اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/hamesabadr/245.htm?print_it=1

أيها المشايخ .. لا تغتروا بكثرة الأتباع

د. بدر عبد الحميد هميسه


بسم الله الرحمن الرحيم


كان علماء السلف رضوان الله عليهم وصالحيهم يخافون على قلوبهم من فتنة الشهرة، وسحر الجاه والصيت، ويحذرون من ذلك تلاميذهم، بل ويخشون على أنفسهم من كثرة الأتباع وتزاحم التلاميذ , فعَن حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ : تَبعَ ابْنَ مَسْعُودٍ نَاسٌ فَجَعَلُوا يَمْشُونَ خَلْفَهُ فَقَالَ : أَلَكُمْ حَاجَةٌ ؟ قَالُوا : لاَ ، قَالَ : ارْجِعُوا فَإِنَّهَا ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ فِتْنَةٌ لِلْمَتْبوعِ.وعَن سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ : أَتَيْنَا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ لِنَتَحَدَّثَ عَندَهُ ، فَلَمَّا قَامَ قُمْنَا نَمْشِي مَعَهُ ، فَلَحِقَهُ عُمَرُ فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اعْلَمْ مَا تَصْنَعُ ؟ قَالَ : إنَّمَا تَرَى فِتْنَةً لِلْمَتْبُوعِ ذِلَّةً لِلتَّابِعِ.المصنف لابن أبي شيبة 9/20.
وقيل للإمام أحمد: إن الناس يدعون لك فقال: أخشى أن يكون هذا استدراج , وكان يكره أن يمشي خلفه أحد من الناس.بل كان بعض السلف إذا اجتمع عنده فوق العشرة ترك المجلس وقام , وقال بعضهم: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب، أي مدخل للغرور أو للرياء أو لنحو ذلك من المداخل.

فليست الكثرة دليلاً على الصلاح فقد قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : \" وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) سورة الأنعام , وقال تبارك وتقدّس على لسان أعدائه: \" وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) سورة سبأ ,فرد الله عليهم : \" قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) سورة سبأ , ثم يشعرهم بأن الكثرة التي يتكئون عليها لا خير فيها: \" وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) سورة سبأ .

وفي مقابل الذم لكثرة البشرية غالباً يمتدح الله القليل الذين هم أجدى نفعاً وأعظم أثراً وأقرب زلفى وأحق نصراً ولأن أتباع الحق هم القليل دائماً لأن الأكثرية لا تملك مغالبة الهوى والأغراض ولأن العزمات أنوارٌ وبصائر وقوة وتوفيق ليس يحوزه إلا القليل: \" فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) سورة البقرة , وقال سبحانه: \" اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) سورة سبأ ، وبعد أن دعا نوح قومه إلى الإيمان ألف عام إلا خمسين قال الله عنه: \" ومَا آمَنَ مَعَهُ إلاَّ قَلِيلٌ (40) سورة هود .
قال الشاعر :

فَاللهُ نَاصِرُ دِينِهِ وكتَابِهِ * * * واللهُ كَافٍ عَبْدَهُ بأمَانِ
لا تَخْشَ مِن كَيْدِ العدُوِّ وَمكْرِهِمْ * * * فَقِتَالُهُمْ بِالكِذْبِ والبُهْتَانِ
فُجنودُ أتْبَاع الرَّسُولِ مَلاَئِكٌ * * * وَجُنُودُهُمْ فَعَسَاكِرُ الشَّيْطَانِ
شَتَّانَ بينَ العسْكَرينِ فَمَنْ يَكُنْ * * * مُتُحَيِّزاً فلينظُرِ الفِئَتَانِ،

ولقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل , والنبي يأتي ومعه الرجلان , والنبي يأتي وليس معه أحد , فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ:خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ أُمَّتِى ، فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ. ثُمَّ قِيلَ لِى انْظُرْ. فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ لي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا. فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَؤُلاَءِ أُمَّتُكَ ، وَمَعَ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ ، فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا في الشِّرْكِ ، وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلَكِنْ هَؤُلاَءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ ، وَلاَ يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ ». فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ. خرجه البخاري 1/163(5705) وأحمد 1/271(2448) و\"مسلم\" 1/137(447) والتِّرْمِذِيّ\" 2446 و\"النَّسائي\" في \"الكبرى\" 7560 .

قال الألباني : وفي الحديث دليل واضح على أن كثرة الأتباع وقلتهم ، ليست معيارا لمعرفة كون الداعية على حق أو باطل ، فهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع كون دعوتهم واحدة ، ودينهم واحدا ، فقد اختلفوا من حيث عدد أتباعهم قلة وكثرة ، حتى كان فيهم من لم يصدقه إلا رجل واحد ، بل ومن ليس معه أحد ! ففي ذلك عبرة بالغة للداعية والمدعوين في هذا العصر ، فالداعية عليه أن يتذكر هذه الحقيقة ،ويمضي قدما في سبيل الدعوة إلى الله تعالى ، ولا يبالي بقلة المستجيبين له ،لأنه ليس عليه إلا البلاغ المبين ، وله أسوة حسنة بالأنبياء السابقين الذين لم يكن مع أحدهم إلا الرجل والرجلان !والمدعو عليه أن لا يستوحش من قلة المستجيبين للداعية ، ويتخذ ذلك سببا للشك في الدعوة الحق وترك الإيمان بها ، فضلا عن أن يتخذ ذلك دليلا على بطلان دعوته بحجة أنه لم يتبعه أحد ، أو إنما اتبعه الأقلون ! ولو كانت دعوته صادقة لاتبعه جماهير الناس ! والله عز و جل يقول : \" ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) سورة يوسف .الألباني في \"السلسلة الصحيحة\" 1/684.

ولقد عد ابن مسعود رضي الله عنه جلوس كثير من الناس على ذكر معين وبطريقة محددة ليس من هدي النبي ولا من سنته , مع كثرة اجتماعهم , فعن عمرو بن سلمة .عن عمرو بن سلمة : كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل الغداة ، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد ، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال أَخَرَجَ إليكم أبو عبدالرحمن بعد ؟ قلنا : لا . فجلس معنا حتى خرج ، فلما خرج قمنا إليه جميعًا ، فقال له أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته ، ولم أر - والحمد لله - إلا خيرًا. قال : فما هو ؟ فقال : إن عشت فستراه. قال : رأيت في المسجد قومًا حِلَقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة ، في كل حلقة رجل ، وفي أيديهم حَصَى ،فيقول : كبروا مائة ، فيكبرون مائة ، فيقول : هللوا مائة ، فيهللون مائة ، ويقول : سبحوا مائة ، فيسبحون مائة .قال : فماذا قلت لهم ؟ قال : ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك وانتظار أمرك .قال : أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم ، وضمنت لهم أنلا يضيع من حسناتهم شيء ؟ ثم مضى ومضينا معه ، حتى أتى حلقة من تلك الحلق ، فوقف عليهم ، فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟ قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، حَصَى نعدبه التكبير والتهليل والتسبيح .قال : فعدّوا سيئاتكم ، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء . ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم ! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون ، وهذه ثيابه لم تبل ، وآنيته لم تكسر ، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملَّة أهدى من ملَّة محمد ، أو مفتتحوا باب ضلالة. قالوا : والله يا أبا عبدالرحمن ، ما أردنا إلا الخير . قال : وكم من مريد للخير لن يصيبه .إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم. وأيم الله ما أدري ، لعل أكثرهم منكم ، ثم تولى عنهم . فقال عمرو بن سلمة : رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.رواه الدارمي وصححه الألباني،انظر السلسلة الصحيحة 5 / 12 ، حديث رقم 2005.

فكثرة الأتباع قد تكون سبباً في فتنة المتبوع وذ لك , بأن تجعله يتصنع الورع والتواضع ليزيد من رواده وأتباعه , بل قد يسكت على أخطاء المتبوعين لئلا يفقد أحدا منهم ,بل قد يقدح في أقرانه من العلماء ليرفع نفسه , ويتفاخر ويغتر بالكثرة والعدد على الآخرين والنشوة بالانتصار على المنافسين , ويحب أن يسير غالب أحيانه في موكب من الأتباع والطلاب من أجل الظهور أمام الآخرين بمظهر المتبوع المطاع والرجل ذي المكان والرفعة، فيحضر بهم الولائم ويقتحم بهم المجالس ويدخل بهم المساجد، فنعوذ بالله من العلو في الأرض والفساد.

ومن المضحك أن الأتباع يتخذون المفتونين بهم جسراً لأغراضهم وسلّماً لأهوائهم. قال حجة الإسلام الغزالي في حديثه عن العزلة وفوائدها: فلقد صدق أبو سليمان الخطابي حيث قال: دع الراغبين في صحبتك والتعلم منك فليس لك منهم مال ولا جمال، إخوان العلانية أعداء السر، من أتاك منهم كان عليك رقيباً وإذا خرج كان عليك خطيباً، أهل نفاق ونميمة وغلّ وخديعة، فلا تغتر باجتماعهم عليك، فما غرضهم العلم بل الجاه والمال وأن يتخذوك سلماً إلى أوطارهم وأغراضهم ، إن قصّرت في غرض من أغراضهم كانوا أشد أعدائك، ويفرضون عليك أن تبذل عرضك وجاهك ودينك لهم فتعادي عدوهم وتنصر قريبهم وخادمهم ووليهم، وتنتهض لهم سفيهاً وقد كنت فقيهاً، وتكون لهم تابعاً خسيساً بعد أن كنت متبوعاً رئيساً. إحياء علوم الدين 2/237.

قال الزاهد المعروف بشر الحافي: ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح. وقال أيضا: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.
وصحب رجل ابن محيريز في سفر، فلما فارقه قال: أوصني. فقال: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتمشي ولا يمشى إليك، وتسأل ولا تسأل، فافعل.
وقال أيوب السختياني: ما صدق الله عبد، إلا سره ألا يشعر بمكانه.
وكان خالد بن معدان الثقة العابد إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.
وقال سليم بن حنظلة: بينما نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه، إذا رآه عمر، فعلاه بالدرة فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال عمر: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع‍ وهي لفتة عمرية نفسية إلى ما قد تحدثه هذه المظاهر البسيطة في بدايتها من عواقب وآثار بعيدة الغور في نفسية الجماهير التابعة، والقادة المتبوعين.
وعن الحسن قال: خرج ابن مسعود يوما من منزله فاتبعه ناس، فالتفت إليهم فقال: علام تتبعوني؟ فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان!.
وقال الحسن: إن خفق النعال حول الرجال قلما تثبت عليه قلوب الحمقى!.
وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال: هل لكم من حاجة؟ وإلا فما عسى أن يبقى هذا من قلب المؤمن؟.
وخرج أيوب السختياني في سفر، فشيعه ناس كثيرون فقال: لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره، لخشيت المقت من الله عز وجل.
وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض.
وقال الفضيل بن عياض: إن قدرت على ألا تعرف فافعل، وما عليك ألا تعرف؟ وما عليك أن يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى؟.
قال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أحب الشهرة‍, وقال: ما قرت عيني يوما في الدنيا قط، إلا مرة واحدة: بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام، وكان بي البطن، فجاء المؤذن، وجرني برجلي حتى أخرجني من المسجد.وإنما قرت عينه، لأن الرجل لم يعرفه، ولذا عامله بعنف وجره من رجله كأنه مجرم.

ولقد أعطى أبو حنيفة تلميذه أبا يوسف درساً في عدم الاغترار بالأتباع , فعندما مرض أبو يوسف مرضًا شديدًا، فعاده أستاذه أبو حنيفة مرارًا. فلما صار إليه آخر مرة، رآه ثقيلاً، استرجع، ثم قال: لقد كنتُ أُؤَمّله بعدي للمسلمين، ولئن أُصيبَ الناسُ به ليموتَنّ علمٌ كثير. ‏ثم رُزق أبو يوسف العافية، وخرج من العِلَّة. فلما أُخبِر بقول أبي حنيفة فيه، ارتفعت نفسُه، وانصرفت وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلسـًا في الفقه، وقصـَّر عن لُزوم مجلس أبي حنيفة. وسأل أبو حنيفة عنه فأُخبر أنه عقد لنفسه مجلسًا بعد أن بلغه كلام أستاذه فيه. فدعا أبو حنيفة رجلاً وقال له: ‏ صـِرْ إلى مجلس أبي يوسف، فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قَصَّار ثوبًا ليصبغه بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيء، وأنكره. ثم إن صاحب الثوب رجع إليه، فدفع إليه الثوب مصبوغًا، أَلَه أجرُه؟ فإن قال أبو يوسف: له أجره، فقل له: أخطأت. وإن قال: لا أجرَ له فقل له: أخطأت! ‏ فصار الرجل إلى أبي يوسف وسأله، فقال أبو يوسف: ‏له الأجرة. قال الرجل: أخطأت. ‏ففكر ساعة، ثم قال: ‏لا أجرة له. ‏ ‏ فقال له: أخطأت! ‏ ‏ فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة. فقال له :ما جاء بك إلا مسألةُ القصَّار. ‏ ‏ قال: أجل. ‏فقال أبو حنيفة: سبحان اللّه! من قعد يُفتي الناس، وعقد مجلسًا يتكلم في دين اللّه، لا يُحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات؟! ‏فقال: ‏يا أبا حنيفة، علِّمني. فقال: إنْ صبغه القصار بعدما غَصَبه فلا أجرة له، لأنه صبغ لنفسه، وإن كان صبغه قبل أن يغصبه، فله الأجرة، لأنه صبغه لصاحبه ثم قال: مَن ظن أن يستغني عن التعلُّم فَلْيَبكِ على نفسه‏. تاريخ بغداد 13/350 , وفيات الأعيان 5/408 .

أقول ذلك وأنا أرى في عصرنا بعض المشايخ الفضلاء قد وقعوا في شَرك الافتتان بكثرة الأتباع وبخاصة ونحن في عصر الفضائيات والمواقع الالكترونية ووسائل الاتصال والتواصل , وأصبح درس الشيخ وحديثه يسير به الركبان في ثوان معدودات , وصار الوصول إلى هؤلاء المشايخ والدعاة سهلا وميسورا , حتى صار بعض هؤلاء المشايخ يهددون الناس بكثرة أتباعهم وروادهم , بل وجدنا بعضهم لا يبالي بإلقاء بعض الكلمات أو الفتاوى التي قد تثير فتنة بين الناس مغتراً بأتباعه وبمن حوله , وفي مصر وجدنا بعض هؤلاء المشايخ يترشح لرئاسة الجمهورية بعد أن أقنعه أتباعه بأنه الأصلح وبأن جميع الناس تحبه وتثق فيه , وتناسى أن للسياسة رجالها والذين يجب أن تكون لديهم مؤهلات خاصة من المعرفة والثقافة والفهم والخبرة , وأن العلم الديني وحده لا يكفي للترشح لهذا المنصب , ولكن الاغترار بكثرة الأتباع قد صور له أنه الأجدر بالتصدر والرئاسة .



 

د. بدر هميسه
  • مقالات ورسائل
  • الكتب
  • وصية الأسبوع
  • سلسلة أحاديث وفوائد
  • واحة الأدب
  • الصفحة الرئيسية