صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







إلى أين السفر ؟!

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

عبداللطيف بن هاجس الغامدي

 
الحمد لله الذي جعل الدنيا معبرًا وممرَّا ، والآخرة مسكنًا ومستقرَّا ، والصلاة والسلام على رسول الله الذي كان عيشه فيها كفافًا ، ومغنمه منها قوتًا ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أما بعد :
أخي الكريم !
أراك تحزم حقائب سفرك ، وتؤكِّد حجوزات رحيلك ، وتجمع ما استطعت من متاعك ..
فهل تسمح لي بعشر دقائق من وقتك الغالي ؟ ثمَّ اصنع ما تشاء ، وافعل ما تريد .
ـ فإلى أين السفر ؟!
تنظر إليَّ باستغراب ، وكأنما تقول لي : وما شأنكَ بي ؟! دعني وشأني !
ـ أقول لك : وماذا أفعل بقلبي الذي يحبك ؟!
وكيف أصنع بعقلي الذي يفكِّرُ فيك وينشغل بك ؟!
وكيف أكبت مشاعري التي ساقتني ـ مرغمًا ـ إليك ، لأنها تخشى عليك ؟!
يزداد عجبك وتعظم حيرتك ، وتقول : ماذا تريد أن تقول ؟
ـ إنها نصيحة محبٍّ صادق ، وكلمات مشفقٍ خائف ، يرى نصحك دَينٌ في ذِمَّته ، ودِينٌ يتقرَّبُ به إلى ربِّه ، فالدين النصيحة ، والمؤمنون نصحة ، والمنافقون غششة ، ولا خير فيَّ إذا لم أقلها ، ولا خير فيك إن لم تقبلها .
كأني أراك تستحثني لمزيد من الكلام .. فنظراتك تقول لي : هاتِ ما عندك ، ولهفتك تهتف فيَّ : وماذا لديك ؟
حسنًا ! فلنبدأ الحوار المتجرد من الهوى والعناد ، والمسبوق بحسن القصد والبحث عن طريق الهدى والرشاد .
( اسمح لي ـ في البداية ـ أن أقول لك : إنَّ النهاية لي ، لأني أعلم مع من أتحدَّث ومن أخاطب ، أقول هذا لأني واثق بعقلك ورجاحة فكرك وطيب قلبك ، فهنيئًا لي بك ! )
يسقطُ الطيرُ حيثُ ينثرُ الحَبُّ وتُغشى منازلُ الكرماء
فلماذا تسافر ؟!
ـ تقول : مللتُ روتين الحياة ، وسئمت رتابة العمل ، وأحتاج إلى نزهة تستجمُّ فيها نفسي ويرتاح فيها قلبي .
ـ لا بأس عليك ، فلنفسك عليك حقٌ ، ولأهلك عليك حقٌّ ، فآت كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، ولكن إلى أين السفر ؟
ـ إلى بلاد البهاء والخضرة والجمال والنظرة ، أرى حضارة الأمم ، وتقدُّم الأعاجم ، وتطور الغرب ..
ـ إذًا .. إلى بلاد الكفر والكافرين !
ـ ( تقاطعني ) وما شأني بكفرهم ؟ فأنا ـ ولله الحمد ـ أتمتع بدنياهم ، ولا شأن لي بدينهم .
ـ لكن لك الشأن كله بدينك أيها المسلم .
ـ صدقت وبالحق نطقت ، فعليه أعيش ومن أجله أحيا .
ـ قلتَ جميلاً ، فهات دليلاً ..
ألم تسمع بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أنا بريء من كلِّ مسلمٍ يُقيمُ بين أظهُرِ المشركين "
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم :" مَن جامَعَ المُشركَ ، وسكَنَ معَهُ ، فإنَّهُ مِثلُهُ "
فأيُّ متعة تجدها في رؤية من هم وقودُ النار ؟!
وأيُّ لذَّة تُحسُّ بها وأنت تبصر أشباحًا تمشي على وجه الأرض ، ليس بينهم وبين دخول النار ـ إن لم يتوبوا ـ إلاًّ أن يموتوا ..؟!
ـ ( مقاطعًا ) أني ـ يا أخي ـ أتمتع ببلادهم ، وأتلذَّذ بما في ديارهم ، فقد بُسطت لهم خيرات الأرض ، وغدت ديارهم كالجنان الوارفة التي يعجز عنها الوصف وتفوق الخيال ، حتى أني أصبت بخيبة أمل على ديار المسلمين ..فكم نحن في تخلُّفٍ ورجعية !
ـ وهذا مما أخشاه عليك !
ـ أتخشى عليَّ أن أعجبت بحياتهم ، وراق لي عيشهم ؟!
ـ إني أخشى عليك من الهزيمة النفسية ، والإعجاب الذي يورث المحبَّة والتعلق ، ثمَّ يورث التطبُّع والتخلُّق ، ثمَّ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ، وتكون لنا الآخرة ؟!
ـ ذلك لأنك لم تر ما أرى ، فجرى على لسانك ما جرى .
ـ أما يسوؤك رؤية النواقيس والصلبان في كلِّ مكان ؟
أما يحزنك أن تبذل مالك لمن يقتل به إخوانك ؟
ألا يؤلمك أن تقوى بك شوكة أعدائك الذي يحاربون دينك ويعادون عقيدتك ؟
أما يحزُّ في نفسك أن تكون لهم فريسة سهلة ، يقع عليك مكرهم وتُحاك ضدَّك مكائدهم ؟
ـ ( تصرخ فيَّ ) قائلاً : إنَّ إيماني يأبى عليَّ ذلك ، وديني يحجزني عن هذه المهالك .
ـ لا فُضَّ فوك ! فهذا العهد بك ، والمؤمل فيك .
أما قلت لك : أنا أعلم مع من أتحدث ؟!
فلم أطلبِ المعروف من غير كفِّهِ وهل تنزل الأمطارُ إلاَّ من السُّحُبِ
ولو أن كلَّ سائح استشعر هذا لما أصبح الكثير من السائحين فتنةً للقوم الكافرين ، يرون منه ضعفًا في دينه ، ودناءة في نفسه ، وسوءًا في تصرُّفاته ما يُزهِّدهم في دينه ، ويصدَّهم عن اعتناقه والدخول فيه ، وأصبح بعض المسافرين لا يهمُّه إلاَّ أن يشبع غرائزه الثائرة ، وشهواته الهائجة ، بما حرَّم الله عليه من خمورٍ ومخدرات ، ورقصٍ ومجونٍ ، وخلاعة وفنونٍ ، وزنا ولواط ، وتعرِّي وسفور ، وكأنما الله تعالى يُعبدُ في وطنٍ دون وطن ، وفي زمنٍ دون زمنٍ !
فحسبنا الله .. فيمن شوَّهَ دينه ، وأضاعَ عِرضه ، وأذهل عقله ، ونكَّس رأسه ، وفرَّط في عقيدته ، وأساء إلى أمَّته !
ـ ذلك ـ والله ـ ما لا أرضاه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ـ لا يزال الرجل بخير ما دام عقله يحكم قلبه ، ودينه يضبط تحركاته ، وإيمانه يسيطر على تصرفاته ، فما قرارك الآن ؟
ـ السفر إلى ديار المسلمين ، ويكفيني أن أسمع صيحات المؤذنين تدوي على رؤوس المنائر ، وكلمات الواعظين تهتف فوق المنابر .
ـ لا حرمك مولاك أجر نيَّتك وثواب مقصدك ، ولكن إلى أين تذهب في ديار المسلمين ؟
ـ إلى ما يذهبُ إليه كثير من السائحين الذين يبحثون عن المتعة في الجو العليل والمنظر الجميل ..
( تتابع بلهفة ) أذهب إليهم لأزور أنهارهم ، وأتفقد آثارهم ، وأتمتع بالبرامج السياحية الترفيهية التي يُعدُّونها لي ولمثلي من الباحثين عن السعادة والراحة .
ـ الخطورة الكبرى التي تكمن في تلك البرامج السياحية التي تُحيك أكثرها أيدي من باع دينه بدنيا غيره وآثر الأولى على الأخرى .
ومن يكنِ الغرابُ له دليلٌ يمرُّ به على جيف الكلابِ
ـ وماذا فيها ؟
ـ لقد خلطوا فيها عملاً حسنًا وآخر سيئًا .. عسى الله أن يكفَّ بأسهم عنك وعن مثلك .
ـ حنانيك أيُّها العجول .. لا تتسرَّع في الأحكام والقول بالحلال والحرام .
تحنَّن عليَّ هداكَ المليكُ فإنَّ لكلِّ مقامٍ مقالا
ـ فما رأيك أن أُنصِّبَكَ مفتيًا في هذه القضيَّة ؟! فأنت من سنأخذ مِن فِيهِ تقارير الأحكام من حلالٍ وحرام .
ـ إن علمي لا يؤهلني لِما تطلُب ، ومعرفتي لا تمكنني مما ترغب .
ـ لن أطلب منك دليلاً أو أرجو منك تعليلاً ، لكني سأكلك إلى قلبك العامر بالإيمان ـ إن شاء الله ـ وعقلك الذي يميز بين الطاعة والعصيان ـ بفضل الله .
ـ فهاتِ ما عندك ، فقد راق لي هذا المنصب واستهوتني هذه الفكرة .
ـ هل يجوز شرب المسكر ؟ الذي يقول الله تعالى فيه :{ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }
ويقول سبحانه :{ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ..}
ويقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شاربه :" مَن شربَ الخمر في الدنيا ثُمَّ لم يتُب منها حُرمها في يوم القيامة "
وقال ـ صلى الله عليه وسلم :" لا يدخل الجنَّة مدمن خمر "
وقال ـ صلى الله عليه وسلم :" من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، وإن مات دخل النار ، فإن تابَ ، تابَ الله عليه ، وإن عاد فشرب وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن مات دخل النار ، فإن تابَ ، تابَ الله عليه ، وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن مات دخل النار ، فإن تابَ ، تابَ الله عليه ، وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة "
قالوا : يا رسول الله ! وما ردغة الخبال ؟ قال :" عصارة أهل النار "
وقال ـ صلى الله عليه وسلم :" كلُّ مسكرٍ حرام ، إنَّ على الله عهدًا لمن يشربُ المسكرَ أن يسقيه من طينة الخَبَال " قيل : وما طينةُ الخبال ؟ قال :" عَرَقُ أهلِ النَّار أو قال : عصارةُ أهلِ النَّار "
ـ ( مغاضبًا ) وهل رأيتني أتعاطى هذه البلوى ؟!
ـ حاشاك .. فما ذلك مقصدي ، ولكنَّ الذي حرَّم عليك شربه حرَّم عليك الجلوس في مكانٍ تُدارُ فيه كؤوسه .
فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر "
ـ فما رأيك في الزنا ؟
ـ ( في عجل تُجيبني ) وهل لي في هذه الفاحشة رأي ؟ إنَّها من كبائر الذنوب ومن أعظم المعاصي والموبقات !
أما سمعت قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" رأيت الليلة رجلين أتياني ، فأخذا بيدي فأخرجاني إلى أرض مقدسة .. فانطلقنا إلى ثُقبٍ مثل التنُّور أعلاه ضيِّقٌ وأسفلهُ واسعٌ ، يتوقَّدُ تحته ناراً ، فإذا اقتربَ ارتفعوا حتى كادَ أن يخرُجوا ، فإذا خَمدَت رجعوا فيها ، وفيها رجالٌ ونساءٌ عُراةٌ ... "
ثمَّ قال جبريل ـ عليه السلام ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم :".. والذي رأيتَهُ في الثَّقبِ فهمُ الزُّناةُ "
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "
بل ألم تسمع قول الله تعالى :{ ولا تقربوا الزنا إنَّه كان فاحشة وساء سبيلاً } ؟
ـ قف معي لحظة .. وتأمل معي قول ربي حيث قال :{ ولا تقربوا الزنا } ولم يقل : ولا تفعلوا الزنا ، فالوسائل لها حكم المقاصد ، فحرَّم كلُّ السبل التي توقع في الفاحشة ، ومنع كلَّ الأسباب التي تقرِّب من معصية الخالق الوهاب .
ـ مِثل ماذا ؟ يا هذا !
ـ النظرات الآثمات إلى الممثِّلات الساقطات والراقصات الفاسقات اللاتي يظهرن في عُرِّيٍ سافر ، ومجونٍ ظاهر على خشباتِ المسارح وأروقة الفنادق وبين جنبات المطاعم ..
فهل يجرؤ مسلم أن يقول : هذا الانحلال .. حلال ؟!
ـ ( تصرخ فيَّ يا أيها الوفي ) يأبى الله ، ويأبى رسوله ، ويأبى المؤمنون الصادقون ، ويأبى الغيورون الصالحون أن يجيزوا هذا الفساد أو يرضوا بهذه الخلاعة أو يُقرُّوا بهذا الفجور .
ـ وماذا في أكثر الفنادق السياحية التي تسكن فيها وتأوي إليها ؟
ـ برامج سياحية وأخرى ترفيهية ..
ـ فهل تخلو تلك البرامج من حفلاتٍ غنائية ، وسهراتٍ موسيقية ، ورقصات إغرائية إغوائية ؟ وقد حذَّرنا منها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنذرنا قبح عاقبتها وسوء عقوبتها ، فقال :" يكون في أُمتي قذف ، ومسخ ، وخسف " قيل : يا رسول الله ! ومتى ذلك ؟ قال :" إذا ظهرت المعازف ، وكثرت القيان ـ يعني ؛ المغنيات ـ وشُربت الخمر "
وقال ـ صلى الله عليه وسلم :" ليكوننَّ من أمتي أقوام يستحلُّون الحر والحرير والخمر والمعازف "

ـ فكيف تخلو منها وهي ركنها الركين وأساسها المتين ؟!
ـ فهل يسرُّك ـ أيها المسلم ـ أن تأتي بها مدونةً في ديوان أعمالك ؟ وموضوعةً في ميزان أفعالك ؟ أما يسوؤك أن يراك مولاك حيث نهاك ؟!
ـ إني لأخشى عقابها ، فكيف أرجو ثوابها ؟ و والله إني لأستحي أن يراني من أُجلُّه من الناس وأنا عاكفٌ عليها مستمعٌ لها .
ـ فالله أحقُّ أن يُستحيى منه !
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أوصيك أن تستحي من الله ـ عزَّ وجلَّ ـ كما تستحي رجلاً من صالحي قومك "
فكيف تمنع نفسك من الوقوع في معصية ربِّك ، وقد أطلقت زمام بصرك ، وأفلتَّ خطام سمعك ؟ أم أنَّك معصومٌ من معصية الله ؟
ـ استغفر الله ..فالمعصوم من عصمه مولاه !
ـ وهل السحر حلال ؟
ـ كيف أقول عنه حلالٌ وقد عدَّهُ الله كفرًا ؟!
قال تعالى :{ ولكنَّ الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر }
وحذَّر منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله :" اجتنبوا السَّبع الموبقات " قالوا : يا رسول الله ! وما هُنَّ ؟ قال :" الشِّرك بالله ، والسِّحرُ ، وقتلُ النَّفسِ التي حرَّم الله إلاَّ بالحق ، وأكل الرِّبا ، وأكل مال اليتيم ، والتولِّي يومَ الزحفِ ، وقذفُ المحصناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ "
ـ أما رأيت السحرة يطوفون كالغربان في كلِّ مكان كقارئي الكف والنجوم والحظوظ والفنجان ، وضاربي الودع ، وكاتبي الطلاسم والتعويذات ولاعبي البهلوان ، الذين يستحوذون على الأموال من الجيوب ، بعد أن يسرقوا الإيمان من القلوب .
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً "
وقال كذلك ـ صلى الله عليه وسلم :" من أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد "
ـ كم سقط عاقلٌ في شباكهم ! وارتمى جاهلٌ في شراكهم !
كذا عادةُ الغربانِ تكرهُ أن ترى بياض البزاةِ الشُّهبِ بين سوادها
ـ فمن يصحبُك في سفرك هذا ؟
ـ زوجتي وأبنائي ، فهم من أولى الناس بحسن رعايتي وعنايتي .
ـ عجبت ممن يؤذي أحبَّ الناس إليه ، ويسيء إلى أقرب الخلق منه !
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع من يقوت "
ـ ( مستغربًا ) وكيف أسيء إليهم أو أتعدى عليهم ، وكلُّ همي أن أجلب السعادة لهم والسرور إليهم ؟!
ـ فما رأيك فيمن يرعى غنمه في أرض مسبعةٍ ، تعوي بها الذئاب وتزأر فيها الأسود ؟!
ومن رعى غنمًا في أرضِ مسبعةٍ ونام عنها تولَّى رعيها الأسدُ
ـ إنَّه يوردهم موارد الهلكات ويعرِّضهم للمتالف والآفات .
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماء
ـ فأنت مثله ، وإنَّك بأخذهم معك تُعرِّضهم لمواطن الفتن ومواقع المحن ، والطبع سرَّاق ، وبعض الأخلاق مكتسبة ، فربما يعود أحدهم بقلبٍ غير الذي ذهب به ، قد عرضت عليه الشهوات فأشربها ، ولبِّست عليه الشبهات فقبلها .
وربما يعودون وقد زهدوا في بلادهم ، وتغيَّرت قلوبهم على دينهم ، ويكفيك ما تراه عيونهم ، وتسمعه آذانهم ، وتهتزُّ له أبدانهم ، فكم من نظرة أعطبت قلبًا وقرَّبت ذنبًا !
وربما يرجع أحدهم وقد ألمَّ بذنبٍ عظيم ، ووقع في فاحشة كبيرة ، ولك من الإثم أكثره ومن الوزر أكبره .
وربما يعود بعضهم وقد علِقت به الأمراض ، ودبَّت في بدنه الأسقام .
وربما يرجع أحدهم وقد أدمن المسكرات ، ووقع في المخدرات ، فتطول عليكم الحسرات ، وتعظم في حياتكم الكربات .
وكم من أناسٍ عادوا في التوابيت ، موتى لا حراك لهم !
فعلى أيِّ حالٍ كانت نهايتهم ؟ وبأي عملٍ خُتم لهم ؟ وعلى أيِّ أمر طويت صحائفهم ؟
إنَّ السعيدَ لهُ في غيره عِظةٌ وفي الحوادثِ تحكيمٌ ومعتبرُ
ـ وكيف يقعون في ذلك وهم على عيني وتحت نظري وسمعي وبصري ؟!
ـ كم خدعتك نفسك أيها المسكين !
وهل ستكون رقيبًا عليهم طول الزمن ؟ وهل ستظل تراقبهم مدى الوقت ؟!
أما علمت أن من أراد شيئًا احتال له ، ومكر للوصول إليه والحصول عليه ؟!
قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }
ـ جزاك الله عني خيرًا كثيرًا ، فقد كِدت أوردهم شرَّاً كبيرًا وضُرَّاً خطيرًا ، ولقد عقدت العزم على تركهم بعدي وعدم أخذهم معي .
فالحقُّ أبلجُ لا تزيغُ سبيلُهُ والحقُّ يعرفُهُ ذو الألباب
ـ ( ممازحًا ) فلا تخبرهم بأني السبب ، حتى لا يرجموني بالحجارة على هذه الخسارة !
فهل ستسافر وحدك ؟
ـ بل سآخذ من أقراني وأترابي من يطيب به سفري وتأنس له روحي ؟
ـ فإنه لا يخفي عليك أن الصاحبَ ساحبٌ ، والرجل على دين خليله .
وإذا صاحبت فاصحب ماجدًا ذا حياءٍ وعفافٍ وكرم
وكم زيَّن صاحبٌّ لصاحبه الحرام ، فأورده في الآثام ، وأوقعه في الإجرام ، ووحدتك خيرٌ لك من صديق السوء ألف مرَّة ، فصاحب السوء ، عدو !
أحذر مُؤاخاةَ الدَّنيِّ لأنَّه يُعدي كما يُعدي الصَّحيحَ الأجربُ
واختر صديقَكَ واصطفيه تفاخرًا إنَّ القرينَ إلى المقارِنِ يُنسبُ
ـ لقد أغلقت عليَّ السُّبل ، وحجبت عني المنافذ ، فأيُّ وجهة أوليها وأيُّ جهةٍ أقصدها وأبتغيها ؟
ـ فهل لك في سفرٍ مبارك ، ورحلة عظيمة ، يعظم بها أجرك ، وتطيب بها نفسك ، ويزكو بها قلبك ، وينشط لها بدنك ؟!
ـ خذني إليها ، ودلني عليها ، فلقد عظم شوقي إليها ورغبتي فيها .
ـ إلى الديار المقدسة ، والبقاع المطهرة ، والمشاعر المباركة ..
إلى زيارة بيت الله العتيق في مكة ، وزيارة مسجد الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طيبة ...
إلى هاتين البقعتين المباركتين حيث تضاعف الحسنات ، وتمحى السيئات ، وتقال العثرات ، وتقبل الدعوات ..
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" تابعوا بين الحجِّ والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ ، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ والذهبِ والفضَّة "
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" العُمرَةُ إلى العُمرَةِ كفَّارةٌ لِما بينهُما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة "
ثمَّ لا بأس عليك بأن تستجمَّ نفسك ، وترتاح روحك في جنوب المملكة حيث الجبال الشاهقة ، والأودية السحيقة ، والمنخفضات العميقة ، والمناظر الخلاَّبة ، والمشاهد الجذابة ...
إلى حيث الأمن والأمان ، والراحة والاطمئنان ، والغيرة والإيمان ..
إلى ديار الشهامة والكرامة ، والمروءة والكرم ..
مَن تلقَ منهُم تقُل لاقيتُ سيِّدَهُم مثلُ النجومِ التي يسري بها الساري
ـ إنَّها ليست ـ في الجمال ـ كديارهم !
ـ فليكن ذلك حقَّاً ، ولكن أما علمت أنَّ من ترك شيئًا لله تعالى عوَّضه الله خيرًا منه ..
بلادٌ ألفناها على كلِّ حالةٍ وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
ونستعذب الأرض التي لا هواء بها ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
ثُمَّ ألا يكفيك أنَّك بين بني جلدتك الذين تأمنهم على نفسك وأهلك ، وترجو نُصرتهم حال كربك ، وتثق في مساعدتهم عند نزول الضُّرِّ بك ، وتطمع في تأييدهم عند حاجتك إليهم ورغبتك فيهم.
هُمُ القومُ إن قالوا أصابوا وإن دُعُوا أجابُوا وإن أَعطوا أطابُوا وأجزلُوا
واحتسب على ربِّك أنك تبذل مالك في يد من يستعين به على أمر دينه ودنياه .
وفي الختام ، تذكر ـ أيها البطل الهمام ـ السفر الآخَر إلى اليوم الآخِر ، فإنَّك تطوي مراحله في كلِّ يوم ، وتقترب من نهايته في كلِّ لحظة ، فهل تذكرت سفرك إلى الله ، قبل أن تسافر إلى أرض الله ؟
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : أخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمنكبي ، فقال :" كُن في الدُّنيا كأنَّكَ غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ "
ـ لقد لان قلبي لذكر الله ، وانشرحت نفسي للبحث عن راحتها فيما يقرِّب من الله ..
ـ الحمد لله ..{ إن الذين اتقوا إذا مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون }
فهكذا العهد بالمؤمن ..
إذا ذُكِّر .. تذكَّر ..
و إذا وعِظَ .. تدبَّر ..
و إذا نُهي عن مكروه .. حبس نفسه عنه و انزجر ..
و إذا أذنب ذنبًا أو أصاب خطأً ..أقلع عنه وتاب واستغفر ..
و إذا فُتح له بابٌ إلى الخير .. أخذ منه بالحظ الأوفر !
قلت : الله أكبر ... الله أكبر ، لا يزال الخير في أمَّة الخير إلى يوم الهول الأكبر !
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبداللطيف الغامدي
  • كنوز دعوية
  • مقالات ورسائل
  • كتب ورسائل
  • الصفحة الرئيسية