اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/hamza/287.htm?print_it=1

هيا نُرمّض على الجماعة...!

د.حمزة بن فايع الفتحي
@hamzahf10000


غلَب في تهامة هذا المصطلح، وهو كناية عن صلة الرحم وزيارة الأقارب والأحباب( نرمض ) على آل فلان. أي نزورهم ونسلم عليهم ونبادر بالصلات والأجور، في هذا الموسم الكريم . وكذلك جيراننا نسلم عليهم ونبث فيها أنواراً من البسمات، قال تعالى :( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم ) سورة الأنفال .

ورأيت آباءنا وكبارنا يستعملونها، ومن آثارها تحقيق الصفاء والألفة ومحو ذاك الجفاء الطويل، فتأتي هذه (الترميضة) لتبلّ وجدان المتقاطعين والمتباعدين...! كما قيل: ولا أحملُ الحقدَ القديم عليهمُ// وليس رئيسُ القوم من يحمل الحقدا...! قال صلى الله عليه وسلم:( من كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحمه ).

وكان الجيل القديم، ومع قلة ذات اليد، وبساطة العيش.. يدرك أن رمضان موسم التصالح والتصافي والوئام، وتحس بحركتهم في المساجد وبين الأزقة، والبيوت الشعبية ( واتقوا اللهَ الذي تساءلون به والأرحام ) سورة النساء .

وكما قالوا في رمضان، أنه مشتق من الرمضاء وهو شدة الحر، أو رمض الجوف بالجوع والعطش ، وكأنهم أيضا يحرقون ذنوب القطيعة بتلكم الصلة، وهذي الابتسامة، وطيب الود واللقاء، والرمَض يأتي بمعنى المطر، وتلكم الزيارات قطرات مطر راوية دافئة ، تخفف الآلام والأحزان .

وتقع تلك الترميضة موقعها من النفس حلاوةً ونداوةً، ودواء وعطاء ، وتعكس اهتماماً بالغا، وصلة متلهفة، وتواضعا كبيرا، وتفوق كل الزيارات، ويعتقد المزور بها أن زائرَه خيرٌ منه، تغلب على غضبه، وخذل شيطانه ( وخيرُهما الذي يبدا بالسلام ).

وكل خصومة تجد حلها في رمضان، والمتحايل على رفضها خاسر منقوص الثواب والعاقبة، قد تجلبب بالشحناء، قال في الحديث في فقدانه المغفرة الأسبوعية :( أَنْظِرُوا هَذَيْنِ- أخروهما- حَتَّى يَصْطَلِحَا ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ) . رواه مسلم .

والزائر المرمّض يعيش لذاذةً عالية، وانشراحا مباركاً، يقع عليه وقع الثلج على الجسد والقلب، ويحس بالانتصار على الشيطان وغوائل النفوس، فقد لان وتواضع، وصفح وتراجع، ودنا وتدلّى ، وفِي الحديث: ( وما زاد الله بعفو إلا عزا ).

وإنما تزاور الناس في رمضان، بسبب ما أورثه الصيام من انكسار ومتاب، وشعور بالحاجة إلى الصفاء والتسامح ، والاستزادة من الأجور والحسنات .

وتلكم خاصية لرمضان، أن يقذف فينا حب الصفح والعفو، والحرص على التواصل الاجتماعي، من جراء ما فعله الصوم في النفوس من تهذيب وتزكية، فخرجت من كبريائها وأنفتها، قال تعالى:( قد أفلح من زكاها ) سورة الشمس .

وهذا دليل على أن ارتفاع معدل العبادة والصيام، يغلب الإحن الداخلية وكبرياء النفوس الرافض للصلح والتسامح .

وكثير من الأسر والقرابات لا تتواصل طيلة العام، فيأتي رمضان ليجدّد الوصال، ويبلّل الرمضاء، ويلطف الأجواء، وينشر البسمات والرياحين، قبل العيد، وقد يكتفون بها كعربون اتصال وحسن نوايا ..!

فتتحول تلكم الرمضاء إلى بساتين مورقة، وحدائق معشبة، ينهل منها الجميع، ويتفكهون بلا حدود، قد عمت الأنسام، وسادت الأنغام، وتقاربت الأفهام .

فيا رمضانُ قرّب من تناءى// وأجزلْ في العطايا وفِي الهباتِ
لدهرك كلُّ حسن فاض طيباً// وأغدِقْنا بنور في الحياةِ..!

فإذا تغلغلت معاني الصيام فينا، وامتزجت حلاوة رمضان بأفئدتنا، تطهرنا من أخلاط رديئة ضرت الأجسام والأرواح، وعدلت أمزجتنا للمنهج الحق، وكما اتجهت إلى العبادة الجادة، ستنطلق للعلاقات الواجبة للصلة والتزاور والتراحم ( من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله ).

وعلمنا والدي رحمه الله سنة الترميض والتزاور الرمضاني، ويبتدئ مع إطلالة الشهر، ويعد ذلك من الواجبات، ومن لوازم شهر البر والصلة،،! إذ ليس البر خاصا بالعبادات الذاتية، بل لابد من عبادات اجتماعية تواصلية..!

ويتم من خلالها طيب التواصل والتعارف وكشف الظروف، وتفقد الأحوال ، لا سيما وبعض الأقارب ظروفهم المعيشية متدنية، ويحتاج دعما وعونا، وإذا لم يعتن بهم أقاربهم، فمن يعتني بهم...؟! وفِي الحديث : قال صلى الله عليه وسلم :( إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ : صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ ) . رواه الترمذي والنسائي بسند حسن .

وفِي التواصل ترحامٌ ومعرفة/ بذي الظروف وتسليم وإقبالُ
عزّ القريب بأنصار وزاملة/ من الصحاب وأعوانٌ وأبطالُ

ولرمضان سر عجيب في حلّ الأزمات ومعضلات المشاكل، ولن تكون النفوس بأقرب منها للصفاء من مثل هذا الموسم، فاهتبلوا يا صوام فرصتَكم، وسارعوا يا دعاة رسالتكم، وجدوا يا حكماء صنعتَكم.. فقد تداعى الأمر، وطاب الحل، وزان الوقت.

وما تجمل المؤمن بشيء كالعفو وإقالة العثرات ، وقبول المعاذير قال الفاروق عمر رضي للله عنه:( أعقلُ الناسِ أعذرُهم للناس ).

فو اعجبا لك يا رمضان، كيف ألفتَ من قلوب، وأصلحت من افئدة، وسكبتَ من دموع،....! كانت قبل مدة جافيةً عصيّة، تتأبى على كل ظرف، وترفض كل نافذة للصلح .! وفِي هذا دليل على عظمة الإسلام، وروعة أحكامه، وأن تشريعاته الخير الأعظم، والمنزل الأكرم للبشرية جمعاء ، والله ولي التوفيق ...

١٤٤٠/٩/٧

‏‫

 

د.حمزة الفتحي
  • المقالات
  • رسائل رمضانية
  • الكتب
  • القصائد
  • قراءة نقدية
  • الصفحة الرئيسية