صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







عبقريةُ حبرِ الأمة في طلب العلم...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


من عباقرةِ الإسلام الأفذاذ، والصحابة الأعلام الخيار ، جمع العلمَ حفظا وفهما وعملا، حبرٌ فائق، وبحرٌ رائق ، بورك له في علمهِ وعمله، بفضل الدعوة النبوية المشهورة ، والله واسعُ المن والفضل . قال في الذهبي رحمه الله في السير :( البحر حبر الأمة وفقيه العصر وإمام التفسير ... كان وسيما جميلا مديد القامة، مهيبا ،كامل العقل ،ذكي النفس ، من رجال الكمال..)

له قصةٌ من روائع القصص في الطلب، وجمع العلم والحفاوة به وبأهله، اشتهرت عند الناس، وصح سندها، وطاب متنها وفيها دروس ومعالم عبقريته في طلب العلم، ولعلها تكون نبراسا لأبنائنا المتكاسلين في الطلب، والزاهدين في حلاوته وصبرهِ وجماله، فيهبون هبة واحدة، وينتفضون على الوسائل الميسرة، فيلتهمونها، ويسارعون مع المسارعين .

ونصها كما رواها الدارمي رحمه الله وغيره وسندها صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (لما قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: "هلمَّ فلنسأل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير"، فقال: واعجباً لك يا ابنَ عباس، أترى الناسَ يفتقرون إليك وفي الناس من أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، قال:" فتركت ذاك وأقبلتُ أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تَسفي الريحُ عليّ من التراب فيخرج فيراني"، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلتَ إلي فآتيك؟ فأقول: "لا، أنا أحق أن آتيك" قال: فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول:" هذا الفتى كان أعقلَ مني ) . وخرجها الطبراني كذلك .

ومن معالم العبقرية هنا :

استشعاره أهمية العلم : وحاجته إليه ، ( هلم نطلب العلم )، وأن شرف المسلم فيما حصله من علم، قال تعالى:( يرفعِ اللهُ الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) . فدرجاته عالية، ورفعته نادرة، ومنزلته فاخرة، وما عُبدَ الله بأفضلَ من العلم .

استغلاله كثرة الصحابة : ( فإنهم اليوم كثير )، وهذه الكثرة إن لم تتدارك زمن المهلة، ندم المرء على فوات العمر، وذهاب الفضلاء، وبات في جهالة وصَغار ، لأن وفاة العلماء الأجلة ثُلمة في الإسلام، مؤذنة بقبض العلم ورفعه ، وقد تأسف طلاب علم في زماننا على فقدان أعلام مثل ابن باز والألباني وابن عثيمين، والطنطاوي والندوي وأشباههم، رحمهم الله ، قصروا في الأخذ عنهم .

سؤال العلماء البصراء: ( وأقبلتُ أسأل أصحابَ رسول الله ): لأنهم معدن العلم، وبيت الرواية، والعلم إنما يُحصل من أهله، ويجمع من سامعيه ، ويجتنى من نقلته، وفِي القرآن ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) سورة النحل والأنبياء .

الصحبةُ في الطلب :( قلتُ لرجل من الأنصار ): فإذا تيسر الرفيق المعين، فإنه عون وفتح ومؤازرة، يتذاكران ويشجع بعضهم بعضًا ، فهو كحامل المسك، ودافع الشك ، وجالب الخير والسّبْك.

تركُ كلام المثبطين : ( فتركت ذاك ) ولم ينشغل بكلامه وما فيه من معاني التحطيم والتخذيل، وما أتي بعض الطلاب إلا من زملاء مثبطين، واصدقاء مخذلين..!

الشوقُ والحماس العلمي :( فكان يبلغني الحديث..) لأنه علم جديد، وفي طياته سنن وفوائد، ومثل ذلك تهواه النفوس، وتشوقه الأرواح ، وقد آتاه الله أدوات العلم والحذاقة . وهو القائل : إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما .. ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ ../ قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ ... وفي فمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ..!

تحملُ المشاق والصبر عليه :( فأتوسد ردائي على بابه تَسفي الريح ): مع قائلةٍ وعنت، وتراب وبلاء، ولكنه لم يتردد، أو ينقطع، بل تحمل وتصبر، ومن يتصبر يصبّره الله، ويبلغه مأملة ومأموله، ويوصله مطلوبه ومقصوده .

مبادرةُ العمر: قبل التصرم والانفلات، فقد هب بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، مستغلا أيّام النشاط، ولحظات الفتوة، والذهن فيها مستجمع، والجسد متين، والهمة مشتعلة . وفي الحديث المغانم الصحيح :( وشبابك قبل هرمك ).

عدمُ التعويل على النسب : لأنه لا قيمة له في كوكب العلم والعمل الصالح، كما قد صح الحديث: ( ومن بطّأ به عمله، لم يسرع به نسبه ). فالعلمُ أعلا الأنساب، وأغلا الأحساب، فاقت فضائله كل فضيلة، وتجاوزت محاسنه كل حسنة ومنقبة .

العزيمة الصادقة :( لا، أنا أحق أن آتيك ) : فالعلمُ لا يصلح بلا هزيمة ونية، واستعداد واهتمام .

التواضع العلمي : بالبحث عنه والسؤال عن علمائه، وجمع فرائده ، لأن المستكبر والمنتظر للعلم يزوره في منزله أو محله، فبينهم مفاوز تنقطع فيها آباط الإبل .

طلبُ علو الإسناد :( يبلغني الحديث عن الرجل ..): فلم يعتمد على صحابي آخر، أو يكتفي بعارف محدد، بل قصد راويه ومورده وأساسه ، وفي ذلك من طلب العلو، والحرص على التثبت ما لا يخفى .

استغراقُ الوقت بلا تردد:( فآتي بابه وهو قائل ): وهو وقت الراحة والاستطعام، ولكنه اهتبله وسارع فيه، ربما لقلة الرجل ذلك الوقت، أو لتشوقه ونشاط نفسه .

العلم يستجلب الفقراء: ( أترى الناس يفتقرون إليك ): فقد جد ذاك الطامح، وجاهد وتعب، حتى بلّغه الله، وصار محتاجا إليه زمنَ الصحابة الكبار، وصار الناس فقراء إلى علمه، متشوقين لدرسه وتنبيهاته.

طلبٌ مقرونٌ بأدب: حيث لم يطرق وقت القائلة ، ولم يزعج حال الظهيرة ، بل انتظر حتى يخرج الشيخ المعلمُ ، فليست العبرة بعلم منقوص، ولا رواية مهتزة، قد اختلت عن الأخلاق والرزانة العلمية، فالأدب تيجان العلوم، وزينة التحصيل والفهوم..!

الديمومة العلمية الزمنية : ( فعاش هذا الرجلُ الأنصاري ) : فهنا استدامة ومواصلة، وتعمق ورسوخ، وسنوات وتصبر..! لأن العجلةَ لا تورث علما، ولا تبلّغ مكانة، فلابد من الطلب المستديم، والسنوات المتلاحقة، والحِقب الجادة ...!

شرفُ العلم : ( وقد اجتمع الناس حولي يسألوني ): حيث صار مطلوبا ومحبوبا بشرف العلم، وقد روي عنه قوله:( ذللتُ طالبا فعززتُ مطلوبا ). فذلك الغلام الذي لا يُعرف إلا بنسبه الشريف، صار شريفُ العلم، كريم المعنى، جليل القدر والمكانة من جراء تعلمه وسعيه الفقهي الثمين .

ثمرةُ العقل: ( هذا الفتى كان أعقل مني ): فهو خلاصة الإنسان، وعنوان آدميته، ومنتهى تكريم الله له، يحملك على الحق، ويرشدك الصحيح، ويفتح لك أبواب الخير والسعادة . فالعقل عقال عن المهالك والضياع والخسار، وعدم استثمار الساعات ، ومن لم يعِ ذلك فمتى عسى أن يعيه ويدركه، والله المستعان . اللهم علمنا ما ينفعنا، وهبنا البركة وحسن العمل ، إنك جواد كريم ...!

١٤٤١/١٠/٢هـ


hamzah10000@outlook.com


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية