صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سلسلة حوار مع القلوب
الطعام المرّ

د. فيصل بن سعود الحليبي
22/11/1418هـ

 
ليست المرة الأولى التي يحاول فيها سليمان إهانتي وإهدار كرامتي أمام زملائي ، لقد جعلني في موقف حرج ، وصورة مخجلة .
لقد لمح الجميع منك هذا ، وما فائدة الكلام الآن ؟ لما لم تفحمه بكلمات لاذعة ، وترد عليه بأقسى مما واجهك به ؟.

إنني يا صديقي لم أتعود الجدل أمام الناس حتى لو كنت محقاً .
إنها صفة كريمة إلا مع هذا الإنسان ، كيف وقد ألِف السخرية من الناس ، والاستعلاء عليهم ، واستغلال وداعتهم ونبل أخلاقهم .

لقد واجهني اليوم بكل ما يكنّ صدره من حقد ، وما يختلج قلبه من بغض .
إن الحقود يا أخي لا تهدأ نفسه حتى يرى من يحقد عليه في أسوأ حال ، وفي أعظم مصيبة ، فما بالك بإنسان كسليمان ؛ يصحو على كراهية الناس ، ويبيت يدبر المكائد لهم ، غايته إيذائهم ، وراحته في إلحاق الضرر بهم ، الكبر سمته ، والحقد طبعه ، لم يتعود صنع المعروف ، ولم يبق لنفسه صديقاً يتودده ، الجميع منه نافر ، ومن إيذائه متضرر ، حتى أصبح شيطاناً يستعاذ بالله منه ، فمن منا لم يناله من لسانه جرح ، أو من وشايته أذى ، ثم إن هذا الرجل ...

كفى .. كفى يا صاحبي ، فإن مرارة لحم سليمان بدأت تقطع أمعائي !!
مرارة لحم سليمان ؟! عن أي لحم تتحدث ؟ ماذا جرى لك ، بل ماذا حدث لعقلك ، أخبرني ؟

لقد استحوذ علينا الشيطان فاستجرنا إلى أكل لحم أخينا ، حتى نلنا من عرضه ، وأكلنا من لحمه ، ويا لخبث الشيطان الرجيم ، ويا لمرارة ذلك اللحم ، أتشتهي أن تأكل لحم إنسان ؟
لحم إنسان ؟! بالطبع لا .

فكيف أن يكون ميتاً ؟
ما الأمر يا عزيزي ؛ لقد جئت تشكو إليّ ضيق صدرك ، وحرارة غيظك مما انتابك من سليمان ، فحاولت مشاركتك ، وتخفيف لوعتك ، فكررت علي بالتوبيخ والعتاب ؟

إن المؤمن ضعيف بنفسه ، قوي بإخوانه ، لقد صدقت في وصفك حالي ، وما كنت عليه من كمد وحرقة ، وهذا كله إنما حصل من كيد الشيطان _ أخزاه الله _ فما أحرصه على إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ،وتزيين الذنب في نفوسهم ، و المؤمن قد يضعف إيمانه فيسترسل في المعصية ، ويستلذ الخطيئة ؛ لأنها تلبي شيئاً من شهواته ، وتحقق طرفاً من رغباته ، لكن المؤمن حينما يكون له أخاً ناصحاً يخاف الله في صحبته ، ويراقب الله في رفقته ، فإنه لا يعدم أن يلقى منه التوجيه الحسن ، والتذكير الجميل ، فيصده عن الشر ، ويعينه على الخير .
أنت تريد بكلامك هذا أن تنيط الخطأ بي ، وتتناسى أنك أنت الذي بدأت به .

نعم أنا الذي بدأت بحمل هذا الوزر العظيم ، وأنا الآن أتجرع مرارته ، لكنك أعنتني عليه ، ولم تصدني عنه .
لقد أعطيت المسألة أكبر من حجمها ، فهي لا تعدو أن تكون مجرد كلام يذهب أدراج الرياح ، إنما أردنا أن ننفس عمّا وقر في صدورنا من غيظ .

أرجوك لا تزدني كمداً على كمد ، فما شعرت يوماً بحسرة كحسرتي اليوم على غيبة أخي ، ألم تسمع قول الباري سبحانه وتعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ = 12 } (الحجرات ) .
تتحدث عن أكل هذا اللحم المكروه وكأن الأمر على حقيقته ، وأن له آثاراً مريرة في جوف الإنسان ؟

وهل تحسب أن القضية معنوية فحسب ، اسمع لهذا الحديث الذي يرعد فرائصي تذكره، ويرجف فؤادي سماعه ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده ( أَنَّ امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا ، وَأَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَاهُنَا امْرَأَتَيْنِ قَدْ صَامَتَا وَإِنَّهُمَا قَدْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا مِنَ الْعَطَشِ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَوْ سَكَتَ ، ثُمَّ عَادَ وَأُرَاهُ قَالَ بِالْهَاجِرَةِ قَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، إِنَّهُمَا وَاللَّهِ قَدْ مَاتَتَا أَوْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا ، قَالَ : ادْعُهُمَا ، قَالَ ، فَجَاءَتَا ، قَالَ : فَجِيءَ بِقَدَحٍ أَوْ عُسٍّ ،فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا : قِيئِي ، فَقَاءَتْ قَيْحًا أَوْ دَمًا وَصَدِيدًا وَلَحْمًا حَتَّى قَاءَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ ، ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى : قِيئِي ، فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ وَلَحْمٍ عَبِيطٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَلَأَتِ الْقَدَحَ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمَا ؛ جَلَسَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَتَا يَأْكُلَانِ لُحُومَ النَّاسِ ) .
ياله من حديث عظيم ، يحس المرء فيه بمسئولية الكلمة التي يخف النطق بها ، ويثقل حسابها ، لكنك يا أخي تعلم أن ما ذكرناه نزر قليل مما عرف الناس به سليمان ، وتطبع هو عليه .

تلك هي الغيبة التي وقعنا في فخاخها .
أنت تبالغ ، وإلا فما الشأن لو أننا نسبنا إليه ما ليس فيه ؟

ذلك هو البهتان .
عجيب ؟!

الأعجب من ذلك أننا لم نعط كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حقهما من القرآءة ، حتى لو أكثرنا من قرآءتهما ؛ لم نحاول فهم ما ورد فيهما من أحكام ، وتطبيق ما تضمناه من آداب ، ونزيد على نارنا حطباً حينما لا يذكِّر أحدنا الآخر ، بل نفضل في كثير من الأحوال الاستمرار في الخطأ ؛ إما لأن النيل من الطرف الآخر يجد هوى في نفوسنا جميعاً ، وإما خوفاً على شعور المتحدث من إصابته بخيبة الأمل حينما لا يجد له أذناً تصغي لغيبته لأخيه .
حقاً ، لقد شعرت بها فعلاً .

لكنّ هذه الخيبة ستنقلب عليك حسرة إذا علمت أنك عصيت ربك ونبيك صلى الله عليه وسلم لغيبتك أخيك ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .قَالَ : ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ، قِيل :َ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ، فَقَدْ بَهَتَّهُ )(رواه مسلم).
لقد حفظت هذا الحديث صغيراً ، وكأني اليوم أسمعه لأول مرة ، فوا حسرة على كل كلمةِ غيبةٍ قلتها .

الندم وحده لا يكفي يا صاحبي .
ماذا تقصد ؟

أقصد أنه لا بد من توبة نصوح عسى الله أن يتقبلها منا ، ويعفو بها ذنبنا .
وهل إلى ذلك من سبيل ؟

كيف لا يكون هناك سبيل للخروج من ضيق معصية الغيبة وقد أبان الله عز وجل هذا الطريق في ختام آية تحريم الغيبة بقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }.
وكيف السبيل إليها رحمني الله وإياك .

إنه سبيل له معالم واضحة ولازمة : الإقلاع عن الذنب أحدها ، والندم على فعله ثانيها ، والعزم على عدم العودة إليه مرة أخرى ثالثها ، والمعاهدة على التناصح في تركها رابعها .
الحمد لله على تيسير طريق التوبة ، وإنارته بتلك المعالم المضيئة.

لم أنته بعد من ذكرها .
وماذا أيضاً .

فقد بقي خامسها ، فإنه يجب على المغتاب أن يتحلل من أخيه الذي نال منه ، وأكل من لحمه .
تريد أننا لا بد أن نذهب إلى سليمان ونخبره بغيبتنا له ، هذه مصيبة المصائب !!

المصيبة يا أخي أن نبقى تجلدنا سياط المعصية ، حتى لا يهنأ لنا بال ، ولا تهدأ لنا نفس .
بأي كلمة نبدأ ، وأي عبارة ننتقي ، إنه رجل لا يعرف ...

احذر يا رفيقي أن تقع فيما فررت منه ، فما أقبح أن نخرج من نور الهداية إلى ظلمات الغواية ، لنمض متوكلين على الله تعالى الذي هدانا إلى طريق التوبة ، ولنستظل بسحابة المغفرة بعد قفر المعصية ، ونستلذ حلاوة الطاعة بعد مرارة الخطيئة ، ولنتزود بالتقوى ، فإن ( مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) ، ولندعوا الله سبحانه أن يشرح صدر أخينا للهداية ، ويلين قلبه لعذرنا ، فيعفو عنا ، ويصفح عن زللنا في حقه ، إنه سميع مجيب .
اللهم آمين .


------------
*
نشرت في مجلة المجتمع ، العدد ( 1365 ) ، 20/جمادى الأولى /1420هـ
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

د.فيصل الحليبي

  • مقالات
  • حوار مع القلوب
  • استشارات أسرية
  • كتب دعوية
  • الخطب المنبرية
  • مختارات صوتية
  • الصفحة الرئيسية