اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/hasn/3.htm?print_it=1

الرحلة في طلب المال!!!

محمد حسن يوسف

 
تميز سلف هذه الأمة بعدة صفات جعلت منه جيلا فريدا، لا يستطيع أي جيل أن يدانيه في منزلته أو مكانته التي وصل إليها. ومما تميز فيه هذا الجيل، هو شغفه بالعلم وطلبه، حتى كان معظمهم يتلقون العلم عن آلاف الشيوخ. واشتهر في طلبهم للعلم قيامهم بالرحلات الكثيرة، بحيث استغرقت مسافات شاسعة من أماكن إقامتهم إلى أماكن الشيوخ الذين يرومون تلقي العلم عنهم.
ومن أشهر رحلاتهم في طلب العلم، ما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الشيق " الكفاية في معرفة أصول علم الرواية ": عن الرحلة التي قام بها الإمام شعبة بن الحجاج، من أجل اعتبار حديث واحد، حتى يقف على علته. فقد روى أن جماعة من السلف كانوا قعودا على باب هذا الإمام شعبة، يتذاكرون. فقال أحدهم: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رعاية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه. فسمعته يقول: من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم دخل المسجد، فصلى ركعتين واستغفر الله، غفر الله له. فقلت: بَخٍ بَخٍ! فجذبني رجل من خلفي. فالتفت، فإذا هو عمر بن الخطاب. فقال: الذي قال قبل أحسن! فقلت: وما قبل؟! قال: قال: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت.
واتفق أن استمع الإمام شعبة إلى هذا الحديث، فخرج إلى هؤلاء الرهط. وعنّفهم على تهاونهم في عدم تحري الدقة عند رواية هذا الحديث، لوجود علة في سند الرواية: ( إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة )! وأوضح أنه قد سمع أبو إسحاق يروي هذا الحديث، فذهب للتأكد من صحة هذه الرواية. فسأله عمن حدّثه بهذا الحديث. فقال له أبو إسحاق: حدثني عبد الله بن عطاء، عن عقبة. فألح شعبة بن الحجاج على أبي إسحاق في السؤال: " هل سمع عبد الله بن عطاء من عقبة "؟! لأن سماع المحدثين من بعضهم يعتبر شرطا للقبول بصحة الحديث.
ولما لم يتيقن شعبة بن الحجاج من ذلك، قرر أن عليه الذهاب إلى عبد الله بن عطاء بمكة لسؤاله عن هذا الحديث. فبدأ في التجهز لهذه الرحلة، ثم توجه إلى مكة. وكان موسم الحج قد بدأ، ولكن لم يكن قصد شعبة الحج، وإنما كان همه معرفة صحة هذا الحديث. فلما لقي عبد الله بن عطاء، سأله عمن سمع منه هذا الحديث. فأخبره أنه سمعه من سعد بن إبراهيم! أي صحت شكوك شعبة بن الحجاج بأن عبد الله بن عطاء لم يسمع هذا الحديث من عقبة بن عامر مباشرة. وهنا كان على شعبة البحث مرة أخرى.
ولم يكن هذا الشخص الذي سماه عبد الله بن عطاء ممن ذهبوا للحج في هذا العام، بل كان في بلده بالمدينة المنورة. فرحل شعبة بن الحجاج ثانية إلى المدينة، ولقي هذا الرجل، وسأله عمن سمع منه هذا الحديث. فأخبره بأنه سمع هذا الحديث من رجل آخر يقطن في البصرة. وهنا شك شعبة في الأمر، ولكنه أراد أن يكمل هذا الأمر للنهاية. فرجع إلى البصرة، فلقي الرجل الذي سُمي له. وسأل شعبة هذا الرجل عن ذلك الحديث، فأخبره أنه سمعه من أحد الضعفاء! وهنا أيقن شعبة بن الحجاج بضعف هذا الحديث، وقال: لو صح لي مثل هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إليّ من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين!!
فانظر رحمك الله ما فعله الإمام شعبة بن الحجاج، عليه رحمة الله تعالى، من أجل التأكد من صحة حديث واحد، فقد طاف بلدانا شتى، ودخل مدائن عدة حتى وقف على علته. وقارن بين ما فعل هذا الإمام الجهبذ، وبين ما نفعله نحن في هذه الأيام! فنحن الآن يأتينا الحديث، ونعرف مدى صحته، ومع ذلك لا نعمل به. إن السلف الكرام قد تكلفوا أعظم مشقة في سبيل الإبقاء على هذا الدين غضا طريا، وفي سبيل توصيله إلينا رائقا نقيا، وليس مطلوب منا الآن إلا العمل! فهم قد تكلفوا مشقة البحث عن النصوص، ثم العمل بها. أما نحن فالنصوص لدينا متاحة، ولكننا لا نريد حتى أن نعمل!!
ومن أعجب منها هذه الرحلة التي قطعها بَقِيّ بن مَخْلَد الأندلسي إلى بغداد مشيا على قدميه وسنه نحو عشرين سنة، وكان جُل بغيته ملاقاة الإمام أحمد بن حنبل والأخذ عنه. والخبر أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 13: 292 ): حُكي عنه أنه قال: لما قربت من بغداد، اتصل بي خبر المحنة التي دارت على الإمام أحمد بن حنبل، وأنه ممنوع من الاجتماع إليه والسماع منه، فاغتممت بذلك غما شديدا ... ثم خرجت استدل على منزل أحمد بن حنبل، فدُللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إليّ وفتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه. فقلت: يا أبا عبد الله، رجل غريب، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومُقيد سنة – أي جامع سنة - ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الأُصطوان – يعني به الممر إلى داخل الدار – ولا تقع عليك عين.
فدخلت، فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى. فقال لي: إفريقية؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الأندلس. فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحبّ إليّ من أن أُحسن عون مثلك، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك. فقلت له: بلى، قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك.
ثم قلت له: أبا عبد الله، هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السُؤَّال – أي من يسألون الناس، أي الشحاذين - فأقول عند باب الدار ما يقولونه، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد، لكان لي فيه كفاية. فقال لي: نعم، على شرط ألا تظهر في الخَلق، ولا عند المحدثين، فقلت: لك شرطك.
فكنت آخذ عصاً بيدي، وألُفُّ رأسي بخرقة مدنسة، وأجعل كاغدي – أي ورقي – ودواتي في كمي، ثم آتي بابه فأصيح: الأجر رحمكم الله. والسؤال هنالك كذلك، فيخرج إليّ ويغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، حتى اجتمع لي نحوٌ من ثلاث مئة حديث ... ثم أكمل رحلته في طلب العلم معه.
وهكذا ففي سبيل تلقي العلم، فقد قام برحلة طويلة شاقة مشيا على الأقدام. ثم بعد ذلك، لم يفت في عزمه العقبة الكأداء التي وجدها بعد وصوله للبلد التي يريد أن يتلقى العلم فيها، وهي منع الشيخ الذي أراد أن يتلقى العلم عنه من الجلوس للطلاب والحديث معهم، بل احتال وركب الصعب، حتى يحصل على العلم الذي يريده.
بل إنك تجد من شدة نهم السلف الصالح لطلب العلم، والحديث الشريف على وجه الخصوص، أنهم خصوا ذلك بالتأليف، فتجد مُؤّلِفاً جهبذا مثل الخطيب البغدادي، يفرد مُؤّلَفاً خاصا عن رحلات السلف في طلب العلم، ويسميه " الرحلة في طلب الحديث ". يصور فيه رحلات السلف في طلب الحديث الشريف، والمشاق التي تحملوها، ويثبت فيه الأعاجيب التي وردت في ذلك.
والمتأمل الآن في حال الخلف يجد أن البون شاسع بيننا وبين سلفنا الكرام. فقد انحصرت رحلاتنا إما في طلب المال أو في طلب المتعة. وحتى من يرحل لطلب العلم في أيامنا هذه، فهو لا يهدف إلا للحصول على المال من وراء هذا العلم الذي يتلقاه. حتى أن أصدق وصف يمكن وصف رحلاتنا الحالية هو " الرحلة في طلب المال "!!!
فمنذ أن ينهي الفرد منا دراسته، لا تجده مهتما بشيء إلا بكيفية السفر للخارج لجمع المال، وبشتى السبل الشرعية وغير الشرعية. فهو في سبيل هذا الهدف، من الممكن أن يسلك سبلا غير مشروعة لدخول الدولة التي يظن أنها ستدر عليه المال الوفير. وبالطبع فهو لا يلقي بالا للبيئة التي قد يضع فيها نفسه - إن أفلحت محاولاته للسفر وكللت بالنجاح - ليستقر داخل إحدى البلدان غير المسلمة. فهو لا يهتم كثيرا بما إذا كانت هذه البيئة كافرة تصده عن دينه، بل المهم أن يحصل على المال وحسب.
ثم تجد منهم من يسعى للسفر للدراسة للخارج. وما أدراك ما الدراسة في الخارج؟ فتأتي المنح الدراسية للتعلم في بلاد الغرب التي تغري الطلاب بفتح آفاق جديدة لهم ثم للحياة من بعد ذلك. وتتحمل الدول الغربية آلاف الدولارات لتغطية مصروفات هذه المنح من سفر ودراسة وإقامة، وذلك من أجل تواصل الشعوب فيما بينها! هكذا يقولون!! وبالطبع فليس من وراء هذه المنح الدراسية أي خير للدارس أو لبلده. بل على العكس، فهم يريدون من ذلك إقامة صفوف من المتغربين الذين يتكلمون بلغتهم ويروجون لأفكارهم.
وفي ظل عدم رسوخ العقيدة السليمة في وجدان المسافرين، بسبب عدم تعلمها أصلا، تصبح عملية التلقين العلماني في غاية السهولة. وانظر على سبيل المثال ما يدرسه طالب علم الاقتصاد! إنه يدرس، ومنذ بداية التحاقه بالدراسة، أن سعر الفائدة هو صمام أمان عمل النظام الاقتصادي، وأن الاختلالات الاقتصادية لا يمكن علاجها إلا عن طريق التحكم في سعر الفائدة ارتفاعا وانخفاضا. ثم تمضي الدراسة به على هذا النهج، وفي شتى فروع علم الاقتصاد، مركزة على أهمية الدور الذي يلعبه سعر الفائدة في الاقتصاد. حتى إذا تخرج الطالب، وبدأ حياته العملية، متقلدا أية وظيفة، يبدأ في وضع النظريات التي تعلمها موضع التنفيذ. فإذا فوجئ بمن يقول له عن حُرمانية النظام الربوي في الإسلام، ينظر إليه هذا " الخريج " وكأنه يتعامل مع شخص أتى من كوكب آخر أو من الفضاء.
كما أن مسألة تضخيم بعض الشخصيات التي تتلقى تعليمها في دول الغرب، بعد أن يتم " غسل مخها " بحيث تصبح أبواق دعاية للغرب وحضارته، وفي ذات الوقت معول هدم للإسلام، ثم تعمل بعد ذلك على جذب عدد كبير من جمهور العوام الذين لا يعرفون شيئا عن الدين أو يعرفون مجرد قشور لتبني أفكارهم – إن ذلك لهو مبدأ أساسي من أهداف الغزو الفكري في بلاد المسلمين. وأوضح مثال على ذلك هو ما أطلقوا عليه زورا " عميد الأدب العربي "، وما هو حتى بشاويش له. وانظر للأفكار المسمومة التي حاول أن يدسها في كتبه لكي يقرأها المسلمون. فقد جاء في كتابه " في الشعر الجاهلي " ما نصه: " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي ". هكذا!!! أي أنه يبطل حجية القرآن كمصدر للأخبار! ثم نجعل منه بعد ذلك عميدا للأدب العربي!!
لقد أصبحت الدراسة للحصول على الشهادة هدفا في حد ذاته، وأضحى تحصيل العلم من وراء تلك الشهادة أمرا ثانويا لا يدخل في بؤرة اهتمام الدارسين! فالشهادة – أيا كان مسماها، أو مصدرها، أو موضوعها - تفتح جميع الآفاق للحاصل عليها للتمتع بوظيفة مرموقة تدر على حاملها دخلا مرتفعا للغاية، بغض النظر عما إذا كانت تضيف لبلده، بل لنفسه، شيئا.
وهكذا نجد أن الرحلة لطلب العلم الشرعي، والحديث بصفة خاصة، قد تراجعت بحيث لا تمثل إلا هامشا ضئيلا في حياة الأمة. وأصبحت الرحلات التي تتم الآن هي رحلات لجمع المال وتكديسه. وإذا ما تمت رحلات لتلقي العلم، فهي لعلوم دنيوية لا تعود إلا بنفع ضئيل للغاية على بلاد المسلمين، ويكون المستفيد الرئيسي من ورائها هو الذي قام بها وحسب. فضلا عما تحدثه جُل هذه الرحلات من تشكيك في عقيدة المرتحلين. وإلا فاعدد لي بربك عشر شخصيات قد ارتحلت في طلب العلم ثم عادت إلى بلدانها فحققت فيها الطفرات التي أقامت هذه البلدان من عثرتها، ونحت بها نحو طريق التقدم والازدهار.
وهاك مَثل لما فعله أحد الكافرين، حتى نعتبر ونتعظ. فهذا الرجل تحرك من أجل بلده، دون أن يضع الله في حسبانه. فما بالك لو صلحت نوايانا نحن، ووضعنا الله في اعتبارنا عند قيامنا بأي عمل. وقد وردت هذه القصة في كتاب الهمة طريق إلى القمة، ( ص: 32 - 38 ): أرسلت الدولة اليابانية في بدء حضارتها بعوثا دراسية إلى ألمانيا كما بعثت الأمة العربية بعوثا، ورجعت بعوث اليابان لتحضَّر أمتها، ورجعت بعوثنا خاوية الوفاض!! فما هو السر؟ لنقرأ هذه القصة حتى نتعرف على الإجابة:
يقول الطالب الياباني " أوساهير " الذي بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا: لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذي ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركا صغيرا؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى " موديل " هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنع، وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها.
وبدلا من أن يأخذ الأساتذة أوساهير إلى معمل، أو مركز تدريب عملي، أخذوا يعطونه كتبا ليقرأها. ويقول أوساهير: قرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك، أيا كانت قوته، وكأنني أقف أمام لغز لا يُحل. وفي ذات يوم، قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي. وجدت في المعرض محركا قوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلا جدا. وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر. وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوربا، لو استطعت أن أصنع محركا كهذا لغيرت تاريخ اليابان.
وطاف بذهن أوساهير خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحذوة حصان، وأسلاك، وأذرع رافعة، وعجلات، وتروس، وما إلى ذلك. وقال لنفسه: لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغّلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر " موديل " الصناعة الأوربية. وبحثت في رفوف الكتب التي عندي، حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقا كثيرا، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل.
ويقول أوساهير: رسمت المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة. وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة، وأعطيتها رقما. وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه، وشغلته فاشتغل. كاد قلبي يقف من الفرح. استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.
وحمل أوساهير النبأ إلى رئيس البعثة، فقال له: حسنا ما فعلت، الآن لابد أن أختبرك. سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل. يقول أوساهير: وكلفتني هذه العملية عشرة أيام، عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد.
بعد ذلك قال رئيس البعثة، الذي كان يتولى قيادة أوساهير روحيا، قال: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركا. قال أوساهير: ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، وصهر الألومونيوم، بدلا من أن أعد رسالة الدكتوراه كما أراد مني أساتذتي الألمان. تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء وأقف صاغرا إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة ساموراي. ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء!! قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، وبعد انتهاء العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.
وعلم " الميكادو " – الحاكم الياباني – بأمر أوساهير، فأرسل له من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه ذهب إنجليزي، اشترى بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات. ويقول أوساهير: وعندما أردت شحنها إلى اليابان، كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته. وعندما وصلت إلى نجازاكي، قيل لي إن الميكادو يريد أن يراني. قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كامل. استغرق ذلك تسع سنوات.
وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات " صُنع في اليابان "، قطعة قطعة، حملناها إلى القصر. ودخل الميكادو وانحنينا نحييه وابتسم، وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة. هكذا ملكنا " الموديل "، وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان! نقلنا قوة أوربا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب!! فهكذا أدى إصرار أوساهير وحرصه على بلده إلى وضع اليابان على عتبة التقدم والازدهار.
وحدّث من عايش الطلاب اليابانيين الذين يُبتعثون إلى أمريكا عن أحوالهم، فقال: ربما يلبثون في مكتبة الجامعة إلى نصف الليل، وربما نام أحدهم وهو جالس على كرسيه، ويواصل الدراسة في اليوم الثاني من غير ذهاب إلى البيت. ] علو الهمة، ص: 295 [. فانظر رحمك الله إلى ما يفعلونه هم، وقارن بيننا وبينهم، لتعرف لماذا هم في تقدم مستمر، وما هو السبب وراء تخلفنا!!
لقد علم أعداء الله السر في عظمة دين الإسلام، وهو أنه دين يحمل ثقافة الآخرة. أي أن كل عمل يؤديه المسلم، فهو يُدْخل في اعتباره الدار الآخرة، فيبتغي وجه الله فيما يفعله. فكان هذا المجد الشامخ الذي شاده لنا الأجداد. فعملوا كل ما في وسعهم على أن يخرجوا الآخرة من حساباتنا، بحيث تكون كل أعمالنا للدنيا. فإذا تعلمنا فللدنيا، وإذا عملنا فلها. واحتالوا لذلك فافهمونا أن التقدم الاقتصادي يؤدي لتحقيق الرفاهية، وأن الرفاهية تؤدي إلى السعادة. فسعينا كل جهدنا، وما زلنا، من أجل تحقيق هذه السعادة المزعومة. فخسرنا الدنيا ولم نربح الآخرة! ولن ينصلح حالنا إلا إذا عدنا إلى نهج سلفنا. فيعود العلم الشرعي لكي يحظى ببؤرة الاهتمام كما كان من قبل، وأن تكون مرضاة الله هي الباعث الأساسي وراء جميع تحركاتنا للعلم وللعمل، فنفوز بخيري الدنيا والآخرة.

28 من ربيع الأول عام 1425 من الهجرة.
 

محمد حسن يوسف
  • كتب وبحوث
  • مقالات دعوية
  • مقالات اقتصادية
  • كيف تترجم
  • دورة في الترجمة
  • قرأت لك
  • لطائف الكتاب العزيز
  • الصفحة الرئيسية