بسم الله الرحمن الرحيم

الزواج بنية الطلاق ، وزواج المسيار


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

1. الزواج بنية الطلاق
وهو مما انتشر في هذا الزمان بين الشباب المسلم وخاصة من ابتلي بالهجرة إلى بلاد الكفر، وصورته : أن يضمر في نيته طلاق من يرغب زواجها بعد انتهاء دراسته أو عمله ، وهو الأمر الذي سبّب مشاكل كثيرة وردة فعل عكسية وخاصة عند النصارى ولا سيما من أسلم منهم حديثا، لذا كان من المناسب عرض هذا الموضوع في كتابنا هذا .

أ- سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل " رَكَّاضْ " يسير في البلاد، في كل مدينة شهرا أو شهرين ويعزل عنها، ويخاف أن يقع في المعصية ، فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلدة، وإذا سافر طلقها وأعطاها حقها ، أولا؟ وهل يصح النكاح أم لا ؟
فأجاب:
له أن يتزوج ، لكن ينكح نكاحا مطلقا لا يشترط فيه توقيتا بحيث يكون إن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها، وإن نوى طلاقها حتما عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك (1) وفي صحة النكاح نزاع .
ولو نوى أنه إذا سافر وأعجبته أمسكها وإلا طلقها : جاز ذلك
وأما أن يشترط التوقيت فهذا "نكاح المتعة" الذي اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريمه .
وأما إذا نوى الزوج الأجل ولم يظهره للمرأة فهذا فيه نزاع، يرخص فيه أبو حنيفة والشافعي، ويكرهه مالك وأحمد وغيرهما . كما أنه لو نوى التحليل: كان ذلك مما اتفق الصحابة على النهي عنه وجعلوه من نكاح المحلل .

لكن نكاح المحلل شر من نكاح المتعة ، فإن نكاح المحلل لم يبح قط ، إذ ليس مقصود المحلل أن ينكح، وإنما مقصوده أن يعيدها إلى المطلق قبله فهو يثبت العقد ليزيله . وهذا لا يكون مشروعا بحال، بخلاف المستمتع فإن له غرضا في الاستمتاع، لكن التأجيل يخل بمقصود النكاح من المودة والرحمة والسكن، ويجعل الزوجة بمنزلة المستأجرة ، فلهذا كانت النية في نكاح المتعة أخف من النية في نكاح المحلل ، وهو يتردد بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه .أ.هـ. " مجموع الفتاوى" (32/107-108).

ب- قال النووي رحمه الله :
قال القاضي : وأجمعوا على أن من نكح نكاحا مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال، وليس نكاح متعة. وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور. ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس . وشذ الأوزاعي فقال : هو نكاح متعة ولا خير فيه.أ.هـ. " شرح مسلم" (9/182).

ج- وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله :
وإن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي قال : هو نكاح متعة. والصحيح : أنه لا بأس به ، ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته، وحسبه إن وافقته وإلا طلقها .أ.هـ. "المغني" (7/573).

قلت:
ويظهر أن المراد من قول ابن قدامة رحمه الله "أنه لا بأس به، ولا تضر نيَّتُه" إنما هو في صحة العقد، فإن أراد أنه لا شيء عليه من الإثم: فلا يظهر أنه صواب، ومثله قول من قال إنه "نكاح متعة"، لكن الأظهر أنه غير جائز لما فيه من خداع ولي أمر المرأة، وإفساد علاقة الناس بعضهم ببعض، وهو ما سيأتي إن شاء الله في كلام الشيخ ابن عثيمين حفظه الله، والشيخ رشيد رضا رحمه الله.

د- وقال الشيخ محمد الصالح بن عثيمين رحمه الله :
لو نوى زوج "المتعة" بدون شرط يعني: نوى الزوج بقلبه أن يتزوج هذه المرأة لمدة شهر، ما دام في هذا البلد فقط، فهل نقول إن هذا حكمه حكم المتعة أم لا؟ في هذا خلاف، فمنهم من قال " إنه في حكم نكاح المتعة" لأنه نوى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (2) . وهذا الرجل قد دخل على نكاح مؤقت "المتعة" ، فكما أنه إذا نوى التحليل وإن لم يشترطه: صار حكمه حكم المشترط، فكذلك إذا نوى المتعة وإن لم يشترطها ، فحكمه كمن نكح نكاح متعة، وهذا القول - كما ترى - قول قوي.

وقال الآخرون: إنه ليس بنكاح متعة ، لأنه لا ينطبق عليه تعريف " نكاح المتعة" فنكاح المتعة أن ينكحها نكاحا مؤقتا إلى أجل، ومقتضى هذا النكاح المؤجل : أنه إذا انتهى الأجل انفسخ النكاح ولا خيار للزوج فيه ولا للزوجة، وهو أيضا: ليس فيه رجعة، لأنه ليس طلاقا ، بل هو انفساخ النكاح، وإبانة للمرأة ، فهذا هو نكاح المتعة، لكن من نوى هل يلزم نفسه بذلك إذا انتهى الأجل ؟ الجواب : لا، لأنه قد ينوي الإنسان أنه لا يريد أن يتزوجها إلا ما دام في هذا البلد، ثم إذا تزوجها ودخل عليها رغب فيها ولم يطلقها، فحينئذ لا ينفسخ النكاح بمقتضى العقد، ولا بمقتضى الشرط لأنه لم يشرِط ولم يُشترَط عليه. فيكون النكاح صحيحا وليس من "نكاح المتعة".

وشيخ الإسلام رحمه الله اختلف كلامه في هذه المسألة ، فمرة قال بجوازه، ومرة قال بمنعه. والذي يظهر لي أنه ليس من نكاح المتعة، لكنه محرم من جهة أخرى، وهي خيانة الزوجة ووليها. لأن الزوجة ووليها لو علما بذلك : ما رضوا وما زوجوه. ولو شرطه عليهم صار نكاح متعة .

فنقول : إنه محرم لا من أجل أن العقد اعتراه خلل يعود إليه، ولكن من أجل أنه من باب الخيانة والخداع . فإذا قال قائل : إذا هم زوجوه ، فهل يلزمونه أن تبقى الزوجة في ذمته؟ إذ من الممكن أن يزوجوه اليوم ويطلق غدا ؟

قلنا : نعم . هذا صحيح . فالأمر بيده إن شاء طلق وإن شاء أبقى، لكن هناك فرق بين إنسان تزوج نكاح رغبة، ثم لما دخل على زوجته ما رغب فيها، وبين إنسان نوى من الأصل نكاح متعة بنيته ، فهو ما قصد إلا أن يتمتع هذه الأيام ثم يطلقها، فبينهما فرق .

ولو قال قائل : إن قولكم إنه خيانة للمرأة ووليها غير سديد ، وذلك لأن الرجل في اختياره أن يطلق متى شاء ، فهم داخلون على مغامرة ومخاطرة ، فهم لا يدرون متى يطلق؟

قلنا : هذا صحيح . لكن هم يعتقدون وهو أيضا يعتقد - إذا كان نكاح رغبة - أن هذا النكاح أبدي ، وإذا طرأ طارئ لم يكن يخطر على البال : فهذا أمر وارد لكنه على خلاف الأصل. ولهذا فإن الرجل المعروف بكثرة الطلاق: لا ينساق الناس إلى تزويجه.

فإذا تزوج الرجل على هذه النية فعلى قول من يقول إنه من "نكاح المتعة" ، -وهو المذهب- فالنكاح باطل . وعلى القول الثاني - وهو الذي نختاره - أن النكاح صحيح ، لكنه آثم بذلك من أجل الغش ، وهو مثل ما لو باع الإنسان سلعة - بالشروط المعتبرة شرعا - لكنه غاش فيها: فالبيع صحيح، والغش محرم. أ.هـ. من " شريط رقم 9 - كتاب النكاح" . شرح "زاد المستقنع".

هـ- وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله:
هذا وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع "المتعة" يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون إن عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد. ولكن كتمانه إياه يعد خداعاً وغشاً. وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها. ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات. وما لا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشاً وخداعاً تترتب عليه مفاسدَ أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته وهو إحصان كل من الزوجين للآخر وإخلاصه له، وتعاونهما على تأسيس بيت صالح من بيوت الأمة. أ. هـ نقلاً عن "فقه السنة" للسيد سابق (2/39).

2. زواج المسيار
انتشر في الآونة الأخيرة ما يسمى "زواج المِسيار" وصورته، أن يتزوج رجل امرأة مطلقة أو أرملة - في الغالب - على أن يأتيها مرة أو أكثر في الشهر، وغالباً ما تكون في منطقة بعيدة عن سكنه الأصلي، ويكون ذلك برغبة منها فتتنازل عن حقها في العدل بينها وبين زوجته الأولى.

وصورة هذا العقد شرعية (3) لا غبار عليها لذا أفتى العلماء بجوازها، فلما تجاوز الناس بها الحد، واستُغل هذا الأمر من قبل ضعاف النفوس، وتبنته مكاتب حدّدت أسعاراً !! لهذا الزواج "عمولة" ، توقف بعض العلماء عن القول بالجواز ومنهم الشيخ محمد الصالح بن عثيمين رحمه الله.

ثم التقيت بشيخنا الألباني رحمه الله في 17 محرم /1418هـ في بيته وطرحتُ عليه بعض المسائل من هذا الكتاب ، ومنها هذه المسألة ، فأفتى بحرمة هذا الزواج (4) لسببين :
الأول : أن المقصود من النكاح هو "السكن" كما قال تعالى { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [الروم/21]. وهذا الزواج لا يتحقق فيه هذا الأمر.
والثاني: أنه قد يقدَّر للزوج أولاد من هذه المرأة ، وبسبب البعد عنها وقلة مجيئه إليها سينعكس ذلك سلباً على أولاده في تربيتهم وخلقهم.أ.هـ‍.

قلت: لذا ينبغي أن تكون الفتوى خاصة لبعض من يريد العفة والستر ممن عرف عنه دين وخلق، أما أن تكون عامة، فإنها قد تكون مفتاح شر لباب يصعب سدُّه .

والله أعلم

===========
(1) وفي “ مجموع الفتاوى" (32/147) القول بالجواز ، وسيأتي الإشارة إلى اختلاف كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة عند نقل كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
(2) رواه البخاري (1/11) . مسلم (13/53).
(3) أي : من حيث توفر الأركان وتحقق الشروط.
(4) وهذه الحرمة لأمرٍ خارجٍ عن ( العقد) ومثله تماماً "الغش في البيع" أو " الصلاة بأرضٍ مغصوبة" فإنه لا يقال ببطلان البيع ولا الصلاة ، لكن بحرمتهما .

كتبه
إحسان بن محمد بن عايش العتيبـي
أبو طارق