فبعَّض الدعوة، ولم يجعلها مطلقة.
وأما إن كانت (من) ابتدائية أو بيانية فإن الداعي يبقيها كما هي فيدعو: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي. وإن كان يدعو بجماعة قال: ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، والله أعلم.
والتزام الدعاء بالوارد في الآية عند إقامة الصلاة كما يفعله بعض العوام ليس مشروعا لأنه لا أصل له. والمنهي عنه هو التزام هذه الدعوة في هذا الموطن بلا دليل.

الأحد 19/9/1434

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية