اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/hamza/379.htm?print_it=1

فَوائدُ الوِردِ القُرَآني...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


لكلِّ واحدٍ منا وردُه الغذائي والعملي والمصلحي ، الذي يحافظه ويعتني به يوميا، فهلّا اعتنى بأجلِّ ورد، وأحسنِ وظيفة، وأطيبِ منال، وهو الزاد الذي لا غنى عنه، والرصيدُ الذي من فقده فهو خاسر .
زهرُ الحياة ونورها ، وزاد الذكر الخالص وصفوه، والعُدة العلية الثمينة، التي فاقتِ الدررَ والذهب والجواهر، وجعله الله روحا تحيا به النفوس، وتستيقظ البصائر، وتقشعر الأجساد ، ( وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا) سورة الشورى .

ومن الفوائد لهذا التعاهد اليومي ما يلي :

١- التنميةُ الإيمانية:

فإن مثلَ الإيمان بالله كمثلِ شجرة، إن لم تُتعاهَد بالسقي والري، أفلست وذوت ، وكان نهايتها الفناء والهلكة ، فجددوا الإيمان بالتلاوة، وأحيوا الجسد بالذكر، فإن الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت...!
أحيُوا فؤادا لنا بالذكر قد طرَقا...من يهدهِ اللهُ يلقَ اليُمنَ والأَلقا ..!
قال عليه الصلاة والسلام :( تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ في عُقُلها ). أخرجاه .
وهذا النماء إنما ينصبُّ في القلب أولاً ، فهو موطن الانطلاق والوهج، والعمل والصلاح . وبصلاحه صلاح الجسد ، وزيادة الإيمان .
وللعلامة ابن القيم رحمه الله في المدارج :" فلا شيءٌ أنفعَ للقلب من قراءة القرآن بالتدبر؛ فإنه جامع لمنازل السائرين، وأحوال العاملين ومقامات العارفين وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، ولو علم الناس ما في تدبره لاشتغلوا به عن كل ما سواه ".

٢- تجديدُ اليقين :

الذي يعلي الإيمان، ويجذِّر التوحيد، ويَحمي المعتقد، ويُثبِّت عند مضلاتِ الفتن .
وكلما قرأ العبدُ القرآنَ واستطعم تدبره رسخَ يقينُه، وزاد عطاؤه، واستقرت هدايته، وزالت عنه الشكوك والشبهات . لأنّ القرآن وقودُ التوحيد، ومِشعلُ العمل، وداحضُ الشبهات، وملهمُ القربات، وترياق الأسقام ، ومِدادُ الدعوة، وقاهرُ الأعادي ، وحجابُ الشهوات، ووثاق الثبات .
قال ابن القيم رحمه الله في الإغاثة:" والقرآن يوصلك إلى نفس اليقين فى هذه المطالب التى هى أعلى مطالب العباد، ولذلك أنزله من تكلم به. وجعله شفاء لما فى الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين ".
ويقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله:" واعلم أن قوةَ الدين وكمال الإيمان واليقين، لا يحصلان إلا بكثرة قراءة القرآن واستماعه، مع التدبر بنيَّة الاهتداء به ، والعمل بأمره ونهيه ..".

٣- تحصيلُ الثواب :

لتكونَ أكثرَ درجة، وأعلا منزلةً يوم القيامة، وهذا مراد كثير من القراء، والواجب التفكير فيما هو بعد ذلك ، من يقين ثابت، وإيمانٍ عالٍ، وبلاغ متواصل .
قال في الحديث عليه الصلاة والسلام :( مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ ، وَلَامٌ حَرْفٌ ،؟وَمِيمٌ حَرْفٌ ) " . رواه الترمذي وهو صحيح .

٤- التهذيبُ الخُلقي :

لأنه كتابُ خلقٍ وأدب ، فيه مكارم الأخلاق، وروائع الشيم، وفيه قال لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام : ( وإنك لعلى خلقٍ عظيم ) سورة القلم. وقالت عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها :" كان خلقه القرآن " .
فاذا قرأته بإمعان هذّب خلقك، وأصلحَ اعوجاجك، وداوى تطاولك، وطيّب سلوكك . وفيه أجمعُ آيةٍ في مكارم الأخلاق ( خذِ العفوَ وامر بالعرف ، وأعرضْ عن الجاهلين ).سورة الحِجر .
وقال جعفر الصادق رحمه الله : " أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية ، وليس في القرآن آيةٌ أجمعَ لمكارم الأخلاق من هذه الآية" .
وكان هذا ديدن السلف في تهذيب سلوكهم بالقرآن وأدبياته .
ولما تطاولُ عُيينة بن حصن الفزاري على الفاروق رضي الله عنه، كما في البخاري : غَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ بن قيس رضي الله عنه : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } ، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ. وَاللَّهِ، مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ .

٥- الإحياءُ القلبي :

مما قد يعتريه من أسقام، وقسوة، أو شحوب واختلاف، جراء ذنوب قاتلة، أو خطايا كاسرة، لا يصلحها إلا القرآن والعيش في ظلاله، والتنعم بهدايته ومواعظه ، قال تعالى :( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاء لما في الصدور...) سورة يونس . وقال العلامة ابن القيم رحمه الله : "فما أشدَّها من حسرة، وما أعظمَها من غَبنة، على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم خرج من الدنيا وما فهم حقائقَ القرآن، ولا باشر قلبَه أسرارُه ومعانيه" .

٦- الصيانةُ الفكرية :

من مزالق الشبهات والخرافات والانحرافات، ( إن هذا القرآنَ يهدي للتي هي أقوم) سورة الإسراء. ففي التعاهد اليومي صون الذهنية المؤمنة من التفلت والضلال، لأنّ الذكر بهدايته وعجائبه يمثّلُ الدرع الحامي من الاختراق والعبث الفكري، ومخانق الشبهات القاتلة، فقراءته بالوعي واليقين تصنع الطمأنينة والتسليم، قال عز وحل { وكذلك نُفصلُ الآياتِ ولتستبينَ سبيلُ المجرمين }. . سورة الأنعام.

٧- الانتفاع التوجيهي :

الذي يضبطُ المرءَ وحركاته وسكناته ، ويسدِّد منطقه وكلامه، ويصون رده وسلوكه، ويكوِّن له الشخصيةَ المسلمة المستوعبة للكون وتقلباته، فلا زيغَ ولا ضلال، ولا حيرةَ أو انحلال .
فيسمعُ آياتِ ذم (الربا) فيخاف، والنهي عن (الغيبة) فيكف، وزجر (النميمة) فيرتعب ، ويحس أن القرآن معه كلما قرأه وسمعه . ولولا ما فيه من أحوال (القيامة) وشدتها وقوارعها، لعمّت الغفلة ، ولتناساه الناس ...!
يقول في المدارج؛" فَلَا تَزَالُ مَعَانِيهِ تُنْهِضُ الْعَبْدَ إِلَى رَبِّهِ بِالْوَعْدِ الْجَمِيلِ، وَتُحَذِّرُهُ وَتُخَوِّفُهُ بِوَعِيدِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ، وَتَحُثُّهُ عَلَى التَّضَمُّرِ وَالتَّخَفُّفِ لِلِقَاءِ الْيَوْمِ الثَّقِيلِ" .

٨- الحفزُ الدعوي :

والبلاغي، الذي يشعرك بواجبك تجاه القرآن عملا، ودعوةً، وإصلاحًا، ونشرا، وتطبيقا، وكن على طريقة السلف، والجن المؤمنين ( فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين ) سورة الأحقاف .
وتطالع في سير الأنبياء صبرا متينا، وجدا عاليا، ومروءةً فخمة، واعتزازا راسخا، وكرما باذخًا ، وعلما منيرا، وتعاملا مَهديا، ونظرةً ثاقبة، ونفسية زاهدة، وتطلعا مباركا ، وإخاءً نادرا ، وخشوعًا فريدا. ولا تنتهي محاسنهم أو تضعف سماتهم . ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ..) سورة يوسف .
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح : ( بلغوا عني ولو آية ) .

٩- الدليلُ الحاضر :

والذاكرة البديهية ، المستوعبة مراجعةً وتفهما. والبرهان القاطع على ظن مطروح، أو جهل مسروح ، أو خطأ مسموح ، لا سيما لمن يتدبر القرآن ، ويحسنُ انتزاعَ النص، وإلقاءَه في مواضعه ومظانه ..!
وهي منزلةٌ عليا يبلغها الحفظة، والمتجددون مع كتاب الله، وقد وعَوا نصوصه، واستحضروا شواهده كدلائل التوحيد مثلًا ، وفقه القصص والأحكام ، وخلاصة الآداب ، وما يعرف حاليا " بالتفسير الموضوعي" ، الذي يعمد إلى وحدة موضوعية كالصبر أو الصدق، مثلا ، أو علو الهمة، وصلاة الجماعة ، وصفات العالم ، أو سقوط الحضارات، وانتصار المؤمنين، والشخصية الفرعونية المتجبرة .... فيجمعها ظاهرًا وباطنًا ، ومعنى وإيماءً، وإبانةً وتفقها .
ومنتهى ذلك العلم الجمعي الموضوعي خلاصةٌ ذهبية، تنقطع فيها آباط الإبل ، لحُسنها وروعتها .
فمثلا قول الامام أحمد:" ذكر الله سبحانه الصبرَ في القرآن في تسعين موضعًا ".
والإمام الشافعي رحمه الله واستخراجه دليل الإجماع ، من آية قرآنية وسأله سائل ، أعيته ابتداءً ، فتغير واعتكف في منزله ثلاثة أيام يقرأ القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات ويراجعه !
‏ثم خرج عليهم وأجاب السائل بقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى). سورة النساء .
والقصة للبيهقي رحمه الله في المدخل إلى السنن .
وهذا فنٌّ يكتسبُ بالمراجعة وحُسن التدريس، والدعاة والخطباء ، والفقهاء الاستنباطيون من أحظِ الناس به .
وقد يترقى مع حملته حتى يصبح فهما ودربة، فينتقل من الظاهر إلى الرمز والإيماءة .ومن الطريف العجيب هنا، ما ذكره الماوردي رحمه الله في قصة طويلة-أختصرها هنا- عن إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول : سمعت أبي يقول سألت الحسينَ بن الفضل فقلت : إنك تخرجُ أمثالَ العرب والعجم من القرآن فهل تجد في كتاب الله: (خير الأمور أوساطها ) قال : نعم ، في أربعة مواضع قوله تعالى: (لا فارضٌ ولا بكر عوانٌ بين ذلك ) وقوله تعالى : (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) وقوله تعالى : (ولا تجعلْ يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) وقوله تعالى : (ولا تجهر بصلاتك ولا تُخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) ...الخ .

١٠- السرورُ اليومي:

والانشراحُ المتجدِّد الذي يدفع غلواءَ الحياة وحُزنها ، ويذيبُ عنتَها وعناءها ، فالحياة كلها تعبٌ ومناكد ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) سورة البلد . فهو يكابد ويعاني ويحزن، ولا مخرج له من ذلك إلا بتلاوة القرآن ، وترداد الأذكار، والمحافظة على الزاد اليومي، وأكسير السعادة المتجدد ( ألم نشرح لك صدرَك ) سورة الشرح .
والعجيب أن هذا السرور يتحول إلى طاقةٍ حية، وغذاء جسدي يغني عن كل غذاء ، ويَشفي من كل بلاء ، قال في الإغاثة ؛" وأنفع الأغذية غذاء الإيمان ، وأنفع الأدوية دواء القرآن وكل منهما فيه الغذاء والدواء ".

١١- الفهمُ الإجمالي :

لأن المطالعة اليومية، ترسّخ مفاهيم عامة، وإذا انصافَ معها كتابُ تفسير مصاحب كالتفسير الميسر، أو بعض المختصرات المشهورة، وما شاكلها ، ساعد في التصور المبدئي للآيات ، ورسّخ الوعي وحُسن العمل، وتم الانتفاع .
وبالإمكان ختمُ مختصر في التفسير، يكون ملاصقًا بالورد اليومي، يخدم الذكر وتفسيره وتبيينه .( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكر ) سورة القمر .

١٢- التدبرُ النافع :

وهو من أجلِّ مقاصدِ التلاوة والتعاهد اليومي ، أن يكون حظنا مع التلاوة تحقيق التدبر، ووعي دلالة الآيات والقصص والبراهين ، قال عز وجل :( كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته) سورة ص . قال الحسنُ البصري رحمه الله:" نزل القرآنُ ليُعملَ به ويتدبر فاتخذوا تلاوته عملًا ".
والحقيقةُ أن جلَّ تلك الثمرات مصدرها التدبر، فهو باعث اليقين، ومحي القلب، وشارح الصدر، ومثبت الروح .
وحقيقته كما قال الألوسي رحمه الله :" وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ، ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه أو سوابقه وأسبابه أو لواحقه وأعقابه" .
وليس هو التفسير، الذي معناه البيان، ولكن التفسير مفتاحٌ ومقدمة له .
ولن تجد أثر القرآن وبركته حتى تعتقد أنك مخاطب به، وعليك أنزل، وإياك أراد وقصد ...يقول الشاعر الباكستاني محمّد إقبال رحمه الله عن تجربته في فهم القرآن وإقباله عليه : لقد كنت تعمّدتُ أن أقرأ القرآنَ بعد صلاة الصبح كلّ يوم، وكان أبي يراني فيسألني، ماذا أصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن. وظلّ على ذلك ثلاث سنوات. وذات يوم قلت له: ما بالك يا أبي تسألني نفس السؤال، وأجيبك جواباً واحـداً، ثمّ لا يمنـعك ذلك من إعادة السؤال من غد؟! فقال: إنّما أردتُ أن أقولَ لك يا ولدي:
إقرأ القرآن كما لو كان نزل عليك! ومن ذلك اليوم ، بدأتُ أتفهّمه وأُقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبستُ، ومن درره ما نظمتُ !!
وفعلًا من وُفق لهذه الوصية ، عاش الهدية، وفاز بالحياة المرضية، وفُتحت عليه المناعم، وسلم الجهل والمآثم .

١٣- الوعي التاريخي :

للحياة وتطورات الزمن وأحداثه وتقلباته، فلن يجد أحدٌ تفسيرا لما يحصل إلا من خلال الوحي المبارك المنزل لهداية الناس، ومداواة حيراتهم . ( وأنزلنا إليك الذكرَ لتبين للناس ما نُزل إليهم ولعلهم يتفكرون ).
فأمرُه ونهيه وتوحيده وإخلاصه، وقصصه وتوجيهاته ، مرتبطةٌ بالواقع بشكل عجيب ، وهذا من أسرار إعجازه وقيامه على التحدي إلى اليوم الموعود .( لا يأتون بمثله ولو كان بعضُهم لبعض ظهيرا ) سورة الإسراء.
وما يجري للأمم وحضاراتها من علو أو سفال، أو سعة أو ضيق، اضطلع بأكثره القرآن ، وقدم الدواء والثراء والرخاء .

١٤- الاتساعُ التدبري :

فمع الاستدامةِ القرائية ، والغوصِ التدبري، ستنفجرُ له معانٍ جديدة، واستنباطاتٌ عزيزة، لا يحصِّلها إلا الأكابرُ في العلم، والجهابذة في الفهم والحكمة ، كما قال سبحانه:( وما يعلم تأويلَه إلا اللهُ والراسخون في العلم ). سورة آل عمران .
وهذا سرٌ من أسرارِ القرآن ، أن قراءته الدائمة لا تزال تفيض معاني جديدة، وحكمًا فريدة .
وكل من أدمنه قراءةً وتدبرًا ، فاق نظراءَه وأقرانه ، وحمل كلَّ مبهر وفريد .
وهذا مدروك عند أئمة مشاهير كالإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله ، ونعتقد أنهم ممن فتح عليهم في هذا الباب فقاهةً وحذقا، كما قال علي رضي الله عنه "إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه " .
فضلا عن براعتهم في بقية العلوم، فهما مستنبطان حكيمان في علوم التفسير ، قال القرطبي رحمه الله : ( إن من أُعْطِيَ الحكمة والقرآن ، فقد أُعطي أفضلَ مما أُعطي ،مَنْ جمعَ علم كتبِ الأولين من الصحف وغيرها ) .
فمثلا يقول البرزالي رحمه الله في شيخ الإسلام :" كان إذا ذكرَ التفسير أبهتَ الناس من كثرة محفوظه، وحسن إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال " .
وطُبع تفسيره في (٧) مجلدات تحت مسمى ( تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية ) رحمه الله. طباعة دار ابن الجوزي سنة(١٤٣٢) هـ .
للأستاذ / إياد بن عبد اللطيف القيسي، أربى وصحح على الجهود السابقة .
ومن نماذج تعليقاته رحمه الله : " أنّ القرآن من تدبَّره تدبُّرًا تامًّا ، تبيَّن له اشتمالُه على بيان الأحكام، وأنَّ فيه من العلم مالا يُدرِكه أكثرُ الناس، وأنّه يُبيّن المشكلاتِ ويفصل النزاع بكمال دلالتِه وبيانِه إذا أُعطِيَ حقَّه، ولم تُحرَّف كَلِمُهُ عن مواضعه ".
ومن لطائف كلامه رحمه الله :" والقرآن فيه من ذِكْر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذِكر الأكل والشُّرب والنكاح في الجنة، والآياتُ المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظمُ قدرًا من آيات المعاد؛ فأعظمُ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي المتضمنة لذلك...، وأعظم سورةٍ سورةُ أمِّ القرآن..".
ولابن القيم رحمه الله مجموع اعتني فيه بتفسيره سُمي( بدائع التفسير ) في (٣) أجزاء ، جمعه الأستاذ/ يسري السيد محمد .
ومنه.. قال عند قوله تعالى:( ن ، والقلمِ وما يسطرون ) : " قسم سبحانه بـ(القلم وما يسطرون) ؛ فأقسم بالكتاب وآلته ، وهو القلمُ الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته ، الذي جرى به قدره وشرعه وكتب به الوحي ، وقيّد به الدين ، وأثبتت به الشريعة ، وحفظت به العلوم ، وقامت به مصالح العباد في المعاش والمعاد . فوطدت به الممالك، وأمنت به السبل والمسالك، وأقام في الناس أبلغ خطيب وأفصحه، وأنفعه لهم وأنصحه، وواعظا تشفي مواعظه القلوب من السقم، وطبيبا يبرئ بإذنه من أنواع الألم ؛ يكسر العساكر العظيمة على أنه الضعيف الوحيد ، ويخاف سطوته وبأسه ذو البأس الشديد .
بالأقلام تدبر الأقاليمُ وتساس الممالكُ ، والعلم لسان الضمير يناجيه بما استتر عن الأسماع ، فينسج حلل المعاني في الطرفين ، فتعود أحسن من الوشي المرقوم ، ويودعها حكمه فتصير بوادر الفهوم.

١٥- التصنيفُ القرآني :

المستنتَج من طولِ القراءة وإدامةِ التلاوة، التي زانت بتدبر ٍخفي، وتأملٍ رضي، وبصيرة نافذة ، ونظرة ثاقبة، لا سيما لحملته الصادقين، وأرباب الأقلام ، واعلام الفقه والعلم، الذين تهزهم عقولهم للكتابة، وعلومهم لبث الوعي والاستزادة .
فكم ولّدت التلاوةُ من كتاب، وكم أنتج التدبرُ من مصنَّف، باتَ مرجعا حفيًا ومصدرا قويًا ، يؤمه القومُ من كل مكان، ويقصدون له الحصنَ والبنيان .
ومن كان مديمَ الورد، وصاحبَ نظرٍ وسَرد، وتدريس كل جزء مُعد، بورك له وتعمق ، وضاعف جهده وتألق ، يقول الشافعي رحمه الله :" لَمَّا أردتُ إملاءَ تصنيف أحكام القرآن ، قرأتُ القرآنَ مائةَ مَرَّة ".
فهنيئا للقائمين به، ومفسِّريه وناشريه، الذين امتزجَ بدمِهم وعصبهم ، كم جنَوا منه رحيقا، وخاضوا به عميقا، وسمَوا من العلم دقيقا رقيقا .
وغير ذلك من الفوائد والله الموفق ...

١٤٤٢/٢/١٥هـ

hamzah10000@outlook.com


 

 
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية