صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ملحوظات على كتاب ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي

د.عيسى عبدالله السعدي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :-
فكتاب ( ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي ) ، لعوض الله حجازي ، من الكتب القيمة ، والرسائل العلمية الراقية ، التي ظهرت فيها شخصية الباحث بشكل كبير ، وظهر فيها جهده وعناؤه في البحث والتنقيب ، ولي على هذا الكتاب القيم عدة ملحوظات ، منها :-

1- أنه ذكر الخلاف في فهم السلف لنصوص الصفات ؛ فذكر أن الرازي وابن خلدون ذهبا إلى أنهم لم يكونوا يفهمون معناها الحقيقي ؛ ولهذا فوضوا العلم بهذا المعنى ، وأما ابن القيم والمقريزي فذهبا إلى أنهم كانوا يفهمونه ، ويعتقدون المعنى المتبادر من ظاهر نصوص الصفات ، ثم إنه رجح القول الأول ، ورأى أن الصابوني في كتابه عقيدة السلف على هذا القول .
وهذا غير مسلم ، فالصابوني على عقيدة السلف ، والسلف لم يفوضوا العلم بالمعنى وإنما فوضوا علم الكيف ؛ ولهذا قالوا : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول . وهذه الكلمة عندهم أصل مطرد ، وقاعدة ملتزمة في جميع الصفات ؛ سئل الترمذي عن كيفية نزول الله تعالى إلى سماء الدنيا ؟ فقال : النزول معقول ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

2-
القول بأن ابن القيم اضطر إلى التأويل الذي أنكره ؛ فأول نصوص المعية ليستقيم مذهبه في العلو . وهذا ليس بصحيح ؛ فالمعية لا تدل على الحلول كما ظن ، وإنما تدل على المصاحبة التي لا تنافي العلو ، وأيضا فآية المجادلة السابعة بينة في تفسيرها بالعلم ؛ وبذلك فسرها أئمة السلف ، وفسرها ابن القيم تبعا لهم .

3- القول بأن الأدلة التي ذكرها ابن القيم لا تكفي في الدلالة على رأيه في حقيقة الروح . وهذا غير مسلم كذلك ، فقد ذكر ابن القيم أدلة على ذلك تزيد على المائة ، ومن طالعها في كتاب الروح اقتنع بصواب رأيه في ذلك .

4- أن ابن القيم يستدل على مذهبه بأحاديث ضعيفة ، ويمثل على ذلك بحديث : ( فجحد آدم وجحدت ذريته ) ؛ ثم قال : يغلب على الظن أنه من الأحاديث الموضوعة . وهذا ليس بصحيح فابن القيم حريص على الاستدلال بالأحاديث الثابتة ومنها هذا الحديث ، فهو حديث صحيح كما نص على ذلك الألباني في تعليقاته النافعه على شرح الطحاوية .

5- أنه تحامل على المنطق بغير حق ، ولم يقم أي دليل على تناقض المنطق وفساده . وهذا غير مسلم أيضا ؛ فتحامله على المنطق بحق ، وقد رأى كتب ابن تيمية في نقض المنطق التي لم يؤلف مثلها ، وظهر لطلبة شيخ الإسلام مافي المنطق من مناقضة الشرع ، فبنوا على ما قال شيخهم ، وأعظم من تبين له ذلك ابن القيم ؛ فقد كان بشهادة تلاميذ ابن تيمية أعلمهم بالعلوم العقلية.

6-
أن ابن القيم أعرض عن الطرق المنطقية في الاستدلال على وجود الله ، واستدل بطريقة لاهي طريقة الإمكان ولاطريقة الحدوث . وهذه الطريقة ليست من ابتكاره وإنما أخذها عن الجاحظ وابن رشد . وهذا القول إن كان المراد به أنه أخذ أصل الفكرة عنهم فهو غير صحيح ؛ فالاستدلال بالخلق على الخالق طريق فطري عرفه العام والخاص من قبل الجاحظ وابن رشد ، وإن كان المراد به أنه اقتبس من عباراتهم فهذا وارد ، ولا ضير في ذلك ، فما زال العلماء يقتبس بعضهم من بعض .

7-
ذكر أن مذاهب الناس في الصفات خمسة مذاهب ؛ ( الجهمية ، والمعتزلة ، والفلاسفة ، والأشاعرة ، والكرامية ) ، ثم استعرض مذاهبهم بإيجاز ليصل من ذلك إلى أن ابن القيم تأثر بالأشاعرة والكرامية في إثبات الصفات ، وانتخب مذهبا ملفقا من المذهبين ، وإن كان مذهب الكرامية أكثر المذهبين تأثيرا في آرائه في إثبات الصفات . وهذا خطأ بلا شك ، أساسه ما نبه عليه شيخ الإسلام في مواضع من مؤلفاته أن المتكلمين يذكرون مذاهب الناس في أصول الدين إلا مذهب السلف ؛ فلا يعرفونه ولا يذكرونه ، وهذا الباحث يعول على كتبهم كثيرا ، ويتابعهم في حصر المذاهب ، وإلا فمن طالع في كتب السلف ، ودرسها دراسة وافية علم أن ابن القيم يسير على طريقتهم في إثبات الصفات ، التي تخالف طريقة الأشاعرة ، والكرامية ، وسائر المذاهب التي ذكرها في الصفات .

8-
انتقد الباحث ابن القيم في القول بأن المعطلة تعلقوا بالمتشابه وأهملوا النصوص المحكمة التي دلت على إثبات الصفات الخبرية ، ورأى أن الأمر بعكس ما قاله ابن القيم ؛ فقد تعلقوا بالمحكم ؛ كقوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) ، وقوله : ( ليس كمثله شيء ) ، وأولوا نصوص الصفات الخبرية لأنها من المتشابه ؛ فالنصوص الدالة على اليد مثلا تحتمل معان كثيرة ؛ كالقدرة والنعمة . والجواب عن هذا أن يقال : إن اليد وردت بلفظ التثنية ؛ قال تعالى : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) ، وقال : ( بل يداه مبسوطتان) ، وهذا نص في معناها لا يحتمل إلا إرادة اليد الحقيقية ، وهو يبطل تفسيرها بالقدرة ؛ لأن قدرة الله واحدة لا تثنية فيها ، ويبطل كذلك تفسيرها بالنعمة ، لأن نعم الله ليست محصورة في نعمتين ؛ قال تعالى : (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . وأما قوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) فلا يعارض إثبات الصفات الخبرية بحال كما ظن الباحث ، لأن اسم الواحد يطلق في لغة القرآن على ما كان قائما بنفسه متصفا بالصفات ، مباينا لغيره ، ولا يطلق ألبتة على المعنى الذي يريده الباحث ومن قبله من المتكلمين ، وهو الواحد المجرد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء ، ولا يقبل الإشارة الحسية ؛ لأن هذا المعنى لاوجود له إلا في أذهان المتكلمين والفلاسفة ، لا في لغة العرب التي نزل بها القرآن ، وبهذا يمكن بسهولة نقض التعليق الذي ذكره على كلام ابن القيم أثناء عرض آرائه في الصفات الخبرية ؛ فخالف ابن القيم قائلا : إثبات الرب لا يستلزم إثبات المباينة ؛ لأن المباينة والاتصال من عوارض الأجسام ، والله ليس جسما ؛ فليس داخل العالم ولا خارجه !! فإن هذا كله مبني على هذا الخطأ في فهم وحدانية الرب ، وأنها وحدة مجردة لا تقبل المباينة ولا الانفصال ! وبناء على هذا الفهم الفلسفي يعطل المتكلمون ومن وافقهم عشرات بل مئات النصوص الدالة على مباينة الرب ، وعلوه على خلقه ! وكذلك قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) فإنه لا يعارض إثبات الصفات الخبرية ؛ لأن نفي المثل إذا ورد في سياق المدح دل على التفرد بصفات الكمال المطلق ، يقال : فلان عديم المثل إذا لم يكن له مثل في صفاته ؛ ولهذا جمع الله بين نفي المثل وإثبات الصفات في نص واحد ؛ فقال : (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) . وهذا الباحث إنما ظن أن هذه الآية تعارض إثبات الصفات بناء على فهم المتكلمين للآية ؛ فظنوا أنه لو قامت به الصفات ، أو كان على العرش لكان جسما ، والأجسام متماثلة ! والقرآن يبطل هذا الفهم ، ويدل على انتفاء التماثل بين الأجسام ؛ قال تعالى : ( وما يستوي الأعمى والبصير ) ، وقال : ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ).

9- في حكمة الله تعالى انتقد الباحث ابن القيم في ثلاثة أمور :-
أ- أن ابن القيم لما عرض لحكمة وجود الشر تكلم عن حكمة خلق إبليس كلاما جمليا ، ولم يجر على عادته المعروفة في التفصيل والتوضيح .
وهذا غريب من هذا الباحث لأنه ذكر الجوانب الكثيرة التي ذكرها ابن القيم لحكمة خلق إبليس ؛ كظهور كمال القدرة على خلق المتقابلات ، وظهور آثار الأسماء الحسنى ، وحصول العبادات المتنوعة التي لولا خلق إبليس وجنوده لما وجدت ، وغير ذلك مما ذكره الباحث ومما لم يذكره مما يعتبر بيانا كافيا شافيا في هذا الباب .
ب- أن ابن القيم ذكر أن الأشاعرة ينكرون الحكمة ، مع أنهم في الواقع ونفس الأمر لا ينكرونها ، وإنما قالوا : إن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض ، بمعنى أنه لا يعود على الفاعل منها مصلحة . وهذا لا يسلم للباحث فالأشاعرة يرون أن أفعال الله لا تعلل بالحكم والمصالح الباعثة على الأفعال ؛ لأن التعليل بها يستلزم الافتقار والاستكمال بالغير ، ولهذا يقولون بحصولها في أفعال الرب بطريق الوقوع لا القصد ، ولو سلمنا أن الأمر كما ذكره فالحكمة في خلق الله وأمره تعود إلى الرب وإلى العباد ، وعودها إلى الرب أعظم الجانبين ؛ فالله إنما خلق الخلق ليعرف ، ويعبد ، ويذكر ، ويمدح ، وتظهر آثار أسمائه ، وشواهد وحدانيته ، وكذلك إنما شرع الشرائع لأنها موجب إلهيته ودليل كماله ؛ قال الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ : ( من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا شخص أغير من الله ، ولا شخص أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين ، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله ، من أجل ذلك وعد الجنة) ؛ فهذا الحديث الصحيح نص في التعليل بالحكم العائدة إلى الله تعالى .
ج- أن ابن القيم في حكمة وجود الشر اتبع مذهب الفلاسفة ، وهو مذهب مقبول لاغبار عليه ولا يتنافى مع نصوص الشرع ! وهو يريد أن يصل من ذلك إلى القول بأنه لم يأت بجديد وإنما قلد الفلاسفة في الحكمة والتعليل ! وهذا ناشئ عن عدم الاستقراء التام للمذاهب في الحكمة ؛ فقد حصر الناس في هذا الباب في ثلاث طوائف ، الفلاسفة ، والمعتزلة ، والأشاعرة ، ولم يذكر مذهب السلف الذي يناصره ابن القيم . ولا أريد أن أقول إنه ناشئ أيضا من عدم الاستقراء التام لكلام ابن القيم في هذا الباب ، فالباحث لاشك في جهده وسعة اطلاعه على كلام ابن القيم ، ولهذا عجبت من عدم ظهور الفرق له بين مذهب ابن القيم ومذهب الفلاسفة ، فابن القيم نفسه بين ما في مذهب الفلاسفة من مخالفات للشرع ، وذكر أنهم أخطؤوا في مواضع كثيرة ؛ كجعل الشرور والآلام من لوازم الطبيعة من غير أن تكون متعلقة بفاعل مختار ، وكالتناقض البين بين القول بالإيجاب الذاتي وما أثبتوه من الحكمة ، لأنه لا يعقل وجود رب حكيم ولا اختيار له في فعله ! فكيف يقال إذن : إن ابن القيم وافق الفلاسفة في هذا الباب ، بل كيف يقال : إن قول الفلاسفة لا غبار عليه ، ولا يتنافى مع نصوص الشرع !!

10-
في التحسين والتقبيح عرض رأي ابن القيم عرضا مفصلا ، وعرض المذاهب في هذه المسألة ، ولم يعلق بأكثر من انه مذهب منتخب من المذاهب التي عرضها ، وشهد له في أثناء عرض مذهبه بالقوة والبراعة ، ولكن ماذكره في الخاتمة من انه في هذه المسألة على مذهب الماتريدية محل نظر ؛ فالتقارب بين المذهبين لا يعنى التماثل في كل التفاصيل .

11- في مباحث المعاد عرض آراء ابن القيم عرضا حسنا ، وأهم ما يؤخذ عليه في هذا الباب هو القول بأن ابن القيم على رأي المتكلمين في حقيقة النفس ، وفي القول بالمعاد الجسماني ، وفي أن المعاد جمع بعد تفريق ، وذلك لأن قول المتكلمين بالمعاد الجسماني ليس مبنيا على أن الروح جسم لطيف قائم بنفسه كما ذهب إلى ذلك ابن القيم ، وإنما هو مبني على أن الروح إما نفس البدن ، أو صفة من صفاته ، أو جزء من أجزائه ، وهذا يعني إنكار بقاء النفس بعد الموت ، وهو قول مبتدع لم يذهب إليه أحد من السلف ، كما نص على ذلك شيخ الإسلام في الصفدية ج 2 ص 267 . وكذلك قولهم بأن المعاد جمع بعد تفريق مبني القول بالجوهر الفرد ؛ فالبعث عندهم إما جمع للجواهر المنفردة بعد التفرق أو إعادة لها بعد الإعدام . وابن القيم كشيخه كلاهما ينكران أن يكون الجوهر الفرد أصلا لثبوت شيء من أمر الدين أو انتفائه ، وإنما ذهبا إلى أن البدن حال الحياة في تحلل مستمر ، فإذا فارقته الروح تحلل كله ، وهذه الاستحالة لا تنافي إعادة البدن بعينه ؛ لأنه يبقى منه عجب الذنب ، الذي منه خلق ، وفيه يركب .

12-
في أبدية الجنة والنار ، عرض رأي ابن القيم في هذه المسألة ، وبين أن كلامه في حادي الأرواح وغيره يوهم بأنه يقول بفناء النار ، ولكنه لم يسلم بذلك ، بل نافح عن رأي ابن القيم بحرارة ، وذكر نصوصا صريحة قالها ابن القيم ، أو نقلها وارتضاها ، وكلها تدل على أنه يقول بأبدية النار ، واستحالة دخول أهلها الجنة ، ثم ذكر أنه بعد البحث والتنقيب جزم يقينا بأن القول بفناء النار ليس رأيا له ، وإنما هو رأي عرضه لبعض من ذهب إلى القول بفناء النار ، وأنا أميل إلى رأيه في هذه المسألة ، لأن ابن القيم من أكثر الناس تعظيما لنصوص الشرع ، وهي صريحة في أبدية النار .

وختاما
فالباحث جاد في بحثه ، وافر الأدب ، محب لابن القيم ومكبر له ، ومقر بفضله وعلمه ؛ فيذكر أنه استفاد منه استفادة علمية ودينية ، وجلس منه مجلس التلميذ من أستاذه ، وهو أيضا يسلم بصحة منهج ابن القيم في البحث والتأليف ، بل إنه يدعو إلى ترسم خطاه في النقد العلمي الجاد لآراء أهل العلم ، ثم اختيار القول الصحيح نقلا وعقلا ، ولكنه خالف ابن القيم في مسائل كثيرة ، رأيت أن الحق فيها مع ابن القيم فأحببت التنبيه على ذلك ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
 

كتبه
د / عيسى بن عبد الله السعدي
أستاذ في العقيدة / الطائف

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.عيسى السعدي
  • كتب
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية