صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







فقهاء لكن شعراء

د. بدر عبد الحميد هميسه


يعتقد بعض الناس أن أهل الفقه ليست لديهم تلك المشاعر والأحاسيس المرهفة التي توجد عند الناس , وأن الفقه آلة جامدة تعتمد على الحقائق وتحرير المسائل بشكل علمي يخلو من العاطفة والمشاعر , وأنهم بمنأى ومعزل عن الشعر , وينسون أن الشعر في حقيقته موهبة وإبداع وهو حكمة وهدف وأن كتب التراث قد حفلت بألوان مجيدة من الفقهاء الشعراء الذين خلدوا شعرهم بين دفتى الكتب القديمة ناهيك عن المصنفات الفقهية الراقية والموثوق بها مذهباً ودليلاً وتدقيقاً وهذه ميزة لا تحصل إلا للجهابذة من العلماء والمجتهدين، ولقد أورد لنا الرصيد التراثي جملة من أشعار الفقهاء وذلك لا ينقص من شأنهم بل يزيدهم شامة على جلالة اجتهادهم وسعة فقههم وعلمهم .

بل أصبح \" أدب الفقهاء مادة خصبة للدراسة وباب واسع يتضمن فنونا وأغراضا مختلفة بعضها مما يقل نظيره في أدب غيرهم . فهو يشتمل على شعر وجداني من الطبقة الرفيعة يعبر عن أعمق المشاعر الإنسانية وارق العواطف القلبية , ومنه شعر فلسفي يتناول مطالب النفس العليا ويتحدث عن الروح وعالمها الفسيح ومشكلة الوجود والحقيقة الأزلية وما إلى ذلك\" عبد الله كنون : أدب الفقهاء 15.
ولقد وجد هذا الأمر منذ ظهور الإسلام وإشراق شمسه , وارتبط الفقه بالشعر ؛ فقد ظهر الفقه والفقهاء منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أبو بكر فقيهاً وكان عمر فقيهاً وكان عثمان فقيهاً، وكان علي فقيها ، وكان لكل واحد منهم شعراً ، وكان أشعرهم علي بن أبي طالب.
وبلغ من شهرة علي بالشعر أن جمع شعره في ديوان ، وطبع عشرات المرات ، وشرح من قبل عدد من علماء الشعر .

والذي يستعرض شعر الإمام علي يجده معبراً عن تجاربه المتنوعة في حياة حافلة، كما يجد فيه أثر الفقه الذي تميز به ومارسه وزيراً للخلفاء وأميراً للمؤمنين .
ومن شعره رضي الله عنه :

الناس من جهة التمثيل أكفاء * * * أبوهم آدم والأم حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة * * * وأعظم خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب * * * يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم * * * على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * * * وللرجال على الأفعال سيماء
وضد كل امرئ ما كان يجهله ... والجاهلون لأهل العلم أعداء

واستمرت هذه الظاهرة بعد الفقهاء الأربعة الراشدين رضوان الله عليهم ، بل إن هذه الظاهرة تنامت وأشرقت ، فظهر من بين الفقهاء شعراء عظام زاحموا الشعراء الذين قصروا عبقرياتهم على الشعر ، فلم يعرفوا إلا به ,من هؤلاء الفقهاء عروة بن أذينة ، فقد حلق بالشعر حتى عرف به ونسي الناس أنه عالم فقيه، بل إن له شعراً في الغزل تفوق به على كبار الشعراء في هذا الباب منه قوله :

إنَ التي زَعَمَتْ فؤادَك مَلَّها * * * خُلِقَتْ هواك كما خُلِقْتَ هَوًى لها
فيك الذي زعمَتْ بها ، وَكِلاَكُمَا * * * أبْدى لِصَاحِبه الصبَّابَةَ كُلَّها
ولَعَمْرُها لو كان حبُك فَوقَها * * * يوماً وقد ضَحِيَتْ إذَنْ لأظَلَّهَا
فإذا وجَدْت لها وَسَاوِسَ سَلوَة * * * شَفَع الضميرُ إلى الفؤاد فَسَلَّها
بيضاء بَاكَرَها النَّعيمُ فصَاغَها * * * بِلَبَاقةٍ فَأَدَقَّهَا وَأجلَها
لَمَّا عرَضْتُ مُسَلَماً ، لِيَ حاجة * * * أخْشَى صُعُوبتها ، وأرجُو ذُلّها
مَنَعَتْ تَحيَّتَها فَقُلتُ لصاحبي * * * ما كانَ أكْثرَها لنَا وأقلَّها
فَدنا وقال : لعلّها مَعْذُورة * * * في بعضِ رِقْبتِها ، فقلت : لَعلَّها

وهو بالإضافة إلى ذلك صاحب البيتين السائرين في التوكل على الله ، وهما نابعان من \"شعور\" عالم فقيه يعرف أن الرزق ليس بيد البشر وإنما هو بيد الله وحده يقول:

لقد علمتُ وما الإسرافُ من خُلُقي * * * أنَّ الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنِّيني تَطَلُّبُهُ * * * وإنْ قعدتُ أتاني لا يُعَنِّيني

وكان الإمام مالك بن أنس شاعراً ، وهو وإن لم يكن مكثراً إلا أنه قال الشعر وروي عنه، ومما قاله في مدح القناعة والتحذير من الجشع والطمع :

هي القناعة لا أرضى بها بدلاً * * * فيها النعيم وفيها راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها * * * هل فاز منها بغير اللحد والكفن؟
روى السفطي المالكي في حاشيته عن مالك بن أنس قوله:
إذا رفع الزمان مكان شخص * * * وكنتَ أحقَّ منه ولو تصاعَد
أنله حق رتبته تجده * * * ينيلك إن دنوتَ وإن تباعد
ولا تقل الذي تدريه فيه * * * تكن رجلاً عن الحسنى تقاعد
فكم في العرس أبهى من عروس * * * ولكن للعروس الدهر ساعد

كما قال الإمام أبو حنيفة الشعر ومنه قوله في نبات الرمث في الشفاء من الزكام :

إِذا يقولون: ما أَشْفَى؟ أَقُولُ لَهُمْ: * * * دُخَانُ رِمْثٍ من التَّسْرِيرِ يَشْفِينِي
مما يَضُمُّ إِلى عُمْرانَ حاطِبُهُ * * * من الجُنَيْبَةِ، جَزْلاً غَيْرَ مَوْزُون

وبنسب إليه أيضاً قوله :

أنت الذي من نور البدر اكتسى *** و الشمس مشرقة بنور بهاك
أنت الذي لما رفعت إلى السما *** بك قد سمت و تزينت لسراك
أنت الذي نادك ربك مرحبا *** و لقد دعاك لقربه و حباك
صلى عليك الله يا علم الهدى **** ما حن مشتاق إلى لقياك

وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي شاعراً مجيداً ، وله أشعار رائقة جمعت في ديوان لا زال متداولاً ، ومن أبياته السائرة :

ولولا الشعر بالعلماء يزري * * * لكنت اليوم أشعر من لبيد

وهو القائل :

سهـري لتنقيـح العلوم ألذ لي * * * من وصل غانية وطيب عنــاق
وصرير أقلامي على صفحاتها * * * أحلى مـن الدّّوْكـاء والعشــاق
وألذ من نقر الفتـاة لدفهــا * * * نقري لألقي الـرمل عـن أوراقي
وتمايلي طربـا لحل عويصـة * * * في الدرس أشهى من مدامة ساق
وأبيت سهـران الدجى وتبيته * * * نومـا وتبغي بعـد ذاك لحـاقي

وقال أيضاً :

قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلتُ لهم *** إن الجوابَ لِبَابِ الشَّرِّ مفتاحُ
والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ *** وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ
أما ترى الُأسْدَ تُخشى وهي صامتةٌ *** والكلب يُخسى لعمري وهو نباحُ

كما جرت بينه وبين تلميذه الإمام الفقيه أحمد بن حنبل مساجلات شعرية منها قول الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :

أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْت مِنْهُمْ * * * لَعَلِّي أَنْ أَنَالَ بِهِمْ شَفَاعَهْ
وَأَكْرَهُ مَنْ تِجَارَتُهُ الْمَعَاصِي * * * وَإِنْ كُنَّا سَوَاءً فِي الْبِضَاعَهْ

فقَالَ لَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ حَنْبَلٍ :

تُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ * * * لَعَلَّهُمْ يَنَالُوا بِك الشَّفَاعَهْ
وَتَكْرَهُ مَنْ تِجَارَتُهُ الْمَعَاصِي * * * حَمَاك اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْبِضَاعَهْ

انظر : حاشية الصاوي على الشرح الصغير 11/ 239.
ومنها أيضاً ما كتبه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه للإمام أحمد رضي الله تعالى عنه ما لفظه :

قالوا يزورك أحمد وتزوره * * * قلت الفضائل لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته * * * فلفضله فالفضل في الحالين له

فأجابه الإمام أحمد رضي الله عنه :

إن زرتنا فبفضل منك تمنحنا * * * أو نحن زرنا فللفضل الذي فيكا
فلا عندما كلا الحالين منك ولا * * * نال الذي يتمنى فيك شانيكا

انظر : السفاريني : غذاء الألباب شرح منظومة الآداب 1/219.
وللشافعي أشعار في الحكمة صارت بها الركبان ودلت دلالة واضحة على براعته وصدق موهبته .
ومن الفقهاء الشعراء الذين روي عنهم شعر رائق ، وذاع هذا الشعر وتناقله الأدباء من بعده الفقيه الكبير عبد الله بن المبارك ، فقد كان هذا العالم الفقيه مجاهداً لا يترك الثغور، وكان شعره ينم عن شخصيته وعن مذهبه وعن فقهه ، وله الأبيات السائرة :

رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ * * * وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ * * * وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا
وهل أفسد الدين إلا الملوك * * * وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس فلم يربحوا * * * ولم تغل في البيع أثمانها
لقد وقع القوم في جيفةٍ * * * يبين لذي اللب إنتانها

وله الأبيات الشهيرة التي وجهها من ساحات الجهاد إلى الفقيه الفضيل بن عياض الذي لازم الحرمين متعبداً ، يقول له فيها :

يا عابدَ الحرمين لو أبصرتنا * * * لعلمتَ أنّكَ في العبادة تلعَبُ
من كانَ يخضبُ خدّهُ بدموعهِ * * * فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ
أو كانَ يُتعبُ خيلهُ في باطالٍ * * * فخيولُنا يومَ الصبيحَةِ تتعبُ
ريحُ العبيرِ لكم ونحنُ عبيرُنا * * * رهجُ السنابِكِ والغبارُ الأطيبُ

ومن الفقهاء الشعراء : محمد بن داود الظاهري وأبي محمد علي بن حزم القرطبي ، فقد ألف كلاهما كتاباً في العلاقات العاطفية ، ألف الظاهري كتاب \"الزهرة\" وألف ابن حزم كتاب \"طوق الحمامة\" .. ولم يعبهما أحد لعملهما هذا ، ولم يقل أحد إن هذا التأليف يقدح في دينهما أو يزري بشخصيتهما ! .
فمن شعر ابن داود الظاهري :

أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي * * * وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقْلِ الْهَوَى مَا لَوْ انَّهُ * * * يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الأَصَمِّ تَهَدَّمَا
وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجِمِ خَاطِرِي * * * فَلَوْلا اخْتِلاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا
رَأَيْت الْهَوَى دَعْوَى مِنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ * * * فَلَسْت أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمَا

ومن شعر ابن حزم الأندلسي :

ليس التذلل في الهوى يستنكر * * * فالحب فيه يخضع المستكبر
لا تعجبوا من ذلتي في حالة * * * قد ذل فيها قبلي المستنصر
ليس الحبيب مماثلا ومكافياً * * * فيكون صبرك ذلة إذ تصبر
تفاحة وقعت فآلم وقعها * * * هل قطعها منك انتصاراً يذكر

وللإمام الفقيه ابن القيم قصائد رائعة منها النونية التي قال في بعض أبياتها :

لله حق لا يكون لغيره*** ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقا واحدا*** من غير تمييز ولا فرقان
فالحج للرحمن دون رسوله*** وكذا الصلاة وذبح ذا القربان
وكذا السجود ونذرنا ويميننا*** وكذا متاب العبد من عصيان
وكذا التوكل والانابة والتقى*** وكذا الرجاء وخشية الرحمن

وله أيضا اللامية التي قال في بعض أبياتها :

إن قلت : قال الله قال رسوله * * * همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت : قد قال الصحابة والأولى * * * تبعوهم في القول والأعمال
أو قلت : قال الآل آل المصطفى * * * صلى عليه الله أفضل آل
أو قلت : قال الشافعي : وأحمد * * * وأبو حنيفة والإمام العالي
أو قلت : قال صحابهم من بعدهم * * * فالكل عندهم كشبه خيال
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا * * * بظواهر الجهال والضلال
نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم * * * نبذ المسافر فضلة الأكال
هجروا له القرآن والأخبار * * * والآثار إذ شهدت لهم بضلال

وله أيضا في مناظرة عباد المسيح :

أَعُبّاد المسيح لنا سؤالٌ * * * نريدُ جوابه ممّن وّعاهُ
إذا مات الإله بصنع قومٍ * * * أماتوه فما هذا الإله؟
وهل أرضاه ما نالوه منه؟ * * * فبشراهم إذا نالوا رضاهُ
وإن سخط الذي فعلوه فيه * * * فقّوتهم إذا أوهت قواه
وهل بقي الوجود بالا إله * * * سميع يستجيب لمن دعاه؟
وهل خلت الطباق السبع لما * * * ثوى تحت التراب وقد علاه؟
وهل خلت العوالم من إلهٍ * * * يدبرها وقد سمرت يداه؟
وكيف تخلت الأملاك عنه * * * بنصرهم وقد سمعوا بكاه؟
وكيف أطاقت الخشبات حمل * * * الأله الحق شد على قفاهُ
وكيف دنا الحديد إليه حتى * * * يخالطه ويلحقه أذاه؟
وكيف تمكنت أيدي عداه * * * وطالت حيث قد صفعوا قفاه؟
وهل عاد المسيح إلى حياة * * * أم المحيي له رب سواه
ويا عجباً لقبر ضم ربا * * * وأعجب منه بطن قد حواهُ
أقام هناك تسعاً من شهورٍ * * * لدى الظلمات من حيض غذاه
وشق الفرج مولوداً صغيراً * * * ضعيفاً فاتحاً للثدي فاهُ
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي * * * بلازم ذاك هل هذا إلهُ؟
تعالى الله عن إفك النصارى * * * سيسأل كلهم عما افتراه
أعباد الصليب بأيّ معنىً * * * يُعظّم، أو يقبح من رماهُ
وهل تقضي العقول بغير كسر * * * وإحراق له ولمن بغاه
إذا ركب الإله !! عليه كرهاً * * * وقد شدت بتسمير يداه
فذاك المركب الملعون حقاً * * * فدسه لا تبسه إذ تراه
يهان عليه رب الخلق طراً * * * وتعبده؟ فإنك من عداه
فإن عظمته من أجل أن قد * ** حوى رب العباد وقد علاه
فهلا للقبور سجدت طراً * * * لضم القبر ربك في حشاه؟
فياعبد المسيح أفق فهذا * * * بدايته وهذا منتهاه

وها هو الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، والعلامة الإمام الهمام محمود العيني الحنفي، وذلك لما أن ظهر في المنارة اختلال بعد بناثها، فقال الحافظ المذكور هذين البيتين يعرض فيهما به في ستر التورية: :

لِجَامِعِ مَوْلاناً المُؤَيدِ بَهجَةٌ * * * مَنَارَتُهُ بالحُسْنِ تَزْهُو وبالزيْنِ
تَقُولُ وَقَد مَالَت عَنِ القَصدِ أَمْهِلُوا * * * فَلَيْسَ عَلَى جِسْمِي أَضَرُ مِنَ العَيْنِ

فوصل خبر البيتين إلى الإمام العلامة محمود العيني، فقال في جوابهما معرضاً ستر التورية :

مَنَارَة كَعَروسِ الحُسنِ إِذْ جُلِيَت * * * وَهَدمُهاً بِقَضَاءِ اللهِ والقَدَرِ
قَالُوا: أُصِيبَت بِعَين قُفتُ: ذاً غَلَطٌ * * * ماً أَوجَبَ الهَدْمَ إلأ خِسةُ الحَجَرِ

انظر : العصامي : سمط النجوم العوالي 2/300.
ولقد طرق الفقهاء الشعراء في شعرهم أغراضاً متننوعة لا تختلف في جوهرها عن الأغراض التي طرقها غيرهم من الشعراء ، من هذه الأغراض الشعر الفلسفي ومن منا لا يذكر قصيدة ابن سينا في النفس :

هبطت إليك من المحل الأرفع * * * ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبةٌ عن كلِّ مقلةِ عارفٍ * * * وهي التي سفرت ولم تتبرقعِ

ولهم شعر في الأخلاق والآداب والمدح والرثاء والبر والملاحم وحتى الهجاء ، أما براعتهم في الشعر التعليمي فحدث عن ذلك ولا حرج .
فلقد كان الفقه هو العلم الجامع لكل علماء الإسلام ، فقد كان الطبيب فقيهاً والرياضي فقيهاً والمهندس فقيهاً والمؤرخ فقيهاً .. وعندما وصل بنا قطار الحياة إلى هذا العصر وجدنا العلوم قد استقلت والتخصص قد دقّ حتى بلغ الفروع وفروع الفروع ، لهذا وجدنا الفقهاء قد اقتصروا على الفقه والأطباء قد اقتصروا على الطب والمهندسون قد اقتصروا على الهندسة . ومع هذا كله لم يترك هؤلاء وهؤلاء الشعر ، بل أضافوا إلى ظاهرة الفقهاء الشعراء ظواهر أخرى منها الأطباء الشعراء، والمهندسون الشعراء وفي كل قد ألف المؤلفون وكتب الكاتبون وصدرت الكتب.
ولقد كانت لدى هؤلاء الفقهاء أشعار تنم عن موهبة أصيلة لا عن تصنع وتكلف , وليس كما ادعى البعض بأن أشعارهم أشعار فقهاء لا روح فيها ولا ابتكار , قال أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا:

لم أدر حين وقفت بالأطلال * * * ما الفرق بين جديدها والبالي

فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي. ابن خلدون : المقدمة 373.
وفي النماذج الشعرية التي ذكرناها ما يكفي في الرد على هذا الزعم الباطل .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية