صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







العبادة الذاتية
29/4/1427هـ

أحمد بن حسين الفقيهي

 
الخطبة الأولى :
عباد الله : إننا نعيش في آخر الزمان وعلى مقربة من الساعة ، وفي آخر الزمان تكثر الفتن ، وتتنوع المحن ، حتى تجعل الحليم حيراناً . قال صلى الله عليه وسلم :" إن بين الساعة فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافراً ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، وفي رواية بادروا بالأعمال فتناً " أخرجه أبو داود وأصله في مسلم.
عباد لله : لقد كثر المتحدثون عن آخر الزمان ، وتعدد المتكلمون عن الوسائل الواجب اتخاذها تجاه الفتن والبلايا ، والمحن والرزايا ، بل لا عجب أن يضع أهل التخطيط والإدارة خططاً خمسية وعشرية في شتى جوانب الحياة استشرافا للمستقبل وتداركاً لما تأتي به الأيام، ألا وإن من أهم ما تستعد به النفوس لمقابلة الفتن ومقاومتها ، أمر في غاية الأهمية قل الحديث عنه وتساهل البعض في جدواه، ألا وهو عبادة الله والتقرب إليه بشتى أنواع الطاعات .
هذه الوسيلة أيها المسلمون غفل عنها المتحدثون ، وتجاهلها المثبطون ولم يفطن لها إلا العلماء والربانيون ، لأنهم يعلمون أنها وصية محمد صلى الله عليه وسلم لأمته حيث أخبرهم بأن العبادة في زمن الفتنة كالهجرة إليه صلى الله عليه وسلم ، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العبادة في الهرج ، كهجرة إلي " ، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : والهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد.ا.هـ ، وفي الحديث الآخر الذي أخرجه الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " يتقارب الزمان وينقص العمل " قال ابن حجر رحمه الله : وأما نقص العمل فيحتمل أن يكون بالنسبة لكل فرد ، فإن العامل إذا دهمته الخطوب ألهته عن أوراده وعبادته . الخ رحمه الله .
عباد الله : العبادة وصية الله لأقوامهم فما من نبي إلا وصى قومه بقوله :" يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " ، وهي الهدف الأسمى من إيجاد البشر وخلق الوجود قال سبحانه : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " .
عباد الله : إن الشخص لا يحب أن ينادي إلا بأحب الأسماء والأوصاف إليه ، وهذه سنة محمد صلى الله عليه وسلم أن ندعو الشخص بأحب ما يرغب النداء به، وهل هناك وصف ولقب أفضل من كلمة : يا عبدي ، وبهذا الوصف وصف المولى سبحانه أنبياءه ورسله في كتابه ، فلم يذكرهم بصفة النبوة ولا بمنزلة الرسالة ، بل ذكرهم بالوصف المحبب إليه سبحانه "وأذكر عبادنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أولي الأيدي والأبصار" ، وقوله : " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " الآية .
أيها المسلمون : العبادة لا يحصرها حد ولا ينقضي بها عدد ، فالصلاة عبادة ، والزكاة والحج والصدقة عبادة ، بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى المساكين عبادة ، الصفق في الأسواق ، وتنمية التجارات ، والنفقة على الأسر والعائلات عبادة ، لمن احتسبها ، ذكر الله ، وقراءة القرآن ، والتفكر في أرجاء الكون عبادة ، فهي بإيجاز : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
عباد الله : إن مما ينبغي العناية به والتركيز عليه من الناس عامة ومن أهل الغيرة والفضل خاصة إعطاء النفس حقها من العبادات الذاتية أو ما يسميها البعض العبادات القاصرة كتدبر القرآن وقيام الليل والإكثار من ذكر الله وصيام الهواجر وزيارة المقابر ونحوها من العبادات التي فيها تربية للنفس على الطاعة ، وصبر عليها ، وفيها تفرغ للفؤاد خاصة في ظلمات الليالي حيث يحاسب نفسه ويخلو بمولاه ويتلذذ بالطاعة وحيداً فريداً لا يراه ولا يعلم به إلا مولاه سبحانه .
أيها الأخوة : لقد نبتت نابتة أضحت تركن إلى العمل المتعدي لعظم أجره وفضله ، وتركت أو هجرت ما تسميه " العمل القاصر " ، بدعوى أن العمل المتعدي أفضل وأعظم أجرا من العمل القاصر ، وهذه المقولة وإن كانت صحيحة في أصلها إلا أن حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسير سلفنا الصالح من علماء ودعاة ونحوهم أفضل شاهد وخير قدوة نحتذي بها، فهاهو صلى الله عليه وسلم على كثرة مشاغله وأعماله يوتر يومياً بإحدى عشرة ركعة ، ويقول صلى الله عليه وسلم: إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة وفي رواية أكثر من مائة مرة ، فلم تمنعه صلى الله عليه وسلم قيادته للغزوات ولا إمامته الصلوات ولا شؤون البيوت وغيرة الزوجات أن يحافظ على هذه العبادات .
وإليكم مثالاً آخر لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعد الوزير المرافق للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يخافكم مكانة هذا المنصب ، وعظم الوقت الذي ينفق فيه ، ومع ذلك نجده رضي الله عنه في يوم واحد يقوم بعبادات يعجز الأكفاء عن القيام بها ، ولا ضير فجائزتها دخول جنة عرضها السموات والأرض ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أصبح منكم اليوم صائماً ؟ قال أبو بكر : أنا ، قال : من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال : أبو بكر: أنا ، قال : من أطعم منكم اليوم مسكينا ، قال أبو بكر: أنا ، قال : من عاد منكم اليوم مريضاً ؟ قال أبو بكر : أنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة " أخرجه مسلم .
وبعد الصديق يأتي الفاروق عمر رضي الله عنه الذي له خطان أسودان في وجهه من كثرة البكاء ، وأما عثمان ذو النورين فيكفي أنه كان يختم القرآن في كل ثلاث ليال مرة ، ولقد ضرب علي رضي الله عنه مثالاً يحتذى في المحافظة على العبادات الذاتية، يقول رضي الله عنه عن نفسه : أنه لم يترك الورد الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله قبل نومه كل ليلة ، وهو أن يسبح الله ثلاثاً وثلاثين ويحمده ثلاثاً وثلاثين ويكبره أربعاً وثلاثين، قيل له رضي الله عنه ما تركتها حتى في يوم صفين ؟فقال رضي الله عنه : ولا في يوم صفين .
أولئك أبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا صديق المجامع
عباد الله : وإليكم مثالاً لشخص تعرفونه جميعاً ولا يشك أحد في علمه ، ويعجز البعض عن مجاراته في دعوته لله وبذله الخير والنصح للناس ، ومع ذلك سطر التاريخ لنا من حياته ذكريات تبقى نبراساً لمن سلك الطريق الذي سلكه .
ذلكم الرجل هو العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى وإليكم شيئاً من عباداته وطاعته :
- كان رحمه الله قلبه معلق بالمسجد ، فلا يشغله عن الصلاة والتبكير إليها كثرة الأعمال ولا تزايد المراجعين .
- وإذا تأخر المؤذن قليلاً عن وقت الآذان أخذ سماحته يتساءل ألم يحن الآذان بعد ؟ وإذا سمع الآذان ترك جميع ما في يده وبادر إلى متابعة المؤذن وذكره الأذكار المشروعة في ذلك .
- لقد كان رحمه الله يقوم للتهجد قبل الفجر بساعة تقريباً فيصلي إحدى عشرة ركعة ، وفي آخر عمره لم يترك ورده وصار يصلي متربعاً .
- ولم يعهد عنه أنه ترك سنة من السنن الثابتة في الصلاة ، وإذا فرغ من الصلاة وخاصة صلاتي المغرب والفجر لا يجيب على سؤال ولا يستفتح الدرس حتى يفرغ من جميع الأذكار المأثورة في ذلك .
- كان رحمه الله من أشد الناس ضبطاً للقرآن الكريم ، وكان له ورد في ذلك لا يتخلف عنه أبداً ، وأما ذكره لله لسانه يلهج بذلك من حين أن يخرج من منزله حتى يصل إلى المسجد .
- ذات ليلة لم ينم إلا متأخراً ، ثم قام لأداء ورده من الليل وبعد فراغه من الصلاة اضطجع فأخذه النوم ولم يكن حوله أحد يوقظه ، فما استيقظ إلا بعد فراغ الناس من الصلاة ، فلما علم بفوات صلاة الفجر مع الجماعة ، حزن حزناً شديداً وأمر بتغيير المكان الذي نام فيه، وقال : هذا المكان أدركنا فيه الشيطان ثم قال لمن حوله : هذه أول مرة تفوتني صلاة الفجر ، رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في جنات النعيم .
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرا * يشيدون لنا مجداً أضعناه
بارك الله لي لكم في القرآن والسنة ونفعني بما فيهما الآيات والحكمة .

الخطبة الثانية :

عباد الله : روي عن مجاهد رحمه الله أنه قال : يؤتى بثلاثة نفر يوم القيامة : بالغني وبالمريض والعبد ، فيقول للغني : ما منعك من عبادتي فيقول : أكثرت لي المال فطغيت ،فيؤتى بسليمان بن داوود عليه السلام في ملكه فيقال له : أنت كنت أشد شغلاً أم هذا ؟ قال : بل هذا قال : فإن هذا لم يمنعه شغله عن عبادتي ، قال : فيؤتى بالمريض فيقول : ما منعك عن عبادتي قال : يا رب أشغلت علي جسدي قال : فيؤتى بأيوب صلى الله عليه وسلم في مرضه فيقول له : أنت كنت أشد ضرراً أم هذا ؟ قال : فيقول : بل هذا يعني أيوب عليه السلام ، قال : فإن هذا لم يمنعه ذلك أن عبدني ، قال : ثم يؤتى بالمملوك فيقول له : ما منعك عن عبادتي ؟ فيقول : جعلت علي أرباباً يملكونني قال : فيؤتى بيوسف الصديق عليه السلام في عبوديته ، فيقال : أنت أشد عبودية أم هذا ؟ قال : لا ، بل هذا ، قال : فإن هذا لم يشغله شيء عن عبادتي .ا.هـ
عباد الله : إن الإقبال على الطاعة يستلزم الأعراض عن المعصية والابتعاد عنها حتى تتحقق لكم أمانيكم ، وتذكروا أن من عرف الله في الرخاء فلا يخشى رحمة الله وتوفيقه في حال الشدة فهو سبحانه كريم لا يخلف الميعاد .
عبد الله :
بادر شبابك أن يهرما * وصحة جسمك أن يسقما
وأيام شيبك قبل الممات * فما دهر من عاش أن يسلما
ووقت فراغك بادر به * ليالي شغلك في بعض ما
وقدم فكل امرئ قادم * على بعض ما كان قد قدما
عباد الله : صلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة كما أمركم الله بذلك فقال سبحانه : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما .



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أحمد الفقيهي
  • الأسرة والمجتمع
  • شهور العام
  • قضايا المسلمين
  • الصلاة والطهارة
  • الحج
  • رمضان
  • عبادات وآداب
  • تراجم
  • مناسبات
  • الصفحة الرئيسية