صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بصائر ذوي التمييز بلطائف الكتاب العزيز (6)

محمد حسن يوسف

 
مكافأة الألفاظ للمعاني المرادة منها:

من إعجاز القرآن أن لفظه يكافئ المعنى مكافأة عجيبة لا تستطاع من قِبل بشر. فمهما بلغ الإنسان من حسن الذوق وحسن الانتقاء، فإنه لا يستطيع أن يجعل اللفظة المناسبة مكافئة للمعنى المراد بشكل دائم ومستمر. فنجد كل معنى يختار له اللفظ الأنسب الذي لا يوجد أنسب منه في محله.[1] ونضرب بعض الأمثلة على ذلك:

1- في قصة يوسف عليه السلام: قال تعالى مخبرا عن الملك في قصة يوسف: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾ [ يوسف: 50 ] . قال ابن كثير: يقول تعالى إخبارا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه، فعرف فضل يوسف عليه السلام وعلمه وحسن إطلاعه على رؤياه وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه، فقال: ﴿ ائْتُونِي بِهِ ﴾، أي أخرجوه من السجن وأحضروه. فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه بل كان ظلما وعدوانا. فقال: ﴿ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ... الآية. وفي المرة الثانية لما تأكدت له براءة يوسف عليه السلام، قال: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ [ يوسف: 54 ] . قال ابن كثير: أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي. ففي المرة الأولى لم يزد عن قوله ﴿ ائْتُونِي بِهِ ﴾ نظرا لأنه لم يكن يعرف حقيقة براءة ساحته وطهارته، فهو أُخبر عن رجل له براعة معينة، ولكنه حبيس السجن، فكان مراد الملك في هذه الحالة فقط الاكتفاء بالاستفادة من علمه فقط. فلما علم بعد ذلك بالقصة، وتأكدت له براءة يوسف عليه السلام، كان طلب الملك في هذه المرة: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ لكي يكون من خاصته مع الاستفادة من علمه.

2- وفي قصة موسى عليه السلام مع الخضر: فمن الملاحظ أنه في أول مرة أنكر موسى عليه السلام على الخضر، قال له الخضر: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴾ [ الكهف: 72 ] . وفي المرة الثانية: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴾ [ الكهف: 75 ] . فزاد ﴿ لَكَ ﴾ هنا لأن النكر فيه كان أكثر.

3- وفي نفس القصة: حينما قابل موسى عليه السلام الخضر لأول مرة، وأخبره بمصاحبته للتعلم منه، قال له الخضر: ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ﴾ [ الكهف: 67 ] . فلما كان الفراق، قال له: ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [ الكهف: 78 ] ، فذكر التاء في ﴿ تَسْتَطِعْ ﴾ . ولما شرح الأمر وجلاه له و حل له الإشكال، قال: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [ الكهف: 82 ]، فذكر ﴿ تَسْطِعْ ﴾ بدون تاء. فقبل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا، فقال: ﴿ تَسْتَطِعْ ﴾ ، ولما حله له أصبح واضحا بسيطا، فقال: ﴿ تَسْطِعْ ﴾ . قال ابن كثير: فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف.

4- وفي قصة ذي القرنين، نجد نفس الأمر: ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ [ الكهف: 97 ] . ففي الأولى: ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ﴾ وهو الصعود إلى أعلاه، استخدم لفظة ﴿ اسْطَاعُوا ﴾  الأخف، وفي الثانية: ﴿ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ وهو أشق من ذلك، استخدم لفظة ﴿ اسْتَطَاعُوا ﴾ الأثقل. فقابل كلاً بما يناسبه لفظا ومعنى. قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي: أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد، ولا قدروا على نقبه من أسفله. ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه، قابل كلا بما يناسبه.

5- وفي قصة إبراهيم عليه السلام، حينما أراد أن يُعرّف قومه بربه، فقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [ الشعراء: 78-82 ] . نلاحظ أن السياق يبدأ في كل آية بكلمة ﴿ الَّذِي ﴾ ، إلا في موضعين: الأول: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ ، وقد سبق بيانه في الحديث عن الأدب مع الله تعالى[2]. والثاني: ﴿ وَالَّذِي هُوَ ﴾ بزيادة ﴿ هُوَ ﴾ عند حديثه عن الإطعام والشرب. قال القرطبي: ودخول ﴿ هُوَ ﴾ تنبيه على أن غيره لا يطعم ولا يسقي، كما تقول: زيد هو الذي فعل كذا، أي لم يفعله غيره. وقال الكرماني: زاد ﴿ هُوَ ﴾  في الإطعام والشفاء، لأنهما مما يدّعي الإنسان أن يفعله، فيقال: زيد يُطعم وعمرو يُداوي. فأكد إعلاما أن ذلك منه سبحانه، لا من غيره، وأما الخلق والموت والحياة فلا يدعيها مدعٍ، فأطلق.[3]

6- جاء في قصة عيسى عليه السلام، في معرض جوابه على الله سبحانه وتعالى يوم القيامة حينما يسأله عمن تبعوا دين المسيحية واتخذوه وأمه إلهين، فيقول عيسى عليه السلام: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ المائدة: 118 ] . قال القرطبي في تفسيره: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي، وعملوا بعده بما لم يأمرهم به، إلا أنهم على عمود دينه، فقال: وإن تغفر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي، وقال : ﴿ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، ولم يقل: " فإنك أنت الغفور الرحيم " على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره والتفويض لحكمه. ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه، وذلك مستحيل. فالتقدير: إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم، فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم، فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله: تضل من تشاء وتهدي من تشاء.

7- قال تعالى عند الحديث عن صلاة الخوف: ﴿ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ﴾  [ النساء: 102 ]. قال الشوكاني في تفسيره المسمى " فتح القدير ": في قوله تعالى: ﴿ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ﴾ زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح. قيل: وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل، وأما في المرة الأولى فربما يظنونهم قائمين للحرب. وقيل: لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت، لأنه آخر الصلاة، والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب.

8- حينما تكلم سبحانه عن الرزق فاستخدم كلمة امشوا، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اْلأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾  [ الملك: 15 ]. وهذا يدل على ضرورة التؤدة والتجمل في طلب الرزق. أما حينما تكلم عن أعمال الخير والبر فاستخدم كلمات الفرار والمسارعة والمسابقة. قال تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [ الذاريات: 50 ]. وقال سبحانه: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَاْلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران: 133 ]. وقال تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الحديد: 21 ]. وقال عز من قائل: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ البقرة: 148 [. وقال سبحانه: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾  [ المائدة: 48 ]. وهذا يدل على أن هذا هو الميدان الحقيقي للتنافس والتسابق، أي فعل الطاعات وعمل الخيرات. ومن عجب أننا أصبحنا الآن نفعل عكس ما أمرنا القرآن به! فالمنافسة والمزاحمة والمسابقة تحدث في مجالات البحث عن الرزق، ويسافر العديد من أبناء الأمة شرقا وغربا سعيا وراء الرزق، في حين أن مجال الطاعات والخيرات أصبحت لا تشكل إلا جزءا هامشيا في حياة معظمنا. ولن تستعيد أمتنا مجدها إلا بالعودة لما أمرنا به القرآن، وإلا بالعودة إلى ما كان يفعله سلف هذه الأمة من قبل.
 
9 من رمضان عام 1427 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 2 من أكتوبر عام 2007 ).


-----------------------------------
[1]  الأساس في التفسير، سعيد حوى، 6/3213-3214
[2]  انظر: الحلقة الأولى من هذه السلسلة.
[3]  البرهان في توجيه متشابه القرآن، 190.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية