صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







موافقة قول الخطيب عمله

إبراهيم بن محمد الحقيل


بسم الله الرحمن الرحيم


 حين يقف خطيب الجمعة أمام الناس متحدثاً فهو يذكرهم ويعظهم، ويدلهم على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ويحذرهم مما يضرهم فيهما، والأصل أنه لا يبتغي من وراء ذلك جزاء دنيوياً، ولا شكوراً من الناس، إنْ هو إلا مصلح يرتسم خطى المرسلين عليهم السلام في دعواتهم، ويتأسى بالنبي  صلى الله عليه وسلم  في دعوته، ويقتبس هدي الصالحين من هذه الأمة سلفها وخلفها في أقوالهم وأفعالهم وسمتهم.
 ولما كانت الحكمة من مشروعية الخطبة نفع الناس بها كان الأولى أن ينتفع الخطيب بما ألقاه على الناس قبل أن يلقيه؛ لعلمه به وقناعته بمضمونه؛ فإنه ما نصح به الناس إلا وفيه خير لهم، وهو أولى بهذا الخير من غيره.
 ولكن النفس البشرية مطبوعة على الظلم والجهل إلا أن يتعاهدها صاحبها بالإيمان والتقوى والتوبة والاستغفار. ودليل ذلك كثرة ما يقع ممن يتصدرون للكلام في شئون الناس الدينية والدنيوية من مخالفة أفعالهم أقوالَهم، وليس ذلك حكراً على الخطباء والدعاة والعلماء فحسب، بل حتى أهل السياسة والاقتصاد والطب والفكر والإعلام وغيرهم يكثر فيهم مخالفة أقوالِهم أفعالَهم؛ فيوصون الناس بأشياء لا يفعلونها هم، ويحذرونهم من أشياء يقعون هم فيها، ولكن هؤلاء لا يؤاخذهم الناس كما يؤاخذون أهل العلم والدعوة والخطابة، ولا يثربون عليهم مثلهم؛ لأن الناس وضعوا أهل العلم والدعوة والخطابة قدوة لهم -وهذا حق وشرف ومسئولية- فكانت مخالفة العالم أو الداعية أو الخطيب أقوالهم أفعالهم أشد على الناس من مخالفة غيرهم؛ ولهذا فإنه يجب على العالم والداعية والخطيب أن يراعوا هذه الخصوصية لهم، ويحافظوا على هذه المنزلة التي بوأهم الله تعالى إياها، ويحفظوا مكانتهم في قلوب الناس بإتباع العلم العمل، وعدم مخالفة القول الفعل؛ ليصدر الناس عنهم، ويقبل الناس منهم، ويكون لخطابهم وقع في القلوب، وتأثير في النفوس.
 

ذم مخالفة القول الفعل:

 تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على ذم مخالفة قول الإنسان عمله؛ لأن ذلك نوع من الكذب، ويدل على ضعف الإيمان، وهو طريق إلى النفاق نعوذ بالله تعالى من ذلك، والنصوص الواردة في ذلك على أنواع:
 

النوع الأول:
نصوص تثبت أن الأنبياء عليهم السلام -وهم رؤوس المصلحين وأئمة الدعاة والخطباء- توافق أقولهم أفعالهم، حتى إن المكذبين بهم من أقوامهم لم يرموهم بمخالفة أفعالهم أقوالهم مع حاجتهم لمثل هذه التهمة في صرف الناس عن الدعوة، لكنهم لم يفعلوا ذلك؛ لعلمهم أن الناس لا يصدقونهم؛ لأنه من الكذب الظاهر.
 ومن الأنبياء من صرح بذلك كما فعل شعيب عليه السلام حين وعظ قومه، فبين لهم أنه أول من يمتثل ما يدعوهم إليه حين حكى الله تعالى عنه أنه قال [وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ] {هود:88}. فموافقة القول العمل فيها تأسٍ بالأنبياء عليهم السلام.
 

  النوع الثاني:
نصوص تفيد أن الله تعالى قد ذم بني إسرائيل على عدم إتباع العلم العمل  فقال سبحانه [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {البقرة:44}. فإنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه، فعيرهم الله تعالى.([1])
وفي آية أخرى أخبر الله عنهم بقوله سبحانه [وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] {آل عمران:187} قال مالك بن مغول رحمه الله تعالى:« تركوا العمل به».([2])  
 وفي قول الله تعالى [نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ] {الأعراف:53} وقوله سبحانه [نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا] {الأعراف:51} وقوله عز وجل [نَسُوا الذِّكْرَ] {الفرقان:18} قال المفسرون:«تركوا العمل به فصاروا كالناسين».([3])
 

 النوع الثالث:
نصوص تثبت الوعيد الشديد المتنوع في مخالفة الإنسان قوله فعله:
 
1-  فصاحبه متوعد بمقت الله تعالى، كما في قوله سبحانه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف:2-3}.  
2- ومتوعد بالعذاب في النار كما في قول الله تعالى [فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ] {المدَّثر:49-51}   
  قال الشنقيطي رحمه الله تعالى:«فيجب على المذكِر -بالكسر- والمذكَر -بالفتح- أن يعملا بمقتضى التذكرة وأن يتحفظا عن عدم المبالاة بها؛ لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم».([4])
 
3- وعذابه في النار يكون بطريقة بشعة منفرة جاء تصويرها في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال:«يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».([5])
 

النوع الرابع:
أن الخطباء جاء فيهم وعيد خاص إذا خالفت خطبهم أفعالهم كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم  قَالَ:«رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ».([6])  
 
 وقد تمسك بهذه النصوص من يرى أن من كان مقارفاً للمعصية فلا يأمر ولا ينهى، وهاهنا ثلاث مسائل:

 المسألة الأولى: اشتراط أن يكون الخطيب أو الداعية خالياً من المعاصي وإلا لا يعظ الناس ولا يخطب فيهم، ولم أقف على أحد يقول بهذا، ولازم القول به تعطيل الأمر والنهي الشرعيين؛ لاشتراط العصمة من الذنوب في صاحبه.
 ولهذا يجوز أن ينصح المفضولُ الفاضلَ، وأن يعظ الطالبُ العالمَ؛ لأنه لا أحد من البشر فوق النصح والموعظة مهما كانت منزلته، ومهما علا كعبه في العلم والفضل، وجاء في النصيحة التي وجهها الفقيه الحنبلي أبو الفضل إسحاق بن أحمد العَلْثِي إلى العلامة ابن الجوزي رحمة الله تعالى عليهما:«ولو كان لا ينكر من قلَّ علمه على من كثر علمه إذن لتعطل الأمر بالمعروف، وصرنا كبني إسرائيل حيث قال تعالى:[كانوُا لاَ يَتَنَاهُوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ] بل ينكر المفضول على الفاضل وينكر الفاجر على الولي، على تقدير معرفة الولي».([7])

 المسألة الثانية: اشتراط موافقة قوله فعله فيما يخطب به، فلا يحل له الكلام إلا ما وافق فيه قوله فعله، وما خالف فيه قوله فعله فلا يخطب به، وفي هذه المسألة قولان:
 القول الأول: يشترط ذلك؛ لأن ظاهر النصوص السابقة تدل على  تقبيح من خالف قوله فعله،بمعنى أنه لا يأمر بما لا يفعل، ولا ينهى عما يفعل؛ لئلا يتناوله الوعيد الوارد في النصوص السابقة، قال أبو القاسم القشيري الصوفي:«فَشَرْطُ الأمرِ بالمعروف استعمالُ ما تأمر به والانتهاء عما تنهي عنه»([8]).
ويتأيد هذا القول بالآثار التالية:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال:«يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أوبلغت؟ قال: أرجو، قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله عز وجل فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ] {البقرة:44}  أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرف الثاني؟ قال: قوله عز وجل لم [لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف:2-3} أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث؟ قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام [مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ] {هود:88}  أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك»([9]).
2- وقال النخعي رحمه الله تعالى:«ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ] {البقرة:44}  [وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ] {هود:88}  [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف:2}»([10])
3- وعن بعض السلف أنه قيل له:«حدثنا، فسكت ثم قيل له: حدثنا، فقال: أترونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله تعالى».([11])
 القول الثاني: لا يشترط في المتصدي للخطابة أن لا يعظ الناس إلا بما وافق فيه قوله فعله، بل يعظهم بما يحتاجون ولو كان مخالفاً فيه، وهو قول عامة العلماء،
ويُستدل له بما يلي:
 
1- عموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى؛ إذ ليس في شيء منها منع من فرَّط في طاعة من الدعوة إليها، ولا منع من وقع في معصية من النهي عنها.
2- قول الله تعالى [كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {المائدة:79} فذمهم الله تعالى لأن بعضهم لم ينه بعضاً عما قارفوا من المنكرات.
 قال ابن عطية رحمه الله تعالى:«وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً، وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً، واستدل قائل هذه المقالة بقوله تعالى [كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ] {المائدة:79}  لأن قوله «يتناهون» و«فعلوه» يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي».([12])
 
3- أن حكم الله تعالى في عباده كتابة حسناتهم وسيئاتهم، ومحاسبتهم على أعمالهم، وليس من لازم اكتساب السيئة بطلان الحسنة إلا ما كان محبطاً للعمل وهو الشرك. ودعوة الناس للخير وتحذيرهم من الشر حسنة يثاب العبد عليها، ووقوعه في المنكر سيئة يحاسب بها، فالجهة منفكة بين ميادين اكتساب الحسنات، وميادين اجتراح السيئات.

 وهذا القول هو الراجح، وأما الجواب عن النصوص المنفرة من مخالفة القول الفعل فإن الذم فيها على المعصية مع العلم بها، وليس على النهي عنها، وعلى هذا المعنى اجتمعت كلمة المحققين من العلماء:
 قال الجصاص رحمه الله تعالى:«من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المناكير فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه»([13])
 وقال القرطبي رحمه الله تعالى:«اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر» ([14]).
 وقال النووي رحمه الله تعالى:«قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهى وإن كان متلبساً بما ينهى عنه». ([15])
 وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:«فكلٌ من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف... والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهي عن المنكر وإن ارتكبه».([16])
 ونقل الحافظ ابن حجر عن بعض أهل العلم قوله:«يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخف على نفسه منه ضرراً ولو كان الآمر متلبساً بالمعصية؛ لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف، ولا سيما إن كان مطاعاً، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله تعالى له، وقد يؤاخذه به». ([17])
 وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى:«فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف؛ لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير».([18])

 وأما الآثار الواردة عن ابن عباس والنخعي وغيرهما فهي غير ثابتة، فإن ثبت شيء منها أو ثبت مثلها عن بعض السلف فتحمل على التشديد في إتباع العلم العمل، والترهيب من مخالفة القول للفعل. فإن ثبت أن أحداً عمل بهذه الآثار فهو اجتهاد في مقابل النصوص لا يتابع عليه صاحبه؛ إذ يجب على المتلبس بالمعصية أن ينهى الناس عنها، كما يجب على المقصر في الطاعة أن يأمر الناس بها، وإلا جمع إثمين: إثم التلبس بالمعصية والتقصير في الطاعة، مع إثم تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد نُقل عن السلف ما يقابل الآثار السابقة، ومن ذلك:
1- قول أبي الدرداء رضي الله عنه:«إني لآمركم بالأمر وما أفعله ولكني أرجو فيه الأجر»([19])
 ويحمل قوله رضي الله تعالى عنه على بعض المندوبات؛ لأن الإنسان مهما بلغ فلا يستطيع أن يأتي بالسنن كلها لا يفوته منها شيء، فكان يأمر بأنواع من المندوبات لا يتمكن من فعلها.
2- قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:«لو أن المرء لم يعظ أخاه حتى يحكم نفسه ويكمل في الذي خلق له لعبادة ربه إذاً تواكل الناس بالخير، وإذاً يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستحلت المحارم وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض».([20])
3-  قول سعيد بن جبير رحمه الله تعالى:«لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟»([21])
4- قول الحسن لمطرف رحمهما الله تعالى:«عظ أصحابك، فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول؟ ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر».([22])

المسألة الثالثة:
قد يتلبس الخطيب بمعصية مثل: ترك واجب كصلة الرحم، أو فعل محرم كقطيعتها، فهل له أن يؤجل الكلام عنها حتى يتوب من معصيته؛ لأنه متلبس بها أم يبادر إلى إنكارها ولو لم يتب منها؟
 الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن ذلك منوط بحاجة الناس، فإذا احتاجوا إلى العلم بها والتنبيه عليها فلا يؤخر الحديث عنها إلى أن يتوب؛ لما يلي:

 
1- عموم نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى، فليس في شيء منها تأجيل الأمر والنهي الشرعيين لمخالفة الآمر والناهي ما يقول، وإنما فيها ذم من فعل ذلك كما مضى، وذمه لعدم انتفاعه بالخير الذي يدعو إليه لا لدعوته.
 
2- قول النبي  صلى الله عليه وسلم  تعليقاً على الذي قتل نفسه في غزوة خيبر:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلا مُؤْمِنٌ وَإِنَّ الله لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»([23]) ومنه نصر أبي طالب للنبي  صلى الله عليه وسلم  مع أنه من أهل النار. فالله تعالى إذا كان قد أيد الدين ببعض الكفار، فتأييده بمسلمين متلبسين بالمعاصي أولى.
 
3- أن الخطبة شرعت لمعالجة ما يحتاج الناس من موضوعات، فلا يعدل الخطيب عن حكمة ذلك لعلة فيه.
4- أن دعوته إلى طاعة قصر هو فيها، أو نهيه عن معصية وقع هو فيها، طاعة وقربة تقرب إلى الله تعالى، فلا يؤخر الطاعة؛ للأمر بالاستباق إلى الخيرات، ولعلها تكون كفارة لذنبه، فقد قال الله تعالى [إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] {هود:114} وفي الحديث:«وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا»([24]) أو لعله يرزق بسببها التوبة من ذنبه؛ لما يقوم في قلبه من الخجل والحياء من الله تعالى، أو لتأثره بما ألقى على الناس من موعظة، أو لتأثره بتأثير خطبته في الناس فيرى فضل الله تعالى عليه بانقياد الناس له في هذا الأمر، فتدعوه نفسه لأن يكون أول الممتثلين.

 وعلى الخطيب أن يجاهد نفسه على ما يلي:
 
1- خشية الله تعالى بالغيب؛ فإن الخطيب مذكر بكلام الله تعالى وكلام رسوله  صلى الله عليه وسلم ، فأولى أن يكون أول متعظ به، وقد خاطب الله تعالى نبيه محمداً  صلى الله عليه وسلم  فقال سبحانه [إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ] {يس:11}.
 
2- الحذر من معاصي السر، والإصرار عليها، فإنها سلم يهبط بالعبد إلى نفق النفاق المظلم، وهي سبب لذهاب الحسنات؛ كما في حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه عن النبي   صلى الله عليه وسلم   أَنَّهُ قال:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا من أُمَّتِي يَأْتُونَ يوم الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا الله عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا قال ثَوْبَانُ يا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لنا جَلِّهِمْ لنا أَنْ لَا نَكُونَ منهم وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قال أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ من اللَّيْلِ كما تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إذا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»([25])
 
3- اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء والإخبات والاستغفار، وسؤاله الثبات على الدين، مع الخوف الشديد من عاقبة ذنبه.
4- الإكثار من الأعمال الصالحة المكفرة قال الله تعالى [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] {هود:114}
5- وعلى الخطيب أن يحذر من كثرة مخالفة فعله لقوله، وتعدد ذنوبه، وإصراره عليها، واستهانته بها؛ لئلا يقع في النفاق، أو يرديه الشيطان إلى الانتكاس.
 

فعل الواجبات والانتهاء عن المحرمات:

 وهذا واجب على كل مسلم، فيثاب على فعل الواجبات ويستحق العقاب على تركها، كما يثاب على اجتناب المحرمات ويستحق العقاب على فعلها، لكن هذا الواجب يكون على الخطباء آكد من عامة الناس لأمور منها:
 
1- ما علمهم الله تعالى من حكم الواجب والمحرم،  فهم من أولي العلم، وأولو العلم أعلم بالأحكام من غيرهم، ومِنْ شكرهم  لله تعالى على ما علَّمهم من الأحكام العملُ بما علموا، قال الله تعالى [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا] {النساء:113}. وأُمرنا أن نذكر الله تعالى ونكبره على ما علمنا وهدانا إليه من أحكام دينه، ونشكره عز وجل على ذلك، قال الله تعالى [فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] {البقرة:239} وقال سبحانه [وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {البقرة:185}.
2- أنهم قدوة الناس، وصفوة المجتمعات، وينظر إليهم غيرهم ويقلدونهم في أفعالهم، فإذا كانوا ينتهكون حرمة الشرع بتعطيل الواجبات، وفعل المحرمات كان غيرهم أولى أن ينتهكوها، وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب بذلك فقال سبحانه [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] {آل عمران:70}.
3- أنهم يدعون الناس إلى فعل الواجب، والانتهاء عن المحرم، ولا يقبل الناس دعوتهم إن رأوهم مخالفين ما يدعون إليه؛ فيكون فعلهم فتنة للناس، وصداً لهم عن دين الله تعالى، والصد عن دين الله تعالى يكون بالفعل كما يكون بالقول، ومن الصد بالفعل مخالفة الخطيب ما يدعو الناس إليه.
4- أنهم بمخالفة أقوالهم أفعالهم يشوهون سمعة الدعاة والخطباء وأهل الخير عند الناس، ويتسببون في فري أعراضهم، والكلام السيئ فيهم،  قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى:«لا ينبغي للواعظ أن يذم نفسه عند الموعوظين ألم تسمع إلى قول شعيب عليه السلام [وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ] {هود:88}» ([26])
 
فعل المندوبات واجتناب المكروهات:

 يحسن بالخطباء أن يكونوا على أكمل حال في أفعالهم وأقولهم، وأكثر الناس التزاماً بسنة النبي  صلى الله عليه وسلم ، ومحافظة على ما استطاعوا من المندوبات، واجتناباً للمكروهات، وفي ذلك فوائد تعود على الممتثلين لا تحصى،
وهي من بركة موافقة القول الفعل، وإتباع العلم العمل، فمن ذلك:
1- ثبوت العلم ونماؤه وزيادته؛ ذلك أن الخطيب في خطبته يلقي على الناس علماً ينفعهم، ومن أسباب زيادة العلم وبركته العمل به؛ كما جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:«من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل»([27])وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«ما عمل أحد بما علمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده» ([28])، وقال إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى:«إنه ينبغي للرجل إذا سمع شيئاً في آداب النبي أن يتمسك به»، وعلل السخاوي ذلك فقال:«ولأن ذلك سبب ثبوته وحفظه ونموه والاحتياج فيه إليه» ([29]) وقال الشعبي وإسماعيل بن إبراهيم بن مجمع ووكيع بن الجراح رحمهم الله تعالى:«كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به» ([30])وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال:«العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل».([31]) 
2- أن العمل بالعلم زكاة له؛ كما جاء عن بشر بن الحارث أنه قال:«يا أصحاب الحديث أتؤدون زكاة الحديث؟ فقيل له: يا أبا نصر وللحديث زكاة؟ قال: نعم، إذا سمعتم الحديث فما كان فيه من عمل أو صلاة أو تسبيح استعملتموه»([32])،  وعن أبي قلابة قال:«إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة ولا يكن همك أن تحدث به الناس»([33])  
3- أن العمل بالعلم يدل على انتفاع صاحبه به، وظهور آثاره عليه، فيزيده ذلك قرباً من الله تعالى وخشية ومحبة، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:«كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه وفي لسانه وبصره وبره» ([34]) وقال أبو القاسم بن منيع:«أردت الخروج إلى سويد بن سعيد فقلت لأحمد بن حنبل يكتب لي إليه، فكتب: وهذا رجل يكتب الحديث، فقلت يا أبا عبد الله، ولزومي؟ لو كتبتَ: هذا رجل من أصحاب الحديث، قال: صاحب الحديث عندنا من يستعمل الحديث».([35])
 

اعمل بالسُنة ولو مرة:

 قد يدعو الخطيب إلى سنة سواء كانت السنة مهجورة -وهذا أعظم أجراً لما فيه من إحياء السنن- وقد تكون السنة معمولاً بها لكن بعض الناس مقصرون فيها، وينبغي للخطيب أن يعمل بالسنة التي يدعو الناس إليها ولو مرة على الأقل؛ ليكتب من العاملين بما يقولون.
عن عمرو بن قيس الملائي أنه قال:«إذا بلغك شيء من الخبر فاعمل به ولو مرة تكن من أهله» ([36])،  وقال النووي رحمه الله تعالى:«ينبغي لمن بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً بل يأتي بما تيسر منه لقوله: وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم»([37]).
 وهذه طريقة السلف الصالح عليهم رحمة الله تعالى، ومما نقل عنهم في ذلك:
1- قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى:«ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به» ([38])
2- وقول أبي عبد الله محمد بن خفيف رحمه الله تعالى:«ما سمعت شيئاً من سنن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  إلا واستعملته»([39])
3- وعن محمد بن أبي جعفر بن حمدان قال:«صلى بنا سعيد ابن إسماعيل ليلة بمسجده وعليه إزار ورداء فقلت لأبي: يا أبتاه، هو محرم؟ فقال: لا، ولكنه يسمع مني المستخرج الذي خرجته على مسلم، فإذا مرت به سنة لم يكن استعملها فيما مضى أحب أن يستعملها في يومه وليلته، وأنه سمع من جملة ما قرئ علي: أن النبي  صلى الله عليه وسلم  في إزار ورداء، فأحب أن يستعمل هذه السنة قبل أن يصبح» ([40])
 

العوائد وتأثيرها في العبادات:

قد يعتاد الناس في دولة أو مدينة أو قرية أو مسجد عادةَ جهلٍ تسربت إليهم فلزموها على أنها سنة وتركوا السنة، وأهل مكة في جاهليتهم ألفوا عبادة الأصنام بعد أن جلبها لهم عمرو بن لحي، فما دون عبادة الأصنام من البدع، أو هجر السنن، أو تبديل غيرها بها قد يتسرب للناس عند غلبة الجهل، وتصدر ذوي الهوى أو الجهل، وإنما تموت السنن، وتنتشر البدع بذلك.
 ومن ذلك: ما أحدثه بعض الناس في الخطبة من محدثات، أو قراءة سور أو آيات مخصوصة في صلوات لم ترد بها السنة، أو هجر ما وردت به السنة مثل: ترك قراءة سورتي السجدة والإنسان فجر الجمعة، أو ترك قراءة الجمعة والمنافقون، أو الجمعة والغاشية، أو الأعلى والغاشية، ونحو ذلك، فواجب على الخطباء أن لا يجاروا الناس في أهوائهم، ولا يتبعوهم في أخطائهم، بل ينقلونهم من الخطأ إلى الصواب، ومن الجهل إلى العلم، ومن البدعة إلى السنة، وهذه مهمة المصلحين الصادقين أتباع الرسل عليهم السلام؛ فإن الله تعالى إنما بعث الرسل للناس لأجل هذا. وقد صلى رجل ممن يكتب الحديث بجنب ابن مهدي فلم يرفع يديه فلما سلم قال له:«ألم تكتب عن ابن عيينة حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي  صلى الله عليه وسلم   كان يرفع يديه في كل تكبيرة؟ قال: نعم، قال: فماذا تقول لربك إذا لقيك في تركك لهذا العام وعدم استعماله؟»([41])
 

إزراء الخطيب على نفسه:

 من المشاهد أن الخطيب في الغالب يكون محل إعجاب الناس وثنائهم عليه؛ لأنهم يرون فيه المرشد لهم إلى ما ينفعهم، الصادق في نصحه لهم، وينقدح في أذهانهم أنه يعمل بما يقول لهم، فيكون عندهم محل توقير واحترام وغبطة؛ لما يظهر لهم من استقامته، ولا يعلمون شيئاً عن سريرته؛ ولذا يتحرج كثير من الخطباء من مدح الناس وتزكيتهم لهم، وإعجابهم بهم، فيبادرون إلى الإزراء بأنفسهم والحط منها، وقد ورد عن السلف نصوص كثيرة في الإزراء على النفس، وكسرها عن العلو والكبر، والحط عليها خشية العجب والغرور، واستقلالهم العمل الصالح ولو كان كثيراً؛ لأنه لا يوازي نعم الله تعالى عليهم؛ ولأن استقلاله يحفز لمزيد العمل، كما أن استكثاره يؤدي إلى العجب والكسل.

 ويكثر في كتب الرجال وصف الواحد من السلف ومن بعدهم من الصالحين: وكان مزرياً على نفسه،  ومن أمثلة إزراء السلف على أنفسهم:

1- قول أيوب السختياني رحمه الله تعالى:«إذا ذُكر الصالحون كنت عنهم بمعزل».([42])
2- وقول مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى:«لو حمدت نفسي لقليت الناس».([43])أي: هجرتهم. وقال أيضاً في دعائه بعرفة:«اللهم لا ترد الناس لأجلي».([44])
3- وقول بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى:«لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنه قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم»([45])  
قال الذهبي بعد أن ساقه:«قلت: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها»([46]).
4- وقول يونس بن عبيد رحمه الله تعالى:«إني لأعد مائة خصلة من خصال البر ما في منها خصلة واحدة»([47])
5- وقول محمد بن واسع رحمه الله تعالى:«لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي».([48])
 ولكن في إظهار الإزراء على النفس مدخل للشيطان على العبد، فقد يريد به استمالة الناس إليه، ومدحهم به، فرغم ما يَظهر لهم من صلاحه وعبادته، وكونه قدوة للناس يُكثر من ذم نفسه فيهم، فينال مدحهم بذلك، وجاء عن الحسن رحمه الله تعالى قوله:«ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر»،([49]) وكان يقال:«من أظهر عيب نفسه فقد زكاها».([50])

 وتحقيق القول في ذلك أن يقال: ينبغي الإزراء على النفس وهضمها في السر لا في العلن؛ لأن ذلك من التواضع لله تعالى، والتطامن له، والاعتراف بعظيم حقه، وهذه عبادة من أجَّلِّ العبادات، والأصل في العبادات إخفاؤها ليتمحض الإخلاص، وينأى العبد بها عن الرياء،    إلا إذا دعت مصلحة راجحة لإظهار ذلك، مثل:

 
1- أن يكون له أتباع يريد تربيتهم على التواضع وعدم الكبر بالعلم.
2- أن يرى إعجاب الناس بعلمه وعمله وسمته، ويسمع ثناءهم عليه، فيخشى من إسرافهم في ذلك، ويخاف على نفسه، فيحط منها أمامهم لأجل ذلك.
ولكن يجب علىه الحذر من الإخبار بمعاص سترها الله تعالى عليه؛ لئلا يكون من المجاهرين بها، وإنما يتكلم بالعمومات كما كان الصديق رضي الله عنه إذا مُدح يقول:«اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون».([51]) وقال رجل للإمام أحمد رحمه الله تعالى:«الحمد لله الذي رأيتك.قال: اقعد إيش ذا؟ من أنا؟»([52])
3- أن يحط من نفسه ليفرَّ من ولاية أو منصب؛ كما فعل أبو جعفر الفريابي رحمه الله تعالى حين عُرض عليه القضاء فذم نفسه، وجعل يقول مزرياً عليها:«أعيذك بالله أيها الأمير، مثلي يولى القضاء؟!»([53])
 
4- أن يُدخل نفسه مع مجموع الناس، كقول الخطيب في خطبته إذا ذكر أهل المعاصي أو المقصرين في الطاعات: وكلنا كذلك، ومن منا يسلم من ذلك، أدعوكم وأدعو نفسي، أو أوصيكم وأوصي نفسي. فهذا كله من الإزراء على النفس واستنقاصها لكنه مع مجموع الناس فلا محذور فيه.
 بل إن هذا الخطاب يقرب الخطيب من الناس، ويحببهم في قوله، وفرق بين قول الخطيب للناس: أنعم الله تعالى عليكم فلم تشكروه، ودرأ عنكم الشر فعصيتموه، وبين قوله: أنعم الله تعالى علينا فلم نشكره، ودرأ الشر عنا فعصيناه، فالصيغة الثانية أدخل الخطيب نفسه مع الناس فساواها بهم، وهذا من الإزراء المحمود، وهو أقرب إلى قبول الناس؛ لأنهم يحسون بمشاركة الخطيب لهم، وقربه منهم، وإحساسه بهم، وعدم استعلائه عليهم.

 وجماع ذلك: أن يكون إزراؤه على نفسه، والحط من قدره لله عز وجل، وليس لغرض دنيوي، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:«ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل... فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله تعالى على العباد فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته...»([54])
 

-----------------------------------------------
([1]) جاء ذلك عن السدي وقتادة رحمهما الله تعالى كما في  تفسير الطبري: 1/258.
([2])فتح المغيث 2/359.
([3])تفسير القرطبي 7/217، و13/11، و15/189، وتفسير ابن كثير2/221.
([4])أضواء البيان 1/463
([5]) رواه البخاري (3094) ومسلم (2989).
([6])رواه ابن أبي شيبة 8/446 وأحمد 3/120وعبد بن حميد(1222) وحسنه البغوي في شرح السنة (4159) والألباني في صحيح الجامع (129). وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله   صلى الله عليه وسلم :«من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل بما قال أو دعا إليه» رواه أبو نعيم في الحلية: 2/7، وفي سنده عبد الله بن خراش ضعيف، وضعفه ابن كثير في تفسيره: 1/87، والهيثمي في مجمع الزوائد: 7/276.
([7]) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 3 /447
([8]) لطائف الإشارات: 2/55. وغالب الذين يتكلمون عن هذه المسألة ينسبون هذا القول للماوردي وأبي يعلى في الأحكام السلطانية لكل واحد منهما، وينسبونه لغيرهما ممن بحثوا أحكام الحسبة؛ لأنهم ذكروا في شروط المحتسب أن يكون عدلاًً، وفي ظني أن هذه النسبة غير دقيقة؛ لأنهم الذين تناولوا الحسبة وشرطوا هذا الشرط أرادوا والي الحسبة الذي يعين من قبل ولي الأمر، كما هو ظاهر كلام الماوردي: 271، وهذا لا يفيد أنهم يرون أن من وقع في معصية فلا ينهى عنها، ولا أن من قصر في طاعة لا يأمر بها، وحكى هذا القول ابن كثير في تفسيره لكنه لم ينسبه لمعين فقال: وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف.اهـ 1/86.
([9])رواه البيهقي في الشعب (7569) والشجري في الأمالي: 2/320، وابن عساكر في تاريخه23/73، وهو أثر لا يصح، في سنده بشر بن الحسين الأصبهاني الهلالي يرويه عن الزبير بن عدي، قال أبو حاتم: يكذب على الزبير، وقال البخاري: فيه نظر، وقال الدارقطني: متروك، ينظر: المغني في الضعفاء: 1/105، رقم(898) ولسان الميزان: 2/21.
([10])تفسير القرطبي 18/80،والمدخل لابن الحاج:1/5، ولم أقف عليه مسنداً.
([11])تفسير القرطبي 18/80، ولم أقف عليه مسنداً أو منسوباً لمعين.
([12]) المحرر الوجيز: 2/224. وينظر: تفسير الرازي: 12/55، وتفسير القرطبي: 6/253-254، وتفسير أبي حيان: 3/548.
([13])أحكام القرآن للجصاص: 2/320.
([14])تفسير القرطبي 1/366.
([15])شرح مسلم: 2/23.
([16])تفسير ابن كثير: 1/86.
([17]) فتح الباري: 13/53.
([18])أضواء البيان:1/463.
([19]) رواه ابن أبي شيبة: 7/111، وأبو داود في الزهد: 1/320، وأبو نعيم: 1/213.
([20]) رواه أبو نعيم: 5/276-277.
([21])تفسير القرطبي: 1/368، وتفسير ابن كثير: 1/86، ولم أقف عليه مسنداً.
([22])تفسير القرطبي: 1/367، ولم أقف عليه مسنداً.
([23]) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري (6232) ومسلم (111).
([24]) رواه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: الترمذي وقال: حسن صحيح (1987) .
([25]) رواه ابن ماجه (4245) وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة: 4/245-246، والألباني في صحيح الجامع (5028)
([26]) رواه بحشل في تاريخ واسط: 259.
([27])رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (34).
([28])رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله(814).
([29])قواعد  التحديث: ص359
([30])أثر مجمع بن جارية رواه البيهقي في الشعب (1798) والخطيب في اقتضاء العلم العمل (148)، وأثر الشعبي  رواه  ابن عبد البر في جامع بيان العلم (816)، وأثر وكيع  في أمالي ابن طاهر (47).
([31])رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم(813) وجاء مثله عن ابن المنكدر في اقتضاء العلم العمل (41).
([32])رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (180).
([33])رواه ابن عبد البر في الجامع لبيان العلم (755) والخطيب في اقتضاء العلم العمل (37).
([34])رواه أحمد في الزهد: ص261 والبيهقي في الشعب(1809)
([35])رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (183)
([36])الباعث الحثيث 2/439
([37])الأذكار ص6، والحديث الذي ساقة في البخاري(6858) ومسلم(1337).
([38])رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (184).
([39]) رواه ابن عساكر: 52/406.
([40])رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (185).
([41])فتح المغيث 2/360.
([42]) رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ: 2/140، وأبو نعيم: 3/5-6.
([43]) رواه ابن سعد 7/144، وأبو نعيم 2/210.
([44])إغاثة اللهفان:1/85.
([45]) رواه البيهقي في الشعب (8252).
([46])سير أعلام النبلاء: 4 /534.
([47]) رواه أبو نعيم: 3/18، والمزي في تهذيب الكمال: 32/524
([48]) رواه أبو نعيم: 2/349.
([49]) الآداب الشرعية: 3/446. 
([50]) أدب الدنيا والدين: 297. 
([51]) رواه ابن عساكر: 30/332.
([52])الآداب الشرعية، لابن مفلح: 3/438.
([53])ترتيب المدارك، للقاضي عياض:1/507.
([54])إغاثة اللهفان:1/87- 88.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم الحقيل
  • مقالات
  • كتب
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية