صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مطاوعة يحبون الفلوس !!

عبداللطيف بن هاجس الغامدي


فإن من وسائل الشيطان ـ نعوذ بالله منه ـ في الإغراء والإغواء ؛ تزهيد الناس في الصالحين بزعم أنهم يحبون الدنيا ، وبدعوى أنهم يلهثون خلف سرابها الفاني ، ويلتمسون الثراء والجِدة كغيرهم من الناس ..
ويعدُّون ذلك منقصة ومثلبة فيهم تُسقطهُم من علو الأُسوات إلى دنو السوءات .. وذلك ظلم فادح وحيف جارح !
فالجميع فقراء لربهم ، ضعفاء بين يدي خالقهم ، ركَّب فيهم الشهوات ، ومزجهم بالنزوات ، وخلطهم بالرغبات ، ولعمر الحق ! ما يقدح في الدين إلا مخالفتُه ، أما الأخذ بما أباح الله فهو السير على منهج الدين القويم الذي يوافق ويمازج بين رغبات الروح والجسد ، ولا يسع الناس إلا المباح ، ولكلِّ شيء جعل الله قدرًا .
قال تعالى :[ زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ] آل عمران : 14
وقال تعالى :[ وتحبون المال حبًا جمّا ] الفجر :
أقول هذا لأني طالما سمعت من الألفاظ الجارحة والعبارات القادحة والإشارات الفاضحة في الدعاة والمشايخ وأهل العلم الذين طمعوا ـ بحكم الجبلة البشرية لا بحكم الطبائع الملائكية ـ في فضل الله ، وسعوا في الأرض يلتمسون كرم الله في التجارات والعقارات والمساهمات وغيرها من ضروب السعي المباح في مناكب الأرض والأكل من رزق الله الحلال .
فهل يريد هؤلاء ـ الظَّانين بمشايخهم ظنَّ السوء ـ أن يكون أهل الفضل والنبل فقراء معدمين ، وعالة يتكففون الناس ؟!
أما علموا ـ زادهم مولاهم فقهًا في دينه وفهمًا لشرعه ـ أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى ، ولئن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة فقراء يتكفَّفون الناس ؟!
وإنما يقدح في أديانهم أن يرتعوا في حمى الحرام ، ويتلطَّخوا بحمأة الرذيلة في الجمع والمنع أو الدفع فيما حرَّم الله عليهم ، وهنا .. لا كرامة ولا مكانة !
ولكن الطعن فيهم ، والتنقيص من قدرهم ، والتقليل من وزنهم ، لأن بعضهم أغنياء يلتمسون الثراء ، فهذا انحراف عن الجادة ، وسلوك بهم نحو سبيل الرهبنة المذموم والتنطُّع المشؤوم .
فنحن لا نريد رُهبانًا في صوامع .... بل نريد عُبّادًا في جوامع / رُوّادًا في مصانع / قُوّادًا في مجامع !
قال تعالى حين الفراغ من الصلاة :[ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا ...] الجمعة :
وقال تعالى الحج :[ ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم ... ] البقرة : 198
فالزهد في الدنيا ليس بتركها مع طمعك فيها وتقطع قلبك حسرات عليها ، وإنما الزهد المحمود ؛ هو الزهد في حرامها وترك ما لا ينفع منها في الدار الآخرة ، فالطاعم الشاكر بمنزلة الفقير الصابر ، ولكلٍّ وجهة هو موليها .
وليس طلب الرزق والاستكثار منه طمعًا في كرم الله ، مذمومًا لذاته ، وإنما مذمومًا لتبعاته كالانشغال به عن طاعة الله ، والتقصير في أداء الواجبات الشرعية فيه ، وجمعه من الوجوه الممنوعة ، وأعداء ملتنا يناهبوننا المستقبل ، فكيف بتقدمهم نقبل ؟!
وحتى تزول الصورة القاتمة التي أملاها الشيطان على بعض الإخوة المغترين بنصحه وصدقه في تشويه صورة الصالحين ، نقول بأن الأنبياء والرسل على جلالة قدرهم وعظمة منزلهم كانوا يمشون في الأرض ويتاجرون ويحترفون ، وعُدَّ ذلك من فضائلهم ومناقبهم ، وما شانهم به إلا منتكسوا الفطر فاسدوا النظر . قال تعالى :[ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ...]
قال القرطبي في تفسيره ، قال العلماء : أي يتجرون ويحترفون .
وقال ابن كثير : إنهم كانوا يأكلون الطعام ، ويحتاجون إلى التغذِّي به ، ويمشون في الأسواق للتكسُّب والتجارة ، وليس ذلك بمنافٍ لحالهم ومنصبهم .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان آدم حرَّاثاً ، ونوحٌ نجارًا ، وإدريسُ خياطًا ، وداود زرَّادًا ، وموسى راعيًا ، وإبراهيم زرَّاعًا ، وصالح تاجرًا ، وسليمان آتاه الله الملك ، والنبيُّ محمد يرعى غنمَ أهلِ بيته بأجياد ...
( فتح الباري ـ ابن حجر ـ كتاب البيوع ـ باب كسب الرجل وعمله بيده 4/306 )
وقد ألان الله الحديد لعبده داود ، وذكر ذلك في صيغة المننن عليه ، وعلى سبيل ذكر النعم لديه ، قال تعالى :[ وألنَّا له الحديد ] سبأ : 10 وعلمه صنعة الدروع والقدور وغيرها من الأمور ، فقال تعالى :[ وعلمناه صنعة لبوس لكم ..] الأنبياء :
وتأمل ـ تذهل ! ـ إلى كليم الله موسى ـ عليه السلام ـ عندما سقى الماء لبنتي شعيب ـ عليه السلام ـ ماذا قال : [ ربِّ ! إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير ] القصص :
فأنا مع هذا العطاء المِدرار كالأمطار الغِزار إلا إني ما زلت فقيرًا إليك ، محتاجًا لعطائك ، راغبًا في نوالك ، مؤملاً لجودك ..
هكذا يكون إظهار الحاجة والفاقة للربِّ الكريم ، وتلك لوازم العبودية !
وهذا أيوب الأواب ، والصابر المثابر ، يُظهر الحاجة للعطاء الإلهي والكرم الرباني في صورة حسنة ، وهيأة جميلة ، تأخذ بمجامع القلوب والأبصار...
فعندما أنزل الله عليه جرادًا من ذهب ، جعل يجمع في ثيابه ، فقال له مولاه : يا أيوب ! أما كنت أغنيتُك عن هذا ؟ فقال : بلى يا ربِّ ، ولكن لا غنى بي عن فضلك !!!!
واشتغل رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنواع شتَّى من التجارات والأعمال ، فقد رعى الغنم لأهل بيته ، وكذلك فعل إخوانه من الأنبياء قبله . فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما بعث الله نبيأً إلا رعى الغنم " . فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال :" نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة " .
(أخرجه البخاري ـ كتاب الإجارة ، باب رعي الغنم ـ 4/441 )
وعمل ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التجارة سنين ذات العدد ، فضارب ، وشارك ، وباع ، واشترى ، واقترض ، وأقرض ، وزايد ، وعلى كلِّ ما ذكرنا أدلَّة كوضوح الأهلَّة !
فقد اشترى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرارًا ، ومنها : قول سويد بن قيس : جلبت أنا ومخرَفةُ العبديُّ بزًا من هَجَر ، فأتينا به مكة ، فجاءنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فساومنا بسراويل ، فبعناه .
( أخرجه الترمذي 3/589 كتاب البيوع باب ما جاء في الرجحان في الوزن ، وابن ماجه 2/748 والنسائي 7/284 )
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : باع رسول الله قُعبًا وحِلسَاً بيعَ من يَزيدُ .
( أخرجه أبو داود 2/292 والترمذي 3/522 والنسائي 7/259 وابن ماجه 740 )
وشارك ـ صلى الله عليه وسلم ـ بماله مضاربة ، فكان خير شريك ، فعن السائب بن أبي السائب ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شريكي ، وكان خير شريك ، لا يُداري ، ولا يُماري ، أي : لا يلاحي ولا يُخاصم .
( أخرجه أبو داود 5/170 كتاب الأدب وابن ماجه 2/768 في كتاب التجارات )
وعلى تلك المعاني الجميلة والقيم النبيلة ربّى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه ، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عُمّالَ أنفسهم ، فكان يكون لهم أرواحٌ ، فقيل لهم : لو اغتسلتم .
( رواه البخاري كتاب البيوع ـ باب كسب الرجل وعمله بيده 4/403 )
ولقد كان يشتغل بعضهم بطلب الرزق والسعي في مناكب الأرض عن مجالسة النبي العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففاتهم من ذلك الكثير من أحداثه وأحاديثه ..
يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن حديث شريف فاته سماعُهُ : ألهاني عنه الصَّفقُ بالأسواق .
( رواه البخاري كتاب البيوع باب الخروج في التجارة 4/298 )
وعن البراء ـ رضي الله عنه ـ قال : ما كُلُّ الحديث سمعناه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُحدِّثنا أصحابُهُ عنه ، كانت تَشغلُنا عنه رِعيَةُ الإبل .
( رواه أحمد في المسند 4/283 )
وقد كان أبو بكر بزازًا ، وسعد بن أبي وقاص نبَّالاً ـ يبري النبل ـ والزبير بن العوام جزّارًا ، والعاص بن وائل حدّادًا ، وعثمان بن طلحة خياطًا ، وأبو سفيان بن حرب يبيعُ الزيت والأُدُم ، وعتبة بن أبي وقاص نجّارًا ...
ونادى عبد الرحمن بن عوف في أزكياء النفوس : دُلّوني على سوق المدينة ، فما مات حتى قُطِّع ذهبه بالفؤوس ، فهل آن أن نهتبل من هذا الدروس ؟!
والنصوص في ذلك أكثر من أن تُحصر ، وحسب الحصيف من الخريف نسمة السمر !
وقد بلغ المال ببعضهم إلى الوصول إلى جنات النعيم ، فهذا عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ يشتري الجنة من ربه أكثر من مرَّة ، وهذا صهيب الرومي يشتري نفسه من الله بماله ، وهذا أبو طلحة الأنصاري يطلب رضوان الله ببيرحاء ، وهذا أبو الدحداح يقرض الله قرضاً حسنًا ، فينادى : كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة !
وإنما حصول المال بالتَّكسُّب ، والجدَّ في الطلب ، بعد موافقة المقادير ، فإن السماء لا تمطر ذهبًا وفضَّة ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب توافقوا السبب ، والله خير الرازقين ......
فقل للطاعنين كُفُّوا ، فقد أزريتم بأنفسكم لو تشعرون ! فلا يُلام إلا أهل الميل ، فدعوا الطعن والإيلام في رموز الإسلام العظام ، ففي فضل الله يتّسع الطمع !!!
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبداللطيف الغامدي
  • كنوز دعوية
  • مقالات ورسائل
  • كتب ورسائل
  • الصفحة الرئيسية