صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الهداية والثبات عليها
4/2/1428هـ

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :
عباد الله : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل رواه الحاكم ، وإننا أيها المسلمون : نعيش في هذه الأيام في فتن تلاطمت ، وشبه انتشرت ، وأنواع من الردة لم نعهدها خرجت حتى أصبح المرء يخشى على نفسه الضلالة بعد الهداية ، والحور بعد الكور .
لقد ازدادت الحاجة إلى معرفة نعمة الهداية وتوفيق الله للمرء بالثبات عليها ، لأننا جميعاً إلا من رحم الله جمعنا بين تقصير في طاعة الله وأمن من عقابه ، في زمن تعددت فيه وتنوعت الشهوات والشبهات ، ولقد كان سلفنا الصالح يجمعون بين طاعة الله والخوف على أنفسهم من الزيغ في مجتمع يعينهم على ذكر الله سبحانه فما أحرانا أن نقتدي بهم .
عباد الله : إن سلوك طريق الهداية نعمة ينعم الله بها على من يشاء من عباده ، ولذا نرى الكثير من أتباع هذا الدين ومن غيره يتمنون الهداية الحقة إلى الطريق المستقيم ولكن لا يوقفون لها ، وتحول بينهم وبين الهداية العوائق، يقول ابن الجوزي رحمه الله : تفكرت في سبب هداية من يهتدي وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته ، فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق عز وجل لذلك الشخص ، كما قيل : إذا أرادك لأمر هيأك له .
أيها المسلمون: إن الهداية في بدايتها بيان للحق ودلالة إليه ، ثم إذا سلكها المرء جاء دور الهداية التالية وهي هداية التوفيق ، وقد أنعم الله علينا بسلوك طريق الهداية إلى الدين القويم بدعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبقي على المرء أن يسأل ربه بعد أن أكرمه بالهداية الأولى أن يمن عليه بأنواع الهداية الأخرى والتي أوصلها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين إلى عشرة مراتب .
يقول بان السعدي رحمه الله تعالى تعليقاً على قوله سبحانه " أهدنا الصراط المستقيم " : أي دلنا وأرشدنا إلى الصراط المستقيم، وهو معرفة الحق والعمل به ، فهي هداية الصراط ، وهداية في الصراط ، الهداية إلى الصراط لزوم دين الإسلام وترك ما سواه من الأديان ، والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علماً وعملاً ، فهذا الدعاء من اجمع الأدعية ، وأنفعها للعبد ، ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو به في كل ركعة من صلاته ، لضرورته إلى ذلك .
أيها المسلمون : إن حاجتنا للهداية والثبات عليها لا تقتصر على الدنيا فقط بل يمتد أثرها ونفعها لمن وفقه الله إليها إلى يوم القيامة ، يقول ابن القيم رحمه الله وللهداية مرتبة أخرى - وهي آخر مراتبها - وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة، فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم ، هدى هناك إلى الصراط المستقيم الوصول إلى جنته ودار ثوابه ، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار ، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم ، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذلك الصراط فمنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يسعى سعياً ، ومنهم من يمشي مشياً ، ومنهم من يحبوا حبوا ، ومنهم المخدوش المسلم ومنهم المكدرس في النار ، فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا ، خذو القذة ، جزاءً وفاقا .. " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " ، ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط ، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه ، فإذا كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك " وما ربك بظلام للعبيد .." .
عباد الله : إن الهداية هي سؤال الله معرفة الحق ثم التوفيق للعمل بالحق، ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة وبطلان قول من يقول : إذا كنا مهتدين ، فكيف نسأل الهداية ، لأن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم ، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه ، وما لا نقدر عليه مما نريده لذلك ، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله أمر يفوت الحصر ، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة ، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام .
أيها المسلمون : إن قلوبكم بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء : عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن قلوب بن آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ، وفي حديث آخر يصور صلى الله عليه وسلم شدة تقلب قلب العبد تصويراً دقيقاً يورث لدى المسلم الخوف والوجل والشعور بالحاجة إلى تثبيت الله وعونه عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً . رواه أحمد وغيره ، ولقد كان المقداد رضي الله عنه يقول : ما آمن على أحد بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
عباد الله : إذا كانت القلوب بهذه المنزلة ، وكانت الهداية يعتريها ما يعتري سائر النعم وجب على المسلم العناية بها والمحافظة عليها والثبات على طريقها، ألا وإن من أهم أسباب حصول الثبات على الحق والهدى، الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى ، وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته سبحانه لنا طرفة عين ، قال الله سبحانه مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " ، وقال سبحانه لأكرم خلقه " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ... " يقول ابن سعدي رحمه الله : وفي هذه الآيات دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه ، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملقاً لربه ، أن يثبته على الإيمان ، ساعياً في كل سبب موصول إلى ذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق قال الله له : " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا " ، فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم .. ا هـ .
أيها المسلمون: من العوامل المعينة على الثبات بعد الهداية التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة فالنتائج لا تحالف مقدماتها والمسببات مربوطة بأسبابها ، و سنن الله ثابتة لا تتغير، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولقد تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب ، والجوارح سبب للهداية والإضلال ، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه ، والمؤثر لأثره ، وكذلك الضلال ، فأعمال البر تثمر الهدى ، وكلما ازداد منها ازداد هدى ، وأعمال الفجور بالضد ، والله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح ويبغض أعمال الفجور ، ويجازي عليها بالضلال والشقاء .
عباد الله : إن الأعمال الصالحة لا تقتصر على الأعمال الظاهرة من كثرة التعبد وطول الصلاة ، والصيام فقط ولكنها تشمل الظاهرة والباطنة ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم عوامل ذوق لذة الإيمان وحلاوته أموراً قلبية ، فقال : ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه الله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار .. أخرجه الشيخان .
يقول ابن الجوزي رحمه الله : أعلم أن الطريق الموصلة إلى الله سبحانه ليست مما يقطع بالأقدام ، وإنما يقطع بالقلوب . ويقول أيضاً رحمه الله: الله الله بالسرائر فإنه ليس ينفع مع فسادها صلاح ظاهر .
أيها المسلمون : إن العلم والإيمان إذا اجتمعا في قلب عبد حقا فلا يمكن أن ينكص على عقبيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن الإنسان قد يؤتى إيماناً مع نقص عمله ومثل هذا الإيمان قد يرفع من صدره ، كإيمان بني إسرائيل لما رأوا العجل ، وأما من أوتى العلم مع الإيمان ، فهذا لا يرفع من صدره ، ومثل هذا لا يرتد عن الإسلام قط ، بخلاف مجرد القرآن أو مجرد الإيمان فإن هذا قد يرتفع ، وهذا هو الواقع ، وأكثر ما نجد الردة فيمن عنده قرآن بلا علم وإيمان ، أومن عنده إيمان بلا علم وقرآن ، فأما من أوتي القرآن والإيمان فحصل فيه العلم فهذا لا يرفع من صدره .
عباد الله : العلم ليس بمقدار ما يحفظه المرء من مسائل وأحكام، بل العلم كما يقول الحسن البصري علمان: علم في القلب ، وعلم على اللسان ، فعلم القلب هو العلم النافع وعلم اللسان حجة الله على عباده .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : لقد سبرت السلف كلهم ، فأردت أن استخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين ، فلم أر أكثر من ثلاثة : أولهم الحسن البصري ، وثانيهم سفيان الثوري ، وثالثهم أحمد بن حنبل .
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح

الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليماً كثيرا . أما بعد ....
فيا عباد الله : إن من أعظم عوامل الثبات على دين الله الدعاء والإلحاح على الله في الثبات على الصراط المستقيم حتى الممات ، ولقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يسأل ربه متوسلاً بالثناء عليه أن يهديه لصراطه المستقيم اللهم رب جبرائيل وميكائيل واسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .رواه الترمذي ، وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يدعو الله أن يثبته على دينه فيقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
يقول ابن القيم رحمه الله : إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب ، وأنه يحول بين المرء وقلبه ، وأنه تعالى كل يوم هو في شأن ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأنه سبحانه يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، ويرفع من يشاء ، ويخفض من يشاء ، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ، ويزيغه بعد إقامته ، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة " فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم .. ا هـ .
عباد الله : الحوا على الله بالسؤال أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم فإن القلوب ضعيفة، والشبهات خاطفة ، والشيطان قاعد لكم بالمرصاد ، ولكم في المؤمنين من قبلكم أسوة حسنة فإن من دعائهم " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب "
ثم صلوا على الرحمة المهداة ...



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية