صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







(أصحاب رفق)

أ.د/فيصل بن سعود الحليبي
@Dr_fisal_holibi


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى، يحب الرفق والسماحة، وربى أصحابه الكرام على هذا الخلق النبيل.

وقد لزمه هذا الخلق النبيل في أحلك الظروف، فقد شُج رأسه، وكسرت رباعيته في غزوة أحد، فقيل له في هذا الحال العصيب: ألا تدعوا على المشركين!؟ فما هو إلا أن تدفق رفقه بما يلتمس فيه العذر لهؤلاء، فكان مما قال: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون) رواه البخاري، وفي مقام آخر قال: (إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا) رواه مسلم.

ها هو ذا نوح عليه الصلاة السلام يقول في مجادلته لقومه: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين. أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون. أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}[الأعراف:63].

إنه جواب ملؤه الرحمة والشفقة، والصدق في النصح، واللطف في الخطاب.

وهكذا تربت ناشئة عباد الرحمن على القلوب الكبيرة التي قلما تدفعها دوافع القسوة عن التعقل والحلم، إنها إلى العفو والصفح أقرب منها إلى الانتقام والبطش.

لنعلم أن الرجل العظيم من عباد الرحمن كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، وتطلب للناس الأعذار، والتمس لأغلاطهم المسوغات، وأخذهم بالأرفق من حالهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (دعوه لا تزرموه _ أي: لا تقطعوا عليه بوله _، وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء –أي دلوا من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري.
وماذا عسى أن يصنع بمثل هذا الأعرابي في زماننا لو فعل مثل هذه الفعلة في بيت الله تعالى؟! أولئك هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام عنوان الرحمة والشفقة والقدوة في الصفح والمغفرة.
إن حقًا على المسلمين أن يستصحبوا الرفق واللين في الأمر كله من غير مداهنة ولا مجاملة، ومن غير غمط ولا ظلم.

وعلى الأب الرحيم والأم الرؤوم، وعلى الأزواج وأصحاب المسئوليات أن يرفقوا بمن تحت أيديهم، لا يأخذون إلا بحق، ولا يدفعون إلا بالحسنى، ولا يأمرون إلا بما يستطاع: {لا يكلف الله نفساً الا ما ءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً}.

وماذا جنى صاحب الفظاظة والغلظة إلا سقمًا في البدن، وشدة في الأعصاب، وضيقًا في الصدر، ونكدًا في العيش، وكثرة للمشكلات بكل أصنافها، ونفرة من المجتمع.

ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.

يا أهل الرفق: إن كل قضية تربوية أو اجتماعية أو غيرها لا يمكن أن تحل بين الأحبة بالغضب والحنق وفوران النفس وقسوتها؛ فإن الشدة لا تورث إلا الشدائد.

فأي نتيجة حصلها الأب من ابنه وهو لا يعرف معه مسلكًا في التربية إلا الضرب والإهانة والسب والشتم! وأي علم أنتجه المعلم الذي لا يدخل على تلاميذه إلا بوجه متجهم غليظ، مهددًا تارة، ومعاقبًا تارة أخرى! وأي سعادة زوجية يطلبها الزوج من زوجته وهي لا تراه إلا آمرًا ناهيًا غاضبًا أو قل لعّانًا وضاربًا! بل أي حصاد سيجنيه المجتمع من داعية قاسٍ في كلماته ونصائحه وتوجيهاته وتعابير وجهه، وقد نسي أن الفظَّ القاسي قد قضت سنة الله تعالى نفرة الناس منه، فلا تقبل منه دعوة، ولا يسمع منه توجيه، ولا يرتاح له جليس، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}.

وعلى قدر ما يمسك الإنسان نفسه، ويكظم غيظه، ويملك لسانه تعظم منزلته عند الله وعند الناس، وعلى قدر ما يتجاوز عن الهفوات، ويقيل من العثرات تدوم مودته ويأنس الناس به، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، ولكن يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ) رواه البزار وحسَّنه الألباني.

ولنتذكر حلم الصديق رضي الله عنه، فإنه حينما تكلم مسطح ابن أثاثة في ابنته عائشة رضي الله عنها وقذفها بالفاحشة ـ وهي الطاهرة المطهرة ـ حلف الصديق رضي الله عنه ألا ينفعه بنافعة أبدًا، وقد كان ينفق عليه لفقره وقرابته منه، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، قال الصديق رضي الله عنه فرحًا ورغبة في عفو الله وجنته: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، ثم عاد بالنفقة والمعروف إلى مسطح، يا لها من استجابة كريمة من رجل كريم إلى رب كريم سبحانه.

وروي أن أبا الدرداء رضي الله عنه مرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا والناس يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب –أي في بئر- ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم.

وقال هارون الرشيد لأعرابي: بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة من الحب، قال: بحلمه عن سفيهنا، وعفوه عن مسيئنا، وحمله عن ضعيفنا، لا منان إذا وهب، ولا حقود إذا غضب، رحب الجنان، سمح البنان، ماضي اللسان، قال: فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه، وقال: والله لو كانت هذه الخصال لهذا الكلب لاستحق المجد والرفعة.


إذا ما طاش حلمك عن عدوٍ --- وهان عليك هجرانُ الصديقِ

فلستَ إذًا أخا عفوٍ وصفحٍ  --- ولا لأخٍ على عهدٍ وثيقِ

إذا زلَّ الرفيقُ وأنت ممن  --- بلا رفقٍ بقيتَ بلا رفيقِ


هكذا سما عباد الرحمن، أجلوا أقرانهم، واحترموا زملاءهم ورحموا إخوانهم، وعرفوا لأهل الفضل فضلهم، وغضوا عن المقصرين.

{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وكونوا على يقين من أن فضلكم على من رفقتم به لن ينسى، وأن حلمكم سيبقى منحوتًا في قلوب من حلمتم عليهم، وكأني بأحدهم يقول لك أيها الرفيق بمن حوله:

إذا ذكرتُ أياديك التي سلفت --- مع قبح فعلي وزلاتي ومجترمي

أكاد أقتل نفسي ثم يدركني  --- علمي بأنك مجبول على الكرم
 

قال الله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}.

اللهم ارزقنا رفقًا وحِلمًا وعلمًا، واجعلنا من عباد تحبهم ويحبونك.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

د.فيصل الحليبي

  • مقالات
  • حوار مع القلوب
  • استشارات أسرية
  • كتب دعوية
  • الخطب المنبرية
  • مختارات صوتية
  • الصفحة الرئيسية